المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يجب العمل بظني الثبوت في الفروع: - الرد على من ينكر حجية السنة

[عبد الغني عبد الخالق]

فهرس الكتاب

- ‌الشُبْهَةُ الأُولَى: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الكِتَابَ قَدْ حَوَى كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ

- ‌الجواب:

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ

- ‌الجَوَابُ:

- ‌الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً لأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَتِهَا وَلَعَمِلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى جَمْعِهَا وَتَدْوِينِهَا

- ‌الجَوَابُ:

- ‌إِنَّمَا تَحْصُلُ صِيَانَةُ الحُجَّةِ بِعَدَالَةِ حَامِلِهَا:

- ‌الكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الحُجِّيَةِ:

- ‌الكِتَابَةُ لَا تُفِيدُ القَطْعَ:

- ‌الكِتَابَةُ دُونَ الحِفْظِ قُوَّةً:

- ‌الحِفْظُ أَعْظَمُ مِنَ الكِتَابِةِ فَائِدَةً وَأَجْدَى نَفْعًا:

- ‌القَطْعُ بِالقُرْآنِ إِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّوَاتُرِ اللَّفْظِيِّ:

- ‌يَجِبُ العَمَلُ بِظَنِّيِّ الثُبُوتِ فِي الفُرُوعِ:

- ‌الحِكْمَةُ فِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَةِ القُرْآنِ وَحْدَهُ:

- ‌لَا يَدُلُّ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِتَابَةِ السُنَّةِ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّتِهَا:

- ‌الحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ السُنَّةِ:

- ‌ثُبُوتُ إِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابَةِ السُنَّةِ:

- ‌الجَمْع بَيْنَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ وَأَحَادِيثِ الإِذْنِ:

- ‌الكَلَامُ عَلَى كِتَابَةِ السُنَّةِ وَتَدْوِينِهَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ:

- ‌اِمْتِنَاعُ الصَّحَابَةِ عَنْ التَّحْدِيثِ بِالسُنَّةِ وَنَهْيِهِمْ عَنْهُ:

- ‌الأَسْبَابُ التِي حَمَلَتْهُمْ عَلَى الاِمْتِنَاعِ وَالنَّهْيِ:

- ‌الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُمْ بِوُجُودِ أَخْبَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُجِّيَّةِ السُنَّةِ:

- ‌الجواب:

- ‌الفهرس التحليلي

الفصل: ‌يجب العمل بظني الثبوت في الفروع:

عِنْدَهُمْ». اهـ.

وقال ابن الجزري (1): «إِنَّ الاعْتِمَادَ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِ الْقُلُوبِ وَالصُّدُورِ لَا عَلَى حِفْظِ الْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ، وَهَذِهِ أَشْرَفُ خَصِيصَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ " مُسْلِمٌ " (*) أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ رَبِّي قَالَ لِي: قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ فَقُلْتُ لَهُ: "رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً"، فَقَالَ: " مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلِي بِكَ وَمُنْزِلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، فَابْعَثْ جُنْدًا أَبْعَثْ مِثْلَهُمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَأَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ ". فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى صَحِيفَةٍ تُغْسَلُ بِالْمَاءِ، بَلْ يَقْرَءُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ: " أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ "، وَذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَهُ لَا فِي الْكُتُبِ وَلَا يَقْرَءُونَهُ كُلَّهُ إِلَاّ نَظَرًا لَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ» .

«وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِهِ: أَقَامَ لَهُ أَئِمَّةً ثِقَاتٍ، تَجَرَّدُوا لِتَصْحِيحِهِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي إِتْقَانِهِ وَتَلَقَّوْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَرْفًا حَرْفًا، لَمْ يُهْمِلُوا مِنْهُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا إِثْبَاتًا وَلَا حَذْفًا، وَلَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا وَهْمٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ حَفِظَهُ كُلَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ أَكْثَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . اهـ.

‌يَجِبُ العَمَلُ بِظَنِّيِّ الثُبُوتِ فِي الفُرُوعِ:

قد فهم صاحب الشبهة أن الكتابة وحدها هي التي تفيد القطع بثبوت ما هو حجة، وقد علمت بطلان ذلك.

