الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرض موته صلى الله عليه وسلم. ويبعد جِدًّا أن يكون حديث أبي سعيد قد تأخر عن هذه الأحاديث كلها خصوصًا حديث الهَمِّ. ولو كان متأخرًا عنها لعرف ذلك عند الصحابة يقينًا صريحًا.
الثالث: إجماع الأمة القطعي بعد عصر الصحابة والتابعين على الإذن وإباحة الكتابة وعلى أن الإذن متأخر عن النهي. كما سنبينه. وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول (1). حتى ممن كان يقول في عصرنا هذا بأن النهي ناسخ للإذن فإنا نجده قد ملأ الصحف بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
…
الكَلَامُ عَلَى كِتَابَةِ السُنَّةِ وَتَدْوِينِهَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ:
فإن قيل: بقي علينا أن ننظر فيما كان عليه الصحابة والتابعون- رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: من امتناعهم عن كتابة السُنَّةِ وتدوينها، ومنعهم الغير من ذلك وإحراقهم ما كتب منها، واستدلالهم على ذلك كله بنهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابتها. أفلا يدلنا ذلك كله على عدم حُجِّيَّةِ السُنَّةِ، وعلى أن نهيه صلى الله عليه وسلم كان متأخرًا عن الإذن وناسخًا له؟ وإلا لعملوا بمقتضى الإذن:
قلنا: إنهم يكونوا مجمعين على هذه الأمور المذكورة. فقد كان أكثرهم يبيح الكتابة (2) ويحتفظ بالمكتوب منها والبعض يكتب بالفعل (3).
وإليك ما ورد في ذلك من الآثار:
لما وجه أبو بكر الصديق أنس بن مالك إلى البحرين عاملاً على الصدقة كتب
(1) كما قال الأستاذ أحمد شاكر في " شرح الباعث الحثيث ": ص 159.
(2)
كما نقله العيني: ج 2 ص 167 عن القاضي عياض.
(3)
كما حققه الدارمي في " النقض ": ص 130 - 132.
لهم: «إِنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِهَا رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِ، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يُعْطِ» الكتاب. أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي.
وروى ابن عبد البر عن عبد الملك بن سفيان عن عمه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: «قيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» .. ورواه اَيْضًا الحاكم والدارمي. وروى مثله ابن عبد البر من طريق يحيى بن أبي كثير عن ابن عباس.
وروي عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ» .
وروي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيثَ، فَيَكْتُبُهُ فِي وَاسِطَةِ الرَّحْلِ، فَإِذَا نَزَلَ نَسَخَهُ» .
وروى مسلم عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا، وَيُخْفِي عَنِّي، فَقَالَ:«وَلَدٌ نَاصِحٌ أَنَا أَخْتَارُ لَهُ الأُمُورَ اخْتِيَارًا، وَأُخْفِي عَنْهُ» ، قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ مِنْهُ أَشْيَاءَ، وَيَمُرُّ بِهِ الشَّيْءُ، فَيَقُولُ:«وَاللهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ ضَلَّ» .
وروي من طريق سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، [عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ]، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ:«أُتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ فِيهِ قَضَاءُ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَمَحَاهُ إِلَاّ قَدْرَ» ، وَأَشَارَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِذِرَاعِهِ.
وروى أحمد عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنِ ارْفَعْ إِلَيَّ حَاجَتَكَ، [قَالَ]: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ:«" إِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ "، وَلَسْتُ أَسْأَلُكَ شَيْئًا، وَلَا أَرُدُّ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ مِنْكَ» .
وروى ابن عبد البر عن مجاهد: أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «مَا يُرَغِّبُنِي فِي الحَيَاةِ إِلَاّ خَصْلَتَانِ: الصَّادِقَةُ وَالوَهْطُ. فَأَمَّا الصَّادِقَةُ فَصَحِيفَةٌ كَتَبْتُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الْوَهْطُ فَأَرْضٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ [كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا]» .
