المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب كيفية الصلاة - الروضة الندية شرح الدرر البهية ط المعرفة - جـ ١

[صديق حسن خان]

الفصل: ‌باب كيفية الصلاة

الجهة التي عرفناك بها من السير ما تراد لمعرفته لكون الجهات الأربع معلومة لكل عاقل وقد يعرض اللبس في بعض المواطن على بعض الأفراد إما لعدم ظهور ما يهتدي به في ظلمة الليل أو حيلولة جبال عالية في أرض عالية لا يعرفها مع تلون طرقها التي قد سلكها فهذا فرضه أن يمعن النظر في تعريف الجهة فإذا أعوزه الأمر توجه حيث شاء هذا في الفرائض، وأما النوافل فقد خفف الشارع فيها وسوغ تأديتها على ظهر الراحلة إلى جهة القبلة وغير جهتها بل سوّغ تأدية الفريضة في الأرض الندية على ظهر الراحلة كما تجد ذلك في المنتقى وشرحه فهذا خلاصة ما تعبدنا الله به في أمر القبلة وهو يغنيك عن التفريعات الطويلة والتهويلات المهيلة في كتب الفقه.

ص: 84

‌باب كيفية الصلاة

وهي علامات تواتر صلى الله وسلم عليه وتوارثه الأمة أن يتطهر ويستر عورته ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه ويتوجه إلى الله تعالى بقلبه ويخلص له العمل ويقول: الله أكبر بلسانه ويقرأ فاتحة الكتاب ويضم معها إلا في ثالثة الفرض ورابعته سورة من القرآن ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه حتى يطمئن راكعاً ثم يرفع رأسه حتى يطمئن قائماً ثم يسجد على الآراب السبعة اليدين والرجلين والركبتين والوجه ثم يرفع رأسه حتى يستوي جالساً ثم يسجد ثانيا كذلك فهذه ركعة ثم يقعد على رأس كل ركعتين ويتشهد فإن كان آخر صلاته صلى على النبي صلى الله وسلم عليه ودعا أحب الدعاء إليه وسلم على من يليه من الملائكة والمسلمين فهذه صلاة النبي صلى الله وسلم عليه لم يثبت أنه ترك شيئاً من ذلك قط عمداً من غير عذر في فريضة وصلاة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وهي التي توارثوا أنها مسمى الصلاة وهي من ضروريات الملة نعم اختلف الفقهاء في أحرف منها هل هي أركان الصلاة لا يعتد بها بدونها أو واجباتها التي تنقص بتركها أو أبعاض يُلام على تركها وتجبر بسجدة السهو؟ كذا في الحجة البالغة

لا تكون شرعية إلا بالنية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وروى مالك بإسناده في غير رواية يحيى بن يحيى عن النبي صلى الله وسلم عليه: "إنما الأعمال بالنيات". قلت: وعلى وجوب النية في ابتداء الصلاة أهل العلم

ص: 84

وعندي أن المقدر في حديث: "إنما الأعمال بالنية" إن كان الحصول أو الوجود أو الثبوت أو الصحة أو ما يلاقي هذه الأمور في المعنى الذي لا تكون تلك الصلاة شرعية إلا به فالنية في مثل الصلاة شرط من شروطها لأنه قد استلزم عدمها عدم الصلاة وهذه خاصة الشروط وإن كان المقدّر الكمال أو ما يلاقيه في المعنى الذي تكون الصلاة شرعية بدونه فليست النية بواجبة فضلا عن أن تكون شرطا لكن قد عُرف رجحان التقدير المشعر بالمعنى الأول لكون الحصر في إنما في معنى ما الأعمال إلا بالنية وإن اختلفا في أمور خارجة عن هذا كما تقرر في علمي المعاني والأصول والنفي يتوجه إلى المعنى الحقيقي وهو الذات الشرعية وانتفاؤها ممكن لأن الموجود في الخارج ذات غير شرعية وعلى فرض وجود مانع عن التوجه إلى المعنى الحقيقي فلا ريب أن الصحة أقرب إلى المعنى الحقيقي من الكمال لاستلزامها لعدم الاعتداد بتلك الذات وترجيح أقرب المجازين متعيِّن فظهر بهذا أن القول بأن النية شرط للصلاة أرجح من القول بأنها من جملة واجباتها والكلام على هذا يطول ليس هذا موضع ذكره، وأركانها كلها مفترضة لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها وتُعدم الصورة المطلوبة بعدمها وتكون ناقصة بنقصان بعضها وهي القيام فالركوع فالاعتدال فالسجود فالاعتدال فالسجود فالقعود للتشهد وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها وكان يجعلها قريبا من السواء كما ثبت في الصحيح عنه. أقول: وجملة القول في هذا الباب: إنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول وإرجاع فرع الشيء إلى أصله أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام: واجبات كالتكبير والتسليم والتشهد وأركان كالقيام والركوع والاعتدال والسجود والاعتدال والسجود والقعود للتشهد وشروط كالنية والقراءة أما النية فلما قدمنا، وأما القراءة فلورود ما يدل على شرطيتها كحديث:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وحديث: "لا تجزيء صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ونحوها فإن النفي إذا توجه إلى الذات أو إلى صحتها أفاد الشرطية إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط وأصرح من مطلق النفي النفي المتوجه إلى الإجزاء، والحاصل: أن شروط الشيء

ص: 85

يقتضي عدمها عدمه وأركانه كذلك لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع وما كان كذلك لا يجزئ إلا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد وإن كان الحق خلاف ما قال وأما الواجبات فغاية ما يستفاد من دليلها وهو مطلق الأمر أن تركها معصية لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها إذا تقرر هذا لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب متوافقة في ذات بينها والفرض والواجب مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور وهو الحق وحقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم تاركه والمدح على الغعل والذم على الترك لا يستلزمان البطلان بخلاف الشرط فإن حقيقته ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت فاحفظ هذا التحقيق تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفا للتأصيل وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب وكثيرا ما تجد العارف بالأصول إذا تكلم في الفروع ضاقت عليه المسالك وطاحت عنه المعارف وصار كأحد الجامدين على علم الفروع إلا جماعة منهم {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إلا قعود التشهد الأوسط لكونه لم يأت في الأدلة في ما يدل على وجوبه بخصوصه كما ورد في قعود التشهد الأخير فإن الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة ولم يذكر فيه التشهد الأخير قلت: تقوم الحجة بمثل ذلك ولا يثبت به التكليف العام والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء فقد وردت به الأوامر وصرح الصحابة بافتراضه وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء إيضاحا حسنا فلتراجع. "والاستراحة" لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها وذكرها في حديث المسيء وهم كما صرح بذلك البخاري، ولا يجب من أذكارها أي الصلاة إلا التكبير لقوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ولقوله صلى الله وسلم عليه في حديث المسيء: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير. أقول: تعيين التكبير للدخول في الصلاة محكم صريح لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:

ص: 86

"لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر1" وبما تقدم من النصوص وهي نصوص في غاية الصحة فردت بالمتشابه من قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قال في الحجة: فإذا كبر يرفع يديه إلى أذنيه ومنكبيه وكل ذلك سنة اهـ. أقول: إن الأدلة على هذه السنة قد تواترت تواترا لا ينكره من له أدنى إلمام بعلم الأدلة واختصت باجتماع العشرة المبشرة بالجنة على روايتها ومعهم من الصحابة جماهير ونقل جماعة من الحفاظ أنه لم يقع الخلاف في ذلك بين الصحابة بل اتفقوا عليه.

