الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق نسبة الكتاب
كتاب الروح من أشهر كتب ابن القيم. ذكره المترجمون له ضمن مؤلفاته، وأقبل على نسخه الورَّاقون، واستفاد منه أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم وعلى تباعد أزمانهم وبلدانهم. فمنهم من تلمذ لابن القيم، ومنهم من عاصره. ومنهم الحنبلي والشافعي والحنفي، ومنهم الشامي والمصري والعراقي والنجدي واليماني. ومنهم من اختصره أو لخصه وأعاد ترتيبه، ومنهم من اقتصر على النقل منه. ومنهم من أعجب به وأثنى عليه. ولكن لم نر منهم من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر مَن تردّد في نسبة الكتاب إلى ابن القيم. بل ألفيناهم جميعًا مطبقين على عزوه إليه عزوًا صريحًا، حتى كانت سنة 1384، إذ ظهر في مجلة "الهدي النبوي" الصادرة في القاهرة عنوان "هل كتاب الروح ليس لابن القيم؟ ". وذلك في ذيل الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله في تعقب أحاديث وحكايات واردة في كتاب الروح
(1)
. قال الشيخ: "سألني أخي الأستاذ جميل غازي رئيس قسم الثقافة والتوجيه المعنوي بالعلاقات العامة بمحافظة الدقهلية عما إذا كان هذا الكتاب (الروح) هو لابن القيم قطعًا، أم أنه منسوب إليه؟ وهل هذا الكتاب يتفق مع منهج ابن القيم الذي عُرف بالدقة والضبط والتثبت؟ فأقول: إن هذا الكتاب لابن القيم يقينًا، وذلك للأسباب الآتية".
(1)
المجلد 29، العدد 12، شهر ذي الحجة، ص 41 ــ 42. وقد أوقفني عليه أخي الشيخ جديع بن محمد الجديع، فجزاه الله خيرًا.
ثم ذكر خمسة أسباب أهمُّها: ما ذكره ابن القيم في كتاب الروح أن بعضهم رأى شيخ الإسلام ابن تيمية في المنام بعد موته؛ وقال: إن ذلك لا يدل على صحة نسبة الكتاب إلى ابن القيم فحسب، بل يدل على زمن تأليفه أيضًا، وهو بعد وفاة شيخ الإسلام.
واستدل بمنهج ابن القيم في البحث وأسلوبه وموضوعات الكتاب، وقال:"والذي يشكُّ في نسبة الكتاب إلى الشيخ عليه أن يثبت من كتبه الأخرى ما يهدم القضايا البارزة في كتابه هذا".
والظاهر أن السائل ــ وهو الشيخ جميل غازي رحمه الله ــ لم يصدر في سؤاله عن دراسة لكتاب الروح، ولعل نقد الشيخ المطيعي لبعض الروايات والآثار الواردة فيه أثار في نفسه الشك في نسبة الكتاب، فكتب إليه مستفسرًا.
ثم أخرج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله سنة 1398
(1)
كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات" لخير الدين الآلوسي (ت 1317) وصدّره بمقدمة ضافية ذكر فيها كتاب الروح أولًا في حاشيتها (ص 40) فقال: "كتاب الروح المنسوب لابن القيم". ثم في (ص 60) أورد كلامًا لابن القيم مع الرد عليه وقال: "
…
ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة الروح إليه، أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم، والله أعلم".
(1)
وهي تاريخ مقدمة الشيخ الألباني لكتاب الآلوسي. وفيها صدرت الطبعة الأولى من الكتاب فيما يبدو، فإن طبعته الثانية صدرت في العام التالي 1399.
وقد أصدر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله كتابه "ابن قيم الجوزية ــ حياته وآثاره" في عام 1400، فذكر أنه "قد انتشر على ألسنة بعض طلاب العلم أن كتاب الروح ليس لابن القيم أو أنه ألَّفه قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. هذا ما تناقلته الألسن ومرّ على الأسماع في المجالس والمباحثات، ولم أر ذلك مدوَّنًا في كتاب، ولعل شيئًا من ذلك قد دُوِّن ولكن لم يتيسر الوقوف عليه"
(1)
.