وروي عن عَنِ [الْفَضْلِ] بْنِ حَسَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَحَدَّثْتُ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ فَأَنْكَرَهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي [قَدْ] سَمِعْتُهُ مِنْكَ، قَالَ:«إِنْ كُنْتَ سَمِعْتَهُ مِنِّي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدِي» ، فَأَخَذَ بِيَدِي إِلَى بَيْتِهِ فَأَرَانَا كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فَقَالَ:«قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي إِنْ كُنْتُ قَدْ حَدَّثْتُكَ بِهِ فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدِي» .وأخرج ابن حجر نحوه.
قال ابن عبد البر: «هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَكْتُبُ وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَتَبَ، وَحَدِيثُهُ بِذَلِكَ أَصَحُّ فِي النَّقْلِ مِنْ هَذَا؛ لأَنَّهُ أَثْبَتُ إِسْنَادًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، إِلَاّ أَنَّ الحَدِيثَيْنِ قَدْ يَسُوغُ التَّأَوُّلُ فِي الجَمْعِ [بَيْنَهُمَا]» : بأنه لم يكن يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم كتب بعده. وبأنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبًا عنده أن يكون بخطه. وقد ثبت أنه لم يكن يكتب. فتعين أن يكون المكتوب عنده بغير خطه.
وروى ابن عبد البر عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ قَالَ: «كُنْتُ أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أُفَارِقَهُ أَتَيْتُهُ بِكِتَابِي فَقُلْتُ: هَذَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ»
وروى " مسلم " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ (محمود): قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ عِتْبَانَ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ، قَالَ: أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشَّيْءِ، فَبَعَثْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَنْزِلِي، فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَنْزِلِي وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ وَكُبْرَهُ
إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ، قَالُوا: وَدُّوا أَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَهَلَكَ، وَدُّوا أَنَّهُ أَصَابَهُ شَرٌّ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، وَقَالَ:«أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» ، قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ، قَالَ:«لَا يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَيَدْخُلَ النَّارَ، أَوْ تَطْعَمَهُ» ، قَالَ أَنَسِ: فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ لابْنِي: اكْتُبْهُ فَكَتَبَهُ.
وروى ابن عبد البر عَنْ ثُمَامَةَ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَقُولُ لِبَنِيهِ: «يَا بَنِيَّ قَيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ» ورواه الحاكم اَيْضًا.
وروى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «رَأَيْتُ جَابِرًا يَكْتُبُ عِنْدَ [ابْنِ سَابِطٍ] (*) فِي أَلْوَاحٍ» .
وروى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ حَنَشٍ] قَالَ: «رَأَيْتُهُمْ عِنْدَ الْبَرَاءِ يَكْتُبُونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِالْقَصَبِ» .
وروى عَنْ مَعْنٍ قَالَ: «أَخْرَجَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كِتَابًا وَحَلَفَ لِي: إِنَّهُ خَطُّ أَبِيهِ بِيَدِهِ» .
وروى عن عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا أُمَامَةَ، عَنْ كِتَابِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا» .
وروى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ [أُحْرِقَتْ] كُتُبُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ:«وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ عِنْدِي كُتُبِي بِأَهْلِي وَمَالِي» .
وروى عَنْ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الْحَسَنِ «أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِكِتَابِ الْعِلْمِ بَأْسًا، وَقَدْ كَانَ أَمْلَى التَّفْسِيرَ فَكُتِبَ» .
وروي عَنِ الأَعْمَشِ [قَالَ: قَالَ] الْحَسَنُ: «إِنَّ لَنَا كُتُبًا نَتَعَاهَدُهَا» .
وروي عن عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي قَالَ: «لَا بَأْسَ [بِكِتَابِ] الأَطْرَافِ»
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ورد في الكتاب المطبوع (ابن ساباط) وليس كذلك، إنما هو (ابن سابط)، وهو: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْن سابط بْن أَبِي حميضة بْن عمرو بْن أهيب بْن حذافة بْن جمح القرشي الجمحي.
