المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: أسلوب الترغيب والترهيب: - أساليب التربية والدعوة والتوجيه من خلال سورة إبراهيم

[وسيم فتح الله]

الفصل: ‌ثالثا: أسلوب الترغيب والترهيب:

‌ثالثًا: أسلوب الترغيب والترهيب:

ص: 41

وهذا أسلوب من الأساليب القرآنية يُراعي فيه طبيعة النفس البشريه المجبولة على محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والإقبال عليه وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه، فتجد القرآن يرغب الناس في اتباع الهدى من خلال الوعد بالخير المترتب على ذلك، ويُرهبهم من اتباع الباطل من خلال الوعيد المترتب على ذلك أيضًا، ولا شك أن الجمع بين الترغيب والترهيب مراعاة للتوازن النفسي عند الإنسان فهو في بعض الحالات أشد استجابة لدواعي المصلحة فينفعه الترغيب وفي حالات أخرى يكون أشد انسياقًا وراء الهوى والشهوات فلا يرعوي إلا بالترهيب، وكان من كرم الله تعالى أن كان الوعد لازمًا والوعيد بخلافه (1) ولقد أوفت سورة إبراهيم هذا الأسلوب القرآني حقه، ولقد استفتحت السورة بالترهيب في قوله تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (2) وهو استفتاح مناسب حيث جاءت السورة لتعالج واقع الكفر والشرك فكان مناسبًا أن يتجه الخطاب إلى التخلية وذلك بالترهيب والتنفير من مآل ما هم عليه، ثم تكرر مثل هذا الترهيب والتهديد في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ

(1) فالوعد من وعده الأمر ويقال في الخير وَعَد، وفي الشر أَوْعَد، وأما الوعيد فهو التهديد1، وأنبه بدايةً إلى أن الوعد لازم الوفاء أما الوعيد فيجوز إخلافه (لأنه انتقال من العدل إلى الكرم والانتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناء1) والعرب تعرف هذا الفرق في المعنى كما قال الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمُخلف إيعادي ومُنجز موعدي (راجع غير مأمور شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله صفحة 220)

(2)

سورة إبراهيم - آية 2

ص: 42

عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) وهو تهديد بزوال النعمة أي (إن كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها)(2) لت: وهذا ينال بلا شك أعظم النعم وهي نعمة الإسلام والهداية إليه أعني هداية الإرشاد، فمن كفر هذه النعمة وجحدها ولم يكن محلًا قابلًا لها عاقبه الله تعالى بالحرمان منها فيحرمه الاهتداء بها - أعني هداية التوفيق - ويختم على قلبه والعياذ بالله وذلك هو الخسران المبين. ثم جاء التهديد بالاستبدال في الدنيا والآخرة؛ أما استبدال الدنيا فقوله تعالى:{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (3) وهو خطاب للموحدين يهدد فيه بإحلالهم مكان المعارضين من الكفار، وتكرر ذلك صريحًا في قوله تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (4) وأما الاستبدال في الآخرة فهو بأن يبدلهم تعالى بمقاعدهم في الجنة مقاعد في جهنم يصلونها وبئس المصير كما قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ

(1) سورة إبراهيم - آية 7

(2)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 599 / 4 ق

(3)

سورة إبراهيم - 14-15

(4)

سورة إبراهيم - 19

ص: 43

وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (1) ويشهد لمعنى الاستبدال هذا ما ورد في حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهوديًا أو نصرانيًا فيقول هذا فكاكك من النار» (2) ثم يأتي ترهيب آخر من حبوط الأعمال يوم القيامة مهما عظمت ومهما حسنت في ذاتها فهي ليست بشيء إذا ما أتى العبد ربَّه كافرًا، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (3) وأي ترهيب أشد من هذا حين ينتظر الكفار ثواب أعمالهم فإذا (طلبوا ثوابها من الله تعالى لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء فلم يجدوا شيئًا ولا ألفوا حاصلًا إلا كما يتحصل الرماد إذا اشتدت به الريح العاصف)(4) ثم تأمل بعد ذلك ما أعد الله تعالى من العذاب المقيم لمن أعرض عن صراطه المستقيم قال تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ

(1) سورة إبراهيم - 16-17

(2)

صحيح مسلم - كتاب التوبة

(3)

