المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المبتدع يؤول إلى الشرك - الرد على الكاتب المفتون

[حمود بن عبد الله التويجري]

فهرس الكتاب

- ‌من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه

- ‌«البدعة أحب إلى إبليس من المعصية

- ‌ المبتدع يؤول إلى الشرك

- ‌ ذم الذين يعرضون عن سماع المواعظ والتذكير

- ‌ التشديد في ابتغاء سنة الجاهلية في الإسلام

- ‌البرهان الأول:

- ‌البرهان الثاني:

- ‌البرهان الثالث:

- ‌البرهان الرابع:

- ‌البرهان الخامس:

- ‌البرهان السادس:

- ‌البرهان السابع:

- ‌البرهان الثامن:

- ‌البرهان التاسع:

- ‌البرهان العاشر:

- ‌البرهان الحادي عشر:

- ‌البرهان الثاني عشر:

- ‌البرهان الثالث عشر:

- ‌البرهان الرابع عشر:

- ‌البرهان الخامس عشر:

- ‌البرهان السادس عشر:

- ‌البرهان الثامن عشر:

- ‌البرهان التاسع عشر:

- ‌البرهان العشرون:

- ‌البرهان الحادي والعشرون:

- ‌البرهان الثاني والعشرون:

- ‌البرهان الثالث والعشرون:

- ‌البرهان الرابع والعشرون:

- ‌البرهان الخامس والعشرون:

- ‌البرهان السادس والعشرون:

- ‌البرهان السابع والعشرون:

- ‌البرهان الثامن والعشرون:

- ‌البرهان التاسع والعشرون:

- ‌البرهان الثلاثون:

- ‌العبادات مبناها على التوقيف والاتباع

الفصل: ‌ المبتدع يؤول إلى الشرك

وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال: ‌

‌«البدعة أحب إلى إبليس من المعصية

، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها» ، وأيضاً فإن البدع بريد الشرك وهي تؤول إليه. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى:

‌ المبتدع يؤول إلى الشرك

ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم انتهى. وقال السدي في تفسير هذه الآية استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.

قلت: وهذا هو المطابق لحال أهل البدع فإنه استنصحوا الذين يدعونهم إلى البدع ويرغبونهم فيها ونبذوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم.

ومن هذا الباب ما يفعله المفتونون بإقامة الولائم في المآتم فإنهم قد استنصحوا أدعياء العلم الذين يفتون بجواز إقامتها وحضورها ويحسّنون ذلك للعوام ولا يبالون بمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد المحدثات ولا يبالون بما ثبت عنه من التحذير منها والمبالغة في ذمها ووصفها بالصفات الذميمة.

الوجه الثاني: أن يقال: إنه يجب على العلماء محاربة البدع والتحذير منها ومحاربة الرذائل والمفاسد وجميع المنكرات والتحذير منها، ولا يكتفى بمحاربة أحدها عن محاربة غيره ولكن يبدأ بالأهم فالأهم منها، فيبدأ بالنهي والتحذير من أشدها خطراً على الدين وهي البدع التي تمحو السنن وتهدم الإسلام كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن

ص: 22

غضيف بن الحارث الثمالي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها» وهذا يدل على شؤم البدع وعظم مضرتها على الإسلام فيجب التحذير منها والإنكار على من يذب عنها ويحسّنها للناس.

الوجه الثالث: أن يقال: إن صاحب المقال قد اعترف أن إقامة الولائم في المآتم من الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد، ويجاب بأن ما كان كذلك فهو من المحدثات، والمحدثات كلها شر وضلالة كما تقدم النص على ذلك فيما رواه العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله وابن مسعود رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز إقرار المحدثات ولا العمل بشيء منها، بل يجب ردها لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» . ويجب أيضاً التحذير منها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذّر منها وأخبر أنها شر وضلالة. وأيضاً فإن إقامة الولائم في المآتم من النياحة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم كما تقدم التصريح بذلك في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وقد صرح بذلك أيضاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه ابن أبي شيبة عنه وتقدم ذكره، والنياحة من الأمور التي لا تمت إلى الدين أو العبادة من قريب أو بعيد وإنما هي من أمور الجاهلية وقد جاء الإسلام بتحريمها ولعن فاعلها، وما كان بهذه المثابة فإنه لا يجوز إقراره، بل يجب رده ومحاربته، ومن قال بجوازه فقد أخطأ خطأ كبيراً وشاق الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين. وقال الله تعالى:«ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً» .