ثم إنه فرع على هذا الفهم: أن النهي عن كتابة السُنَّةِ دليل على إرادة الشارع

(1) في " النشر ": ج 1 ص 6.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

الحديث كما ورد في " صحيح مسلم ": «

وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»

، " الجامع الصحيح " للإمام مسلم، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (51) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (16) باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، حديث رقم 2865، 4 / ص 2197، الطبعة الثانية: 1972 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.

ص: 423

عدم القطع بثبوتها. ثم فهم أن هذه الإرادة دليل على إرادته عدم حجيتها في نفسها، وعلى عدم اعتبارها دليلاً على حكم شرعي، بَانِيًا فهمه هذا على أن القطع بالثبوت من لوازم الحُجِّيَةِ، وإرادة عدم حصول اللازم تستلزم إرادة عدم حصول الملزوم.

ونقول له: لا نسلم لك ما بنيت عليه هذا الفهم الأخير: من أن القطع بالثبوت من لوزام الحُجِّيَةِ على عمومه، بل في العقائد وأصول الدين دون الأحكام الفرعية والمسائل الفقهية. وهذا أمر قد تقرر في علم الأصول: في مسألة التعبد بخبر الواحد. وهي خارجة عن موضوع رسالتنا.

إلا أنه لا بأس من بيانها على سبيل الإجمال؛ لأنك قد جعلتها أساسا لإبطال حجية السُنَّةِ من حيث ذاتها.

وقبل التكلم في هذه المسألة نقول لك: إنه لا نزاع بين المسلمين في أن التواتر (1) مفيد للعلم وإنما الذي خالف في ذلك السُّمْنِيَّةُ من البراهمة، وهم قوم ينكرون النبوة. ومع كون مخالفتهم هذه مكابرة صريحة على العقل: ضرورة علمنا بالبلاد النائية، والأمم الخالية، فهي لا تؤثر في حجية هذا الإجماع، لأنهم قوم غير مسلمين. فهذا الإجماع يبطل لك زعمك أن الكتابة وحدها هي المفيدة للعلم زيادة على ما قررناه لك فيما سبق.

نعم: قد اختلف المسلمون في أن هذا العلم ضروري أو نظري واختلفوا في الشروط التي لا يتحقق التواتر إلا بها، وهذا خلاف لا يفيدك شيئًا.

(1) الخبر المتواتر هو: ما أخبر به في جميع طبقاته جَمْعٌ يُؤْمَنُ تواطؤهم على الكذب. وقد اختلفوا في أقل عدد الجمع، والمتعمد: أن المدار على حصول الأمن مما ذكر، وأن العدد الذي يحصل به ذلك يختلف باختلاف الأحوال.

ص: 424

ولا نزاع (اَيْضًا) بين المسلمين: في وقوع التعبد بالخبر المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الإجماع يبطل لك ما زعمته من أن القرآن هو الحجة وحده، مستدلاً على ذلك بأنه هو المقطوع به فقط، إذ لا شك أن هناك أخبارًا متواترة عنه صلى الله عليه وسلم.

فأما خبر الواحد (1): فإن لم يكن عَدْلاً لم يفد علمًا ولا ظنًا، لكن إذا انضم إليه قرينه أو أكثر تفيد شيئا منهما حصل هذا الشيء.

وإن كان عَدْلاً: فالإجماع منعقد على أنه لا تسلب عنه الإفادة. إلا أنهم اختلفوا في المفاد: أهو العلم أم الظن؟.

فالجمهور على أنه يفيد الظن لكن إذا انضم إليه قرينة تفيد العلم حصل.

وذهب الإمام أحمد إلى أنه يفيد العلم.

ولا نطيل الكلام في تحقيق ذلك، فالذي يغلب على ظننا هو أنك معنا في إفادته الظن. وإن أردت المكابرة وإنكار إفادته العلم والظن فالإجماع يرغمك. وإن

(1) المراد به عند الجمهور: ما لم يبلغ حد التواتر؛ فمنه المستفيض (وقد يُسَمَّى المشهور) وهو الشائع عن أصل. وأقله من حيث عدد رواته: اثنان. وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. (انظر " شرح جمع الجوامع ": ج 2 ص 88). وهو مفيد للظن كسائر أنواع خبر الواحد. وذهب الأستاذ أبو إسحاق وابن فورك إلى أنه يفيد عِلْمًا نَظَرِيًّا.

