المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الخاتمة في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في الصحابة رضوان الله عليهم وفي قتال معاوية وعلي وفي حقية خلافة معاوية بعد نزول الحسن له عن الخلافة وفي بيان اختلافهم في كفر ولده يزيد وفي جواز لعنه وفي توابع وتتمات تتعلق بذلك - الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة - جـ ٢

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌الْفَصْل الأول فِي إِسْلَامه وهجرته وَغَيرهمَا

- ‌الْفَصْل الثَّانِي فِي فضائله رضي الله عنه وكرم الله وَجهه

- ‌الْفَصْل الثَّالِث فِي ثَنَاء الصَّحَابَة وَالسَّلَف عَلَيْهِ

- ‌الْفَصْل الرَّابِع فِي نبذ من كَلِمَاته وقضاياه الدَّالَّة على علو قدره علما وَحِكْمَة وزهدا وَمَعْرِفَة بِاللَّه تَعَالَى

- ‌الْفَصْل الْخَامِس فِي وَفَاته رضي الله عنه

- ‌الْفَصْل الأول فِي خِلَافَته

- ‌الْفَصْل الثَّانِي فِي فضائله رضي الله عنه

- ‌الْفَصْل الثَّالِث فِي بعض مآثره

- ‌الْفَصْل الأول فِي الْآيَات الْوَارِدَة فيهم

- ‌الْمَقْصد الأول فِي تَفْسِيرهَا

- ‌الْمَقْصد الثَّانِي فِيمَا تضمنته تِلْكَ الْآيَة من طلب محبَّة آله صلى الله عليه وسلم وَأَن ذَلِك من كَمَال الْإِيمَان

- ‌الْمَقْصد الثَّالِث فِيمَا أشارت إِلَيْهِ من التحذير من بغضهم

- ‌الْمَقْصد الرَّابِع مِمَّا أشارت إِلَيْهِ الْآيَة الْحَث على صلتهم وَإِدْخَال السرُور عَلَيْهِم

- ‌الْمَقْصد الْخَامِس مِمَّا أشارت إِلَيْهِ الْآيَة من توقيرهم وتعظيمهم وَالثنَاء عَلَيْهِم

- ‌خَاتِمَة فِيمَا أخبر بِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا حصل على آله وَمِمَّا أصَاب مسيئهم من الانتقام الشَّديد

- ‌الْفَصْل الثَّانِي فِي سرد أَحَادِيث وَارِدَة فِي أهل الْبَيْت وَمر أَكثر هَذَا فِي الْفَصْل الأول وَلَكِن قصدت سردها فِي هَذَا الْفَصْل ليَكُون ذَلِك أسْرع لاستحضارها

- ‌الْفَصْل الثَّالِث فِي الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي بعض أهل الْبَيْت كفاطمة وولديها رضي الله عنهم

- ‌الخاتمة فِي بَيَان اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَفِي قتال مُعَاوِيَة وَعلي وَفِي حقية خلَافَة مُعَاوِيَة بعد نزُول الْحسن لَهُ عَن الْخلَافَة وَفِي بَيَان اخْتلَافهمْ فِي كفر وَلَده يزِيد وَفِي جَوَاز لَعنه وَفِي تَوَابِع وتتمات تتَعَلَّق بذلك

- ‌تَتِمَّة فِي أَبْوَاب منتقاة من كتاب لِلْحَافِظِ السخاوي

- ‌تَتِمَّة

- ‌تَتِمَّة فِي أَبْوَاب منتاة من كتاب لِلْحَافِظِ السخاوي

- ‌بَاب مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة عَلَيْهِم تبعا للصَّلَاة على مشرفهم صلى الله عليه وسلم

- ‌بَاب بشارتهم الْجنَّة

- ‌بَاب الْأمان ببقائهم

- ‌بَاب النحذير من بغضهم وسبهم

- ‌خَاتِمَة فِي أُمُور مهمة

- ‌بَاب فِي التَّخْيِير وَالْخلاف

الفصل: ‌الخاتمة في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في الصحابة رضوان الله عليهم وفي قتال معاوية وعلي وفي حقية خلافة معاوية بعد نزول الحسن له عن الخلافة وفي بيان اختلافهم في كفر ولده يزيد وفي جواز لعنه وفي توابع وتتمات تتعلق بذلك

‌الخاتمة فِي بَيَان اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فِي الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَفِي قتال مُعَاوِيَة وَعلي وَفِي حقية خلَافَة مُعَاوِيَة بعد نزُول الْحسن لَهُ عَن الْخلَافَة وَفِي بَيَان اخْتلَافهمْ فِي كفر وَلَده يزِيد وَفِي جَوَاز لَعنه وَفِي تَوَابِع وتتمات تتَعَلَّق بذلك