ص: 23

وأما قوله إن الحلال بيّن والحرام بيّن.

فجوابه أن يقال: إن من الحرام البيّن إقامة الولائم في المآتم لأنه من المحدثات التي ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك من سنة الخلفاء الراشدين ولا من عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. بل كانوا يعدونه من النياحة كما تقدم فيما رواه ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيما رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. وقال أبو البختري إنه من أمر الجاهلية وقال سعيد بن جبير إنه من عمل الجاهلية. وكان عمر بن عبد العزيز يمنع منه وهو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. وفي هذا أوضح البيان أن إقامة الولائم في المآتم من الحرام البيّن. ولا يخفى هذا إلا على إنسان لا يميّز بين الحلال والحرام.

وأما قوله وليتنا نستطيع أن نطهر مجتمعنا من الحرام ونقنع الناس باجتنابه بدلاً من إكثار الممنوعات والمحرمات حتى نطفشهم وندفعهم للتمرد وعدم تصديقنا في أن كل شيء حرام حتى المأدبة التي يقيمها أهل الميت في اليوم الثالث من الوفاة حيث يجلسون لاستقبال المعزين والمعزيات ويطعمون الفقير والفقيرات. ماذا في ذلك.

فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن إقامة الولائم في المآتم من الأمور التي يجب منعها والتحذير منها لأن هذا العمل محدث في الإسلام وهو من النياحة كما تقدم بيانه. وما كان من المحدثات والنياحة فهو حرام يجب تطهير المجتمع منه.

الوجه الثاني: أن يقال إن تطهير المجتمع من البدع أهم من تطهيره من جمع الأموال من الحرام لأن البدع بريد الشرك وهي تؤول إليه. وما كان بهذه المثابة فتطهير المجتمع منه أهم من تطهيره من

ص: 24

المعاصي التي هي دون ذلك. وقد ذكرت قريباً قول سفيان الثوري إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. ومع هذا فإنه يجب السعي في تطهير المجتمع من البدع ومن ملابسة الأمور المحرمة واكتساب الأموال المحرمة وغير ذلك من المنكرات الظاهرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته بتغيير المنكرات الظاهرة بحسب القدرة ولم يفرق بينها.

الوجه الثالث: أن يقال مما يدل على أهمية تطهير المجتمع من البدع والمحدثات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحذر منها في خطبته. والظاهر من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره في أول الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في كل جمعة.

الوجه الرابع: أن يقال إنه يجب على العلماء تحذير الناس من المحدثات وإعلامهم بما فيها من الشر والضلالة. وذلك من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يحذر أمته من المحدثات في خطبته يوم الجمعة ويبين لهم أنها شر الأمور وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. فعلى الخطباء أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من المحدثات وبيان ما فيها من الشر والضلالة وإن لم تحصل القناعة بذلك من بعض الناس لأن الله تعالى قال بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فذكّر إنما أنت مذكّر. لست عليهم بمصيطر} وقال تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى. سيذكر من يخشى. ويتجنبها الأشقى} وقال تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال تعالى: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ} وقال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} .

ص: 25

إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وعلى هذا فالخطباء الذين أشار إليهم الكاتب لهم أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم في تذكير الناس وحثهم على التقوى ونهيهم عن البدع والمحدثات وتحذيرهم منها ومن سائر المنكرات وليس عليهم أن يقنعوا الناس بما يأمرون به وما ينهون عنه فإن ذلك ليس في قدرتهم. وإنما الهداية والإضلال بيد الله تعالى فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحجة البالغة والحكمة التامة.

