الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ
…
:
أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السُنَّةِ. كما يدل عليه قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ولو كانت السُنَّةُ حُجَّةً ودليلاً مثل القرآن: لتكفل الله بحفظها اَيْضًا.
…
الجَوَابُ:
أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الشريعة كلها: كتابها وسنتها. كما يدل عليه قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2). ونور الله: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الذي ارتضاه للعباد وكلفهم به وضمنه مصالحهم، والذي أوحاه إلى رسوله - من قرآن أو غيره -: ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فللعلماء في ضمير الغيبة فيه - قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا يصح التمسك بالآية حينئذ.
ثانيهما: أنه يرجع إلى الذكر، فإن فسرناه بالشريعة كلها - من كتاب وسنة - فلا تمسك بها اَيْضًا. وإن فسرناه بالقرآن فلا نسلم أن في الآية حصرا حَقِيقِيًّا. أي: بالنسبة لكل ما عدا القرآن. فإن الله تعالى قد حفظ أشياء كثيرة مما عداه: مثل حفظه النبي صلى الله عليه وسلم من الكيد والقتل، وحفظه العرش والسموات والأرض من الزوال إلى أن تقوم الساعة. والحصر الإضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص، يحتاج إلى دليل وقرينة على هذا الشيء المخصوص ولا دليل عليه سواء أكان سنة أم غيرها.
(1)[سورة الحجر، الآية: 9].
(2)
[سورة التوبة، الآية: 32].
فتقديم الجار والمجرور ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رؤوس الآي.
بل: لو كان في الآية حصر إضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص: لما جاز أن يكون هذا الشيء هو السُنَّةُ. لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له: بما أنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين: تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمه، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره. وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له.
ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن: فلم يذهب منها - وَللهِ الحَمْدُ - شيء على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة.
قال الشافعي (1) في صدد الكلام على لسان العرب:
«وهم في العلم طبقات: (منهم): الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه
(1) في " الرسالة ": ص 42، 43.
(ومنهم): الجامع الأقل مما جمع غيره. وليس قليل ما ذهب - من السنن - على من جمع أكثرها: دليلاً على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم.
بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله (بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي): فيتفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها». اهـ.
وكما أن الله تعالى قيض للكتاب العزيز، العدد الكثير والجم الغفير: من ثقات الحفظة، في كل قرن -: لينقلوه كاملاً من السلف إلى الخلف: كذلك قيض سبحانه للسنة الشريفة مثل هذا العدد - أو أكثر -: من ثقات الحفظة، فقصروا أعمارهم - وهي الطويلة - على البحث والتنقيب عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينقلونه عمن كان مثلهم في الثقة والعدالة، إلى أن يصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى ميزوا لنا الصحيح من السقيم، ونقلوه إلينا: سليمًا من كل شائبة، عَارِيًا عن أي شك وشبهة، واستقر الأمر، وأسفر الصبح لذي عينين.
ولأن الله تعالى قد حفظ سنة رسوله كما حفظ القرآن، وجعلها حصنه ودرعه، وحارسه وشارحه -: كانت الشجي في حلوق الملحدين، والقذى في عيون المتزندقين، والسيف القاطع: لِشُبَهِ المنافقين، وتشكيكات الكائدين.
فلا غرو إذا لم يألوا جُهْدًا، ولم يدخروا وُسْعًا: في الطعن في حجيتها، والتهوين من أمرها، والتنفير من التمسك بها، والاهتداء بهديها: لينالوا من القرآن ما يريدون، ومن هدم الدين ما ينشدون، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1).
…
(1)[سورة التوبة، الآية: 32].