والحاصل: أنه نقل إلينا هذه السنة الذين نقلوا إلينا أعداد ركعات الصلاة فإذا لم يثبت بمثل ما ورد فيها مشروعيتها فليس في الدنيا مشروع لأن كثيرا مما وقع الإطباق على مشروعيته وصار من قطعيات المرويات لم يبلغ إلى ما بلغ إليه نقل الرفع وليس في المقام ما يصلح لمعارضة هذه السنة لا من قوله صلى الله وسلم عليه ولا من فعله ولا عن أصحابه من أقوالهم ولا من أفعالهم وقد درج عليها خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وأما حديث البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا افتتح الصلاة رفع يديه ثم لم يعد فهو قد تضمن إثبات الرفع عند الافتتاح، ولفظ:"ثم لم يعد" قد اتفق الحفاظ على أنه مدرج من قول يزيد بن أبي زياد وقد رواه عنه بدونها جماعة من الأئمة منهم: شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم ومع هذا فالحديث من أصله قد أطبق الأئمة على تضعيفه، وكما ثبت الرفع عند الافتتاح ثبت عند الركوع وعند الاعتدال منه بأحاديث تقارب أحاديث الرفع عند الافتتاح، وكذلك ثبت الرفع عند القيام من التشهد الأوسط بأحاديث صحيحة كما سيأتي بيانه. "والفاتحة في كل ركعة" لقوله صلى الله وسلم عليه في حديث المسيء:"ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وفي لفظ من حديث المسيء لأبي داود: "ثم أقرأ بأم القرآن" وكذلك لفظ منه لأحمد وابن حبان بزيادة ثم اصنع ذلك في كل ركعة بعد قوله: "ثم اقرأ بأم القرآن" فكان ذلك بيانا لما تيسر وورد ما يفيد وجوب الفاتحة في غير حديث المسيء

1 هو قطعة من حديث رفاعة بن رافع بن مالك الزرقي في قصة المسيء صلاته رواه أبو داود والترمذي والنسائي وبن ماجة والحاكم وليس فيه التصريح بلفظ: "الله أكبر" ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: "لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يقول: "الله أكبر" قال في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح.

ص: 87

كأحاديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهي صحيحة ويدل على وجوبها في كل ركعة ما وقع في حديث المسيء فإنه صلى الله وسلم عليه وصف له ما يفعل في كل ركعة وقد أمره بقراءة الفاتحة فكانت من جملة ما يجب في كل ركعة كما أنه يجب فعل ما اقترن بها في كل ركعة بل ورد ما يفيد ذلك من لفظه صلى الله وسلم عليه فإنه قال للمسيء: "ثم افعل ذلك في الصلاة كلها" وهو في الصحيح من حديث أبي هريرة قال ذلك بعد أن وصف له ما يفعل في الركعة الواحدة لا في جملة الصلاة فكان ذلك قرينة على أن المراد بالصلاة كل ركعة تماثل تلك الركعة من الصلاة قال في الحجة: وما ذكره النبي صلى الله وسلم عليه بلفظ الركنية كقوله صلى الله وسلم عليه: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقوله: "لا يجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" وما سمى الشارع الصلاة به فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة انتهى. ولو كان مؤتما فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم لما ورد من الأدلة الدالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام كحديث: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" ونحوه ولدخول المؤتم تحت هذه الأدلة المقتضية لوجوب الفاتحة في كل ركعة على كل مصل قال في الحجة البالغة: وإن كان مأموما وجب عليه الإنصات والاستماع فإن جهر الإمام لم يقرأ إلا عند الإسكاتة وإن خافت فله الخيرة فإن قرأ فليقرأ الفاتحة قراءة لا يشوش على الإمام وهذا أولى الأقوال عندي وبه يجمع بين أحاديث الباب انتهى وفي تنوير العينين دلائل الجانبين فيه قوية لكن يظهر بعد التأمل في الدلائل أن القراءة أولى من تركها فقد عولنا فيه على قول محمد كما نقل عنه صاحب الهداية وتركنا الكلام وقال ابن القيم في الأعلام: ردت النصوص المحكمة الصريحة الصحيحية في تعيين قراءة الفاتحة فرضا بالمتشابه من قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وليس ذلك في الصلاة وإنما يدل على قيام الليل وبقوله للأعرابي: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها وأن يكون لم يسيء في قراءتها فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر منها فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه فلا يترك الصريح انتهى، وقال في إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء: روى البيهقي عن يزيد بن شريك: أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب

ص: 88

فقلت: وإن كنت أنت قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت. قلت: روى أهل الكوفة عن أصحاب عمر الكوفيين أن المأموم لا يقرأ شيئا والجمع أن القبيح في الأصل أن ينازع الإمام في القرآن وقراءة المأموم قد تفضي إلى ذلك ثم إن اشتغال المأموم بمناجاة ربه مطلوب فتعارضت مصلحة ومفسدة فمن استطاع أن يأتي بالمصلحة بحيث لا تخدشها مفسدة فليفعل ومن خاف المفسدة ترك والله تعالى أعلم انتهى. أقول: الأوجه هو الإتيان بفاتحة الكتاب خلف الإمام كما تشهد له أدلة السنة الصريحة من دون تعارض والأمر بالإنصات في قوله تعالى: {أَنْصِتُوا} عام يتناول فاتحة الكتاب وغيرها وكذلك حديث: "وإذا قرأ فأنصتوا" وإن كان فيه مقال لا ينتهض معه للاستدلال وعلى فرض انتهاضه فغاية ما فيه أنه اقتضى أن الإنصات حال قراءة الإمام يجب على المؤتم ولا يقرأ بفاتحة الكتاب ولا غيرها، وأما حديث:"خلطتم علي" فلا يشك عارف أن خلط المؤتم على إمامه إنما يكون قرأ المؤتم جهرا وأما إذا قرأ سرا فلا خلط وكذلك المنازعة لا تكون إلا إذا سمع الإمام قراءة المؤتم، وأما حديث جابر في هذا الباب فهو من قوله: ولم يرفعه إلى النبي صلى الله وسلم عليه كما في الترمذي والموطأ وغيرهما وقول الصحابي لا تقوم به حجة فلم يبق ههنا ما يدل على منع قراءة المؤتم خلف الإمام حال قراءته إلا الآية الكريمة وحديث: "إذا قرأ فأنصتوا" وهما عامان كما عرفت يتناولان فاتحة الكتاب وغيرها والعام معرض للتخصيص والمخصص وههنا موجود وهو حديث عبادة بن الصامت وهو حديث صحيح وبناء العام على الخاص واجب باتفاق أهل الأصول فلا معذرة عن قراءة فاتحة الكتاب حال قراءة الإمام ولا سيما وقد دل الدليل على وجوبها على كل مصل في كل ركعة من ركعات صلاته. "والتشهد الأخير واجب" لورود الأمر به في الأحاديث الصحيحة وألفاظه معروفة وقد ورد بألفاظ من طريق جماعة من الصحابة وفي كل تشهد ألفاظ تخالف التشهد الآخر والحق الذي لا محيص عنه أنه يجزئ للمصلي أن يتشهد بكل واحد من تلك التشهدات الخارجة من مخرج صحيح وأصحها التشهد الذي علمه النبي صلى الله وسلم عليه ابن مسعود وهو ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديثه بلفظ:

ص: 89

"التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" وفي بعض ألفاظه: "إذا قعد أحدكم فليقل" قال في الحجة البالغة: وجاء في التشهد صيغ أصحها تشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ثم تشهد ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما وهي كأحرف القرآن كلها كاف وشاف انتهى. قلت: اختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود والشافعي تشهد ابن عباس ومالك تشهد عمر واختلافهم في المختار لا في الإجزاء كذا في المسوى، وأما الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه التي يفعلها المصلي في التشهد فقد وردت بألفاظ وكل ما صح منه أجزأ ومن أصح ما ورد ما ثبت في الصحيح بلفظ:"اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وزاد في الحجة: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" انتهى. قال الماتن في حاشية الشفاء: ومما ينبغي أن يُعلم أن التشهد وألفاظ الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه وآله عليهم السلام كلها مجزئة إذا وردت من وجه معتبر وتخصيص بعضها دون بعض كما يفعله بعض الفقهاء قصور باع وتحكم محض، وأما اختيار الأصح منها وإيثاره مع القول بإجزاء غيره فهو من اختيار الأفضل من المتفاضلات وهو من صنيع المهرة بعلم الاستدلال والأدلة انتهى. وقال في موضع آخر: التشهدات الثابتة عنه صلى الله وسلم عليه موجودة في كتب الحديث فعلى من رام التمسك بما صح عنه صلى الله وسلم عليه أن ينظرها في دواوين الإسلام الموضوعة لجمع ما ورد من السنة ويختار أصحها ويستمر عليه أو يعمل تارة بهذا وتارة بهذا مثلا يتشهد في بعض الصلوات بتشهد ابن مسعود وفي بعضها بتشهد ابن عباس وفي بعضها بتشهد غيرهما فالكل واسع والأرجح هو الأصح لكن كونه الأصح لا ينافي إجزاء الصحيح انتهى. قلت: عامة أهل العلم على أن الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة وإلى هذا يشير لفظ ابن عمر وعائشة في باب التشهد وأن التشهد الأول ليس محلا لها، وذهب الشافعي وحده إلى وجوبها في التشهد الأخير فإن