ولا ينبغي الالتفات إلى ما يحصل لبعض الناس من النفور والتضايق من سماع النهي والتحذير عما وجدوا عليه آباءهم وأشياخهم من البدع والمحدثات كما قد حصل ذلك لصاحب المقال الباطل. هدانا الله وإياه إلى الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وأعاذنا جميعاً من نزغات الشيطان وتضليله. بل ينبغي بذل النصيحة للمسلمين ودعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليمهم ما يجهلونه من أمور الدين، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.

الوجه الخامس: أن يقال إن الخطباء الذين أشار صاحب المقال الباطل إلى أنهم قد أكثروا من الممنوعات والمحرمات لم يبتدعوا شيئاً من الممنوعات والمحرمات ويأتوا بذلك من عند أنفسهم. وإنما كانوا يمنعون ويحرمون الأمور التي قد دل الكتاب والسنة على تحريمها والمنع منها، فتجدهم إذا نهوا عن شيء من العقائد أو الأقوال أو الأفعال يأتون بالأدلة الدالة على المنع مما نهوا عنه، وعلى هذا فلا لوم على الخطباء الذين ينهون عن البدع ويحذرون منها وإنما اللوم على من لامهم واعترض عليهم.

الوجه السادس: أن يقال إنه لا يتضايق من سماع النهي عن المحدثات والتحذير منها ويتمرد عن قبول ما جاء عن النبي - صلى الله

ص: 26

عليه وسلم - من النهي عنها والأمر بردها إلا من كان في قلبه مرض من أمراض الشبهات والفتن. فهؤلاء هم الذي يغتاظون من سماع النهي عن المحدثات التي قد نشأوا على اعتيادها ووجدوا آباءهم وأشياخهم عليها. وهم الذين يصدون ويعرضون عن قبول الحق ولا يصدقون بتحريم البدع ولا يعبأون بالأحاديث الواردة في التحذير منها والأمر بردها. وينبغي لهؤلاء أن يتدبروا قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} .

الوجه السابع: أن يقال إنه ليس أحد من الخطباء الذين أشار إليهم الكاتب في كلامه الباطل يقول إن كل شيء حرام وإنما هذا من تمويه الكاتب وتلبيسه على الجهال ودندنته حول التشويه لسمعة الخطباء الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجاهدون أهل الباطل ويحذرون الناس مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أمته منه. فجزى الله الخطباء الناصحين خير الجزاء وأعظم لهم الأجر والثواب.

الوجه الثامن: أن يقال أن الخطباء الذين أشار إليهم الكاتب إنما كانوا يحرمون ما قامت الأدلة الشرعية على تحريمه، ومنه إقامة الولائم في المآتم لأن هذا العمل مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصنعة الطعام لأهل البيت، ولأنه من النياحة في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أجمع الصحابة رضي الله عنه على عده من النياحة كما تقدم في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، والنياحة حرام وهي من أمور الجاهلية. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وقد ذكرت هذا الحديث

ص: 27

وغيره من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من المحدثات في أول الكتاب فلتراجع.

الوجه التاسع: أن يقال إن الله تعالى لم يشرع لأهل الميت أن يطعموا الفقراء في أيام العزاء ولم يأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ولم يأذن فيه. ولم يكن ذلك من سنة الخلفاء الراشدين. ولم يذكر عن غيرهم من الصحابة أنهم فعلوا ذلك، ولو كان خيراً لكانوا أسبق إليه من غيرهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وعلى هذا فمن خص إطعام الفقراء بأيام العزاء فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن أحب أن يطعم الفقراء ويتصدق عليهم فله مندوحة عن أيام المصائب والأحزان، ولا يجوز أن يجعل إطعام الفقراء وسيلة إلى إحياء بدعة المآتم لأن هذه الوسيلة من الحيل، والحيل لا تبيح المحرم.

وقد سئل شيخ الإسلام أبو العباس أبو تيمية رحمه الله تعالى عن إطعام أهل الميت لمن هو مستحق؟ فأجاب بقوله: وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة، ثم استدل على كونه بدعة بحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الذي تقدم ذكره. قال وإنما المستحب إذا مات الميت أن يصنع لأهله طعام واستدل على ذلك بحديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره.