وعند عامة الحنفية المشهور يقابل التواتر وخبر الواحد. وعرفوه بما كان آحاد الأصل متواترًا في القرن الثاني والثالث مع قبول الأمة. وقالوا: إنه يوجب ظنًا قويًا كأنه اليقين الذي لا مساغ للشبهة والاحتمال الناشئين عن الدليل فيه أصلاً. وسموا هذا العلم: علم الطمأنينة. وذهب أبو بكر الجصاص: إلى أنه قسم من المتواتر مفيد للعلم نظرًا، بخلاف بقية المتواتر، فإنه مفيد للعلم ضرورة. (انظر " شرح المُسَلَّمِ ": ج 2 ص 111).

واعلم أنه يجب أن يقيد خبر الواحد بأن لا يكون خبر معصوم، لأنه يفيد اليقين جزمًا بالاتفاق.

ص: 425

ذهبت مذهب الإمام أحمد فقد أرحتنا وتقوضت شبهتك.

فإذا تقرر أن خبر الواحد العدل يفيد الظن - على ما علمت - فاعلم أن التعبد بما اشتمل عليه من الأحكام جائز عقلاً عند الجمهور خِلَافاً لِلْجُبَّائِي.

واعلم أن النزاع في جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلا قد حكاه جمهور الكاتبين من الأصوليين، وخالفهم في ذلك صاحب " جمع الجوامع "، فلم يتعرض له.

والذي ذكره - في مسألة التعبد بخبر الواحد - (1) عن الجُبَّائِي أنه يقول بوقوع التعبد به إذا كان من اثنين يرويانه أو اعتضد بشيء آخر، كأن يعمل به بعض الصحابة أو ينتشر فيهم (2). وهذا الذي نقله عن الجُبَّائِي قد نقله غيره - من الكاتبين - عنه في شرائط الرواية.

ثم إن ابن السبكي - في " شرح المنهاج " - قد استشكل هذين النقلين بأنهما متنافيان، وأجاب حيث قال (3):«فإن قلت: ما وجه الجمع بين منع الجُبَّائِي هنا التعبد به عقلاً واشتراطه العدد. كما سيأتي النقل عنه. فإن قضية اشتراطه العدد القول به. قلت: قد يجاب بوجهين: أقربهما أنه أراد بخير الواحد الذي أنكره هنا ما نقله العدل منفردا به دون خبر الواحد المصطلح. (أعني الشامل لكل خبر لم يبلغ حد التواتر ولهذا) كانت عبارة إمام الحرمين: " ذهب الجُبَّائِي إلى أن خبر الواحد لا يقبل، بل لا بد من العدد وأقله اثنان. والثاني: أنه يجعله من باب الشهادة "» . اهـ.

ص: 426

وأقول: إذا نظرت في شُبَهِ الجُبَّائِي التي أرودها للمنع من التعبد تجدها مانعة من التعبد بما يرويه الاثنان أو الأكثر ما لم يبلغوا حَدَّ التواتر فإن رواية هؤلاء إنما تفيد الظن.

اللهم إلا أن يكون قد ذهب مذهب أبي إسحاق وابن فورك في أن المستفيض يفيد العلم النظري، فلا تطرد هذه الشبه فيه حينئذ كما هو ظاهر.

ويؤيد أن الجبائي يذهب هذا المذهب أن العضد قد ذكره في الاستدلال له على اشتراط العدد في الرواية قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1). ونحوه، فهذا الاستدلال يشعرنا أنه إذا وجد العدد أفاد العلم عنده.

هذا ويمكن أن يجاب اَيْضًا بأن الجُبَّائِي كان يذهب إلى امتناع التعبد، ثم رجع عنه أخيرًا وقال بوقوع التعبد. إلا أنه اشترط فيه ما ذكر فنقل قوم مذهبه الأول ظانين أنه استمر عليه، ونقل آخرون المذهب الثاني، ثم جمع الكاتبون النقلين غير شاعرين بما بينهما من التضارب.

ولعل هذا هو الذي حققه أخيرًا ابن السبكي وهو يؤلف " جمع الجوامع " فلذلك ترك حكاية الخلاف في جواز التعبد به عقلاً، حيث ثبت عنده أن الجُبَّائِي رجع عن القول بالامتناع.

ويدل على الجواز أن التعبد به إيجاب للعمل بالراجح، لأنه يفيد غلبة الظن بأن ما اشتمل عليه حكم الله تعالى (كما علمت) وإيجاب العمل بالراجح معقول لا يلزمه محال لا لذاته ولا لغيره.