انظر: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، ص 310، حديث رقم 397، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. الرياض - المملكة العربية السعودية.
" أسد الغابة " لابن الأثير: 3/ 148، طبعة سنة 1409هـ - 1989م، نشر دار الفكر. بيروت - لبنان.
" تهذيب التهذيب " لابن حجر العسقلاني، بعناية إبراهيم الزيبق وعادل مرشد،، ص 509، مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، 1416 هـ - 1995 م، نشر مؤسسة الرسالة].
" تقريب التهذيب "، تحقيق الشيخ محمد عوامة، ص 340، ترجمة رقم 3867، الطبعة الأولى: 1406 هـ - 1986 م، نشر دار الرشيد - سوريا
وَرَوَى عَنْ أَبِي كِبْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتَ شَيْئًا، فَاكْتُبْهُ وَلَوْ فِي حَائِطٍ» .
وَرَوَى عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ: «أَمْلَى عَلَيَّ الضَّحَّاكُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ» .
وَرَوَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: «الكِتَابُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ النِّسْيَانِ» .
وَرَوَى هو والسيوطي - في " التدريب " - عَنْ أَبِي المَلِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «يَعِيبُونَ عَلَيْنَا [أَنْ نَكْتُبَ الْعِلْمَ وَنُدَوِّنَهُ]، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (1)» .
وَرَوَى (*) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: «كُنْتُ سَيِّئَ الْحِفْظِ فَرَخَّصَ لِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي الْكِتَابِ» .
وَرَوَى عَنْ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: «لأَنْ أَكُونَ كَتَبْتُ كُلَّ مَا [كُنْتُ] أَسْمَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ مَالِي» .
وَرَوَى عَنْ سَوَادَةَ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَكْتُبِ الْعِلْمَ فَلَا تَعُدُّوهُ عَالِمًا» .
وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«كُنَّا نَكْتُبُ الحَلَالَ وَالحَرَامَ، وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ» .
وَرَوَى عَنْ [عَبْدِ الْعَزِيزِ] الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ العِلْمَ وَكَتَبَهُ ابْنُ شِهَابٍ» .
وَرَوَى عن مالك نحوه.
وَرَوَى عن معمر عن الزهري أنه قال: «كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ، حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءُ فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .
وَرَوَى عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:«اسْتَكْتَبَنِي الْمُلُوكُ فَأَكْتَبْتُهُمْ، فَاسْتَحْيَيْتُ اللَّهَ إِذْ كَتَبْتُهَا المُلُوكَ أَلَاّ أَكْتُبَهَا لِغَيْرِهِمْ» .
وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَابْنُ شِهَابٍ، وَنَحْنُ نَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى أَنْ نَكْتُبَ السُّنَنَ فَكَتَبْنَا كُلَّ شَيْءٍ سَمِعْنَا
(1)[سورة طه، الآية: 52].
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) يعود المؤلف فينقل عن " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر.
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ [بِنَا] مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْتُ: لَا، لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَقَالَ هُوَ: بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، وَكَتَبَ وَلَمْ أَكْتُبْ، فَأَنْجَحَ وَضَيَّعْتُ».
وَرَوَى عَنْ خَالِدِ بْنِ نِزَارٍ قَالَ: «أَقَامَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَاتِبَيْنِ يَكْتُبَانِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَأَقَامَا سَنَةً يَكْتُبَانِ عَنْهُ» .
وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٌ قَالَ: [حَدَّثْتُ] يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ بِأَحَادِيثَ، فَقَالَ:«اكْتُبْ لِي حَدِيثَ كَذَا وَحَدِيثَ كَذَا» ، فَقُلْتُ: أَمَا تَكْرَهُ أَنْ تَكْتُبَ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: «اكْتُبْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ كَتَبْتَ فَقَدْ ضَيَّعْتَ» أَوْ قَالَ: «عَجَزْتَ» .