ص: 90

لم يصل لم تصح صلاته1 وإلى استحبابها في التشهد الأول وورد ما يفيد وجوب التعوذ من أربع كما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم عليه: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيى والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال" وورد نحو ذلك من حديث عائشة وهو في الصحيحين وغيرهما فيكون هذا التعوذ من تمام التشهد ثم يتخير المصلي بعد ذلك من الدعاء أعجبه كما أرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله وسلم عليه قال في الحجة: وورد في صيغ الدعاء في التشهد: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" وورد: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". "والتسليم" وهو واجب لكون النبي صلى الله وسلم عليه جعله تحليل الصلاة فلا تحليل لها إلا به فأفاد ذلك وجوبه وإن لم يذكر في حديث المسيء قال في الحجة: وجب أن لا يكون الخروج من الصلاة إلا بكلام هو أحسن كلام الناس أعني السلام وأن يوجب ذلك انتهى قال ابن القيم: إن السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي صلى الله وسلم عليه التي رواها خمسة عشر نفسا من الصحابة أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" منهم عبد الله بن مسعود بن أبي وقاص وجابر ابن سمرة وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ووائل بن حجر وأبو مالك الأشعري وعدي بن عمرة الضمري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها واردة في تسليمة واحدة انتهى. وقد أطال في الجواب عنها إلى خمسة أوراق فليرجع إليه. قلت: وعامة أهل العلم على أنه يسلم تسليمتين

1 هذا هو الحق فإن الله تعالى أمرنا بالصلاة على النبي بقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وسأله الصحابة عن الصلاة التي أمروا بها عليه فعلمهم صيغة الصلاة المعروفة على اختلاف رواياتها ففهموا إذا من الآية أن الأمر بالصلاة عليه إنما هو عقيب التشهد وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وواظبوا عليه وكان الوحي ينزل بين أظهرهم وتلقينا ذلك بالتواتر العملي عنهم فكان سؤالهم وبيانه لهم ثم مواظبتهم على ما أمروا تفسيرا للأمر الوارد في القرآن وهو من أقوى الأدلة على الوجوب.

ص: 91

عن يمينه وعن شماله؛ واحتجوا بحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله وسلم عليه رواه أبو داود والترمذي ولفظه: أن النبي صلى الله وسلم عليه كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيمن السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده الأيسر، رواه النسائي وأحمد وابن حبان والدارقطني وغيرهم وفي الباب عن سهل بن سعد وحذيفة ومغيرة بن شعبة وواثلة بن الأسقع ويعقوب بن الحسين، ووقع في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود زيادة:"وبركاته" وهي عند ابن ماجة أيضا وعند أبي داود أيضا في حديث وائل بن حجر فالعجب من ابن الصلاح كيف يقول إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حجر كذا في التلخيص، وقال مالك يسلم الإمام والمنفرد تسليمة واحدة: السلام عليكم لا يزيد على ذلك. "ويستحب للمأموم أن يسلم ثلاثا عن يمينه وعن شماله وتلقاء وجهه بردها على إمامه كذا في المسوى. أقول: ورود التسليمة الواحدة فقط لا يعارض الثابت مما فيه زيادة عليها وهي أحاديث التسلميتين لما عرفناك غير مرة أن الزيادة التي لم تكن منافية يجب قبولها فالقول بتسليمتين إعمال لجميع ما ورد بخلاف القول بتسليمة فإنه إهدار لأكثر الأدلة بدون مقتض وأما كون التسليم واجبا أو غير واجب فقد تقرر أن المرجع حديث المسيء وأنه لا وجوب لغير ما لم يذكر فيه إلا أن يثبت إيجابه بعد تاريخ حديث المسيء إيجابا لا يمكن صرفه بوجه من الوجوه1. وأما الطمأنينة في حال الركوع والسجودين فلا خلاف في ذلك وأما في حال الاعتدال من الركوع وبين السجدتين فخالف في ذلك قوم والحق أنه من آكد فرائض الصلاة في الموطنين بل المشروع إطالتهما وقد ثبت عنه صلى الله وسلم عليه ما يدل على ذلك كما في حديث البراء أنه حزر أركان صلاته صلى الله وسلم عليه وعد من جملتها الاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجدتين فوجدها قريبا من السواء وهذا يدل على أنه كان يلبث فيهما كما يلبث في الركوع والسجود، وثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقف في اعتداله من الركوع كاعتداله من السجود حتى يظن من رآه أنه قد نسي لإطالته لهما

1 لا نسلم هذا فإن حديث المسيء اختلفت رواياته كثيرا وهو حديث صحيح وبعض الرواة يزيد فيه ما تركه غيره وقد يصح دليل على بعض الواجبات في الصلاة وهي زيادة من ثقة فتكون مقبولة ولعلنا لم نطلع على جميع ألفاظ حديث المسيء أو لعل بعض الرواة نسي منه شيئا فلا يجوز رد ما يصح دليله بهذا الحصر.

ص: 92

وثبت من أدعية فيهما ما يدل على طولهما. فالحاصل: أن أصل الاطمئنان في الركوع والسجود والاعتدالين ركن من أركان الصلاة لاتتم بدونه وأما طول اللبث زيادة على الاطمئنان فمن السنن المؤكدة لأنه لم يذكر في حديث المسيء وقد صارت هذه السنة متروكة في الاعتدال إلى غاية بل صار الاطمئنان فيهما مما يقل وجوده وما أحق من نازعته نفسه إلى اتباع الآثار المصطفوية أن يثبت معتدلا من ركوعه ومعتدلا من سجوده ويدعو بالأدعية المأثورة فيهما ويجعل مقدار اللبث كمقدار لبثه في الركوع والسجود فذلك هو السنة التي لا يجهل ورودها إلا جاهل والله المستعان.

سنن الصلاة

"وما عدا ذلك فسنن" لأنه لم يرد فيها ما يفيد وجوبها من أمر بالفعل أو نهي عن الترك غير مصروفين عن المعنى الحقيقي أو وعيد شديد يفيد الوجوب ولا ذكر شيء منها في حديث المسيء إلا على وجه لا تقوم به الحجة أو تقوم به وقد ورد ما يفيد أنه غير واجب. والحاصل: أن مرجع واجبات الصلاة كلها هو حديث المسيء فما ذكره صلى الله وسلم عليه فيه كان واجبا وما لم يذكره فليس بواجب لكن قد تشعبت روايات حديث المسيء وثبت في بعضها ما لم يثبت في البعض الآخر فعلى من أراد تحقيق الحق أن يجمع طرقه الصحيحة ويحكم بوجوب ما اشتملت عليه أو شرطيته أو ركنيته بحسب ما يقتضيه الدليل وما خرج عنه خرج عن ذلك وقد جمع ما صح من طرقه شيخنا الحافظ الرباني العلامة الشوكاني في شرح المنتقى في موضع واحد منه فمن رام ذلك فليرجع إليه1. "وهي الرفع في المواضع الأربعة" أي عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال من الركوع هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة أما عند التكبير فقد روي ذلك عن النبي صلى الله وسلم عليه نحو خمسين رجلا من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء وقال الشافعي: روى الرفع جمع من الصحابة لعله لم يرد قط حديث بعدد أكثر منهم وقال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه

1 ثم ما يؤمننا أن تكون هناك روايات فيه لم نطلع عليها فقدت فيما فقد من كتب العلم أو نسيها الرواة فلم يذكروا والحق ما قلناه أنه لا عبرة بالحصر الذي فيه لأجل هذا الاحتمال فإن صح الدليل على شيء آخر وجب الأخذ به.