وأما قول الكاتب: ماذا في ذلك؟.

فجوابه أن يقال فيه: أنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في صنعة الطعام لأهل الميت، ومخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على عد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من

ص: 28

النياحة، وما كان بهذه المثابة فإنه غير جائز. وفيه أيضاً أنه من المحدثات والأعمال التي ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والمحدثات كلها شر وضلالة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره، وقد قال الله تعالى:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} وقال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا} وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو قول الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} .

وأما قوله وهل كل ما لم يفعله الرسول وأصحابه حرام أم العكس هو الصحيح، أي إن الأصل في كل الأعمال هو الحل إلا ما ورد نص بالتحريم له. وأين النص الصريح في تحريم المآدب في المآتم.

فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال إن الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى مربوطة بالأمر الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن عمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فعمله مردود لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي رواية لأحمد ومسلم والبخاري تعليقاً «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي هذا الحديث نص صريح على رد الأعمال التي ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها إقامة الولائم في المآتم

ص: 29

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك لأمته، ولأنه مخالف للسنة في بعث الطعام إلى أهل الميت. وما خالف السنة فهو مردود بنص حديث عائشة رضي الله عنها. وفي هذا النص أبلغ رد على ما لفقه صاحب المقال الباطل من التمويه والتلبيس على ضعفاء البصيرة.

الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمته أن يأخذوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ونهاهم عن محدثات الأمور وحذرهم منها بأبلغ التحذير وأخبرهم أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وأن شر الأمور محدثاتها. وفي هذه النصوص أبلغ رد على من أباح بدعة الولائم في المآتم وعلى من أباح غيرها من المحدثات.

الوجه الثالث: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم قد عدوا الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. وهذا إجماع منهم على تحريم إقامة المآدب في المآتم لأن النياحة من أمر الجاهلية وهي حرام وملعون فاعلها، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة على كل مبطل. ومن خالف إجماعهم فقد تعرض للوعيد الشديد الذي ذكره الله في قوله:{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} . وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية من أمته بأنهم من كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه. وقد كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه على خلاف ما يفعله أهل البدع من إقامة الولائم في المآتم:

وكل خير في اتباع من سَلَف

وكل شيء في ابتداع من خَلَف

الوجه الرابع: أن يقال إنه لا يتم الإيمان لأحد حتى يحقق الشهادة

ص: 30

بالرسالة وذلك بتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع الاختلاف والتمسك بسنته ولزوم متابعته وتقديم هديه على هدي غيره.

وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» قال النووي في الأربعين له، حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح. ثم قال في الكلام على هذا الحديث. يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به صلى الله عليه وسلم ، وهذا نظير قوله تعالى:{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فليس لأحد مع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أمر ولا هوى انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في بعض فتاويه: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن الإسلام مبني على أصلين أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له.

والثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا نعبده بالأهواء والبدع، فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب ومستحب ولا يعبده بالأمور المبتدعة انتهى.

وقال شيخ الإسلام أيضاً ولا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة. وقال أيضاً من طلب بعبادته الرياء والسمعة فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله، ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله وإنما يحقق هذين الأصلين من لم يعبد إلا الله ولم يخرج عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بلغها عن الله انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

ص: 31

وإذا عرض المسلم الخالي من اتباع الهوى إقامة الولائم في المآتم على ما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة وجده مخالفاً لذلك كله، فهو مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث الطعام إلى أهل الميت، ومخالف لأقواله صلى الله عليه وسلم في التحذير من المحدثات ومبالغته في ذمها والتنفير منها والأمر بردها، ومخالف لإجماع الصحابة على أن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة. والنياحة من أمر الجاهلية وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هدينا مخالف لهديهم» يعني المشركين، رواه الحاكم في مستدركه عن حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وما كان بهذه المثابة فإنه لا يتوقف عن القول بتحريمه إلا من هو جاهل بحدود الشريعة المحمدية.