وَرَوَى عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «الْكِتَابُ قَيْدُ الْعِلْمِ» .
وَرَوَى عَنْ وَهْبٍ بْنِ جَرِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ قَالَ:«هَذَا وَجَدْتُهُ مَكْتُوبًا عِنْدِي فِي الصَّحِيفَةِ» .
قَالَ: وَسَمِعْتُ شَبَابَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمُونِي أَثُجُّ (1) الحَدِيثَ فَاعْلَمُوا أَنِّي تَحَفَّظْتُهُ مِنْ كِتَابٍ» .
وَرَوَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ: «يَجْلِسُ إِلَى العَالِمِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ يَأْخُذُ كُلَّ مَا [يَسْمَعُ] فَذَلِكَ حَاطِبُ لَيْلٍ، وَرَجُلٌ لَا يَكْتُبُ وَيَسْمَعُ فَيُقَالُ لَهُ جَلِيسُ العَالِمِ، وَرَجُلٍ يَنْتَقِي وَهُوَ خَيْرُهُمْ» ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى:«وَذَلِكَ الْعَالِمُ» .
وَرَوَى عَنْ سُفْيَانُ، [قَالَ]: قَالَ بَعْضُ الأُمَرَاءِ لابْنِ شُبْرُمَةَ، مَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تُحَدِّثُنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ:«كِتَابٌ عِنْدَنَا» .
وَرَوَى عَنْ حَاتِمٍ الْفَاخِرُ، [وَكَانَ ثِقَةً] قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكْتُبَ الحَدِيثَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، حَدِيثٌ أَكْتُبُهُ أُرِيدُ أَنْ أَتَّخِذَهُ دِينًا، وَحَدِيثُ رَجُلٍ أَكْتُبُهُ فَأُوقِفُهُ لَا أَطْرَحُهُ وَلَا أَدِينُ بِهِ، وَحَدِيثُ [رَجُلٍ] ضَعِيفٍ أُحِبُّ أَنْ أَعْرِفَهُ وَلَا أَعْبَأَ بِهِ» .
وَرَوَى عَنْ خَالِدٍ بْنَ خِدَاشٍ قَالَ: وَدَّعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَوْصِنِي فَقَالَ:«عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي السَّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَكِتَابَةِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ» .
(1) أي أصب الكلام صبًا.
وَرَوَى عَنْ إِسْحَاقٍ بْنَ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْتُ لأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مَنْ كَرِهَ كِتَابَ الْعِلْمِ؟ قَالَ: «كَرِهَهُ قَوْمٌ وَرَخَّصَ فِيهِ آخَرُونَ» ، قُلْتُ لَهُ: لَوْ لَمْ يُكْتَبِ العِلْمُ لَذَهَبَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَوْلَا كِتَابَةُ الْعِلْمِ أَيُّ شَيْءٍ كُنَّا نَحْنُ؟» . قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: وَسَأَلْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ: كَمَا قَالَ أَحْمَدُ سَوَاءً.
وَرَوَى عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ: [سَمِعْتُ] أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، يَقُولَانِ:«كُلُّ مَنْ لَا يَكْتُبِ الْعِلْمَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ» .
وَرَوَى عَنْ الرِّيَاشِيُّ [قَالَ]: قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، «اجْعَلْ مَا تَكْتُبُ بَيْتَ مَالٍ، وَمَا فِي صَدْرِكَ لِلنَّفَقَةِ» .
وَرَوَى عَنْ المُبَرِّدِ، [قَالَ]: قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، «مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلَاّ كَتَبْتُهُ، وَلَا كَتَبْتُهُ إِلَاّ حَفِظْتُهُ، وَلَا حَفِظْتُهُ إِلَاّ نَفَعَنِي» .
…
وأما حصول هذه الأمور من بعض الصحابة: فلو سلمنا أن عمل هذا البعض حجة فلا دلالة فيه على عدم حُجِّيَّةَ السُنَّةِ، لما علمته في الكلام على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة: حيث بينا هناك عدم دلالته على عدم الحُجِّيَةِ، وأن الكتابة ليست من لوازمها، وأن النهي إنما كان لعلل أخرى يمكن مجيئها هنا.