وَلِلْجُبَّائِي ثلاث شبه:

الأولى: أن التعبد به يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال عن كذب المخبر أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبره هذا. وبيان ذلك أنه قد تقرر أنه يفيد

(1)[سورة الإسراء، الآية: 36].

ص: 427

ظن الصدق. وذلك يقتضي بقاء احتمال الكذب وإن كان مرجوحًا. فإذا فرض أن هذا الكذب المرجوح متحقق، وكان الخبر مشتملاً على حل شيء والذي في الواقع حرمته لزم تحليل الحرام. وإن كان بالعكس لزم تحريم الحلال. وتحليل الحرام وعكسه ممتنعان. فما أدى إليهما يكون ممتنعًا اَيْضًا (1).

وأجيب (أولاً): بأنه منقوض بالتعبد بالمفتي والشاهدين الجائز بالإجماع كما حكاه في " جمع الجوامع "(2). فإنه يجوز كذبهم، فإذا فرضنا هذا الكذب مُتَحَقِّقًا لزم الجُبَّائِي ما ألزمنا به من تحليل الحرام وعكسه.

وثانيا: أن المجتهد السامع لخبر العدل إذا اجتهد فغلب على ظنه عدالة المخبر وصدق خبره: فالحكم الذي اشتمل عليه الخبر هو حكم الله الذي كلفه به على رأي المصوبة. وليس في الواقع حكم يخالفه بالنسبة إلى هذا المجتهد على رأيهم. فلم يلزم تحليل حرام ولا عكسه

وإن جرينا على رأي المخطئة: لزم تحليل الحرام وعكسه. إلا أنا لا نسلم امتناع ذلك إذا كان ناشئًا عن اجتهاد وغلبة ظن، فإن الحكم الذي في الواقع ساقط عنه بالإجماع. ألا ترى أن المكلف إذا وطئ أجنبية يظنها زوجته لا حرمة عليه؟ وإذا توضأ بمتنجس يظنه مُطَهِّرًا صح وضوءه؟ وإذا توجه في الصلاة إلى غير القبلة ظَانًّا أنه مستقبل لها صحت صلاته؟ إلى غير ذلك من المسائل المعلومة.

الشبهة الثانية: أن التعبد به يؤدي إلى اجتماع النقيضين إذا أخبر عدلان متساويان بنقيضين. واجتماع النقيضين محال. فما أدى إليه محال اَيْضًا (3).

(1) انظر " شرح المختصر ": ج 2 ص 58، و " شرح المُسَلَّمِ ": ج 2 ص 131.

(2)

ص 159 (أو ج 2 ص 89 من " الشرح ").

(3)

انظر " شرح المُسَلَّمِ ": ج 2 ص 131.

ص: 428

وأجيب (أولاً): بأنه منقوض بما تقدم في المفتي والشاهدين.

وثانيًا: بمنع استلزام اجتماع النقيضين، فإن المجتهد حينئذ لا يعمل بواحد منهما لتعارضهما، بل يكلف بالوقوف حتى يظهر له مرجح.

الشبهة الثالثة: أنه لو جاز التعبد به في الفروع: لجاز التعبد به في العقائد، ونقل القرآن، وادعاء النبوة من غير معجزة، وهو باطل (1).

وأجيب (أولاً): بمنع الملازمة، للفرق عادة بين الخبر في العمليات وبين الخبر في الأمور المذكورة فإن المقصود في العقائد تحصيل العلم - لأن الخطأ فيها يوجب الكفر والضلال - وخبر الواحد لا يفيده. والقرآن مما تتوفر الدواعي إلى نقله وحفظه. فإذا نقله واحد قطع بكذبه ، وادعاء النبوة من غير معجزة مما تحيله العادة. ثم إن القطع في كل مسألة شرعية متعذر، بخلاف اتباع الأنبياء والاعتقاد.

وثانيًا: بمنع بطلان اللازم. فإن امتناع التعبد بخبر الواحد في هذه الأمور شرعي لا عقلي، ولا يلزم الامتناع الشرعي الامتناع العقلي، وكلامنا إنما هو في الأخير.

ثم إن القائلين بجوازه عقلا قالوا بوقوعه شرعا، ما عدا الروافض وأهل الظاهر (2).

(1) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 131.

(2)

انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 131، و " شرح المختصر ": ج 2 ص 59.