وكأن ما سمع الشيخ بكر كان صدى لما ذكره الشيخ الألباني في مقدمة "الآيات البينات"، ولكن لم يكن الكتاب المذكور قد صدر حينما أعدّ الشيخ بكر رسالته عن ابن القيم، فلم يقف عليه، كما فاته الاطلاع على سؤال الشيخ جميل غازي وجواب الشيخ محمد نجيب المطيعي. وقد رد الشيخ بكر على الشبهتين، وأثبت أن كتاب الروح لابن القيم بلا ريب، وأنه ألّفه بعد اتصاله بشيخ الإسلام لا قبله.
وذكر الشيخ بكر أنه لتحقيق هذه المسألة قرأ كتاب الروح من أوله إلى آخره قراءة المتأمل الفاحص، فتبين له أن ما تناقلته الألسن "نتائج موهومة سبيلها النقض، ونهايتها الرفض المحض، وأنها إنما انتشرت من غير دراسة ولا تحقيق".
وصدق الشيخ، فلم يكن كلام الشيخ الألباني أيضًا صادرًا عن دراسة لكتاب الروح، وإنما الذي أثار الشك في نفسه أنه وجد في كتاب الروح رأيًا واحتجاجًا مخالفًا لما عهده من منهج ابن القيم، وخادشًا لصورته المرسومة في ذهنه، ثم إن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون هو السبب الأقوى الموجب
(1)
ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده؛ دار العاصمة، 1423 (ص 254).
للاستغاثة بغير الله عند المبتدعة
(1)
، فضاق الشيخ بما ذهب إليه ابن القيم، فأنكره، وشك في نسبة الكتاب نفسه إلى ابن القيم إلا أن يكون قد ألّفه قبل اتصاله بشيخ الإسلام.
يقول الشيخ: "وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم رحمه الله في الروح (ص 8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه
…
".
ثم نقل قول ابن القيم: "ويكفي في هذا تسميته المسلِّم عليهم زائرًا، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرًا؛ فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره. هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم. وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال. وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: "سلام عليكم أهل الديار
…
وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب، ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الردّ".
وعقب الشيخ على ذلك قائلًا: "رحم الله ابن القيم، فما كان أغناه عن الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي، الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا؛ فوالله لو أن ناقلًا نقل هذا الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته لغرابته، وبعده عن الأصول العلمية، والقواعد السلفية، التي تعلمناها منه، ومن شيخه الإمام ابن تيمية؛ فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذي يقيسون الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، وهو قياس باطل فاسد، طالما ردّ ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع؛ ولهذا وغيره
(1)
الآيات البينات (ص 25).
فإني في شك كبير من صحة نسبة "الروح" إليه، أو لعله ألَّفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم، ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين
…
"
(1)
.
قلت: قول ابن القيم: "فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال
…
وإن لم يسمع المسلِّم الردّ" نقله بعينه الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 325 - 327) ضمن اقتباس طويل من كتاب الروح. فهل يدعو ذلك إلى الشك في نسبة التفسير إلى ابن كثير؟
وماذا عسى أن يقول الشيخ لو درى أن هذا الاستدلال بعينه مأخوذ من كلام شيخ الإسلام الذي قال: "وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور، ويقول: "قولوا: السلام عليكم أهل الديار
…
" فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطَب مَن يسمَع"
(2)
.
وقال في موضع آخر: "والميت قد يعرف من يزوره. ولهذا كانت السنة أن يقال: السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين
…
" إلخ
(3)
.
وسيأتي عرض المسألة في فصل آخر، وإنما يعنينا هنا ما يتعلق بنسبة الكتاب. والدلائل على صحتها متوافرة متنوعة
(4)
، وقد قسمناها إلى قسمين: القسم الأول في الدلائل الخارجية، والقسم الثاني في الدلائل الداخلية.
(1)
الآيات البينات (ص 60).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 363).
(3)
مجموع الفتاوى (24/ 304).
(4)
انظر جملة منها في كتاب "ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله (ص 255 - 258).
أما القسم الأول فمن أظهر دلائله:
1) أن ابن القيم نفسه ذكره في كتابه جلاء الأفهام (557)، فلما أورد حديث أبي هريرة:"إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان" الحديث، قال:"وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب الروح". يقصد كلامه في المسألة السادسة.