ص: 93

وسلم كان يرفع يديه، وقال البخاري في جزء رفع اليدين: روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع نحوا من ثلاثين صحابيا وقال الحسن وحميد بن هلال كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرفعون أيديهم ولم يستثن أحدا منهم كذا في التلخيص وقال النووي في شرح مسلم: إنها أجمعت على ذلك عند تكبيرة الإحرام وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك، وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري وأبو الحسن أحمد بن سيار والنيسابوري والأوزاعي والحميدي وابن خزيمة1. وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه فقد رواه زيادة على عشرين رجلا من الصحابة عن النبي صلى الله وسلم عليه وقال محمد بن نصر المروزي: إنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة. وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة فهو ثابت في الصحيح من حديث ابن عمر وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وصححه أيضا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي حجة الله البالغة: فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود وهو من الهيئات التي فعلها النبي صلى الله وسلم عليه مرة وتركها أخرى، والكل سنة وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة وأهل الكوفة ولكل واحد أصل أصيل والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سنة ونظيره الوتر بركعة واحدة أو بثلاث والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت غير أنه لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده وهو قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة" ولا يبعد أن يكون ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ظن أن السنة المتقررة آخرا هو تركه لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي ولذلك ابتدئ به في الصلاة أو لما تلقن من أنه فعل ينبئ عن الترك فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة ولم يظهر له أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله تعالى عند كل فعل أصلي

1 وهو ظاهر كلام الشافعي في الأم في كتاب اختلاف مالك والشافعي. وسيذكره الشارح نقلا عن ابن الجوزي في آخر المسألة.

ص: 94

من الصلاة مطلوب والله تعالى أعلم. قوله لا يفعل ذلك في السجود: أقول القومة شرعت فارقة بين الركوع والسجود فالرفع معها رفع للسجود فلا معنى للتكرار انتهى بحروفه. وفي التكميل للشيخ رفيع الدين الدهلوي ولد صاحب الحجة البالغة اختلفوا في سنية رفع اليدين في الصلاة بعد التحريمة مع اتفاقهم على أنه لم يصح فيه أمر باستحباب ولا بيان فضيلة ولا نهي الصحابة عنه قط وعلى أنه ثبت عنه صلى الله وسلم عليه فعله مدة إلا أنه زاد ابن مسعود فقال: ألا أصلي بكم صلاة رسول صلى الله وسلم عليه؟ فلم يرفع يديه إلا في أول مرة وظاهر أنه لم يرد تركه أبدا وإنما أراد تركه آخرا كما يشعر به بعض ما ينقل عنه أن آخر الأمرين ترك الرفع ولا يدرى مدة الترك فيحتمل أنه تركه في أيام المرض للضعف فظن قوم أن سنيته كانت بمجرد الفعل فبطلت بالترك وقوم أن الترك بعذر وبغير نهي لا ينفي السنية كترك القيام للفرض بالعذر فهي إذا باقية فلا مناقشة للمجتهدين في أصل سنيته في الجملة ولا في بقاء جوازه وإن منعه بعض المتعصبة إذ ليس مما يخالف أفعال الصلاة لبقائه في التحريمة والقنوت والعيدين فلا نكير على فاعله لأحد بل في بقاء سنيته بناء على الظنين فلا نزاع إلا في المواظبة والرجحان وحيث واظب عليه جمع بلغوا حد الاستفاضة فوق الشهرة ولم يتعرض صلى الله وسلم عليه لفعلهم كما تعرض لرفع اليد في السلام حيث قال: "ما بال أيديكم كأنها أذناب خيل شمس" وهو صلى الله وسلم عليه كان يرى خلفه كما يرى أمامه فثبت بقاء سنيته وتركه صلى الله وسلم عليه أحيانا كما رواه ابن مسعود والبراء بن عازب وعدم التعرض لتاركه يقضي بسقوط تأكيده ولم يبلغ أبا حنيفة رح تعالى خبر هذا الجمع إنما روى له الأوزاعي عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فرجح عليه أبو حنيفة حمادا عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود بكثرة الفقه لا بكثرة الحفظ فكأنه ظن أنه تفطن ابن مسعود للنسخ دون ابن عمر حيث لم يرفع إلا في التحريمة بناء على أن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر، وما يذكر عن الشافعي من عدم الرفع عند قبره مشعر بعدم التأكيد انتهى. وفي تنوير العينين للشيخ محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي حفيد صاحب حجة الله البالغة إن رفع اليدين عند الافتتاح والركوع والقيام منه والقيام إلى الثالثة سنة غير مؤكدة من سنن الهدى فيثاب فاعله بقدر ما فعل إن دائما فبحسبه وإن مرة فبمثله ولا

ص: 95

يلام تاركه وإن تركه مدة عمره، وأما الطاعن العالم بالحديث أي من ثبت عنده الأحاديث المتعلقة بهذه المسالة فلا إخاله إلا فيمن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ونريد بسنة الهدى ههنا فعل غير فرض وغير مختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فعله هو والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم أو أمروا به وأقروا عليه قربة ولم ينسخ ولم يترك بالإجماع وبغير المؤكدة ما فعلوه مرة وتركوه أخرى فبقولنا فعل خرج به عدم الرفع فإن العدم ليس بفعل نعم إذا كان العدم مستمرا في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم فقطعه يكون بدعة وليس في مفهوم البدعة إزالة السنة حتى يلزم كون العدم سنة بل مفهومها فعل لم يفهم في زمنهم وبقولنا غير فرض خرجت الفرائض كلها وبقولنا غير مختص خرجت النوافل المختصة به صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كالوصال في الصوم وبقولنا لم ينسخ خرجت السنن المنسوخة كالقيام للجنازة وبقولنا لم يترك بالإجماع خرجت السنن المتروكة به كالرفع بين السجدتين انتهى. وفيما لا بد منه أن رفع اليدين عند الإمام الأعظم ليس بسنة ولكن أكثر الفقهاء والمحدثين يثبتونه انتهى. وفي سفر السعادة إن الأخبار والآثار التي رويت في هذا الباب تبلغ إلى أربعمائة انتهى. قال شارحه الشيخ عبد الحق الدهلوي: إن الرفع وعدم الرفع كلاهما سنة انتهى. وقد مر الجواب عنه وفي سفر السعادة العربي وقد ثبت رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة ولكثرة رواته شابه المتواتر فقد صح في هذا الباب أربعمائة خبر وأثر رواه العشرة المبشرة ولم يزل على هذه الكيفية حتى رحل عن هذا العالم ولم يثبت غير هذا انتهى بعبارته، ونقل ابن الجوزي في نزهة الناظر للمقيم والمسافر عن المزني أنه قال: سمعت الشافعي يقول: لا يحل لأحد سمع حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في رفع اليدين في افتتاح الصلاة وعند الركوع والرفع من الركوع أن يترك الاقتداء بفعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهذا صريح في أنه يوجب ذلك انتهى. وبالجملة: فقد ثبت رفع اليدين في المواضع الأربعة المذكورة بروايات صحيحة ثابتة وآثار مرضية راجحة ومذاهب حقة صادقة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعن كبراء الصحابة وعظماء العلماء والفقهاء والمجتهدين بحيث لا يشوبها

