المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الجواب: أما عن أحاديث العرض على كتاب الله: فكلها ضعيفة لا - الرد على من ينكر حجية السنة

[عبد الغني عبد الخالق]

فهرس الكتاب

- ‌الشُبْهَةُ الأُولَى: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الكِتَابَ قَدْ حَوَى كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ

- ‌الجواب:

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ

- ‌الجَوَابُ:

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً لأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَتِهَا وَلَعَمِلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى جَمْعِهَا وَتَدْوِينِهَا

- ‌الجَوَابُ:

- ‌إِنَّمَا تَحْصُلُ صِيَانَةُ الحُجَّةِ بِعَدَالَةِ حَامِلِهَا:

- ‌الكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الحُجِّيَةِ:

- ‌الكِتَابَةُ لَا تُفِيدُ القَطْعَ:

- ‌الكِتَابَةُ دُونَ الحِفْظِ قُوَّةً:

- ‌الحِفْظُ أَعْظَمُ مِنَ الكِتَابِةِ فَائِدَةً وَأَجْدَى نَفْعًا:

- ‌القَطْعُ بِالقُرْآنِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ:

- ‌يَجِبُ العَمَلُ بِظَنِّيِّ الثُبُوتِ فِي الفُرُوعِ:

- ‌الحِكْمَةُ فِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَةِ القُرْآنِ وَحْدَهُ:

- ‌لَا يَدُلُّ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِتَابَةِ السُنَّةِ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّتِهَا:

- ‌الحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ السُنَّةِ:

- ‌ثُبُوتُ إِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَةِ السُنَّةِ:

- ‌الجَمْع بَيْنَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ وَأَحَادِيثِ الإِذْنِ:

- ‌الكَلَامُ عَلَى كِتَابَةِ السُنَّةِ وَتَدْوِينِهَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ:

- ‌اِمْتِنَاعُ الصَّحَابَةِ عَنْ التَّحْدِيثِ بِالسُنَّةِ وَنَهْيِهِمْ عَنْهُ:

- ‌الأَسْبَابُ التِي حَمَلَتْهُمْ عَلَى الاِمْتِنَاعِ وَالنَّهْيِ:

- ‌الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ بِوُجُودِ أَخْبَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّةِ السُنَّةِ:

- ‌الجواب:

- ‌الفهرس التحليلي

الفصل: ‌ ‌الجواب: أما عن أحاديث العرض على كتاب الله: فكلها ضعيفة لا

‌الجواب:

أما عن أحاديث العرض على كتاب الله: فكلها ضعيفة لا يصح التمسك بها. (فمنها) ما هو منقطع. (ومنها) ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول. (ومنها) ما جمع بينهما.

وقد بين ذلك ابن حزم في " الإحكام "(1)، والسيوطي في " مفتاح الجنة "(2) - نقلاً عن البيهقي - بالتفصيل.

وقال الشافعي - في " الرسالة "(3) -: «ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر فيقال لنا: قد أثبتم حديث من روى هذا، في شيء. وهذه اَيْضًا رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء» . اهـ.

وقال ابن عبد البر - في " جامعه "(4) -: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: «الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ» . ثم قال (5): وَهَذِهِ الأَلْفَاظُ لَا تَصِحُّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِصَحِيحِ النَّقْلِ مِنْ سَقِيمِهِ وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَنَعْتَمِدُ عَلَى ذَلِكَ، قَالُوا: فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلَاّ نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَاّ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ بِهِ والأَمْرَ بِطَاعَتِهِ وَيُحَذِّرُ الْمُخَالَفَةَ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ». اهـ. ، فقد رجع على نفسه بالبطلان.

(1) ج 2 ص 76 - 79.

(2)

ص 6 و 14 - 19.

(3)

ص 225.

(4)

ج 2 ص 191.

(5)

ج 2 ص 191.

ص: 491

ثم إنه ورد في بعض طرقه عن أبي هريرة مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عَنِّي أَحَادِيثٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا [جَاءَكُمْ] مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي ، وَمَا [جَاءَكُمْ] مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

وهذه الرواية - وإن كانت ضعيفة اَيْضًا - ليست أضعف من غيرها وهي - كما ترى - لنا لا علينا.