2) أن الحافظ ابن رجب (ت 795) ــ وهو من تلامذة ابن القيم ــ نقل في كتابه "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور" نصوصًا عديدة من كتاب الروح ــ كما سيأتي ــ فقال في (ص 68): "وذكر شيخنا أبو عبد الله ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح
…
". ونقل حكاية. ثم قال (ص 69): "قال شيخنا"، ونقل حكاية أخرى. وانظر الحكايتين في المسألة السابعة.
3) أن أبا عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت 785) قد ألّف كتابه "تسلية أهل المصائب" سنة 777، واستفاد فيه من كتاب الروح ونسبه إلى ابن القيم بصراحة، فقال: "قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح له: حدثني صاحبنا أبو عبد الله
…
" (ص 271). والحكاية التي نقلها واردة في المسألة السابعة. وكذلك لما نقل ردّ ابن القيم على ما زعمه ابن حزم من عدم ردّ الأرواح في القبور إلى الأجساد قبل يوم القيامة قال: "فهذا العلامة ابن القيم رحمه الله قد كفانا مؤنة الرد بلا تكلف" (ص 278). وهذا الردّ في المسألة السادسة.
4) أن نُسَخه الخطية المنتشرة في خزائن الشرق والغرب ويبلغ عددها نحو أربعين نسخة كلها مجمعة على نسبته إلى ابن القيم. وأقدمها نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 774 بعد وفاة ابن القيم بثلاث وعشرين سنة، وهي الأصل الذي اعتمدنا عليه في نشرتنا هذه.
5) ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852) في ترجمة ابن القيم في كتابه الدرر الكامنة (3/ 402)
(1)
. وكذلك نسبه إليه فيما نقله منه في فتح الباري: (3/ 239)، (6/ 444، 445)، (8/ 403). ولفظه فيها جميعًا:"ابن القيم في كتاب الروح".
6) أن إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885)، وهو من كبار أصحاب الحافظ ابن حجر، قد اختصر كتاب الروح وأعاد ترتيبه وسماه "سر الروح". وقال في مقدمته: "فإني كاتب إن شاء الله تعالى في هذه الأوراق المقصود بالحقيقة من كتاب الروح للإمام العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية الدمشقي الحنبلي سقى الله ثراه ورحم منقلبه ومثواه
…
" (ص 2).
7) ذكره جلال الدين السيوطي (ت 911) في ترجمة ابن القيم في بغية الوعاة (1/ 63) ونسبه إليه في كتبه الأخرى، منها كتابه "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" الذي قال في خاتمته:"خاتمة في فوائد تتعلق بالروح لخصت أكثرها من كتاب الروح لابن القيم"(ص 414). وقد نقل نصوصًا كثيرة منه في أثناء الكتاب أيضًا فقال في موضع: "وذكر ابن القيم في كتاب الروح"(ص 245). وقال في كتاب الحبائك في أخبار الملائك: "وقال العلامة شمس الدين ابن القيم في كتاب الروح"(ص 263). ونحوه في كتاب الحاوي للفتاوي له (1/ 212)، وفيه أيضًا: "
…
قولان للحنابلة حكاهما ابن القيم في كتاب الروح" (2/ 165). وهذه النصوص والأقوال كلها واردة في كتاب الروح الذي بين أيدينا.
(1)
وكذلك ذكره في ترجمته السيوطي (ت 911) في بغية الوعاة (1/ 63) كما سيأتي، وابن العماد الحنبلي (ت 1089) في شذرات الذهب (8/ 290) والشوكاني (ت 1250) في البدر الطالع (2/ 143).
8) ذكر شمس الدين ابن طولون (ت 953) في كتابه الفلك المشحون (ص 42) كتابًا له بعنوان "الفتوح في حقيقة الروح"، وقال:"لخصته من كتاب الروح لابن القيم مع تتمات".