ص: 429

ويدل على الوقوع أدلة كثيرة. نذكر لك أهمها:

الدليل الأول: خبر الواحد العدل يفيد غلبة الظن بأن ما اشتمل عليه هو حكم الله تعالى. فيجب العمل به قَطْعًا كظاهر الكتاب. وبيان أنه يفيد غلبة الظن المذكورة أنا قد بينا - بالأدلة التي لا تقبل الإنكار ولا الشك ولا الوهم - أن السُنَّةَ من حيث ذاتها حُجَّةٌ يجب العمل بها قَطْعًا. فالسنة المقطوع بها ملزومة ووجوب العمل بها قَطْعًا لازم. ووجوب العمل قَطْعًا يستلزم أن المعمول به حكم الله قَطْعًا، إذ لا يجب العمل إلا بحكم الله اتفاقًا، ولازم لازم الشيء لازم الشيء. فالسنة المقطوع بها ملزومة، وكون ما اشتملت عليه من الأحكام حكم الله قَطْعًا لازم. وكما أن القطع باللزوم يوجب القطع باللازم فظن الملزوم يوجب ظن اللازم. وخبر الواحد العدل يفيد ظن الملزوم - وهو أن المخبر به سُنَّةٌ - فيجب أن يفيد ظن اللازم. وهو كون ما اشتمل عليه من الأحكام حكم الله تعالى.

وهذا الدليل قد انفرد بذكره صاحب " المُسَلَّمِ " ونقحه شارحه إلا أن الشارح اعترض عليه وأجاب. حيث قال (1): «فإن قلت: لا نسلم أن مطلق المظنونية ملزوم وجوب العمل قَطْعًا. بل المظنونية التي حدثت من قطعي المتن كظاهر الكتاب. قلت: الفرق تحكم، فإن مظنونية المتن إنما تحدث الظن في كون الثابت به حكم الله تعالى. ومثله ظاهر الكتاب. فهذه المظنونية إن أوجبت هناك توجب هنا اَيْضًا» . اهـ.

على أنا نقول: إن من يريد أن يعتمد في استنباط الأحكام على القرآن وحده، ويترك ما جاء في السنة من المعاني الشرعية والأخبار المفسرة للمراد من ألفاظه لا مفر له من ظنية الطريق في اجتهاده وفهم معاني القرآن على حسب ما وضعته العرب.

وذلك لأن ألفاظه المشتملة على الأحكام لو فرضنا أنها مستعملة في معانيها

ص: 430

اللغوية - دون المعاني التي اصطلح الشارع عليها وأرادها منها - لا تدل على هذه المعاني اللغوية إلا بواسطة أوضاع العرب له. إذ ليست دلالتها عليها دلالة عقلية محضة. والعقل لا يستقل بمعرفة هذه الأوضاع، ولا يولد المرء عَالِمًا بها، بل إنما يتعلمها بواسطة النقل عن غيره. وأكثر معاني الألفاظ منقولة إلينا بطريق الآحَادِ سَمَاعًا أَوْ فِي الكُتُبِ. والمعنى المشتهر أو المتواتر في الأعصر الأخيرة هو في الغالب آحادي الأصل، يرجع إلى نقل فرد واحد مثل الأصمعي أو أبي عبيدة، وقد يستنبطه الواحد منهم من بيت رجل مثل أبي نواس وبشار وعمر بن أبي ربيعة ممن اشتهر بالمجون والفسق والاختلاق والكذب.

فالقرآن - وإن كان مقطوعًا بلفظه - ففهم معانيه إذا ما تركنا مساعدة السنة يعتمد على ظنية طريق وضع اللفظ لمعناه اللغوي. وهذه الظنية - إن سلمنا نسبتها إلى الظن - أضعف بكثير من ظنية طريق السنة التي تفسر المعاني التي أرادها رب العالمين والحاكم على عباده ومن القرآن كلامه. والتي أنزلها على المعصوم عن الكذب ونقلها عنه الثقات الأتقياء المتمسكون بدينهم المخلصون له. فأين مثل الصحابة والزهري ومالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم رضي الله عنهم من نقلة اللغة مثل خلف الأحمر الذي قيل فيه ما قيل. ومثله في الاشتهار بالكذب والاختلاق كثير كانوا يقصدون بمباحثهم اللغوية الدنيا والشهرة والتقرب من الحكام والتملق إليهم. فلا يمنع الواحد منهم دينه وخوفه من ربه أن يفسر اللفظ بتفسير من عنده، وأن يختلق البيت من الشعر وينسبه إلى امرئ القيس ونحوه ليدعم به دعواه على ما هو مشهور عنهم.