وَإِنَّمَا افتحت هَذَا الْكتاب بالصحابة وختمته بهم إِشَارَة إِلَى أَن الْمَقْصُود بِالذَّاتِ من تأليفه تبرئتهم عَن جَمِيع مَا افتراه عَلَيْهِم أَو على بَعضهم من غلبت عَلَيْهِم الشقاوة وتردوا بأردية الحماقة والغباوة ومرقوا من الدّين وَاتبعُوا سَبِيل الْمُلْحِدِينَ وركبوا متن عمياء وخبطوا خبط عشواء فباؤا من الله بعظيم النكال ووقعوا فِي أهوية الوبال والضلال مَا لم يدراكهم الله بِالتَّوْبَةِ وَالرَّحْمَة فيعظموا خير الْأُمَم وَهَذِه الْأمة أماتنا الله على محبتهم وحشرنا فِي زمرتهم آمين

اعْلَم أَن الَّذِي أجمع عَلَيْهِ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَنه يجب على كل أحد تَزْكِيَة جَمِيع الصَّحَابَة بِإِثْبَات الْعَدَالَة لَهُم والكف عَن الطعْن فيهم وَالثنَاء عيلهم فقد أثنى الله سبحانه وتعالى عَلَيْهِم فِي آيَات من كِتَابه

ص: 603

مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} آل عمرَان 110 فَأثْبت الله لَهُم الْخَيْرِيَّة على سَائِر الْأُمَم وَلَا شَيْء يعادل شَهَادَة الله لَهُم بذلك لِأَنَّهُ تَعَالَى أعلم بعباده وَمَا انطووا عَلَيْهِ من الْخيرَات وَغَيرهَا بل لَا يعلم ذَلِك غَيره تَعَالَى فَإِذا شهد تَعَالَى فيهم بِأَنَّهُم خير الْأُمَم وَجب على كل أحد اعْتِقَاد ذَلِك وَالْإِيمَان بِهِ وَإِلَّا كَانَ مُكَذبا لله فِي إخْبَاره وَلَا شكّ أَن من ارتاب فِي حقية شَيْء مِمَّا أخبر الله أَو رَسُوله بِهِ كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاع الْمُسلمين

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} الْبَقَرَة 143 وَالصَّحَابَة فِي هَذِه الْآيَة وَالَّتِي قبلهَا هم المشافهون بِهَذَا الْخطاب على لِسَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَقِيقَة فَانْظُر إِلَى كَونه تَعَالَى خلقهمْ عُدُولًا وخيارا ليكونوا شُهَدَاء على بَقِيَّة الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة وَحِينَئِذٍ فَكيف يستشهد الله تَعَالَى بِغَيْر عدُول أَو بِمن ارْتَدُّوا بعد وَفَاة نَبِيّهم إِلَّا نَحْو سِتَّة أنفس مِنْهُم كَمَا زعمته الرافضة قبحهم الله ولعنهم وخذلهم مَا أحمقهم وأجهلهم وأشهدهم بالزور والافتراء والبهتان

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم يسْعَى يبن أَيْديهم وبأيمانهم التَّحْرِيم 8 فآمنهم الله من خزيه وَلَا يَأْمَن من خزيه فِي ذَلِك الْيَوْم إِلَّا الَّذين مَاتُوا وَالله سُبْحَانَهُ وَرَسُوله عَنْهُم رَاض فَأَمنَهُمْ من الخزي صَرِيح فِي مَوْتهمْ على كَمَال الْإِيمَان وحقائق الْإِحْسَان وَفِي أَن الله لم يزل رَاضِيا

ص: 604

عَنْهُم وَكَذَلِكَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} الْفَتْح 18 فَصرحَ تَعَالَى بِرِضَاهُ عَن أُولَئِكَ وهم ألف وَنَحْو أَرْبَعمِائَة وَمن رضي الله عنه تَعَالَى لَا يُمكن مَوته على الْكفْر لِأَن الْعبْرَة بالوفاة على الْإِسْلَام فَلَا يَقع الرِّضَا مِنْهُ تَعَالَى إِلَّا على من علم مَوته على الْإِسْلَام وَأما من علم مَوته على الْكفْر فَلَا يُمكن أَن يخبر الله تَعَالَى بِأَنَّهُ رَضِي عَنهُ فَعلم أَن كلا من هَذِه الآياة وَمَا قبلهَا صَرِيح فِي رد مَا زَعمه وافتراه أُولَئِكَ الْمُلْحِدُونَ الجاحدون حَتَّى لِلْقُرْآنِ الْعَزِيز إِذْ يلْزم من الْإِيمَان بِهِ الْإِيمَان بِمَا فِيهِ وَقد علمت أَن الَّذِي فِيهِ أَنهم خير الْأُمَم وَأَنَّهُمْ عدُول أخيار وَأَن الله لَا يخزيهم وَأَنه رَاض عَنْهُم فَمن لم يصدق بذلك فيهم فَهُوَ مكذب لما فيالقرآن وَمن كذب بِمَا فِيهِ مِمَّا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل كَانَ كَافِرًا جاحدا ملحدا مارقا

