الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انقطاعاً؛ وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض والله تعالى أعلم. وبالجملة: فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات: آخذ به على ظاهره وتارك له رأساً: وفارق بين الشهوة وغيرها ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة الجماع، وأن مس الذكر فعل شنيع ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الاستنجاء فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة، والثالثة ما وُجد فيه شبهة من لفظ الحديث وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم على تركه كالوضوء مما مست النار فإنه ظهر عمل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء وابن عباس وأبي طلحة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم بخلافه وبيّن جابر رضي الله عنه أنه منسوخ. قلت: عامة أهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ وتأول بعضهم على غسل اليد والفم. قال قتادة رضي الله عنه: من غسل فمه فقد توضأ كذا في المسوى.
باب الغسل
وأصله تعميم البدن بالغسل "يجب بخروج المني بشهوة ولو بتفكر" وقد دلت على ذلك الأدلة الصحيحة كأحاديث: "الماء من الماء" وأحاديث: في المني الغسل، وصدق اسم الجنابة على من كان كذلك وقد قال الله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} والاطهار استيعاب جميع البدن فالغسل كذا في المسوى ولا أعلم في ذلك خلافا وإنما وقع الخلاف المشهور بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكذلك بين من بعدهم هل يجب الغسل بالتقاء الختانين من دون خروج مني أم لا يجب إلا بخروج المني؟ والحق الأول لحديث: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج نحوه مسلم وأحمد والترمذي رحمهم الله تعالى وصححه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فهذان الحديثان وما ورد في معناهما ناسخان لما كان في أول الإسلام من أن الغسل إنما يجب بخروج المني، ويدل على ذلك حديث أبي
ابن كعب رضي الله تعالى عنه قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها. وأخرج مسلم رح تعالى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة رضي الله تعالى عنها جالسة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل" وقال في الحجة البالغة: اختلف أهل الرواية هل يُحمل الإكسال أي الجماع من غير إنزال على الجماع الكامل في معنى قضاء الشهوة أعني ما يكون معه الإنزال والذي صح رواية وعليه جمهور الفقهاء هو أن من جهد فقد وجب عليهما الغسل وإن لم ينزل واختلفوا في كيفية الجمع بين هذا الحديث وحديث: "إنما الماء من الماء" فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: للاحتلام، وفيه ما فيه لأنه يأباه سبب ورود الحديث كما أخرجه مسلم، وقال أبي رضي الله تعالى عنه: كانت رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها، وقد روي عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وأبي ابن كعب وأبي أيوب رضي الله تعالى عنهم فيمن جامع امرأته ولم يُمْن قالوا: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا يبعد عندي أن يُحمل ذلك على المباشرة الفاحشة فإنه قد يطلق الجماع عليها. قلت: على هذا أكثر أهل العلم أن غسل الجنابة يجب بأحد الأمرين: إما بإدخال الحشفة في الفرج أو بخروج الماء الدافق من الرجل أو المرأة بالتقاء الختانين وعلى هذا أكثر أهل العلم أن من جامع امرأته فغيّب الحشفة وجب الغسل عليهما وإن لم ينزل والختان موضع القطع من ذكر الغلام ونواة الجارية، "وبانقطاع الحيض والنفاس" ولا خلاف في ذلك، وقد دل عليه نص القرآن ومتواتر السنة وكذلك وقع الإجماع على وجوبه بانقطاع النفاس. وكذلك وقع الإجماع على وجوبه "بالاحتلام" إلا ما يُحكى عن النخعي رح تعالى ولكنه إنما يجب إذا وجد المحتلم بللاً. "مع وجود بلل" كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً فقال: "يغتسل" وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد
البلل فقال: "لا غسل عليه". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه رحمهم الله ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال خفيف، وأخرج نحوه أحمد والنسائي رحمهما الله من حديث خولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنها، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله تعالى من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن أم سليم رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: "نعم إذا رأت الماء" وهذه الأحاديث ترد على من اعتبر أن يحصل للمحتلم شهوة ويتيقن ذلك والمراد من البلل المني فإن رأى بللاً ولم يتيقن أنه مني لم يجب الغسل عند أكثر أهل العلم. قال في الحجة: أراد الحكم على البلل دون الرؤيا لأن الرؤيا تكون تارة حديث نفس ولا تأثير له وتارة تكون قضاء شهوة ولا تكون بغير بلل فلا يصلح لإدارة الحكم إلا البلل، وأيضا فإن البلل شيء ظاهر يصلح للانضباط. وأما الرؤيا فإنها كثيراً ما تنسى انتهى. "وبالموت" المراد وجوب ذلك على الأحياء إذ لا وجوب بعد الموت من الواجبات المتعلقة بالبدن أي يجب على الأحياء أن يغسلوا من مات وقد حكى المهدي في البحر والنووى رح الإجماع على وجوب غسل الميت وناقش في ذلك بعض المتأخرين مناقشة واهية وسيأتي الكلام على غسل الميت وصفته وتفاصيله إن شاء الله تعالى وفي الحجة وأما غسل الميت فلأن الرشاش ينتشر في البدن وجلست عند محتضر فرأيت أن الملائكة الموكلة بالقبض لها نكاية عجيبة في المحتضرين ففهمت أنه لا بد من تغيير الحالة لتنبه النفس لمخالفها، "وبالإسلام" وجهه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن حبان وابن خزيمة رحمهم الله عن قيس بن عاصم رض: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر، وصححه ابن السكن رح وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان رحمهم الله من حديث أبي هريرة رض: أن ثمامة رضي الله تعالى عنه أسلم فقال النبي صلى الله وسلم عليه: " اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل" وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال بل فيهما أنه اغتسل. قال في الحجة: قال لآخر: ألق عنك شعر الكفر وسره أن يتمثل عنده الخروج من شيء أصرح ما يكون والله تعالى أعلم انتهى. وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه رحمهم الله وذهب
الشافعي رح إلى عدم الوجوب والحق الأول، ويؤيده ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالغسل عند الإسلام لواثلة بن الأسقع وقتادة الرهاوي رض كما أخرجه الطبراني رح وأمره أيضا لعقيل بن أبي طالب رض كما أخرجه الحاكم رح في تاريخ نيسابور وفي أسانيدها مقال.
فصل "والغسل الواجب هو أن يُفيض الماء على جميع بدنه أو ينغمس فيه" أقول: الغسل شرعاً ولغة هو ما ذُكر وقد وقع النزاع في دخول الدلك في مسمى الغسل ولكنه لا يخفى أن مجرد بل الثوب أو البدن من دون دلك لا يسمى غسلاً كما يفهم ذلك من الاستعمالات العربية وكما يفيد ذلك ما تقدم في بول الصبي أنه صلى الله عليه وسلم أتبعه الماء ولم يغسله وهو في صحيح مسلم رح وغيره، مع المضمضة والاستنشاق فقد ثبتا في الغسل من فعله صلى الله عليه وسلم ووجه الوجوب ما قدمناه في الوضوء وفيهما وفي السواك إزالة المخاط والبَخر "والدلك لما يمكن دلكه ولا يكون شرعيا إلا بالنية لرفع موجبه" لما قدمناه في الوضوء، "ونُدب" لا أنه وجب لأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقدم، "تقديم غسل أعضاء الوضوء إلا القدمين" لما قد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يفيض على سائر جسده ثم يغسل رجليه، وهو من حديث عائشة رض وورد في الصحيحين وغيرهما من حديث ميمونة رض بلفظ: أنه صلى الله عليه وسلم أفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثاً ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتوضأ بعد غسل كما أخرجه أحمد وأهل السنن رح وقال الترمذي رح: حسن صحيح، وأخرجه البيهقي رح أيضا بأسانيد جيدة وقد روى ابن أبي شيبة رح عن ابن عمر رض مرفوعاً وموقوفاً أنه قال لما سئل عن الوضوء بعد الغسل: وأي وضوء أعم من الغسل، وروي عن حذيفة رض أنه قال:"أما يكفي أحدكم أن يغتسل من قرنه إلى قدمه حتى يتوضأ".
وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم حتى قال أبو بكر ابن العربي: إنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وهكذا نقل الإجماع ابن بطال رح، وتُعقِّب بأنه قد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما رحمهم الله إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء، وأما كون تقديم أعضاء الوضوء غير واجب فلأنه يصدق الغسل ويوجد مسماه بالإفاضة على جميع البدن من غير تقديم. "ثم التيامن" لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً عموما وخصوصا فمن العموم ما ثبت في الصحيح أنه صلى الله وسلم عليه كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. ومن الخصوص ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه بدأ بشق رأيه الأيمن ثم الأيسر في الغسل، وقد ثبت من قوله ما يفيد ذلك ولا خلاف في استحباب التيامن.
فصل "ويُشرع" أي الغسل "لصلاة الجمعة" لحديث: "إذا جاء أحد كم الجمعة فليغتسل" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رض وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول ورواه عن نافع رح نحو ثلاثمائة نفس، ورواه من الصحابة غير ابن عمر رض نحو أربعة وعشرين صحابياً، وقد ذهب إلى وجوبه جماعة. قال النووي رح: حُكي وجوبه عن طائفة من السلف رحمهم الله حكوه عن بعض الصحابة رض وبه قال أهل الظاهر وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار رض ومالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري وحكاه ابن حزم عن جمع من الصحابة رض ومن بعدهم، وذهب الجمهور إلى أنه مستحب واستدلوا بحديث أبي هريرة رض عند مسلم بلفظ:"من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام1" وبحديث سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله وسلم عليه قال: "من توضأ للجمعة فبها ونِعمت ومن اغتسل فذلك أفضل" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي رحمهم الله وفيه مقال مشهور وهو عدم سماع الحسن رح من سمرة رح وغير ذلك من
1 قال ابن حجر في الفتح: ليس فيه نفي الغسل وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ: "من اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء انتهى.
الأحاديث قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب ولكنه إذا كان ما ذكروه صالحاً لصرف الأمر فهو لا يصلح مثل قوله صلى الله وسلم عليه: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رض، وقد استوفى الماتن رح الكلام على حكم غسل الجمعة في نيل الأوطار فليرجع إليه ولا يخفى أن تقييد الغسل بالمجيء للجمعة يدل على أنه للصلاة لا لليوم. "وللعيدين" فقد روي من فعله صلى الله وسلم عليه من حديث الفاكه بن سعد رض: أنه صلى الله وسلم عليه كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر. أخرجه أحمد وابن ماجه والبزار والبغوي رح. وأخرج نحوه ابن ماجه رح من حديث ابن عباس رض وأخرجه البزار رح من حديث أبي رافع رض وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضها بعضاً ويقوي ذلك آثار عن الصحابة رض جيدة. أقول: قد روي في ذلك أحاديث لم يصح منها شيء ولا بلغ شيء منها إلى رتبة الحسن لذاته ولا لغيره وأما اعتبار كون المغتسل يصلي صلاة العيد بذلك الغسل أي من دون أن يتخلل بين الغسل وبين الصلاة شيء من الأحداث فلا أحفظ فيه حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا قول صحابي وهو أحسن الاقتصار على ما ثبت وإراحة العباد مما لم يثبت. "ولمن غسل ميتاً" وجهه ما أخرجه أحمد وأهل السنن رح من حديث أبي هريرة رض مرفوعاً: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". وقد روي من طرق وأعل بالوقف وبأن في إسناده صالحاً مولى التوأمة رح ولكنه قد حسنه الترمذي رح وصححه ابن القطان رح وابن حزم، وقد روي من غير طريق قال الحافظ ابن حجر رح: هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا فإنكار النووي رح على الترمذي رح تحسينه معترض وقال الذهبي رح: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء رح وذكر الماوردي رح أن بعض أصحاب الحديث رح خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقا وقد روي نحوه عن علي رض عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن شيبة وأبي يعلى والبزار والبيهقي رح وعن حذيفة رض عند البيهقي رح قال ابن أبي حاتم والدارقطني رح: لا يثبت. وعن عائشة رض من فعله صلى الله وسلم عليه عند أحمد وأبي داود رح، وقد ذهب إلى الوجوب علي وأبو هريرة رض والإمامية، وذهب الجمهور إلى أنه مستحب