الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما ذكرنا لك من فضل الحفظ على الكتابة وأنه أجدى نَفْعًا وأعظم فائدة تفهم سَبَبًا آخر من الأسباب التي حملت كثيرًا من الصحابة والتابعين على كراهة كتابة الحديث. فإنهم خافوا ضياع العلم بالاتكال على الكتابة وعدم تفهم المكتوب عَلَى مَا بَيَنَّا.
…
القَطْعُ بِالقُرْآنِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ:
العمدة في قطعنا بالقرآن وبجميع ألفاظه إنما هو التواتر اللفظي وهو وحده كاف في ذلك. والكتابة لا دخل لها في هذا القطع ولم يتوقف عليها ولم ينشأ عنها. وإن حصل بها نوع من التأكيد لما علمت من أنها إنما تفيد الظن. فلو فرضنا أنه تواتر لفظه ولم يكتب لوجد هذا القطع بلا ريب. ولو فرضنا العكس لم يحصل لنا قطع بشيء منه. فإن النسخة أو النسخ التي سطرها كتاب الوحي ليست بأيدينا ولو فرض أنها بين أيدينا فمن أين نقطع أن هذا الخط هو خط كتاب الوحي ومن؟ أين نقطع أنه لم يحصل فيه تبديل أو زيادة أو نقص لا؟ يمكننا أن نقطع بشيء من ذلك إلا بإخبار قوم يؤمن تواطؤهم على الكذب بأن هذه الكتابة كتابة كتاب الوحي بدون زيادة ولا نقصان ولا تحريف. عن قوم مثلهم عن قوم مثلهم. وهكذا إلى أن نصل إلى قوم بهذه الصفة رأوا كتاب الوحي البالغين عدد التواتر المتفقين على كتابه كل حرف منه وهم يكتبون. ومع أن هذه السبيل لم تحصل لنا كما هو معلوم بالضرورة فإنا نجد أننا مع فرض وقوعها قد اعتمدنا نحن وجميع من قبلنا ما عدا الطبقة الذين رأوا كتاب الوحي وهم يكتبون. على التواتر اللفظي بأن هذه كتابة كتاب الوحي. ولولا هذا التواتر لما حصل القطع بشيء، كل ما في الأمر أننا نكون قد استبدلنا تواترا بلفظ القرآن بتواتر بلفظ أن هذا الخط خط كتاب الوحي.
ولا يخفى أن الأول أقوى وأقطع، وأما الذين رأوا كتاب الوحي وهم يكتبون فليسوا في حاجة إلى كتابتهم ولا إلى تواتر لفظي ليقطعوا بلفظ القرآن. لأنهم مستغنون عن ذلك كله بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ككتاب الوحي أنفسهم.
فنخرج من ذلك بأن القطع بالقرآن لم يتوقف على الكتابة في طبقة من الطبقات.
ولعل قائلا يقول: لسنا في حاجة إلى وجود النسخة أو النسخ التي كتبها كتاب الوحي، ولا إلى إخبار هؤلاء الأقوام - بما ذكرت. فإنه يغنينا عن ذلك كله التواتر الكتابي بعد عصر الخلفاء الراشدين وتعدد النسخ المكتوبة (المتفقة في جميع حروفه) في العصر الثاني وما بعده - تَعَدُّدًا يؤمن منه التواطؤ على زيادة أو نقص أو تحريف. فإن هذا يفيدنا القطع بأن المكتوب جميعه هو القرآن.
فنقول: من أين لنا أن نثبت أن هذه النسخ المتأخرة قد نسخت من نسخ متعددة يؤمن تواطؤها على ما ذكرت؟ أليس من الجائز أن تكون جميعها مصدرها نسخة واحدة لزيد بن ثابت أو عثمان مثلا؟ بل الواقع كذلك كما هو معلوم لمن له إلمام بتاريخ كتابة القرآن.
وإذا كان المصدر نسخة آحادية - فمن أين لنا أن نجزم بما فيها؟! وبما أخذا عنها؟!.
فإن قال هذا القائل: نحن نجزم بما فيها: لأن الصحابة جميعهم قد أقروا ما في هذه النسخة واعترفوا بصحته.
قلنا: فقد رجعت في النهاية إلى التواتر اللفظي بأن ما في هذه النسخة هو كل القرآن بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل، والتواتر اللفظي هو الذي تنكر دلالته على القطع، وتدعي أن الاعتماد كله - في القطع - إنما هو على الكتابة.
هذا وإليك بعض ما ذكره الأئمة لتأييد ما قلنا:
قال ابن حجر (1): «وَالْمُسْتَفَاد مِنْ [بَعْثِهِ] المَصَاحِفِ إِنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ إِسْنَادِ صُورَةِ الْمَكْتُوبِ فِيهَا إِلَى عُثْمَانَ، لَا أَصْلَ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ
(1) في " الفتح ": ج 1 ص 114.