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار ولذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ التَّوْبَة 100 وَقَوله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} الْأَنْفَال 64 وَقَوله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون} وَالَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا

ص: 605

تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم} - 10 الحشد

فَتَأمل مَا وَصفهم الله بِهِ من هَذِه الْآيَة تعلم بِهِ ضلال من طعن فيهم من شذوذ المبتدعة وَرَمَاهُمْ بِمَا هم بريئون مِنْهُ

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الْكفَّار وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} الْفَتْح 29 فَانْظُر إِلَى عَظِيم مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة فَإِن قَوْله تَعَالَى {مُحَمَّد رَسُول الله} جملَة مبينَة للْمَشْهُود بِهِ فِي قَوْله {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق} إِلَى قَوْله {شَهِيدا} الْفَتْح 28 فَفِيهَا ثَنَاء عَظِيم على رَسُوله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ثنى بالثناء على أَصْحَابه بقوله {وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم} الْمَائِدَة 54 فوصفهم الله تَعَالَى بالشدة والغلظة على الْكفَّار وبالرحمة وَالْبر والعطف على الْمُؤمنِينَ والذلة والخضوع لَهُم ثمَّ أثنى عَلَيْهِم بِكَثْرَة الْأَعْمَال مَعَ الْإِخْلَاص التَّام وسعة الرَّجَاء فِي فضل الله وَرَحمته بابتغائهم فَضله ورضوانه وَبِأَن آثَار ذلكالإخلاص وَغَيره من أَعْمَالهم الصَّالِحَة ظَهرت على وُجُوههم حَتَّى إِن من نظر إِلَيْهِم بهره حسن سمتهم وهديهم وَمن ثمَّ قَالَ مَالك

ص: 606

رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بَلغنِي أَن النَّصَارَى كَانُوا إِذا رَأَوْا الصَّحَابَة الَّذين فتحُوا الشَّام قَالُوا وَالله لهَؤُلَاء خير من الحواريين فِيمَا بلغنَا

وَقد صدقُوا فِي ذَلِك فَإِن هَذِه الْأمة المحمدية خُصُوصا الصَّحَابَة لم يزل ذكرهم مُعظما فِي الْكتب كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة {ذَلِك مثلهم} أَي وَصفهم فِي التَّوْرَاة وَمثلهمْ أَي وَصفهم يَفِ الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه أَي فِرَاخه فآزره أَي شده وَقواهُ فاستغلظ أَي شب فطال فَكَذَلِك أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم مَعَه كالشطء مَعَ الزَّرْع ليغيظ بهم الْكفَّار

وَمن هَذِه الْآيَة أَخذ الإِمَام مَالك فِي رِوَايَة عَنهُ بِكفْر الروافض الَّذين يبغضون الصَّحَابَة قَالَ لِأَن الصَّحَابَة يغيظونهم وَمن غاظه الصَّحَابَة فَهُوَ كَافِر

وَهُوَ مَأْخَذ حسن يشْهد لَهُ ظَاهر الْآيَة وَمن ثمَّ وَافقه الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله بكفرهم وَوَافَقَهُ أَيْضا جمَاعه من الْأَئِمَّة

وَالْأَحَادِيث فِي فضل الصَّحَابَة كَثِيرَة وَقد قدمنَا معظمها فِي أول هَذَا الْكتاب ويكفيهم شرفا أَي شرف ثَنَاء الله عَلَيْهِم فِي تِلْكَ الْآيَات كَمَا ذَكرْنَاهُ وَفِي غَيرهَا وَرضَاهُ عَنْهُم وَأَنه تَعَالَى وعدهم جَمِيعهم لَا بَعضهم إِذْ من فِي مِنْهُم لبَيَان الْجِنْس لَا للتَّبْعِيض مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما ووعد الله صدق وَحقّ لَا يتَخَلَّف وَلَا يخلف لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم

فَعلم أَن جَمِيع مَا قدمْنَاهُ من الْآيَات هُنَا وَمن الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة الشهيرة فِي

