الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّمَا تَحْصُلُ صِيَانَةُ الحُجَّةِ بِعَدَالَةِ حَامِلِهَا:
المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ هو أن يحمله الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة. وهكذا. سواء أكان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه أو الكتابة له أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة ما دامت صفة العدالة متحققة. فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة. وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا. ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة.
ومن باب أولى ما إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب. فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة حتى لا يمكننا أن نجزم ولا أن نظن بصحة شيء منهما. بل قد نجزم بمخالفة لأصلهما. قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (1).
الكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الحُجِّيَةِ:
فإذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها - على أي وجه كان حملها - تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحُجِّيَةِ وأن صيانة الحجة غير متوقفة عليها. وأنها ليست السبيل الوحيد لذلك. وهذا أمر واضح كل الوضوح ولكنا نزيده بيانًا وتثبيتًا بما سنذكره من الأدلة. فنقول:
أولاً: إنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل المختلفة ليدعوا الناس إلى الإسلام ويعلموهم أحكامه ويقيموا بينهم شعائره. ولم يرسل مع
(1)[سورة البقرة، الآية: 79].
كل سفير مكتوبًا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليهم ويلزمهم بها. ولا يستطيع أحد أن يثبت أنه كان يكتب لكل سفير هذا القدر من القرآن. والغالب فيما كان يفعله صلى الله عليه وسلم هو أن يكتب للسفير كتابًا يثبت به سفارته ويصحح به بعثته. وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابًا مشتملاً على بعض الأحكام من السُنَّةِ وليس فيه نص قرآني أو فيه نص قرآني إلا أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها.
فيتبين لنا من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في عدالة السفير وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة - اللذين لم يكتبهما - الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم وإلزامهم اتباعه.
وثانيًا: إنا نعلم أن الصلاة - وهي القاعدة الثانية من قواعد الإسلام - لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده. بل لا بد من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بفعله وقوله. ولو كانت الكتابة من لوازم الحُجِّيَّةِ لما جاز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الخطير الذي لا يهتدي إليه المجتهدون من التابعين فمن بعدهم بمحض عقولهم أو باجتهادهم في القرآن - بدون أن يأمر بكتابته التي تقنعهم بالحُجِّيَةِ كما هو الفرض.
وثالثًا: إنا قد بينا أن حجية السُنَّةِ ضرورية دينية وزدنا على ذلك أن أقمنا عليها من الأدلة ما لا سبيل إلى إنكار دلالته أو الشك فيه. ومع ذلك لم يأمر صلى الله عليه وسلم أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه. ولو كانت الحُجِّيَةُ متوقفة على الكتابة لما جاز له صلى الله عليه وسلم أن يهمل الأمر بها وإيجابها على الصحابة.
ثم نقول: لو جاءت اليهود والنصارى لصاحب هذه الشبهة فقالوا له: إن القرآن ليس بحجة. فإنه لم ينزل من السماء مكتوبًا، ولو كان حجة لاهتم الشارع بأمره وأنزله مكتوبًا كما أنزل التوراة والإنجيل فماذا يكون جوابه وهو يذهب أن الكتابة من لوازم الحُجِّيَةِ؟ إن قال لهم: إن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ والتبديل