ولا دلالة فيه اَيْضًا على أن النهي متأخر عن الإذن وناسخ له. لأنا إذا ذهبنا مذهب ابن قتيبة والخطابي (المذكور في القول السادس في البحث المتقدم) من أن كُلاًّ من النهي والإذن عام في جميع الأحوال والأشخاص - نقول: إنهم إنما استمروا على هذه الأمور بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: لأنهم لم يطلعوا على إذنه فاعتقدوا استمرار الحكم وعدم نسخه. لا لأن النهي في الواقع متأخر عن الإذن وناسخ له. وإلا لما حصل إجماع من بعدهم على الإذن والإباحة.
وإذا ذهبنا مذهب المخصصين لكل من النهي والإذن بأي نوع من أنواع التخصيص المتقدمة - نقول: إن امتناع من امتنع من الصحابة أو التابعين عن الكتابة،
ومنعه الغير منها وإحراقه لما كتب - إنما كان عند تحقق حالة من حالات النهي المتقدمة التي يمكن وجودها في عصرهم. كأن كان يخشى اشتباه القرآن بالسنة إذا كتبت معه في صحيفة واحدة أو مطلقا. أو يخشى الاتكال على الكتابة وترك الحفظ الذي يميل إليه بطبعه، ويرى في تركه مضيعة للعلم وذهابا للفقه والفهم.
ومثل ذلك يقال في التدوين وجمع السُنَّةِ في كتاب واحد كالقرآن.
ونزيد كون التدوين من لوازم الحُجِّيَةِ بطلانًا فنقول:
لو كان عدم التدوين دليلاً على عدم الحُجِّيَةِ لصح أن يقال: إن أبا بكر وزيد بن ثابت لما امتنعا عن جمع القرآن في أول الأمر كانا يفهمان أن القرآن ليس بحجة. وذلك ما لا يمكن أن يتصور في أبي بكر وزيد. ولكن الواقع أنهما إنما امتنعا عن جمعه أول الأمر: لأنه عمل لم يعمله الرسول قبلهما ولم يأمر به. ثم لما وجدا أن المصلحة والخير كل الخير في جمعه قاما به.
روى " البخاري " من طريق ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ،: أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ:«كَيْفَ [تَفْعَلُ] شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟» قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، «فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ» ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، «فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ» ، قُلْتُ:«كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟» ، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، " فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ
غَيْرِهِ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (1) [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رضي الله عنه ".
فهذا يدلك على أن عدم التدوين ليس دليلاً على عدم الحُجِّيَةِ. بل قد يكون لسبب آخر من الأسباب المتقدمة أو التي سنذكرها.
ثم إنا نجد أن عمر كان مترددًا في تدوين السُنَّةِ وجمعها في كتاب واستشار الصحابة في ذلك. فمنهم من أشار عليه بتدوينها. ولو كان التدوين متلازمًا مع الحُجِّيَةِ: للزم من تردده في حُجِّيَّةَ السُنَّةِ. أفيصح أن يظن ظان أن تردده هذا ناشئ عن تردده في حجيتها؟ لا يمكن أن يظن أن عمر يمضي عليه الزمن الطويل - من وقت إسلامه إلى أن تردد في تدوينها زمن خلافته - وهو متردد في كونها حُجَّةً. ولقد كان رضي الله عنه حريصًا أشد الحرص على معرفة ما دون هذا الأمر الخطير - من الأحكام - من النبي صلى الله عليه وسلم والبحث عنه. وقد كان يسارع في إبداء رأيه في كثير من المواقف مع الصراحة المتناهية. فلا يخلو حاله إذن من أحد أمرين: إما يكون مُعْتَقِدًا حُجِّيَّتَهَا، أَوْ مُعْتَقِدًا عَدَمَهَا. وعلى كل فلا يصح أن يكون تردده في التدوين ناشئًا عن تردده في حُجِّيَّةَ السُنَّةِ. بل لا بد أن يكون قد نشأ عن تردده فيما جد من الأسباب التي حملته على البحث في أمر تدوين السُنَّةِ.