9) قد تعقب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت 1182) في كتابه جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت (ص 80) كلام ابن القيم في تلقين الميت بعد دفنه، وكذلك أشار في تأنيس الغريب (ص 175) إلى أن أدلة القائلين بخلق الأرواح قبل الأجساد واضحة، وأن ابن القيم "تكلف لردّها فما نهض ما قاله". ولكن لم يشك في نسبة كتاب الروح إليه، بل أكثر من النقل منه مع عزوه إليه، ومن ذلك قوله:"واعلم أنه قد بسط الجواب وزاد عليه ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح، ولا غناء عن استيفاء ما ذكره، فإن المسألة مهمة والإيمان بها متعين"(ص 49)، ثم نقل نصًّا طويلًا من المسألة السابعة في الرد على منكري عذاب القبر. ومنه قوله:"قال ابن القيم في كتاب الروح"(ص 81). والجدير بالذكر أن الأمير كتب نسخة من كتاب الروح بخطه، وهي محفوظة في مكتبة ندوة العلماء بالهند. وقال في سبل السلام:"وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة، وبسط المسألة في كتاب الروح"(2/ 113) يعني مسألة اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة. وينظر أيضًا (2/ 114).
10) أن شمس الدين محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (1114 - 1188) ــ وهو معروف بكثرة النقل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ــ نقل نصوصًا كثيرة من كتاب الروح في كتابيه: البحور الزاخرة في أحوال الآخرة، ولوامع الأنوار البهية، فقال في البحور عندما ذكر القول
المختار عند ابن القيم في حقيقة الروح: "اختار هذا القول الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح من أقوال عديدة". ثم أثنى على الكتاب فقال: "وكتابه هذا من أجلّ ما رأينا في هذا الفن بل هو أجلها وأعظمها
…
" (1/ 100). وكذا في كتاب لوامع الأنوار صدَّر نقوله من كتاب الروح في مواضع بقوله: "قال الإمام المحقق ابن القيم في كتاب الروح". انظر مثلًا: 2/ 8 - 10، 12، 18، 20، 21، 23، 32، 38، 52، 60، 157.
11) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين (1194 - 1282) مفتي الديار النجدية في عهده وأحد علماء الدعوة في عهد الدولة السعودية الثاني. وكانت له عناية بكتب ابن القيم، فقد اختصر إغاثة اللهفان وبدائع الفوائد
(1)
. وبين يدي نسخة من كتاب الروح كانت في حوزة الشيخ أبا بطين، وفي حاشيتها تعليقات بخطه. ومنها تعقيب على استدلال ابن القيم بعمل الناس على تلقين الميت بعد دفنه (ق 8/أ)، ولكن لم يبد شكًّا في نسبة الكتاب.
12) الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1225 - 1293) من كبار أئمة الدعوة
(2)
، وله رد على رجل عراقي يدعى داود بن سليمان بن جرجيس طبع بعنوان:"تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس" جاء فيه: "ومن العجب أن هذا العراقي زعم أن ابن القيم قال في كتاب الروح
…
" (ص 66). ثم قال: "وكتاب الروح موجود ومسموع من المشايخ الثقات العارفين بنصوصه وأقواله وأصوله وفروعه".
(1)
انظر ترجمته في آخر الدرر السنية (16/ 2/427)، والسحب الوابلة (ص 626).
(2)
ترجمته في آخر الدرر السنية (16/ 2/413)، ومشاهير علماء نجد (ص 69).
13) وكتاب "الآيات البينات" الذي أخرجه الشيخ الألباني رحمه الله وشكك في نسبة الكتاب إلى ابن القيم في مقدمته، لم يشك صاحبه أبو الخير نعمان بن محمود الآلوسي (ت 1317) في نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم، فلما نقل نصًّا منه قال:"قال الحافظ ابن القيم في كتاب الروح"(ص 137) وفي موضع آخر: "وقد ردّه العلامة ابن القيم في كتاب الروح"(ص 121). وكذلك في كتابه الشهير جلاء العينين في محاكمة الأحمدين نقل نصًّا من كتاب الروح في مستقر الأرواح فقال: "وقال العلامة ابن القيم من كلام طويل في كتاب الروح ما نصه"(ص 468). وفي موضع آخر: "وفي كتاب الروح للحافظ ابن القيم بعد أن أيد وصول ثواب قراءة القرآن للأموات بأدلة كثيرة قال ما نصه"(ص 645).