ولذلك كثر الاضطراب والاختلاق في معاني الألفاظ اللغوية.

فأين الأولون الثقات الورعون المخلصون لدينهم القاصدون وجه ربهم من الآخرين الذين هذا شأنهم؟

فَأَيْنَ الثُّرَيَّا وَأَيْنَ الثَّرَى *

*

* وَأَيْنَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَلِيٍّ (1).

(1) رحم الله المصنف، فقد كان الأحرى به أن يتورع عن الاستشهاد بهذا البيت من الشعرب، لأن فيه =

ص: 431

لعمر الحق إن طريق المحدثين خير وأوجب للظن، وأسلم في العاقبة، وأهدأ للضمير إن صح أن يكون هناك مقارنة وتفضيل بين الطريقين.

ثم إذا كان لا بد لنا من الاعتماد على ما نقل عن العرب فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفصح العرب وأبلغهم، وصحابته المهتدون بهديه أولى بالاعتماد على ما يقولون في تفسير كلام الله، من باقي العرب الذين كانوا يقولون أشعارهم وأحاديثهم وهم سكارى في مجالس النساء والولدان واللهو والفسق.

هذا كلام ظاهر البيان. ولكن الهوى والشيطان قد يعميان الإنسان.

ولنرجع إلى أصل الدليل فنقول: إن للخصم أن يقول: إن هذا قياس أصولي وأنا لا أرى حجيته، على أنه إن سلمنا حجيته فهو إنما يفيد الظن والمسألة قطعية.

ولو جعل صاحب " المُسَلَّمِ " هذا الدليل قياسًا منطقيًا، هكذا:«ما اشتمل عليه خبر الواحد العدل يغلب على ظن المجتهد أنه حكم الله تعالى، وكل ما كان كذلك يجب العمل به قطعا» . واستدل على الصغرى بنحو ما تقدم في ثبوت بيان العلة في الفرع، وعلى الكبرى بإجماعهم على وجوب العمل بما يغلب على ظن المجتهد - كما ذكروه في تعريف الفقه وحكاه الشافعي في " الرسالة " والغزالي في " المستصفى "(1) - لسلم من الاعتراضين.

= طَعْنًا في معاوية رضي الله عنه - أو في عَلِيٍّ - رضي الله عنه وهما من جِلَّةِ الصحابة وَكُتَّابَ الوحي، ومذهب أهل السنة السكوت عن الخوض في الفتنة. وإذا كان عَلِيٌّ أفضل من معاوية رضي الله عنهما كما هو مذهب أهل السنة إلا أن هذا لا يقتضي المقارنة بينه وبين معاوية للحط من قدر الأخير [الناشر].

(1)

انظر " شرح التقي السبكي على المنهاج ": ج 1 ص 22.

ص: 432

الدليل الثاني: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على وجوب العمل بخبر الواحد العدل وفيهم عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -. وذلك في وقائع شتى لا تنحصر آحادها إن لم تتواتر فالقدر المشترك منها متواتر. ولو أردنا استيعابها لطالت الأنفاس وانتهى القرطاس. وقد ذكرنا بعضها فيما سبق. فلا وجه لتعدادها، إذ نحن على قطع بالقدر المشترك منها وهو رجوع الصحابة إلى خبر الواحد إذا نزلت بهم المعضلات واستكشافهم عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم عند وقوع الحادثات. وإذا روي لهم حديث أسرعوا إلى العمل به من غير نكير في ذلك كله.

فهذا ما لا سبيل إلى جحده ولا إلى حصر الأمر فيه واستقصائه.

فإن قيل: لئن ثبت عنهم العمل بأخبار الآحاد فقد ثبت عنهم ردها. فهذا أبو بكر قد رد خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى رواه ابن مسلمة. وعمر أنكر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخُدري، وَعَلِيٌّ أنكر خبر معقل بن سنان في المفوضة وكان يحلف غير أبي بكر. وعائشة أنكرت خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله (1).

أجيب: بأنهم إنما توقفوا عند الريبة في صدق الراوي أو حفظه لا لأن الخبر من الآحاد. ألا ترى أنهم عملوا بعد انضمام رَاوٍ آخر أو الحلف؟ والخبر على كلتا الحالتين لا يزال خبر آحاد. (2) والخصم إذا أنكر وقوع التعبد بخبر الواحد ينكر خبر الاثنين وخبر الواحد مع اليمين

فعمل أبي بكر وعمر وَعَلِيٌّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. ونحن إذا قلنا بقبول خبر الواحد فإنما نقبله عند عدم الريبة وعند السلامة من معارض أو قادح.