ص: 96

نسخ ولا تعارض حتى ادعى بعضهم التواتر ولا أقل من أن تكون مشهورة كذا في التنوير، "والضم" لليدين أي اليمنى على اليسرى حال القيام إما على الصدر أو تحت السرة أو بينهما بأحاديث تقارب العشرين في العدد ولم يعارض هذه السنن معارض ولا قدح أحد من أهل العلم بالحديث في شيء منها وقد رواه عن النبي صلى الله وسلم عليه نحو ثمانية عشر صحابياً حتى قال ابن عبد البر: إنه لم يأت فيه عن النبي صلى الله وسلم عليه خلاف وفي تنوير العينين إن وضع اليد على الأخرى أولى من الإرسال لأن الإرسال لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه بل ثبت الوضع بروايات صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وعن أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما روى مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك إلى النبي صلى الله وسلم عليه وروى الترمذي عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. قال الترمذي: وفي الباب عن وائل ابن حجر وغطيف بن الحرث وابن عباس وابن مسعود وسهل بن سعد قال أبو عيسى: حديث هلب حديث حسن والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله وسلم عليه والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة وكل ذلك واسع عندهم انتهى. كذلك أخرج مسلم عن وائل بن حجر وابن مسعود والنسائي عن وائل بن حجر والبخاري والحاكم عن علي وابن أبي شيبة عن غطيف بن الحرث وقبيصة بن هلب عن أبيه ووائل بن حجر وعلي وأبي بكر الصديق وأبي الدرداء أنه قال: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وعن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كأني أنظر أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة" وهكذا أخرج عن أبي مجلز وأبي عثمان النهدي ومجاهد وأبي الحوراء. وأما ما روي من الإرسال عن بعض التابعين من نحو الحسن وإبراهيم وابن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير كما

ص: 97

أخرجه ابن أبي شيبة فإن بلغ عندهم حديث الوضع فمحمول على أنه لم يحسبوه سنة من سنن الهدى بل حسبوه عادة من العادات فمالوا إلى الإرسال لأصالته مع جواز الوضع فعملوا بالإرسال بناء على الأصل إذ الوضع أمر جديد يحتاج إلى الدليل وإذ لا دليل لهم فاضطروا إلى الإرسال لا أنه ثبت عندهم الإرسال وإلى ذلك يشير قول ابن سيرين حيث سئل عن الرجل يمسك بيمينه شماله قال: إنما فعل ذلك من أجل الروم كما أخرج ابن أبي شيبة. وأما ما أخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن إبراهيم قال: سمعت عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه فهي رواية شاذة مخالفة لما روى الثقات عنه كما أخرج أبو داود عن زرعة بن عبد الرحمن قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة، وإن سُلّم كونها صحيحة فهذه فعله والفعل لا عموم له ورواية الوضع عنه مرفوعة لأنه نسبه إلى السنة، وقول الصحابي من السنة في حكم الرفع كما حُقق في كتب أصول الحديث ومع هذا لعله لم ير الوضع من سنن الهدى وفهم الصحابي ليس بحجة كما مضى لا سيما إذا كان مخالفاً لأجله الصحابة كأميري المؤمنين أبي بكر الصديق وعلي المرتضى وابن عباس وابن مسعود وسهل بن سعد ونحوهم على أنها مخالفة للأحاديث المرفوعة المشهورة، وأعمال الصحابة المستفيضة في باب الوضع فينبغي أن لا يعول على الاعتبار ولا يلتفت إليها. وأما مالك بن أنس فقد اضطربت الروايات عنه فالمدنيون من أصحابه رووا عنه أمر الوضع مطلقاً سواء كان في الفرض أو النفل كما يشهد به حديث الموطأ عن سهل بن سعد وأثره عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، والمصريون من أصحابه رووا عنه الإرسال في الفرض والوضع في النفل وعبد الرحمن بن القاسم روى عنه الإرسال مطلقاً وروى أشهب عنه إباحة الوضع وتلك الروايات أي روايات المصريين وابن القاسم عنه وإن عمل بها المتأخرون من المالكلية لكنها روايات شاذة مخالفة لرواية جمهور أصحابه فلا تخرق الإجماع والاتفاق ولا تصادم ما ادعينا من الإطباق ولكونها شاذة أولها ابن الحاجب في مختصره في الفقه بالاعتماد على الأرض إذا رفع رأسه من السجدة ونهض إلى القيام ووضع اليدين تحت السرة وفوقها متساويان لأن كلا منهما مروي عن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أخرج أبو

ص: 98

داود وأحمد وابن أبي شيبة عن علي: "السنة وضع الكف في الصلاة تحت السرة" رواه رزين وغيره وفي سفر السعادة وضع الكف تحت الصدر في صحيح ابن خزيمة. قال الترمذي: رأى بضعهم أن يضعهما فوق السرة ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة وكل ذلك واسع عندهم كما ذكرنا سابقا وقال الشيخ ابن الهمام: ولم يثبت حديث صحيح يوجب العمل في كون الوضع تحت الصدر وفي كونه تحت السرة والمعهود من الحنفية هو كونه تحت السرة وعن الشافعية تحت الصدر وعند أحمد قولان كالمذهبين والتحقيق المساواة بينهما كما ذكرنا سابقا والله تعالى أعلم بأحكامه انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد تخريج الأخبار والآثار في وضع اليمنى على اليسرى: رُدّت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: تركه أحب إليّ ولا أعلم شيئاً ردت به سواه انتهى. وفي حاشية الشفاء ومن الغرائب أنها صارت في هذه الديار وفي هذه الأعصار عند العامة ومن يشابههم ممن يظن أنه قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات حتى إن المتمسك بها يصير في اعتقاد كثير في عداد الخارجين عن الدين فترى الأخ يعادي أخاه والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدة منها أي من هذه السنن وكأنه صار متمسكاً بدين آخر ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني أو يشرب الخمر أو يقتل النفس أو يعق أحد أبويه أو يشهد الزور أو يحلف الفجور لم يجر بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسك بهذه السنن أو ببعضها، لا جرم هذه علامات آخر الزمان ودلائل حضور القيامة وقرب الساعة انتهى. والإشارة بقوله بهذه السنن إلى رفع اليدين في المواضع الأربعة وضم اليدين في الصلاة قال: وأعجب من فعل العامة الجهلة وأغرب سكوت علماء الدين وأئمة المسلمين عن الإنكار على من جعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً وتلاعب بالدين وبسنة سيد المرسلين انتهى. "والتوجه" فقد وردت فيه أحاديث بألفاظ مختلفة ويجزئ التوجه بواحد منها إذا خرج من مخرج صحيح وأصحها الاستفتاح المروي من حديث أبي هريرة وهو في الصحيحين وغيرهما بل قد قيل إنه تواتر لفظاً وهو: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد". قال في الحجة:

ص: 99

وقد صح في ذلك صيغ منها: "اللهم باعد بيني" إلى آخره ومنها: "إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"1. ومنها: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". ومنها: "الله أكبر كبيرا ثلاثا الحمد لله كثيراً ثلاثاً وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثاً" والأصل في الاستفتاح حديث علي في الجملة وأبي هريرة وعائشة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم وحديث عائشة وابن مسعود وأبي هريرة وثوبان وكعب بن عجرة في سائر المواضع وغير هؤلاء انتهى ملخصاً. قلت: ذهب الشافعي في دعاء الافتتاح إلى حديث علي رضي الله تعالى عنه: "إني وجهت وجهي" الخ وأبو حنيفة إلى حديث عائشة "سبحانك اللهم وبحمدك" الخ وقال مالك: لا نقول شيئا من ذلك. ومعنى قوله عندي أنه ليس بسنة لازمة، وأشار البغوي إلى أن الاختلاف في أذكار الصلاة من دعاء الافتتاح وذكر الركوع والسجود وما بعد التشهد بين الأئمة من الاختلاف المباح فذكر كل أصح ما عنده وليس أحد ينكر ما عند الآخر. بعد التكبيرة لأنه لم يأت في ذلك خلاف النبي صلى الله عليه وسلم بل كل من روى عنه الاستفتاح روى أنه بعد التكبيرة ولم يأت في شيء أنه توجه قبلها وقد أوضح ذلك العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء. وأما ما يتوجه به فهو الذي قد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وفيه الصحيح والأصح والوقوف على ذلك ممكن بالنظر في مختصر من مختصرات الحديث وسبحان الله وبحمده ما فعلت هذه المذاهب بأهلها. وأما "التعوذ" فقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعله بعد الاستفتاح قبل القراءة ولفظه:"أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" كما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري قال في الحجة: ثم يتعوذ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وفي التعوذ صيغ منها: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ومنها: "أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يبسمل سرا لما شرع الله تعالى لنا من تقديم التبرك باسم الله تعالى على القراءة ولأن

1 الوارد في الحديث في التوجه: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} لأن حكاية لفظ الآية غير مراد فإن إبراهيم قال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ولكن لا يقولها كل فرد منهم.