وقبله والده شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي (1217 - 1270) لما ذكر في روح المعاني مذهب القائلين بجوهرية الروح وأنها ليست داخلة البدن ولا خارجة عنه قال: "ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه"(12/ 56)، ونحوه في (15/ 163، 309). وفي موضع آخر ذكر أن المعول عليه عند المحققين قولان: الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك
…
إلخ. ثم قال: "وقال ابن القيم في كتابه الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره، وعليه دلّ الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع"(8/ 148).
ثم ذكر القول الثاني إنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه إلخ، ثم قال: "وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك
…
وابن القيم زيف حججه في كتابه. وهو كتاب مفيد جدًّا يهب للروح روحًا ويورث للصدر شرحًا".
ونكتفي بهذا من الدلائل الخارجية على إثبات نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم، وسيأتي المزيد في فصل "الصادرين عنه".
أما القسم الثاني من الدلائل، وهي التي سميناها دلائل داخلية فهي مبثوثة في الكتاب، وإليكم أبرزها:
1) ذكر ابن القيم في كتاب الروح هذا كتابًا آخر له في موضوع الروح نفسه فقال في المسألة الخامسة: "وعلى هذا ــ يعني كون الروح ذاتًا قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل
…
ــ أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا الكبير معرفة الروح والنفس" (ص 123).
وقد ذكر هذا الكتاب الذي وصفه هنا بالكبير في كتابه مفتاح دار السعادة (3/ 105) وفي جلاء الأفهام مرتين (ص 298، 371) وسماه كتاب الروح والنفس.
2) ذكر ابن القيم في عشرة مواضع من كتاب الروح شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وفي الكتاب مواضع أخرى نقل فيها كلام شيخه دون الإشارة إليه. وسيأتي تفصيلها في بحث موارد الكتاب.
3) أورد في المسألة الرابعة حديثين وقال: إن أحدهما دخل في الآخر وركب الراوي بين اللفظين، ثم قال:"وكان شيخنا أبو الحجاج يقول ذلك". يعني الحافظ أبا الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت 742) صاحب تهذيب الكمال وهو من شيوخ ابن القيم. وكثيرًا ما ينقل عنه ولا سيما في الحديث والرجال
(1)
.
(1)
ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (ص 177).
4) في الكتاب مباحث ومسائل ولطائف وفوائد كثيرة تكلم عليها ابن القيم في كتبه الأخرى، فكان كلامه عليها هنا وهناك واحدًا في رأيه واستدلاله وأسلوب تناوله. ومن ذلك:
1 -
تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الأعراف: 172] في المسألة الثامنة عشرة، فقد ذهب رحمه الله في تفسيرها ــ خلافًا لمذهب "أهل الحديث وكبراء أهل العلم" كما يقول ابن الأنباري ــ إلى أن المراد ما فطرهم سبحانه عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون ومربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكِّرونهم بما في فطرهم وعقولهم، وقال: نظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة، ثم ذكر عشرة وجوه. وبهذا فسرها ابن القيم في كتاب السماع (384 - 385)، واستدل بسبعة وجوه من الوجوه العشرة المذكورة في كتاب الروح.
2 -
المسألة الحادية والعشرون في كتاب الروح عن النفس أواحدة هي أم ثلاث؟ ذكر فيها أن كثيرًا من الناس وقع في كلامهم أن لابن آدم ثلاث أنفس: مطمئنة ولوامة وأمارة، ثم قال: والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات، فتسمى باعتبار كل صفة باسم. ثم تكلم على الصفات الثلاث وأفاض في الكلام. وفي كتابه إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان عقد الباب الحادي عشر على علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه. ومهد له بالكلام على النفس أواحدة هي أم ثلاث، ثم وصف الثلاث وصفًا مختصرًا بذكر الخلاف واشتقاق اللوامة من اللوم أو التلوم. وهذا كله موافق لما في كتاب الروح، والفرق بينهما في التفصيل والاختصار أو بعض الزيادة.
3 -
المسألة الأولى في كتاب الروح: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أو لا؟ وقد أجاب عنها المؤلف بالإثبات. فهو يرى أن الميت يعرف زيارة الحي ويستبشر به، ويسمع سلامه عليه. ومما استدلّ به على ذلك أن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال.