ومما يدل على أن الخبر موضوع أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» .

قال الشافعي - في " الرسالة " - بعد أن روي هذا الحديث: «فقد ضيق رسول الله على الناس أن يردوا أمره. بفرض الله عليهم اتباع أمره» .

وعلى تسليم صحة خبر العرض فلا نعتقد أن أحدًا من المسلمين، يذهب إلى أن معنى الحديث:«أن ما يصدر عن رسول الله على نوعين: ما يوافق الكتاب - وهذا يعمل به - وما يخالفه. وهذا يرد» . ألا ترى قوله - في الرواية المذكورة - «فَهُوَ عَنِّي» . بالنسبة للأول وقوله: «فَلَيْسَ عَنِّي» . بالنسبة للثاني وقوله في بعض الروايات التي رواها ابن حزم: «وَمَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقُولَ مَا لَا يُوَافِقُ القُرْآنَ، وَبِالقُرْآنِ هَدَاهُ اللهُ!؟» .

وكيف يكون هذا معنى الحديث ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم - بالاتفاق - عن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن، وهو أبلغ الناس حفظًا، وأعظمهم لآياته تدبرًا، وأكثرهم لها ذِكْرًا؟ وقد قال تعالى:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (1) فكل مسلم يعتقد أن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم لا يخالف القرآن.

(1)[سورة يونس، الآية: 15].

ص: 492

قال الشافعي رضي الله عنه في " جماع العلم "(1): «إن الله عز وجل، وضع نبيه صلى الله عليه وسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه. فالفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول - فيما أنزل الله عليه - إلا بما أنزل عليه، وأنه لا يخالف كتاب الله، وأنه بين عن الله عز وجل معني ما أراد الله» . ثم قال (2): «ولا تكون سنة أبدًا تخالف القرآن والله تعالى الموفق» . اهـ.

فمعنى الحديث - إن صح -: «إذا روي لكم حديث فاشتبه عليكم وجه الحق فيه فاعرضوه على كتاب الله فإذا خالف فردوه فإنه ليس من مقولي» .

ثم إنه لا يلزم من عدم مخالفة ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم للكتاب بطلان حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، وأن لا يبين حُكْمًا قد أجمله القرآن، وأن لا يبين تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو انتهاء حكم ونسخه، وأن لا يوضح مشكلا فيه. (كما فهمه صاحب الشبهة)، فإن هذا البيان موافق، تمام الموافقة لمراد الله تعالى، وإذا نظرنا لظاهر لفظ الكتاب فلو سلمنا أنه غير موافق، وغير محتمل له فهو غير مخالف له. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر برد المخالف، ولا يلزم من ذلك رَدَّ ما ليس بموافق ولا بمخالف.

ويدلك على هذا رواية أخرى لحديث العرض على الكتاب (رواها ابن حزم): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحَدِيثُ عَنِّي عَلَى ثَلَاثٍ، فَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي تَعْرِفُونَهُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاقْبَلُوهُ، وَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي لَا تَجِدُونَ فِي القُرْآنِ مَا تُنْكِرُونَهُ بِهِ، وَلَا تَعْرِفُونَ مَوْضِعَهُ فِيهِ فَاقْبَلُوهُ، وَأَيُّمَا حَدِيثٍ بَلَغَكُمْ عَنِّي تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُكُمْ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَجِدُونَ فِي القُرْآنِ خِلَافَهُ - فَرُدُّوهُ» (*).

فأنت تراه قد جعل ما لم يوافق ولم يخالف واجب القبول. وهذه

(1) ص 118.

(2)

ص 134.

----------------------

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) قال ابن حزم: الحديث مرسل، والأصبغ (أحد رواة الحديث): مجهول، انظر " الإحكام في أصول الأحكام "، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، 2/ 76، نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت - لبنان.

ص: 493

الرواية - وإن كانت ضعيفة -: فهي من نوع ما يحتج به صاحب الشبهة.