وأما قوله كذلك شغل خطيب المسجد الحرام جمعتين بالكلام عن الاحتفال بالمولد النبوي وتحريمه وتجريمه.

فجوابه من وجهين أحدهما: أن يقال إن خطيب المسجد الحرام قد أحسن فيما فعله من النهي عن بدعة المولد والتحذير منها لأنها ليست من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنة الخلفاء الراشدين ولم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم بإحسان، وإنما هي من المحدثات التي أحدثها الجهال بعد القرون الثلاثة المفضلة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكرت كلام العلماء على هذا الحديث في أول الكتاب فليراجع فإنه مهم جداً ، وليراجع أيضاً ما تقدم من حديث العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله

ص: 32

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي هذه الأحاديث الثلاثة أبلغ تحذير من المحدثات والنص على أن شر الأمور محدثاتها وأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وفيها مع حديث عائشة رضي الله عنها الذي فيه الأمر برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ رد على الكاتب الذي اعترض على خطيب المسجد الحرام وتضايق من نهيه عن بدعة المولد وتحذيره من مخالفة الأمر الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان.

الوجه الثاني: أنه يقال إن خطيب المسجد الحرام لم يبتدع شيئاً من عند نفسه وإنما كان مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ومتبعاً للأحاديث الثابتة عنه في التحذير من المحدثات والمبالغة في ذمها، وعلى هذا فلا لوم على خطيب المسجد الحرام وإنما اللوم على من لامه واعتراض عليه وتضايق من أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وعمله بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته.

وأما قوله: وكان المفروض أن يتحدث عن أحداث الساعة. عن المجاعة التي تفتك بالمسلمين في عدد من بلادهم. عن حث إخوانهم المصلين على إغاثتهم قبل أن يسعفهم التبشير الصليبي والإغراء الصهيوني كما فعل بعض خطباء المساجد.

فجوابه أن يقال: إن التحذير من البدع أهم من التحدث عن المجاعة وأحداث الساعة لأن البدع تفتك بالدين. وأما المجاعة فإنها تفتك بالأبدان. وما كان يفتك بالدين فالتحذير منه أهم مما يفتك بالأبدان لأن المصيبة في الدين أعظم من المصيبة في الأبدان، وقد تكون المصيبة في الدين سبباً لدخول النار وحرمان الجنة. وأما المصيبة في

ص: 33

الأبدان فإنها مع الإيمان والصبر والرضا بقضاء الله وقدره قد تكون سبباً لتكفير السيئات والفوز بالجنة والنجاة من النار. وقد قال الله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} .

ومما يدل على أهمية التحذير من البدع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. والمراد بالجماعة أهل السنة المتمسكون بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقد جاء وصف الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه. رواه الترمذي ومحمد بن نصر المروزي وابن وضاح والحاكم والآجري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وروى الطبراني في الصغير نحوه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً. وروى الطبراني أيضاً والآجري نحو ذلك عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك رضي الله عنهم. وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه} قال: «تبيضّ وجوه أهل السنة والجماعة وتسودّ وجوه أهل البدعة والضلالة» وقد ذكر هذا الأثر البغوي وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير في تفاسيرهم. وذكره غيرهم من المفسرين، وله حكم المرفوع لأنه فيه إخباراً عن أمر من أمور الآخرة وذلك لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف. وفيه دليل على شؤم

ص: 34

البدع وسوء عاقبتها. وحيث كانت البدع بهذه المثابة فالتحذير منها أهم من التحدث عن المجاعة وأحداث الساعة، وإذا حصل الجمع بين التحذير من البدع وبين التحدث عن المجاعة وأحداث الساعة وحث الأغنياء على الصدقة وبذل المعونة للمحتاجين من المسلمين فهو حسن جداً. وقد فعل ذلك خطباء المسجد الحرام وفعله غيرهم من الخطباء.

وأما قوله أيها الناس ارحمونا من هذا الكلام الممل من كثرة التكرار وعظونا وبصرونا بالمفاسد والمحرمات الحقيقية وانفذوا بكلامكم إلى أعماق نفوسنا بالحكمة والموعظة الحسنة واتركوا الكلام عن الموائد والمآتم إلا عما هو محرم فيها قطعاً لا مجال فيه للتأويل.

