الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بدعة المآتم والذب عنها.
وبالجملة فالخطباء قد أحسنوا غاية الإحسان في نصيحتهم المسلمين وتوجيههم إلى الخير وتحذيرهم من البدع وأنواع المنكرات.
وأما صاحب المقال فإنه قد أساء إلى نفسه وإلى غيره من الناس، فأما إساءته إلى نفسه فهو أنه قد وضعها في صف الذين أخبر الله عنهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وأما إساءته إلى الغير فهو أنه قد حسّن لهم بدعة المآتم والمولد ودعاهم بكتابته التي نشرها في جريدة الندوة إلى ارتكاب ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحدثات التي قد أمر بردها ووصفها بالضلالة وأخبر أنها من شر الأمور وأنها في النار، فلا يأمن الكاتب أن يكون له نصيب من قول الله تعالى:{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يرزون} وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «و
من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه
لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد قرر النووي في شرح مسلم أن الإثم يكون لمن دعا إلى الضلالة سواء كان هو والذي ابتدأها أم كان مسبوقاً إليها.
الوجه الثاني: أن يقال: أنه يجب التدخل في خصوصيات الناس وفي عمومياتهم إذا تركوا شيئاً مما أمر الله به أو أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ارتكبوا شيئاً مما نهى الله عنه أو نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك فعل البدع والمحدثات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذّر منها أشد التحذير. والدليل على وجوب التدخل في مخالفة الأوامر وارتكاب النواهي قول الله تعالى: {ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى مسلم أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» والآيات والأحاديث في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعيد الشديد على ترك ذلك كثيرة جداً. وقد ذكرت طرفاً منها في كتابي المسمى بـ «القول المحرر، في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» فلتراجع هناك.
والتدخل في خصوصيات الناس وعمومياتهم إذا تركوا شيئاً من الواجبات أو ارتكبوا شيئاً من المنهيات من أهم أمور الدين ومن النصيحة الواجبة على كل مسلم لإخوانه المسلمين لما جاء في الحديث الصحيح عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدين النصيحة» قلنا لمن قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وجرير وحكيم بن أبي يزيد عن أبيه وثوبان وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث تميم الداري رضي الله عنه. وقد ذكرت هذه الأحاديث بألفاظها في كتابي
المسمى بـ «القول المحرر، في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» فلتراجع هناك.
وإذا علم هذا فليعلم أيضاً أنه يجب النهي عن إقامة الولائم للمآتم لأن إقامتها من البدع المستقبحة ومن النياحة المحرمة. وليس النهي عن البدع والنياحة من التدخل فيما لا يجوز التدخل فيه من خصوصيات الناس كما قد توهم ذلك صاحب المقال الباطل، وإنما هو من النهي عن المنكر. والنهي عن المنكر واجب بحسب القدرة.
الوجه الثالث: أن يقال: إن خطباء المساجد الذين أفتوا بتحريم الولائم التي تقام للعزاء وقالوا إنها مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصابوا فيما أفتوا به وفي قولهم إنها مخالفة للسنة. وحجتهم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر أمته عن محدثات الأمور ويقول: «إن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وما جاء عنه أيضاً أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت هذه الأحاديث في الوجه الأول فلتراجع.
ومن حججهم أيضاً ما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة» وقد تقدم قول السندي إن هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة أو تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم. قال وعلى التقديرين فهو حجة. وتقدم أيضاً قول القاري إن قول جرير رضي الله عنه ظاهر في التحريم. وتقدم أيضاً قول عمر رضي الله عنه إن اجتماع النساء على الميت وإطعام الطعام من النياحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. قال وفي الباب عن الفضل بن العباس وأبي ذر وأبي هريرة انتهى. ولفظه عند ابن حبان: «إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به» . وروى الإمام أحمد أيضاً وأبو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» . قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم، وروى الإمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» . وروى الإمام أحمد
أيضاً والترمذي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم والذهبي.
وفي هذه الأحاديث دليل على المنع من الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام لأن عمر رضي الله عنه قد عد ذلك من النياحة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه وأخبر أيضاً أنه يقول بالحق وأمر أمته بالاقتداء به وبأبي بكر رضي الله عنهما. وفي هذا مع ما تقدم ذكره من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكره جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن الصحابة رضي الله عنهم أبلغ رد على استنكار صاحب المقال الباطل للفتوى بتحريم ولائم العزاء واستنكاره للقول بأنها مخالفة للسنة، وقوله: لماذا؟.
وأما قوله: وهل هذه الولائم أصبحت من الدين حتى تكون بدعة؟.
فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال: لو كانت ولائم المآتم من الدين لما كانت من البدع ولكنها ليست من الدين فكانت من البدع التي ورد التحذير منها والأمر بردها في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذكرها قريباً فلتراجع.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. وقد تقدم ذلك في قول عمر وجرير بن عبد الله رضي الله عنهما، والنياحة من أمر الجاهلية كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أربع في أمتي من أمر الجاهلة لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة» وإذا كانت الولائم في المآتم من أمر الجاهلية فلا يقول بجوازها ونفي البدعة عنها إلا أحد رجلين، إما جاهل لا يعرف الفرق بين أمور الإسلام وأمور الجاهلية، وإما معاند لا يبالي بمخالفة الأمر الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا يبالي برد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من المحدثات والأمر بردها.
وأما قوله: وهل نجحنا في محاربة الرذائل والمفاسد في المجتمع الإسلامي وواجب علينا الكلام في هذه الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد.
فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال: إن محاربة البدع أهم من محاربة الرذائل والمفاسد الخُلُقية لأن البدع أحب إلى إبليس من المعاصي.