وعلى ذلك فلا دلالة في هذه الروايات على بطلان الاستدلال بالسنة على حكم لم يتعرض له القرآن، ودلت عليه مستقلة، فإنه حكم لم يخالف القرآن، حيث إنه قد سكت عنه.

بل نقول: إن القرآن قد تعرض له على وجه الموافقة إجمالاً، حيث قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وعمم ذلك، ولم يخصصه: بكونه موافقًا للقرآن إجمالاً وتفصيلاً، ومن كل وجه. على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفهم من القرآن ما لا يفهمه غيره فنظنه نحن ليس فيه، وهو فيه.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الحُمُرِ، قَالَ:«مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَاّ هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}؟ (2)» .

فانظر - يا من تريد: أن تستقل باستنباط الأحكام من القرآن، بدون اعتماد على السُنَّةِ - أيستطيع عقلك أن يستنبط هذا الحكم من هذه الآية؟.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ بُيِّنَ لَنَا فِي القُرْآنِ وَلَكِنَّ فَهْمُنَا يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِهِ، فلذلك قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3)» .فانظر هذا من ابن مسعود أحد أجلاء الصحابة، وأقدمهم إسلامًا.

وأما حديث العرض على ما يعرفه الناس فرواياته اَيْضًا ضعيفة منقطعة، (كما قال البيهقي وابن حزم وغيرهما) فضلاً عما فيه: من نسبة الكذب إليه صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «مَا أَتَاكُمْ مِنْ خَبَرٍ فَهُوَ عَنِّي قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ» .

قال البيهقي - في " المدخل "(*): «وَأَمْثَلُ إِسْنَاٍد رُوِيَ فِي هَذَا المَعْنَى رِوَايَةَ

(1)[سورة الحشر، الآية: 7].

(2)

[سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8].

(3)

[سورة النحل، الآية: 44].

----------------------

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) لم يرد في " المدخل إلى السنن الكبرى " للبيهقي وإنما ورد ذكر قول البيهقي نقلاً عن "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للسيوطي: ص 25، الطبعة الثالثة: 1409 هـ / 1989 م، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.

ص: 494

رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ أَبِي أُسَيْدٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا سَمِعْتُمْ الحَدِيثَ عَنِّي تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ فَأَنَا أَوْلَاكُمْ بِهِ. إِذَا سَمِعْتُمْ الحَدِيثَ عَنِّي تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعَارُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ بَعِيدٌ فَأَنَا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ».

وَرَوَى بُكَيْرٌ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ بْنَ سَهْلٍ عَن أَُُبٍّي قََالَ: «إِذا بَلغَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُعْرَفُ وَتَلِينُ لَهُ الجُلُودُ فَقَدْ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الخَيْرَ وَلَا يَقُولُ إِلَاّ الخَيْرَ» .

[قَالَ البَيْهَقِيُّ]: قَالَ البُخَارِيُّ: «وَهَذَا أَصَحُّ - يَعْنِي أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ أَبِي حُمَيْدٍ، أَوْ أَبِي أُسَيْدٍ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْن لَهِيعَةَ عَنْ بُكَيْرٍ بْنِ الأَشَجِّ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ القَاسِمِ بْنَ سُهَيْل عَنْ أُبَيٍّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ ذَلِك بِمَعْنَاهُ فَصَارَ الحَدِيثُ المُسْنَدُ مَعْلُولاً.

وَعَلى الأَحْوَالِ كُلِّهَا حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتُ عَنْهُ قَرِيبٌ مِنَ العُقُولِ مُوَافق لِلأُصُولِ لَا يُنكره عقلُ من عقلَ عَن الله الْموضع الَّذِي وضع بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ دِينِهِ وَمَا افْتَرَضَ عَلَى النَّاسِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَلَا يَنْفُرُ مِنْهُ قَلْبُ مِنْ اِعْتَقَدَ تَصْدِيقَهُ فِيمَا قَالَ وَاِتِّبَاعِهِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَكَمَا هُوَ جَمِيلٌ حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعِ جَمِيلٌ فِي الأَخْلَاقِ حَسَنٌ عِنْدَ أُولِي الأَلْبَابِ.