ثم نزيد امتناع بعضهم عن التدوين، وإحراقهم لما دَوَّنُوهُ - سببين آخرين:
أولهما: أنه لشدة ورعه وخوفه من الله تعالى خشي أن يتمسك أحد بعده بحديث يدونه ويكون هذا الحديث المدون قد رواه له رجل ظاهره الثقة وهو كذوب، أو ظاهره أنه قوي الحفظ وهو ضعيفه. أو أنه إذا لم يكن هناك واسطة بينه وبين الرسول يحتمل أن يكون هو نفسه قد بدل حَرْفًا بحرف فيه سَهْوًا. وإلى هذا أشار أبو بكر في قوله لعائشة مبينا سبب إحراقه ما دونه من الأحاديث الذي ذكره صاحب الشبهة «خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ وَهِيَ عِنْدَكِ فَيَكُونُ فِيهَا أَحَادِيثٌ عَنْ رَجُلٍ
(1)[سورة التوبة، الآية: 128].
اِئْتَمَنْتُهُ وَوَثِقْتُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَمَا حَدَّثَنِي. فَأَكُونُ قَدْ تَقَلَّدْتُ ذَلِكَ» (*). وقوله في الرواية الأخرى: «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ الحَدِيثَ وَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَمْ أَسْمَعْهُ حَرْفًا حَرْفًا» .
وثانيهما: أنه من المعلوم أن الواحد منهم أو الاثنين أو العشرة أو المائة لا يمكنهم أن يجمعوا كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب واحد. كما حصل في القرآن. لأنه لا يوجد أحد منهم قد لازم النبي ملازمة تامة في جميع لحظات رسالته. ولو فرض ذلك فلا يمكنه أن يقوم بحفظ كل ما صدر منه واستذكاره وتدوينه. ولا يمكن اَيْضًا أن يجتمع عدد معين منهم قد وزعوا زمنه صلى الله عليه وسلم عليهم وتقاسموه وتناوبوا ملازمته حتى لا يخرج عن حفظهم شيء مما صدر منه. ولقد تكون صحبة الواحد منهم له صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة ويكون منفردًا فيها ويصدر منه في هذه الساعة ما لم يطلع عليه غيره أصلاً. ولذلك وجب القول بأن كل فرد من الصحابة يحتمل أنه قد حمل شيئًا من السُنَّةِ لم يحمله غيره. ولا يمكن لأحد مهما أوتي من السلطان أن يجمع جميع الصحابة (وهم ألوف)(1) بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ويأخذ منهم جميع ما حملوه وَيُدَوِّنُهُ.
فلما رأوا أنهم غير قادرين على هذا امتنعوا عن التدوين وأحرقوا ما دونوا، مخافة
(1) قال في " تدريب الراوي ": ص 206: قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ يُقَالُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ؟
[قَالَ]: وَمَنْ قَالَ ذَا، قَلْقَلَ اللَّهُ أَنْيَابَهُ، هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ، وَمَنْ يُحْصِي حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمِعَ مِنْهُ) فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ أَيْنَ كَانُوا وَأَيْنَ سَمِعُوا؟ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَمَنْ بَيْنَهُمَا، وَالأَعْرَابُ، وَمَنْ شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الوَدَاعِ، كُلٌّ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ بِعَرَفَةَ
…
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا أَسْنَدَهُ الْمَدِينِيُّ عَنْهُ قَالَ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، وَهَذَا لَا تَحْدِيدَ فِيهِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ الاطِّلَاعُ عَلَى تَحْرِيرِ ذَلِكَ مَعَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي البُلْدَانِ وَالبَوَادِي وَالقُرَى، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ فِي قِصَّةِ تَخَلُّفِهِ عَنْ تَبُوكَ: وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يَعْنِي الدِّيوَانَ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَى السَّاجِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ سِتُّونَ أَلْفًا، ثَلَاثُونَ أَلْفًا بِالْمَدِينَةِ، وَثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَجَمِيعُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَبْلُغْ مَجْمُوعُ مَا فِي تَصَانِيفِهِمْ عَشْرَةَ آلَافٍ، مَعَ كَوْنِهِمْ يَذْكُرُونَ مَنْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ عَاصَرَهُ، أَوْ أَدْرَكَهُ صَغِيرًا. اهـ.