وقد ساق في كتابه زاد المعاد الحديث الطويل المروي عن لقيط بن عامر واستخرج منه فوائد كثيرة منها:
"وقوله: (حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد). هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغ أمر ونهي. وفيه دليل سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم"(3/ 685).
4 -
وفي هذه المسألة قد استشهد المؤلف ببعض الحكايات والأقوال التي نقلها من كتاب القبور لابن أبي الدنيا، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء. منها حكاية عاصم الجحدري، وقول محمد بن واسع، وقول الضحاك، وحكاية عن مطرف بن عبد الله، وكلها تتعلق بيوم الجمعة.
وفي زاد المعاد لما عدد خصائص يوم الجمعة قال: "الحادية والثلاثون: أن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زوارهم ومن يمرّ بهم ويسلِّم عليهم ويتلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام، فهو يوم يلتقي فيه الأحياء والأموات".
ثم استشهد على ذلك بقصة مطرف، وقصة عاصم، وقول محمد بن واسع، وقول الضحاك. (1/ 415 - 416).
5 -
في الفرق بين الصبر والقسوة، ذكر أن "القلوب ثلاثة: قلب قاس
غليظ بمنزلة اليد اليابسة، وقلب مائع رقيق جدًّا .. وأصح القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب". وترى هذه الأقسام الثلاثة ووصفها بنحو ما قال هنا في الوابل الصيب (120 - 122) وشفاء العليل (105 - 192).
6 -
قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30] رجح فيه ابن القيم أن ذلك يقال للنفس المطمئنة عند الموت ويوم القيامة أيضًا. فجمع بين القولين، فلا منافاة بينهما. كذا قال في كتاب الروح في المسألة الحادية والعشرين وفي مدارج السالكين (2/ 171 - 179).
7 -
المسألة الثامنة عشرة في تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها، وقد رد ابن القيم على القائلين بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد. وقد خطَّأ قولهم هذا في روضة المحبين (120) أيضًا.
8 -
المسألة السابعة في الرد على الملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة. وقد مهد ابن القيم بثلاثة أمور أولها: "أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان: أحدهما ما تشهد به العقول والفطر، الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها
…
". و"الأمر الثاني أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان".
ثم قال: "وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل
بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولاسيَّما إن أضيف إليه سوء القصد. فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوءُ القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله! ".
وقد عقد المؤلف الفصل الحادي والعشرين من كتابه "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" في بيان الأسباب الجالبة للتأويل. وذكر أربعة أسباب: اثنين من المتكلم واثنين من السامع، وهما سوء الفهم وسوء القصد. وقال: "فلما حدث بعد انقضاء عصرهم ــ يعني الصحابة ــ من ساء فهمه وساء قصده وقعوا في أنواع من التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد
…
وإذا تأملت أصول المذاهب الفاسدة رأيت أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلين
…
" (500 - 510). وذكر في "شفاء العليل" من آثار القسوة تحريف الكلم عن مواضعه ثم قال: "وذلك من سوء الفهم وسوء القصد" (ص 106).
وفي زاد المعاد ذكر من فقه قصة قدوم وفد نجران "أن الكلام عند الإطلاق يحمل على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه
…
" وأشار إلى إيراد النصارى على قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]. قال: "
…
فإيراده إيراد فاسد وهو إما من سوء الفهم أو سوء القصد". (3/ 644).
5) من منهج ابن القيم في البحث أنه في المسائل الخلافية يستقصي الأقوال وحجج القائلين بها، ثم يناقشها قولًا قولًا بعرضها على الكتاب والسنة دون تعصب لهذا أو ذاك، وقد يقيم مناظرة بين الخصوم، فهذا يحتج على ذاك، ثم ذاك يرد على هذا، وهكذا حتى يظهر الصواب. ومن أمثلة ذلك
في كتاب الروح: مسألة مستقر الأرواح، ومسألة حقيقة النفس، ومسألة انتفاع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء. فلما حشد أقوال الناس في مصير الأرواح بعد الموت في المسألة الخامسة عشرة قال:"فهذا ما تلخص لي من جميع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة. ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، على طريقتنا التي منّ الله بها".
