المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: أسلوب ضرب المثل: - أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم

[وسيم فتح الله]

الفصل: ‌رابعا: أسلوب ضرب المثل:

‌رابعًا: أسلوب ضرب المثل:

وهذا أيضًا من الأساليب القرآنية المعهودة والتي تعمل على تقريب المعنى من خلال ضرب الأمثلة المعروفة، ولقد جاء في هذه السورة مثلان من أروع ما ضرب من الأمثال القرآنية دقةَ بيان وروعة أسلوب ووضوح معنى، أحدهما يتعلق بما توهمه الكفار من أعمال لهم يرجون ثوابها في الآخرة، والاخر ينطوي في الحقيقة على مثالين أحدهما للكلمة الطيبة والآخر للكلمة الخبيثة، فلنتدبر:

المثل الأول: كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف:

ص: 49

ضرب الله تعالى مثلًا لمن عبد مع الله غيرَه سبحانه وتعالى كيف يكون مآل أعمالهم، فيقول تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} ؛ (1) فهؤلاء يأتون بأعمال ظاهرها حَسن في دنيا أو هكذا يتوهمون فيرجون ويطلبون ثوابها يوم القيامة، وما شعر هؤلاء أن أعمالهم هذه ليست بشيء وأن ما يجدونه منها يوم القيامة مشابه لما يجده من طلب ذرات الرماد التي بعثرتها ريح عاصفة شديدة، فلا يجد هؤلاء شيئًا لأنهم بنوا أعمالهم على غير أساس صحيح، (2) وهذا مثل قوله تعالى:{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} (3) قلت: ولكن الآية في سورة إبراهيم عامة في كل الأعمال والآية في آل عمران خاصة في الإنفاق وهو من باب التنويع البياني في القرآن الكريم حيث يذكر العام في موضع ويذكر بعض أفراده في موضع آخر ليتحقق التكامل البياني على مدى سور القرآن الكريم. (4)

(1) سورة إبراهيم - آية 18

(2)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 608 / 4 بتصرف

(3)

سورة آل عمران - آية 117

(4)

أضواء البيان - الشنقيطي - 59 / 2

ص: 50

المثل الثاني: كشجرة طيبة أو خبيثة:

ص: 51

تنوعت أساليب القرآن الكريم في توصيل رسالة التوحيد للناس، وما ذلك إلا لأنها - أعني رسالة التوحيد - أعظم حقيقة في الكون وحري بها أن تكون محط عناية القرآن الكريم، والمتدبر في هذه الصورة القرآنية يدرك مدى ثقل هذه الكلمة واهتمام القرآن بها حتى جاء ترسيخها في عقول وقلوب الناس بهذه الصورة الرائعة والمثل البديع، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (1) فهذا مثل قد ضربه الله تعالى للكلمة الطيبة (شهادة أن لا إله إلا الله)(2) فشبهها بالشجرة الطيبة ذات الجذور الراسخة الضاربة في الأرض ثباتًا والفروع المتشعبة عن أصلها الطيب فإذا بها يانعة الثمار صالحة النتاج، (فكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والأخلاق المرضية

(1) سورة إبراهيم - 24-26

(2)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 614 / 4

ص: 52

والآداب الحسنة) (1) قلت: وهذا في غاية الحسن من حيث ضرب المثل للمعاني المعقولة بالأشياء المحسوسة المستقرة في بداهة العقول والتي تتراءى للناس في معايشهم كل يوم، وإن منتهى الحسن في نتاج هذه الشجرة ذلك التثبيت عند سؤال الملكين في القبر ثم نوال رضا الله تعالى وثوابه يوم القيامة، كما قال تعالى بعد ضرب هذا المثل:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) فلقد ثبت هذا المعنى من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله:" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» (3) ويأتي تكامل المشهد في عرض الصورة المناقضة، فبضدها تتميز الأشياء؛ ففي مقابل كلمة التوحيد وشجرة الإيمان - التي شبهتها بعض الأحاديث بالنخلة - تأتي الكلمة الخبيثة كلمة الكفر كالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل (لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء)(4)

(1) تيسير الكريم المنان - السعدي- 374

(2)

سورة إبراهيم - آية 27

(3)

صحيح البخاري - كتاب تفسير القرآن

(4)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 616 / 4

ص: 53

والحقيقة أن التفصيل في عناصر وحيثيات هذين المثالين يحتاج بحثًا مفردًا وإنما أردت التنويه بهذا العرض الموجز إلى ورود هذا الأسلوب في الخطاب الدعوي للسورة المباركة وتسخيره تسخيرًا ناجحًا في رسم المعنى المنشود وتوضيحه أيما إيضاح، كيف لا وهو كلام الحق تبارك وتعالى. فحري بالداعية إذًا أن يتعلم كيفية تطبيق واستعمال هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى للناس {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .

ص: 54