ص: 100

فيه احتياطاً إذ قد اختلفت الرواية هل هي آية من الفاتحة أم لا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح الصلاة أي القراءة بالحمد لله رب العالمين ولا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم انتهى.

أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات: الأولى في كونها قرآنا في كل سورة أم لا الثانية في قراءتها في الصلاة أو سرا في السرية وجهراً في الجهرية ولأهل العلم في كل طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة والقراء منهم من يقرؤها في أول كل سورة ومنهم من لا يقرؤها وقد أورد شيخنا العلامة الشوكاني في شرح المنتقى ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. والحاصل: أن الحق ثبوت قراءتها وأنها آية من كل سورة وأنها تُقرأ في الصلاة جهراً في الجهرية وسرا في السرية في السرية وأحاديث عدم سماع جهره صلى الله عليه وسلم بها وإن كانت صحيحة فالجمع بينها وبين أحاديث الجهر ممكن بأن يُحمل نفي من نفى على أنه عرض له مانع عن سماعها فإن وقت قراءة الإمام لها وقت اشتغال المؤتم بالدخول في الصلاة والإحرام والتوجه وتكبير القائمين إلى الصلاة ورواة الإسرار هم مثل أنس وعبد الله بن مغفل وهم إذ ذاك من صغار الصحابة قد لا يقفون في الصفوف المتقدمة لأنها موقف كبار الصحابة كما ورد الدليل بذلك وعلى كل تقدير فالمثبت مقدم على النافي، وأحاديث الجهر وإن كانت غير سليمة من المقال فهي قد بلغت في الكثرة إلى حد يشهد بعضها لبعض مع كونها معتضدة بالرسم في المصاحف وهو دليل علمي كما قاله العضد وغيره فقد وافقت سائر الآيات القرآنية في ذلك فالظاهر مع من قال بأن صفتها وصفة سائر الآيات متفقة. وأما ما في تنوير العينين من أن ترك الجهر بالتسمية أولى من الجهر بها لأن رواية ترك جهره أكثر وأوضح من جهره انتهى فقد دفعه ما تقدم آنفا. وأما التأمين فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثاً وربما تفيد أحاديثه الوجوب على المؤتم إذا أمّن إمامه كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما بلفظ:"إذا أمّن الإمام فأمنوا" فيكون ما في المتن مقيدا بغير المؤتم إذا أمّن إمامه وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم ومما يؤكد مشروعيته أن فيه إغاظة لليهود لما أخرجه أحمد وابن ماجه والطبراني من حديث عائشة مرفوعاً: "ما حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على قول آمين". قال ابن القيم في إعلام الموقعين: السنة المحكمة الصحيحة الجهر بآمين

ص: 101

في الصلاة كقوله في الصحيحين: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه أمين الملائكة غفر له" ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في بالتأمين وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حجر ابن عنبس عن وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا قال ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته، وفي لفظ:"وطول بها" رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح، وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال:"وخفض بها صوته" وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع فقال عن حجر أبي العنبس وإنما كنيته أبو السكن وزاد فيه عن علقمة بن وائل وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ليس فيه علقمة وقال: "وخفض بها صوته" والصحيح أنه جهر بها. قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة إذا اختلفا فقال: القول قول سفيان إلى قوله: فرُد هذا كله بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والذي نزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ولا معارضة بين هذه الآية والسنة بوجه ما اهـ، ثم أطال ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة وتقريرها تركنا ذكرها مخافة الإطالة وفي تنوير العينين يظهر بعد التعمق في الروايات والتحقيق أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه لأن رواية جهره أكثر وأوضح من خفضه اهـ.

وقراءة غير الفاتحة معها لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وورد ما يُشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله وسلم عليه أمره أن يخرج فينادي: لاصلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد أخرجه أحمد وأبو داود وفي إسناده مقال ولكنه قد أخرج مسلم في صحيحه وغيره من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً" وقد أعلها البخاري في جزء القراءة، وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ:

ص: 102

أُمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة" وهو حديث ضعيف، وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير تقييد بل مجرد الآية الواحدة يكفي، وأما زيادة على ذلك كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأوليين فليس بواجب فيكون ما في المتن مقيداً بما فوق الآية. قال في الحجة البالغة: ثم يرتل سورة الفاتحة وسورة من القرآن ترتيلا يمد الحروف ويقف على رؤوس الآي يخافت في الظهر والعصر ويجهر الإمام في الفجر والمغرب والعشاء ويقرأ في الفجر ستين آية إلى مائة تداركاً لقلة ركعاته بطول قراءته وفي العشاء: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ومثلهما وحُمل الظهر على الفجر والعصر على العشاء وفي بعض الروايات الظهر على العشاء والعصر على المغرب وفي بعضها وفي المغرب بقصار المفصل لصيق الوقت انتهى. وأما التشهد الأوسط فلم يرد فيه ألفاظ تخصه بل يقول فيه ما يقول في التشهد الأخير ولكنه يسرع بذلك وفي حاشية الشفاء للشوكاني رح: وأما ما يقال فيه فهو ما يقال في التشهد الأخير سواء بسواء إلا ما ورد تخصيصه بالآخر فيختص به وظاهر الأدلة الواردة في التشهد شامل للتشهدين جميعاً إلا أنه ينبغي تخفيفه كما ورد الدليل بذلك وأقل ما يقال فيه تشهد ابن مسعود ويُضم إليه الصلاة على النبي وآله صلى الله وسلم عليه بأخصر لفظ فهذا لا ينافي التخفيف المشروع انتهى. وقد روى أحمد والنسائي من حديث ابن مسعود قال: إن محمداً قال إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع به ربه عز وجل، ورجاله ثقات وأخرجه الترمذي بلفظ: علمنا رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا قعدنا في الركعتين، فالتقييد بالقعود في كل ركعتين يفيد أن هذا التشهد هو التشهد الأوسط ولكن ليس فيه ما ينفي زيادة الصلاة على النبي صلى الله وسلم عليه وقد شرعها رسول الله صلى الله وسلم عليه في التشهد مقترنة بالسلام على النبي صلى الله وسلم عليه كما ورد بلفظ: قد علمنا كيف السلام عليك فكيف