وهذه الطريقة يعرفها كل من اطلع على كتب ابن القيم.
6) قول ابن القيم في النص السابق: "ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة" من العبارات المألوفة في كتب ابن القيم. وكثيرًا ما ينبِّه قارئه على قيمة المادة التي تجشم جمعها من المصادر المختلفة في مكان واحد. وهذا من سمات منهجه في التأليف. ومن أمثلة ذلك: قوله في حادي الأرواح: "فهذا نهاية إقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب"(ص 791).
وقال فيه أيضًا: "فتأمل هذه الأبواب وما تضمنته من النقول والمباحث والنكت والفوائد التي لا تظفر بها في غير هذا الكتاب البتة
…
" (100).
وقال في إعلام الموقعين: "قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا بقريب منها"(1/ 227). وانظره أيضًا (4/ 81، 222)، وطريق الهجرتين (ص 798) وعدة الصابرين (ص 11) ومدارج السالكين (1/ 227، 400)، ومفتاح دار السعادة (1/ 276)، وبدائع الفوائد (ص 1603).
7) في آخر كتاب الروح باب طويل في الفروق، ولكن الفروق الثمانية التي ختم بها الكتاب هي خلاصة القواعد التي قامت عليها دعوة شيخ الإسلام وأصحابه في إصلاح الأمة والرجوع بها إلى الكتاب والسنة في العقيدة والعبادات والمعاملات والسلوك جميعًا. فالفروق الثلاثة:"الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين، والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة، والفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل" تدور حول التوحيد. و"الفرق بين تجريد متابعة المعصوم وبين إهدار أقوال العلماء وإلغائها، والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي نهايته أن يكون جائز الاتباع عند الضرورة ولا درك على مخالفه" حول تقليد الأئمة الفقهاء المجتهدين. و"الفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني" حول التصوف. ومعظم مؤلفات ابن القيم دائرة على هذه المحاور، فلا يخفى على من له شيء من الأنسة بكتبه أن كتاب الروح أيضًا قد خرج من المعدن نفسه.
8) ابن القيم رحمه الله معروف بطول النفس وإشباع الكلام والاستطراد، وبعض المباحث التي يستطرد إليها يكون أهم من الموضوع الأصلي الذي عقد الكلام عليه، وكثيرًا ما ينبه في آخر هذه الفصول والمباحث الطويلة على أن أهميتها وشدة الحاجة إليها هي التي اقتضت الإطالة فيها. فقال في كتاب الروح بعدما أورد فصولًا كثيرة في الفروق: "ولا تستطل هذا الفصل فلعله من أنفع فصول الكتاب والحاجة إليه شديدة
…
".
ومن أمثلة هذا التنبيه في الكتب الأخرى: قوله في الداء والدواء: "ولا تستطل هذا الفصل فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد"(ص 50).
وقال في عدة الصابرين: "ولا تستطل هذا الفصل المعترض في أثناء هذه المسألة، فلعله أهم منها وانفع"(ص 359).
وقال في بدائع الفوائد: "ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام"(1/ 128)، وانظره أيضًا (1/ 268).
وقال في مفتاح دار السعادة: "ولا تستطل هذا الفصل وما فيه من نوع تكرار يشتمل على مزيد فائدة، فإن الحاجة إليه ماسة والمنفعة عظيمة"(2/ 200).
أكتفي بهذه الشواهد وهي كثيرة، وأقول أنا أيضًا لقارئ هذه المقدمة: لا تستطل هذا الفصل، فإني كنت أظن أن أمر نسبة هذا الكتاب إلى ابن القيم قد أصبح مفروغًا منه بعد التحقيق الذي دوَّنه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه "ابن قيم الجوزية" كما سبق، ولكن رأيت طائفة من طلبة العلم لا يزالون يتساءلون عن صحة نسبته إلى ابن القيم، فكأن الشبهة لا تزال عالقة بالأذهان، مع أن كتاب الشيخ بكر قد صدر قبل أكثر من ثلاثين سنة، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة، ثم صدرت نشرة الدكتور بسام العموش وأكدت نسبة الكتاب. ومن ثم أطلت في هذا المبحث بعض الإطالة، وسيأتي في الفصول القادمة ما يؤيد ذلك ويعزِّزه.