---------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) قارن بما ورد حول أحراق أبي بكر ما دَوَّنَهُ، ما ذكر في صفحة 407 من هذا الكتاب.
أن يعتقد من بعدهم أنهم بذلوا كل الجهد وأمكنهم استيعاب كل السُنَّةِ - كما فعلوا في القرآن - وجمعوها في هذا الكتاب المدون. ويعتقد أن ما عدا ما فيه - مما يتحدث به الرواة - ليس منها. أو لا يعتقد ذلك لكنه يقدم ما دونوه على ما يروى مشافهة عند التعارض. وقد يكون في الواقع المروي مشافهة نَاسِخًا لِلْمُدَوَّنِ. وفي ذلك كله ما فيه: من الخطر وضياع جزء كبير من الأحكام الشرعية.
ولا يخفى أن هذا الاعتقاد محتمل الوقوع من المتأخرين إذا كان المدون للسنة أكابر الصحابة الذين كانوا أكثر ملازمة له صلى الله عليه وسلم من غيرهم وخصوصًا نحو أبي بكر وعمر.
وأنت إذا نظرت فيما رواه صاحب الشبهة من قول أبي بكر: «وَيَكُونُ قَدْ بَقِيَ حَدِيثٌ لَمْ أَجِدْهُ» (*) فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر ". تتأكد مما قلناه.
فأما إذا قام بالتدوين صحابي لم تعلم عنه الملازمة له صلى الله عليه وسلم فمثل هذا الاحتمال بعيد جِدًّا. وأبعد منه أن يتوهم متوهم أن إمامًا مثل الزهري أو البخاري أو مسلم - ممن بذلوا كل الجهد في استقصاء الأحاديث وتدوينها - أمكنه أن يجمع جميع السنة وذلك لبعد العهد واتساع رقعة الإسلام، وموت الصحابة أو معظمهم، وتزايد عدد الحَمَلَةِ من التابعين ومن بعدهم تزايدًا يجعل العقل يحكم لأول وهلة أن نحو الزهري لا يمكنه أن يقابلهم جميعًا ولا أن يأخذ عنهم جميع ما حملوا.
وإذا كان الاحتمال بالنسبة لهؤلاء مندفعًا بالبداهة فلا بأس من تدوينها منهم ومن نحوهم. بل هو مطلوب لطول العهد وموت الحَمَلَةِ الثقات ولضعف الحفظ واختلاط العجم بالعرب وانتشار مدنيتهم بينهم وتعلم أكثرهم الكتابة وخروجهم عن طبيعتهم الأولى من الاعتماد على الحفظ. ولانتشار الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسبب تعدد المذاهب ونشوء الفرق وكثرة الإلحاد والزندقة - انتشارا احتيج معه إلى تأكيد ثبوت ما صح عنه صلى الله عليه وسلم بكتابة الثقات النقدة وتدوينهم، حتى يتميز الصحيح
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) قارن بما ورد في صفحة 407 من هذا الكتاب.
تمام التميز من المكذوب.
ولذلك كله أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الولاة والعلماء بجمع الحديث وتدوينه. وأرسل صورة من المكتوب إلى كل مصر.
