الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض بعض مسائل الكتاب
عقدنا هذا المبحث لعرض مسائل ناقش فيها بعض أهل العلم الإمام ابن القيم، وسنضع بين يدي القارئ ما استدل به رحمه الله على ما ذهب إليه وما نوقش به، وهي مسائل ثلاث كانت مثار الشك في نسبة الكتاب إلى المؤلف أو القول بأنه من أوائل مصنفاته قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
1) معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم
(ص 5 - 43).
استدل المؤلف على ذلك بما يلي:
1 -
قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحَه حتى يرد عليه السلام"، قال ابن القيم:"فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام".
2 -
قول النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا؟ " فلما استغرب عمر نداءه قال: "والذي بعثني بالحق، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابًا". والحديث في الصحيحين.
3 -
حديث أنس في الصحيحين وفيه: "أن الميت يسمع قرعَ نعال المشيِّعين له إذا انصرفوا عنه".
4 -
تشريع السلام على أهل القبور، فقول المسلم:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين" خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
5 -
تواتر الآثار عن السلف بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر به. وقد أورد المؤلف آثارًا ومنامات كثيرة ساقها ابن أبي الدنيا في كتابه القبور تحت باب "معرفة الموتى بزيارة الأحياء".
6 -
تسمية المسلِّم عليهم "زائرًا"، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره. وكذلك السلام على من لم يعلم بالمسلِّم محال.
قال: "فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الردَّ".
7 -
استئناس الميت بالمشيِّعين لجنازته بعد دفنه كما جاء في حديث عمرو بن العاص في صحيح مسلم.
8 -
ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن.
9 -
تلقين الميت.
10 -
وقد ذكر منامات تفيد أن الموتى إذا صلى الرجل قريبًا منهم شاهدوه، وعلموا صلاته، وغبطوه على ذلك، وقال:"وهذه المرائي وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها قد تواطأت على هذا المعنى، وتواطؤ رؤيا المؤمنين على شيء كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه. على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها".
وذكر منامات أخرى كثيرة وختم المسألة بقوله: "الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له
أولى وأحرى".
هذه خلاصة ما قال ابن القيم وما استدل به.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل الميت يسمع كلام زائره، ويرى شخصه؟
فأجاب: "الحمد لله رب العالمين. نعم يسمع الميت في الجملة"، واستدل من الأدلة السابقة بالثالث، فالثاني، فالرابع، فالأول، ثم بما جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي
…
" الحديث، وما جاء فيها من قوله: "إن الله وكَّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام".
ثم قال: "فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبهم، وقد لا يسمع لعارض يعرض له. وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال. فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى. فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي. وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعنى كما قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
وأما رؤية الميت، فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها"
(1)
.
وسئل ثانية: هل يعرف الميت من يزوره أم لا؟ مع أسئلة أخرى، فقال: "والميت قد يعرف من يزوره، ولهذا كانت السنة أن يقال، السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين
…
" الحديث
(2)
.
وسئل ثالثة عن الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم؟
فأجاب: "وأما علم الميت بالحي إذا زاره، وسلم عليه، ففي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ^: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام". قال ابن عبد البر (في الفتاوى:"ابن المبارك" تحريف): ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام"
(3)
.
وقال في جواب آخر: "فإن الميت يسمع النداء كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
…
" وذكر الدليل الثالث، فالثاني، فالرابع، فالأول وهو حديث ابن عباس.
وقد ذكر شيخ الإسلام تصحيح ابن عبد البر للحديث في الفتاوى (4/ 295) وغيره، واستدل في أكثر من عشرة مواضع من كتبه، وهو الذي افتتح به ابن القيم جوابه عن هذه المسألة.
المقارنة بين أجوبة شيخ الإسلام هذه وجواب ابن القيم تدل على أن
(1)
مجموع الفتاوى (24/ 362 - 364).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 303 - 304).
(3)
مجموع الفتاوى (23/ 331).
ابن القيم بنى جوابه على أجوبة شيخه، والأدلة الأربعة الأولى هي أدلة شيخه. ثم زاد عليه بعض الأدلة وأيدها بالآثار والمنامات.
لكن الفرق بين جوابيهما أن شيخ الإسلام يرى أن الميت يسمع في الجملة كما قال في جوابه الأول مرتين، وزاد في المرة الثانية أنه "لا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال". و"قد" هنا للتقليل. ويرى أن الميت قد يعرف من يزوره كما قال في جوابه الثاني، فهذه المعرفة أيضًا ليست دائمة.
أما ابن القيم فقد توسّع وعمم في كلامه. وقد نقل صاحبه ابن كثير في تفسيره (6/ 325 - 327) من أول المسألة إلى آخر قول ابن القيم بعد الدليل السادس. وقد حذف الاستدلال بتسمية المسلِّم زائرًا، ولكن نقل قوله:"والسلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال". فكأن ابن كثير موافق لابن القيم في هذه المسألة وما استدل به مما نقله.
وقد ناقش الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في مقدمته لكتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات"(ص 98) دلائل القائلين بالسماع، فرد على الدليل الأول بأنه خاص بأهل القليب وكان خرقًا للعادة، وعلى الثاني بأن قرع النعال خاص بوقت وضعه في قبره. وذكر أنهم استدلوا بأحاديث أخرى لا تصح أسانيدها. ومنها حديث ابن عباس الذي نقل تصحيحه عن ابن عبد البر وصححه شيخ الإسلام وغيره (انظر ص 132).
ثم قال: "وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم في الروح تحت المسألة الأولى
…
فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه" ونقل استدلاله
بتسمية المسلم على الميت زائرًا وسلامه عليه وقال: "رحم الله ابن القيم فما كان أغناه عن الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي
…
" إلخ. وقد سبق أن نقلنا تعقيبه هذا في مبحث تحقيق نسبة الكتاب.
ثم رد الأول بزيارة البيت الحرام وزيارة قباء وتسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. وردّ الثاني بمخاطبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الصلاة بقولهم: السلام عليك أيها النبي، وهم خلفه قريبًا أو بعيدًا في مسجده وغير مسجده (ص 60).
هذا في مقدمة الكتاب، ثم في تعليقه على كلام الآلوسي أشار إلى أشياء أخرى في الرد على الاستدلال بالسلام. وذكر ابن القيم فقال (ص 132): "وكأنه رحمه الله
…
لم يستحضر قول شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا السلام ونحوه، فقال في الاقتضاء (ص 416) وقد ذكر حديث الأعمى المشار إليه آنفًا (يعني قوله: يا محمد إني توجهت بك إلى ربي
…
وهذا إذا افترض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعيدًا أو غائبًا عنه لا يسمعه): "هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والإنسان يفعل هذا كثيرًا، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من سمع الخطاب".
قلت: جاء كلام شيخ الإسلام هذا في توجيه حديث الأعمى، ولكن استدلاله بالسلام على الميت قد ورد في الجواب عن المسألة التي نحن فيها، كما سبق.
ومما استدل به ابن القيم على معرفة الأموات بزيارة الأحياء تلقين الميت بعد الدفن، وهي المسألة الآتية.