هَذَا هُوَ المُرَاد مِمَّا عَسَى يَصِحُّ مِنْ أَلْفَاظِ هَذِهِ الأَخْبَارِ» (*). انتهى كلام البيهقي.

فكل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن وجميل، معروف عند العقل السليم، وقد يقصر عقلنا عن إدراك حسنه وجماله فلا يكون ذلك سببًا في إبطال صدوره عنه، أو حجيته. بل إذا رواه لنا الثقات وجب علينا قبوله، وحسن الظن

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*) نقلاً عن "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للسيوطي: ص 25، 26، الطبعة الثالثة: 1409 هـ / 1989 م، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.

ص: 495

به، والعمل بمقتضاه، واتهام عقولنا.

قال ابن عبد البر: وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَيَّارٍ يَقُولُ: «بَلَغَنِي وَأَنَا حَدَثٌ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنِ اخْتِنَاثِ فَمِ الْقِرْبَةِ وَالشُّرْبِ مِنْهُ» قَالَ: فَكُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَشَأْنًا وَمَا فِي الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ حَتَّى يَجِيءَ فِيهِ هَذَا النَّهْيُ؟ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ رَجُلاً شَرِبَ مِنْ فَمِ قِرْبَةٍ فَوَكَعَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ، وَإِنَّ الحَيَّاتِ والأَفَاعِي تَدْخُلُ فِي أَفْوَاهِ الْقِرَبِ عَلِمْتُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَا أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ مِنَ الحَدِيثِ أَنَّ لَهُ مَذْهَبًا وَإِنْ جَهِلْتُهُ».

وروى ابن عبد البر عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ]: قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، «ثَلَاثٌ أَنَا فِيهِنَّ رَجُلٌ، [يَعْنِي] كَمَا يَنْبَغِي، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَأَنَا رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا قَطُّ إِلَاّ عَلِمْتُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ، وَلَا كُنْتُ فِي صَلَاةٍ قَطُّ فَشَغَلْتُ نَفْسِي بِغَيْرِهَا حَتَّى أقْضِيَهَا وَلَا كُنْتُ فِي جِنَازَةٍ قَطُّ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ وَيُقَالُ لَهَا حَتَّى أَنْصَرِفَ عَنْهَا» . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «هَذِهِ الْخِصَالُ مَا كُنْتُ أَحْسَبُهَا إِلَاّ فِي نَبِيٍّ» .

وأما حديث طاوس: فهو منقطع في كلتا روايته، كما قال الشافعي والبيهقي وابن حزم. وقد رواه من غير طريق طاوس.

ولو فرضنا صحته: فليس - في الرواية الأولى - دلالة على عدم حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لا يأتي إلا بما في الكتاب: من تحليل أو تحريم.

فإنه ليس المراد من الكتاب: القرآن، بل المراد به - كما قال البيهقي - ما أوحي إليه، ثم ما أوحي إليه نوعان:(أحدهما): وحي يتلى. (والآخر): وحي لا يتلى.

والذي حملنا على هذا التأويل والتجوز، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ

ص: 496

مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ

». الحديث. (وقد تقدم): فإنه يدل على أن الرسول يُحِلُّ أَوْ يُحَرِّمُ ما ليس في الكتاب.

وقد ورد في السُنَّةِ استعمال الكتاب في عموم ما أنزل عليه، فقد روي - في " الأم " -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِي الزَّانِي بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْخَادِمِ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ [- عَزَّ ذِكْرُهُ -] أَمَا إنَّ الْغَنَمَ وَالْخَادِمَ رَدَّ عَلَيْك وَإِنَّ امْرَأَتَهُ تُرْجَمُ إذَا اعْتَرَفَتْ» وَجَلَدَ ابْنَ الرَّجُلِ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا».

فأنت ترى أنه جعل حكم الرجم والتغريب في كتاب الله، فدل ذلك على أنه أراد به: ما أنزل مطلقًا.

ويمكن أن يكون المراد من الكتاب: اللوح المحفوظ. كما قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1).