سورة إبراهيم - آية 18

(4)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 608 / 4

ص: 44

قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (1) وذكر الأنداد هنا مناسب جدًا لينبه سبحانه وتعالى إلى أن هذه المعبودات بالباطل لم تكن لتغني عن عابديها شيئًا وإنما حالها معهم كما قال تعالى في سورة أخرى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (2) ثم جاءت هذه الآية في مقام الترهيب حيث قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (3) فمهما كان مكر هؤلاء فإن الله تعالى (محيط به علمًا وقدرةً)(4) وهذا ترهيب بما عند الله تعالى من القدرة والمكر الذي هو في مقابلة مكرهم السيء، والله تعالى هو خير الماكرين. وأنت ترى أن آيات الترهيب هذه فيها نوع من التدرج الذي وصل بنا رويدًا رويدًا إلى هذه الآية الجامعة فمهما يبذل المعاندون من جهد ومهما يمكرون من مكر فإن الله تعالى محيط بهم وهم لا يعجزونه، ولعذابه تعالى في الآخرة أشد وأبقى لو كانت لهم قلوب تفقه أو آذانٌ تسمع أو أعين تبصر.

(1) سورة إبراهيم -آية 30

(2)

سورة الأنبياء - آية 98

(3)

سورة إبراهيم - آية 46

(4)

تيسير الكريم المنان - السعدي - 376

ص: 45

أما جانب الترغيب فنجد الآيات قد حشدت جملةً من الوعود الجميلة التي يمكن تقسيمها إلى وعود معجلة في الدنيا وأخرى مؤجلة في الآخرة؛ أما الأولى فمنها الوعد بالزيادة لمن شكر نعمه حيث قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (1) والنعمة الواجب شهودها في هذا السياق هي نعمة الإسلام والهداية إلى كلمة التوحيد بحيث يكون ثواب من أقبل على هذه النعمة بالانقياد والشكر مزيد تثبيت وهداية وتوفيق وقد جاء هذا صريحًا في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) وهذا في العاجل {وَفِي الْآخِرَةِ} (3) وهذا في الآجل كما سيأتي إن شاء الله، ومن هذه النعم العاجلة مغفرة الذنوب وعدم إهلاكهم بها في الدنيا حيث قال تعالى:{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (4) يعني (الموت، فلا يعذبكم في الدنيا)(5) ومن وعد الله تعالى لمن استجاب الله في الدنيا أن يستبدل بهم من أعرض عن ذكره ويخلفهم في الأرض، قال تعالى:{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (6) فهذا صريح أنه في العاجل حيث وعد

(1) سورة إبراهيم - آية 7

(2)

سورة إبراهيم - آية 27

(3)

سورة إبراهيم - آية 27

(4)

سورة إبراهيم - آية 10

(5)

الجامع لأحكام القرآن - القرطبي- 295 / 9

(6)

سورة إبراهيم - آية 14

ص: 46

(بالعاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن تبعهم جزاء {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} عليه في الدنيا)(1) أما الوعود الحسنة والرغائب الآجلة فما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، تأمل معي قوله تعالى:{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (2) وقد جاء هذا الوعد الحسن ترغيبًا بعد بيان (مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال وأن خطيبهم إبليس [كما سيأتي] عطف بمآل السعداء وأنهم يدخلون يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار سارحة فيها حيث ساروا وأنى ساروا ماكثين أبدًا لا يحولون ولا يزولون)(3) قلت: وقبل هذا المآل السعيد جاءت الآية تطمئن المؤمنين أتباع كلمة التوحيد بالثبات في البرزخ حيث فتنة القبر والسؤال كما سيأتي معنا في فقرة لاحقة إن شاء الله. (4) والحاصل مما تقدم أن السورة الكريمة قد اعتنت أيما اعتناء بهذا الأسلوب المؤثر أعني أسلوب الترغيب والترهيب، ويمكن التأكيد مما سبق على ما يلي:

(1) تيسير الكريم الرحمن - السعدي- 372

(2)

سورة إبراهيم - آية 23

(3)

تفسير القرآن العظيم - ابن كثير - 613 / 4 وما بين المعقوفتين من كلامي

(4)

انظر - غير مأمور - فقرة ضرب المثل

ص: 47

1-

الاعتناء بأسلوب الترهيب عند دعوة من شط به هواه فانحرف عن جادة الحق لأنه أحرى بأن يوقظه من غفلته ويعيده إلى الجادة إن لم يكن خُتم على قلبه بعد.

2-

الاعتناء بأسلوب الترغيب عند من أظهر استعداده للإقبال على الدعوة والانقياد لكلمة التوحيد وذلك تثبيتًا لهذا التوجه وتعهدًا لهذا الميل نحو الحق.

ص: 48