ص: 103

الصلاة وهو في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وفي رواية من حديث ابن مسعود فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وإنما لم يكن التشهد الأوسط واجباً ولا قعوده لأن النبي صلى الله وسلم عليه تركه سهوا فسبَّح الصحابة فلم يعد له بل استمر وسجد للسهو فلو كان واجباً لعاد له عند ذهاب السهو بوقوع التنبيه من الصحابة فلا يقال: إن سجود السهو يكون لجبران الواجب كما يكون لجبران غير الواجب لأنا نقول: محل الدليل ههنا هو عدم العود لفعله بعد التنبيه على السهو. أقول: لا ريب أنه صلى الله وسلم عليه لازم التشهد الأوسط ولم يثبت في حديث من الأحاديث الحاكية لفعله صلى الله وسلم عليه أنه تركه مرة واحدة ولكن هذا القدر لا يثبت به الوجوب وإن كان بيانا لمجمل واجب وانضم إليه حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لأن الاقتصار في حديث المسيء بعض ما كان يفعله دون بعض يشعر بعدم وجوب ما لم يذكر فيه وأحاديث التشهد الصحيحة التي فيها لفظ: "قولوا" وإن كان أصل الأمر للوجوب لكنه مصروف عن حقيقته بحديث المسيء ويشكل على ذلك قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. الحديث. فإن هذه العبارة على أن التشهد من المفترضات ويمكن أن يقال: إن فهم ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر كذلك لأنه من مجالات الاجتهادات واجتهاده ليس بحجة على أحد1، وأيضا بعض التشهد تعليم كيفية وتعليم الكيفيات وإن كان بلفظ الأمر لا يدل على وجوبها وما نحن بصدده من ذلك فإنه وقع في جواب كيف نصلي عليك وإنما كان كذلك لأن جواب السائل عن الكيفية يكون بالأمر وإن كانت غير واجبة إجماعاً تقول كيف أغسل ثوبي وأحمل متاعي فيقول المسؤول افعل كذا غير مريد لا يجاب ذلك عليك بل لمجرد التعليم للهيئة المسؤول عنها بكيف فلا بد أن يكون الشيء المسؤول عن كيفيته قد وجب بدليل آخر غير تعليم

1 أما احتجاج الشارح بحديث المسيء صلاته فقد بينا آنفا أنه لا يمنع من وجوب ما يدل الدليل على وجوبه فالأحاديث التي فيها: "قولوا" تدل على الوجوب قطعا ولا تصرف عن الوجوب وأما دعواه أن قول ابن مسعود: "قبل أن يفرض علينا التشهد" فهم من ابن مسعود فإنه مغالطة صريحة بل هو دليل صريح وإخبار منه على أن التشهد فرض عليهم وبناء الفعل لما لم يسم فاعله لا ينفي فهم المراد وهو الشارع الذي إذا فرض عليهم شيئا وجبت طاعته.

ص: 104

الكيفية1 وقد وقع في بعض طرق حديث المسيء ذكر للتشهد فراجعه في الموطن فإن صحت تلك الطرق كانت هي المفيدة للوجوب، وأما حديث:"إذا أحدث المصلي بعد آخر سجدة" فليس مما تقوم به الحجة فليعلم. وأما الأذكار الواردة في كل ركن فكثيرة جدا منها: تكبير الركوع والسجود والرفع والخفض كما دل عليه حديث ابن مسعود قال: رأيت النبي صلى الله وسلم عليه يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود. وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأخرج نحوه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة وفي الباب أحاديث إلا عند الارتفاع من الركوع فإن الإمام والمنفرد يقولان: "سمع الله لمن حمده" والمؤتم يقول: "اللهم ربنا ولك الحمد" وهو في الصحيح من حديث أبي موسى قال في حاشية الشفاء: الظاهر من الأدلة أن الإمام والمنفرد يجمعان بين السمعلة والحمدلة فيقولان: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأما المؤتم ففيه احتمال وقد أوضحت الصواب فيه في شرح المنتقى انتهى. قال ابن القيم في الإعلام: السنة الصريحة في قول الإمام: "ربنا لك الحمد" كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه إذا قال سمع الله لمن حمده قال: "اللهم ربنا لك الحمد" وفيهما أيضا عنه: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا لك الحمد، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله وسلم عليه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال:"سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد" فرُدّت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله صلى الله وسلم عليه: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد" انتهى. وأما ذكر الركوع فهو: "سبحان ربي العظيم" وذكر السجود: "سبحان ربي الأعلى" ويدعو بعد ذلك بما أحب من المأثور وغيره وأقل ما يستحب من التسبيح في الركوع والسجود ثلاث لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله وسلم عليه قال: إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه

1 وقد وجب المسؤول عن كيفية بدليل آخر وهو الأمر بالصلاة عليه في القرآن واستفهموا عن بيان هذا الأمر المجمل فبين لهم فصار تفسيراً للأمر الأول ملحقاً به واجباً طاعته والله الموفق.

ص: 105

وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وفي إسناده انقطاع. وأما ذكر الاعتدال فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وأما الذكر بين السجدتين فقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني".

أقول: قد بين لنا صلى الله عليه وسلم كيفية تسبيح الركوع والسجود بيانا شافيا نقله لنا عنه الذين نقلوا إلينا سائر الأحكام الشرعية فقالوا كان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى" وكذلك أرشد إليه صلى الله وسلم عليه قولاً. وأما التقييد بعدد مخصوص فلم يرد ما يدل عليه إنما كان الصحابة يقدرون لبثه في ركوعه وسجوده تقادير مختلفة والتطويل في الصلاة من السنن الثابتة ما لم يكن المصلي إماماً لقوم فإنه يصلي بهم صلاة أخفهم كما أرشد إليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، والأحاديث في الأذكار الكائنة في الصلاة كثيرة جدا فينبغي الاستكثار من الدعاء في الصلاة بخيري الدنيا والآخرة بما ورد وبما لم يرد والأوْلى أن يأتي بهذه الأذكار قبل الرواتب فإنه جاء في بعض الأذكار ما يدل على ذلك كقوله:"من قال قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح لا إله إلا الله" الخ وكقول الراوي: "كان إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله" الخ. قال ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتكبير ، وفي بعضها ما يدل ظاهراً كقوله:"دبر كل صلاة" وأما قول عائشة: كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام" الخ فيحتمل وجوها ذكرتها في شرح بلوغ المرام. وبالجملة: فالأدعية كلها بمنزلة أحرف القرآن من قرأ منها شيئا فاز بالثواب

ص: 106

الموعود وهذا الباب يحتمل البسط وليس المراد هنا إلا الإشارة إلى ما يُحتاج إليه وقد ذكر الماتن هذه المسائل والأذكار في شرح المنتقى وأورد كل ما يحتاج إليه على وجه لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.

فصل فيما لا يجوز في الصلاة وتبطل الصلاة بالكلام لحديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وهكذا حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "إن في الصلاة لشغلا" وفي رواية لأحمد والنسائي وأبي داود وابن حبان في صحيحه: إن الله يحدث من أمره ما شاء وإنه أحدث من أمره أن لا يتكلم في الصلاة، ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم عامدا عالما فسدت صلاته، وإنما الخلاف في كلام الساهي ومن لم يعلم بأنه ممنوع فأما من لم يعلم فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلمي الثابت في الصحيح أنه لا يعيد وقد كان شأنه صلى الله وسلم عليه أن لا يحرج على الجاهل ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء، وأما كلام الساهي والناسي فالظاهر أنه لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال الصلاة. قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام ثم نسخ وفيه بحث لأن تحريم الكلام كان بمكة وهذه القصة بالمدينة، وقال الشافعي: كلام الناسي لا يبطل الصلاة وكلام العامد يبطلها ولو قل، وتأويل الحديث عنده أن النبي صلى الله وسلم عليه كان ناسيا بانيا كلامه على أن الصلاة تمت وهو نسيان وكلام ذي اليدين على توهم قصر الصلاة فكان حكمه حكم الناسي وكلام القوم كان جوابا للرسول وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة، وقال مالك: إن كان الكلام العمد يسيرا لإصلاح الصلاة لا يبطل مثل أن يقال: لم تكمل فيقول: قد أكملت وحديث: نهينا عن الكلام. ولا تكلموا خص منه هذا النوع من الكلام كذا في المسوى. أقول أما فساد صلاة من تكلم ساهيا فلا أعرف دليلا يدل عليه إلا عموم حديث النهي