ولو سلمنا أن المراد من الكتاب: القرآن، فما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حرمه، ولم ينص القرآن عليه -: فهو حلال أو حرام في القرآن، يقول تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2)[الحشر: 7]. وقد تقدم ذلك في الشبهة الأول، فارجع إليه (3).

وأما الرواية الثانية: فليس معنى قوله: «لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ» : تحريم التمسك بشيء مما يصدر منه، والمنع من الاحتجاج به.

وإنما معناه: لا يتمسكن الناس عَلَىَّ بشيء من الأشياء التي خصني الله بها،

(1)[سورة الأنعام، الآية: 38].

(2)

[سورة الحشر، الآية: 7].

(3)

ص 387 - فما بعدها.

ص: 497

وجعل حكمي فيها مخالفًا لحكمهم، ولا يعترض علي معترض فيقول: لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، ويحرمه علينا؟ ولم يمنع نفسه من كذا، ويبيحه لنا؟ أو لَا يَقِسْ أحد نفسه عَلَيَّ في شيء من ذلك: فإني لم أحل لي أولهم، أو أحرم عَلَيَّ أو عليهم شيئًا من نفسي، ولم أفرق بيني وبينهم، وإنما الحاكم في ذلك كله هو الله تعالى: فهو الذي سوى بيني وبينهم في بعض الأحكام، وهو الذي فَرَّقَ بيني وبينهم في بعضها الآخر.

قال الشافعي (1) - بعد أن روى حديث طاوس -: «هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ فِقْهَ طَاوُسٍ وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ عَلَى مَا وَصَفْت إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ «لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ» وَلَمْ يَقُلْ لَا تُمْسِكُوا عَنِّي بَلْ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُمْسَكَ عَنْهُ وَأَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِذَلِكَ».

أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا أَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الأَمْرَ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: مَا نَدْرِي. [هَذَا] وَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ [عز وجل] اتَّبَعْنَاهُ» .

وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَنَا، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَفَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى خَلِيقَتِهِ وَمَا فِي أَيْدِي النَّاس مِنْ هَذَا إلَاّ تَمَسَّكُوا بِهِ عَنْ اللَّهِ تبارك وتعالى، ثُمَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ عَنْ دَلَالَتِهِ».

ولكن قوله - إن كان قاله -: «لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ» . يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان بموضع القدوة: فقد كان له خواص أبيح له فيها ما لم يبح للناس، وحرم عليه منها ما لم يحرم على الناس - فقال:«لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَىَّ بِشَىْءٍ» من الذي لي أو عَلَيَّ دونهم، فإن كان عَلَيَّأو لي دونهم: لا يمسكن به». اهـ.

(1) في " جماع العلم ": ص 113 - 115.

ص: 498

وأما خبر السؤال عن الوضوء من القيء -: فلم تنظره أعيننا إلا في مجلة " المنار "(1) في مقال الدكتور صدقي. ولم يبين لنا سنده، ولا الكتاب الذي نقل منه. ولعله من وضع العصر الحديث (2).

وعلى فرض صحته: فقد علمت جوابه من الكلام على حديث طاوس في الرواية الأولى.

وأما قول الدكتور: «فهذا الحديث - صح أو لم يصح -: فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لا يحيدون عنه» : ففي غاية السقوط بعد ما تبين: من الحجج، ودفع الشبه.

وعقول المسلمين - وهي سليمة، والحمد لله: توجب الأخذ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: حيث إنه سفير ورسول بين الله وبين خلقه، وإن لم يكن قد جاء في كتاب.

كما أن رعية الملك - يلزمهم الأخذ بقول رسوله - بعد أن تثبت رسالته - وإن لم يأت لهم بكتاب - بما يقول - من الملك.

وهذا أمر متقرر في بداهة العقول، ولعل العقل الذي وافقه ظاهر خبر القيء، هو: عقل الدكتور فقط.

وأما عقول المسلمين: فنظيفة من خبر القيء ولم تتلوث به. هدانا الله لما فيه الخير والرشاد

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

ص: 499