قال أبو عبد الله البخاري - في تعاليقه: وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: «انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَاّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلْتُفْشُوا العِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا» . ورواه مالك في " الموطأ "(رواية محمد بن الحسن) مختصرًا (2). وأخرج الهروي في " ذم الكلام " من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار قال: «[لَمْ يَكُونُوا يَكْتُبُونَ] الْحَدِيثَ إِنَّمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا لَفْظًا وَيَأْخُذُونَهَا حِفْظًا إِلَاّ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ وَالشَّيْءَ اليَسِيرَ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْبَاحِثُ بَعْدَ الاسْتِقْصَاءِ، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ الدُّرُوسُ وَأَسْرَعَ فِي الْعُلَمَاءِ الْمَوْتُ أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ [الأُمَوِيُّ] أَبَا بَكْرٍ الْحَزْمِيَّ - فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ - " أَنِ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةٍ أَوْ [حَدِيثِ عُمَرَ] فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي أَخَافُ دروس الْعلم» (3). وأخرجه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " بلفظ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الآفَاقِ:
(1) ج 1 ص 4.
(2)
انظر " قواعد التحديث ": ص 46، 47.
(3)
انظر " قواعد التحديث ": ص 46، 47.
«انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْمَعُوهُ [وَاحْفَظُوهُ؛ فَإِنِّي أَخَافُ دُرُوسَ الْعِلْمِ، وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ]» (1). وروى عبد الرزاق (*) عَنْ ابْنَ وَهْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، يَقُولُ:«إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَكْتُبُ إِلَى الأَمْصَارِ يُعَلِّمُهُمُ السُّنَنَ وَالْفِقْهَ، وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْأَلُهُمْ عَمَّا مَضَى، وَيَعْلَمُ مَا عِنْدَهُمْ، وَيَكْتُبُ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ السُّنَنَ، وَيَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَا، فَتُوُفِّيَ رحمه الله وَقَدْ كَتَبَ ابْنُ حَزْمٍ كُتُبًا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ» (2).
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ زِيَادٍ مَوْلَى [الزُّبَيْرِيِّينَ] قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يُحَدِّثُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ [قَالَ]: «أَمَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِجَمْعِ السُّنَنِ. فَكَتَبْنَاهَا دَفْتَرًا دَفْتَرًا، فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ دَفْتَرًا» .
(1) انظر " قواعد التحديث ": ص 46، 47.
(2)
انظر " قواعد التحديث ": ص 47.
----------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) لم أجده في " مصنف عبد الرزاق الصنعاني ". ولكن وجدته في " فوائد ابن منده "، تحقيق مجدي السيد إبراهيم، ص 94، نشر مكتبة القرآن. القاهرة - مصر. وما أثبته لفظًا لابن منده.
«ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معا: كأبي بكر بن أبي شيبة» .
قال في " قواعد التحديث ": قال السيوطي: «وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي أَوَّلِ مَنْ جَمَعَ، كُلُّهُمْ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا ابْتِدَاءُ تَدْوِينِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ وَقَعَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَأَفَادَ الحَافِظُ فِي " الفَتْحِ " اَيْضًا (1): أَنَّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ الحَدِيثَ ابْنُ شِهَابٍ بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ بْنِ الحَسَنِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ العِلْمَ ابْنُ شِهَابٍ» . يَعْنِي الزُّهْرِيُّ».
…
ولذلك اَيْضًا: انعقد الإجماع بعد عصر التابعين على إباحة الكتابة وتدوين السُنَّةِ. بل ذهب بعضهم إلى ندبها ووجوبها (2).
قال القاضي عياض: (3)«كَانَ بَيْنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اِخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي كِتَابَةِ العِلْمِ: فَكَرِهَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ وَأَجَازَهَا أَكْثَرُهُمْ. ثُمَّ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهَا وَزَالَ ذَلِكَ الخِلَافُ» . اهـ.
(1) ج 1 ص 146. وانظر: ص 149.
(2)
انظر: " عمدة القاري ": ج 2 ص 158.
(3)
كما نقله النووي في " شرح مسلم ": ج 18 ص 129، 130.