ص: 107

عن الكلام وهو مخصص بمثل حديث تكلمه صلى الله وسلم عليه بعد أن سلم على ركعتين كما في حديث ذي اليدين فإنه تكلم في تلك الحال ساهيا عن كونه مصليا وهو المراد بكلام الساهي لأن المراد إصدار الكلام من غير قصد فإن قيل إن ثم فرقا بين من تكلم وهو داخل الصلاة لم يخرج منها وبين من تكلم وقد خرج منها ساهيا فإن الأول أوقع الكلام حال الصلاة والآخر أوقعه خارجها واعتداده بما قد فعله قبل الخروج ساهيا لا يوجب كونه بعد الخروج قبل الرجوع في صلاة وأدل دليل على ذلك تكبيره للدخول بعد الخروج سهوا فيقال: الأدلة لواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك العموم فاقتضى ذلك أن المفسد هو كلام العامد لا كلام الساهي، وأما عدم أمره لمعاوية بن الحكم بالإعادة كما في الحديث فيمكن أن يكون لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام الساهي ويمكن أن يكون الجهل عذرا بمجرده وبالاشتغال بما ليس منها وذلك مقيد بأن يخرج به المصلي عن هيئة الصلاة كمن يشتغل مثلا بخياطة أو نجارة أو مشي كثير أو التفات طويل أو نحو ذلك وسبب بطلانها بذلك أن الهيئة المطلوبة من المصلي قد صارت بذلك الفعل متغيرة عما كانت عليه حتى صار الناظر لصاحبها لا يعده مصليا، أقول: اختلفت أنظار أهل العلم في تعريف الفعل الكثير المفسد للصلاة والمبطل لها والذي أراه طريقا إلى معرفة الفعل الكثير أن ينظر المتكلم في ذلك إلى ما صدر منه صلى الله وسلم عليه من الأفعال مثل حمله لأمامة بنت أبي العاص وطلوعه ونزوله في المنبر وهو في حال الصلاة ونحو ذلك مما وقع منه صلى الله وسلم عليه لا لإصلاح الصلاة فيحكم بأنه غير كثير، وكذلك ما وقع لقصد إصلاح الصلاة مثل خلعه صلى الله وسلم عليه للنعل وإذنه بمقاتلة الحية وما أشبه ذلك ينبغي الحكم بأنه غير كثير بالأولى وما خرج عن الواقع من أفعاله والمسوغ بأقواله فهو فعل غير مشروع، ورجع في كونه مفسدا وغير مفسد إلى الدليل فإن ورد ما يدل على أحد الطرفين كان العمل عليه وإن لم يرد فالأصل الصحة والفساد خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لقيام دليل يدل على الفساد ولكنه إذا صدر من المصلي من الأفعال التي لمجرد العبث ما يخرج به عن هيئة من يؤدي هذه

ص: 108

العبادة مثل: أن يشتغل بعمل من الأعمال التي لا مدخل لها في الصلاة ولا في إصلاحها نحو: حمل الأثقال والخياطة والنسخ ونحو ذلك فهذا غير مصل فإذا قال قائل بفساد صلاته فهو من حيث إنه قد فعل ما ينافي الصلاة. وأما الاستدلال بحديث: "اسكتوا في الصلاة" فهو مع كونه لا يفيد إلا الوجوب والواجب لا يستلزم عدمه فساد ما هو واجب فيه مخصص بجميع ما فعله صلى الله وسلم عليه أو أذن به أو قرره وما خرج عن ذلك ففعله غير جائز بل يجب تركه فقط فمن تركه كان ممدوحا ومن فعله كان مذموما ومن قال إن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي يقتضي الفساد كما هو مذهب طائفة من أهل الأصول فغاية ما هناك أن ذلك الفعل الذي فعله ولم يتركه كما يجب عليه فاسد، وأما كون الصلاة التي فعل فيها ذلك الفعل فاسدة فشيء آخر. قال مجد الدين الفيروز أبادي في الصراط المستقيم: ولسماع بكاء الطفل كان يخفف الصلاة وأحيانا كان يتعلق به وهو في الصلاة طفل فيحمله على عاتقه وأحيانا كان يأتي الحسين وهو في السجود فيركب على ظهره المبارك فيطيل السجود لأجله، وأحيانا كانت عائشة تأتي وهو في الصلاة وقد غلق الباب فيخطو ليفتح الباب لها، وأحيانا كان يسلم عليه وهو في الصلاة فيجيب بالإشارة باسطا يده وقد يومئ برأسه المبارك وكانت عائشة نائمة تجاه صلاته فكان عند السجود يضع يده على رجلها لتخلي مكان السجود بضم رجلها، وكان قد يصل إلى آية السجدة على المنبر فيهبط إلى الأرض ليسجد ثم يصعد واختصم وليدتان من بني عبد المطلب فتصارعتا فلما دنتا منه أمسكهما بيده وفرق بينهما، وكان يبكي في الصلاة كثيرا ويتنحنح أحيانا لحاجة، وقال:"صلوا في نعالكم خلافا لليهود" اهـ. قال في الحجة البالغة: إن النبي صلى الله وسلم عليه قد فعل أشياء في الصلاة بيانا للمشروع وقرر على أشياء فذلك وما دونه لا يبطل الصلاة. والحاصل من الاستقراء أن القول اليسير مثل: ألعنك بلعنة الله، ويرحمك الله، ويا ثكل أماه وما شأنكم تنظرون إلي والبطش اليسير مثل: وضع صبية من العاتق ورفعها وغمز الرجل ومثل فتح الباب والمشي اليسير كالنزول من درج المنبر إلى مكان ليتأتى منه السجود في

ص: 109

أصل المنبر والتأخر من موضع الإمام إلى الصف والتقدم إلى الباب المقابل ليفتح والبكاء خوفا من الله تعالى والإشارة المفهمة وقتل الحية والعقرب واللحظ يمينا وشمالا من غير لي العنق لا يفسد، وإن تعلق القذر بجسده أو ثوبه إذا لم يكن بفعله أو كان لا يعلمه لا يفسد. اهـ. قلت: اتفقوا على أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة في العالمكيرية إن حمل صبيا أو ثوبا على عاتقه لم تفسد صلاته وإن حمل شيئا يتكلف في حمله فسدت، وفي المنهاج الكثرة بالعرف فالخطوتان والضربتان قليل والثلاث كثير وتبطل بالوثبة الفاحشة لا الحركات الخفيفة المتوالية كتحريك أصابعه في سبحة أوحك في الأصح في العالمكيرية1 لو فتح على غير إمامه تفسد إلا إذا عنى به التلاوة دون التعليم وإن فتح على إمامه فالصحيح لا تفسد بحال وفي المنهاج لو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم كيا يحيى خذ الكتاب قصد معه قراءة لم تفسد وإلا بطلت كذا في المسوى، وبترك شرط كالوضوء فلأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط. أو ركن لكون ذهابه يوجب خروج الصلاة عن هيئتها المطلوبة عمدا وإذا ترك الركن فما فوقه سهوا فعله وإن كان قد خرج عن الصلاة كما وقع منه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث ذي اليدين فإنه سلم على ركعتين ثم أخبر بذلك فكبر وفعل الركعتين المتروكتين، وأما ترك ما لم يكن شرطا ولا ركنا من الواجبات فلا تبطل به الصلاة لأنه لا يؤثر عدمه في عدمها بل حقيقة الواجب ما يمدح فاعله ويذم تاركه وكونه يذم لا يستلزم أن صلاته باطلة.

والحاصل: أن الشروط للشيء هي التي تثبت بدليل يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط نحو أن يقول الشارع: من لم يفعل كذا فلا صلاة له أو يأتي عن الشارع ما هو تصريح بعدم الصحة أو بعدم القبول أو الأجر أو يثبت عنه النهي عن الإتيان بالمشروط بدون الشرط لأن النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق وأما كون الشيء واجبا فهو يثبت بمجرد طلبه من الشارع ومجرد الطلب لا يستلزم زيادة على كون الشيء واجبا فتدبر هذا تسلم من الخبط والخلط.

فصل "ولا تجب" الصلوات المكتوبة الخمس "على غير مكلف" لأن

1 هي الفتاوى الهندية المعروفة في مذهب أبي حنيفة.

ص: 110