فجوابه من وجوه أحدها: أن يقال من أعظم الرحمة بالناس نهيهم عن البدع التي تفتك بالدين وتكون ضرراً على أصحابها في الدار الآخرة، وهي مع ذلك تزاحم السنن التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وتكون سبباً في رفعها والحلول في محلها.

ومن هذه البدع إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي. فأما إقامة الولائم في المآتم فهو من النياحة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم. وما كان عن النياحة فهو محرم قطعاً ولا مجال فيه للتأويل، وأما الاحتفال بالمولد النبوي فهو من الزيادة على الأعياد المشروعة للمسلمين. والزيادة على ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم محرمة قطعاً ولا مجال في ذلك للتأويل لأن الله تعالى يقول:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} فهذه الآية الكريمة شاملة لجميع المحدثات التي شرعها الشيطان وأولياؤه للجهال. ومنها إقامة الولائم في المآتم والاحتفال بالمولد النبوي لأن كلاً منهما من المحدثات التي لم يأذن الله بها ولم تكن من سنة

ص: 35

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنة الخلفاء الراشدين ولا من عمل الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.

الوجه الثاني: أن يقال إن أرحم الناس بالناس عامة وبالمؤمنين خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وكان صلى الله عليه وسلم مع اتصافه بالرحمة للمؤمنين يكثر تكرار التحذير من المحدثات في خطبه ويصفها بالشر والضلالة ويقول إنها في النار كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره. ويظهر من سياقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في كل جمعة. وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو منصوص عليه في حديث جابر الذي تقدم ذكره. ونحوه في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره. وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} وعلى هذا فلا لوم على الخطباء الذين يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعملون بسنته في تكرار التحذير من المحدثات وإنما اللوم على من لامهم في ذلك وضجر من نصيحتهم للمسلمين وتحذيرهم مما يضرهم في دينهم ويكون وبالاً عليهم في الدار الآخرة.

الوجه الثالث: أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعظم الناس تمسكاً بالسنة واتباعاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يذكر عن أحد منهم أنه كان يملّ من كثرة تكرار النبي صلى الله عليه وسلم للتحذير من المحدثات في خطبه. وخير الأمور ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. ومن رغب

ص: 36

عما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الإصغاء إلى النصيحة والتحذير من المحدثات وعدم الملل من كثرة التكرار لذلك فلا خير فيه.

الوجه الرابع: أن يقال من أعظم المفاسد والمحرمات الحقيقية إظهار البدع بين المسلمين لأن إظهارها يدعو العوام إلى قبولها والافتتان بها وذلك من أعظم ما يفتك بالدين. وأعظم من ذلك مفسدة وفتكاً في الدين تحسين البدع للعوام والذب عنها بالكتابة في الصحف والكتب التي لا خير فيها. ولا يخفى ما في هذا الفعل الذميم من معارضة أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من البدع والمبالغة في ذمها والأمر بردها. من هذا الباب بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وبدعة إقامة الولائم في المآتم. فقد افتتن بهما كثير من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام. وافتتن بهما أيضاً كثير من الكتّاب والأدعياء في العلم ومن لا بصيرة لهم في الدين وبذلوا جهدهم في تحسين هاتين البدعتين والذب عنهما ومعارضة من ينهى عنهما ويحذّر منهما. وهذا من الدعاء إلى الضلالة. ومن كان سبباً في إضلال الناس فله نصيب من أوزار الذين يضلون بسببه لقول الله تعالى: {ليحلموا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

الوجه الخامس: أن يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم الداعين إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. وكان يكثر أن يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي

ص: 37

محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وكان يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» وفي هذين الحديثين دليل على أن التحذير من البدع والمبالغة في ذمها من أعظم الحكمة وأبلغ الموعظة الحسنة، وعلى هذا فلا لوم على الخطباء الذين يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتمسكون بسنته وهديه، وإنما اللوم على من لامهم واعترض عليهم وطلب منهم أن يأتوا بحكمة وموعظة ليست من الحكم والمواعظ المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه السادس: أن يقال إن النهي عن موائد المآتم والاحتفال بالمولد النبوي واجب من واجبات الشرع لأنهما من المحدثات، والمحدثات كلها شر وضلالة بالنص الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلها في النار كما هو منصوص عليه في حديث جابر الذي تقدم ذكره في أول الكتاب، وما كان بهذه المثابة فهو من المنكرات التي يجب النهي عنها عملاً بما أمر الله به في كتابه وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأما ترك الكلام عن الموائد في المآتم الذي قد دعا إليه صاحب المقال الباطل فهو في الحقيقة من المداهنة والسكوت عن إنكار المنكر ولا يجوز فعل ذلك ولا الدعاء إليه لأن الله تعالى قد لعن بني إسرائيل وذمهم على المداهنة والسكوت عن إنكار المنكر فقال تعالى:{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا كانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وإنما قص الله علينا ما فعله بنو إسرائيل من ترك التناهي عن المنكر وأنه لعنهم على ذلك وذمهم على المداهنة لنعتبر بذلك ولا نفعل كما فعلوا فيصيبنا

ص: 38

مثل ما أصابهم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من كان عبرة وعظة للناس.

وأما قوله: فقد كان من الملاحظ أنه لم يبدأ الخطيب في الكلام عن مآدب المآتم وتحريمها حتى نهض المصلون تركوا المسجد رغبة عن السماع لمثل هذا الكلام.

فجوابه: أن يقال لا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة التي يكذبها الواقع، فإن كان الكاتب قد أراد المسجد الحرام وأن المصلين فيه قد نهضوا وتركوا المسجد الحرام رغبة عن سماع الكلام في مآدب المآتم فهذا لا يقوله إلا إنسان قد فقد شعوره، وإن كان قد أراد غيره من المساجد فوقوع ذلك بعيد جداً، بل يبعد أن يقع ذلك من جزء قليل من المصلين فضلاً عن الجميع، ولو وقع نهوض المصلين من بعض المساجد أو نهوض بعضهم منها وتركهم الصلاة فيها رغبة عن سماع الكلام في مآدب المآتم لكان لذلك نبأ عند الناس ولسارع أهل الصحف إلى ذكره، وفي انفراد الكاتب بذكر ذلك دليل على أنه لا صحة لهذه الخبر. فأما وقوع ذلك من أفراد قليلين من المفتونين بإقامة المآدب في المآتم فهو غير مستبعد ولكن لا عبرة بأفعال الجهال والمفتونين بالبدع.

وقد ورد التشديد في الخروج من المسجد بعد الأذان وذلك فيما رواه مسلم عن أبي الشعثاء - واسمه سليم بن أسود - قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فاتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» وفي رواية له عن أبي الشعثاء قال: سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجاً بعد الأذان فقال:

ص: 39

«أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» وقد رواه الإمام أحمد وأهل السنن بنحوه وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وزاد أحمد في رواية له من طريق شريك عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي» قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على جامع الترمذي: في رواية شريك التي روى أحمد فائدة جليلة وهي التصريح برفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن قول الصحابي، من فعل كذا فقد عصى الرسول ونحو ذلك مما اختلف في أنه مرفوع أو موقوف والصحيح الراجح أنه مرفوع انتهى. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث بقوله:«التشديد في الخروج من المسجد بعد الأذان» قال الترمذي وفي الباب عن عثمان، قلت حديث عثمان رضي الله عنه قد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد ضعيف ولفظه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق» وروى مالك في الموطأ أنه بلغه أن سعيد بن المسيب قال: «يقال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه إلا منافق» .

قال ابن عبد البر هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفاً وقد صح مرفوعاً عن أبي هريرة برجال الصحيح، وروى الدارمي في سننه عن أبي المغيرة حدثنا الأوزاعي حدثنا عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد» فقال: إن أصحابي بالحرة قال: فخرج قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. وهذا مرسل صحيح

ص: 40