الدليل الثالث: أنه قد تواتر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرسل الرُّسُلَ لتبليغ الأحكام وتفصيل الحلال والحرام. وربما كان يصحبهم الكتب. وكان نقلهم أوامر

(1) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134.

(2)

انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134.

ص: 433

رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد. ولم تكن العصمة لازمة لهم بل كان خبرهم في مظنة الظنون فلولا أن الآحاد حجة لما أفاد التبليغ بل يصير تضليلاً (1).

فإن قيل: إن النزاع في وجوب عمل المجتهد. والمبعوث إليهم يجوز أن يكونوا مقلدين (2)

أجيب: بأنه معلوم بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام إلى الصحابة المجتهدين ما كان يفتقر إلى عدد التواتر بل يكتفي بالآحاد (3).

فإن قلت: لو تم هذا الدليل لزم ثبوت العقائد بالدليل الظني أو إفادة خبر الواحد العلم. فإن من المبعوثين معاذ بن جبل وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ

» الحديث (4).

قلت: الأمر بالشهادتين قد تواتر عند الكل ولم يكن عندهم ريب في أن ذلك مأمور به من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما أمر مُعَاذًا بالدعوة إليه أولاً. لأن دعوة الكفار إليه أمر حتم أو سُنَّةٌ. ولأنه يحتمل أن يؤمنوا فيثاب ثوابًا عظيمًا (5).

واستدل الروافض ومن وافقهم: بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن. وكل ما كان كذلك يمتنع العمل به، لأن الله تعالى قد نهى عن اتباع الظن وذمه في قوله:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (6) وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ

(1) انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134.

(2)

انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 133، 134.

(3)

انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 134.

(4)

انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 134.

(5)

انظر " شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 134.

(6)

[سورة الإسراء، الآية: 36].

ص: 434

لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (1). والنهي والذم يدلان على الحرمة (2).

والجواب (أولاً): أن المسألة قطعية والآيتين ظنيتان. لأنهما من قبيل العام وهو ظني الدلالة عندكم وإن لم يدخله التخصيص. ولو ذهبتم مذهب الحنفية من أنه قطعي إذا لم يدخله التخصيص لم يفدكم اَيْضًا. لأنه قطعي بالمعنى الأعم وهو ما لا يحتمل احتمالاً ناشئًا عن دليل والمسألة قطعية بالمعنى الأخص وهو ما لا يحتمل احتمالاً ما، لا ناشئًا عن دليل ولا غير ناشئ. فلا يصح الاستدلال بالآيتين على فرض قطيعتهما بالمعنى الأعم على ما هو قطعي بالمعنى الأخص. إذ لا زال الاحتمال يطرقهما فلا يثبت بهما ما لا احتمال فيه أصلاً.

وثانيًا: أنه لو صح أن الآيتين يبطلان العمل بالظن لأدى ذلك إلى بطلان العمل بظاهر الكتاب، فإنه عمل بالظن ، وهو باطل إجماعًا. بل نقول: إن من ظاهر الكتاب هاتين الآيتين، فإذا أبطلا العمل بظاهر الكتاب فقد رجعا على نفسيهما بالبطلان فلم يصح الاستدلال بهما.

وثالثًا: أن تحريم العمل بالظن المدلول عليه بالآيتين مخصوص بالعقائد وأصول الدين. كوحدانية الله. وذلك لأن واجب الاعتبار في العمليات والمسائل الفقهية بالدلائل القاطعة المتقدمة. فوجب التخصيص بما تقدم.

رابعًا: أنا لا نسلم أن الآيتين تدلان على تحريم العمل بالظن بالنسبة إلينا، فإن الآية الأولى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يلزم من حرمة اتباعه الظن مع كونه قادرًا على تحصيل اليقين بانتظار الوحي الحرمة لنا مع عدم قدرتنا على تحصيل اليقين. وأيضًا يحتمل أن يراد بالعلم فيها مطلق التصديق الشامل للظن، فإن إطلاق

(1)[سورة النجم، الآية: 28].

(2)

انظر " شرح المختصر ": ج 2 ص 60، و" شرح المُسَلَّمْ ": ج 2 ص 136.

ص: 435