ص: 607

الْمُقدمَة يَقْتَضِي الْقطع بتعديلهم وَلَا يحْتَاج أحد مِنْهُم مَعَ تَعْدِيل الله لَهُ إِلَى تَعْدِيل أحد من الْخلق على أَنه لَو لم يرد من الله وَرَسُوله فيهم شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ لأوجبت الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا من الْهِجْرَة وَالْجهَاد ونصرة الْإِسْلَام ببذل المهج وَالْأَمْوَال وَقتل الْآبَاء وَالْأَوْلَاد والمناصحة فِي الدّين وَقُوَّة الْإِيمَان وَالْيَقِين الْقطع بتعديلهم والاعتقاد بنزاهتهم هَذَا مَذْهَب كَافَّة الْعلمَاء وَمن يعْتَمد قَوْله وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا شذوذ من المبتدعة الَّذين ضلوا وأضلوا فَلَا يلْتَفت إِلَيْهِم وَلَا يعول عَلَيْهِم وَقد قَالَ إِمَام عصره أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ من أجل شُيُوخ مُسلم إِذا رَأَيْت الرجل ينتقص أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَاعْلَم أَنه زنديق وَذَلِكَ أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حق وَالْقُرْآن حق وَمَا جَاءَ بِهِ حق وَإِنَّمَا أدّى إِلَيْنَا ذَلِك كُله الصَّحَابَة فَمن جرحهم إِنَّمَا أَرَادَ إبِْطَال الْكتاب وَالسّنة فَيكون الْجرْح بِهِ ألصق وَالْحكم عَلَيْهِ بالزندقة والضلالة وَالْكذب وَالْفساد هُوَ الأقوم الأحق

وَقَالَ ابْن حزم الصَّحَابَة كلهم من أهل الْجنَّة قطعا قَالَ تَعَالَى لَا

ص: 608

يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى) الْحَدِيد 10

وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} الْأَنْبِيَاء 101 فَثَبت أَن جَمِيعهم من أهل الْجنَّة وَأَنه لَا يدْخل أحد مِنْهُم النَّار لأَنهم المخاطبون بِالْآيَةِ الأولى الَّتِي أثبت لكل مِنْهُم الْحسنى وَهِي الْجنَّة وَلَا يتَوَهَّم أَن التَّقْيِيد بِالْإِنْفَاقِ أَو الْقِتَال فِيهَا وبالإحسان فِي الَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان يخرج من لم يَتَّصِف بذلك مِنْهُم لِأَن تِلْكَ الْقُيُود خرجت مخرج الْغَالِب فَلَا مَفْهُوم لَهَا على أَن المُرَاد من اتّصف بذلك وَلَو بِالْقُوَّةِ أَو الْعَزْم وَزعم الْمَاوَرْدِيّ اخْتِصَاص الحكم بِالْعَدَالَةِ بِمن لَازمه وَنَصره دون من اجْتمع بِهِ يَوْمًا أَو لغَرَض غير مُوَافق عَلَيْهِ بل اعْتَرَضَهُ جمَاعَة من الْفُضَلَاء قَالَ شيخ الْإِسْلَام العلائي هُوَ قَول غَرِيب يخرج كثيرا من الْمَشْهُورين بالصحبة وَالرِّوَايَة عَن الحكم بِالْعَدَالَةِ كوائل بن حجر وَمَالك بن الْحُوَيْرِث وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَغَيرهم مِمَّن وَفد عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَلم يقم عِنْده إِلَّا قَلِيلا وَانْصَرف وَالْقَوْل بالتعميم هُوَ الَّذِي صرح بِهِ الْجُمْهُور وَهُوَ الْمُعْتَبر

انْتهى

وَمِمَّا رد بِهِ عَلَيْهِ أَن تَعْظِيم الصَّحَابَة وَإِن قل اجْتِمَاعهم بِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مقررا عِنْد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَغَيرهم وَقد صَحَّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن رجلا من أهل الْبَادِيَة تنَاول مُعَاوِيَة فِي حَضرته وَكَانَ مُتكئا فَجَلَسَ ثمَّ ذكر أَنه وَأَبا بكر ورجلا

ص: 609

يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى) الْحَدِيد 10 من أهل الْبَادِيَة نزلُوا على أَبْيَات فيهم امْرَأَة حَامِل فَقَالَ البدوي لَهَا أُبَشِّرك أَن تلدي غُلَاما

قَالَت نعم

قَالَ إِن أَعْطَيْتنِي شَاة ولدت غُلَاما فَأَعْطَتْهُ فَسمع لَهَا اسجاعا ثمَّ عمد إِلَى الشَّاة فذبحها وطبخها وَجَلَسْنَا نَأْكُل مِنْهَا ومعنا أَبُو بكر فَلَمَّا علم الْقِصَّة قَامَ فتقيأ كل شَيْء أكل قَالَ ثمَّ رَأَيْت ذَلِك البدوي قد أُتِي بِهِ عمر وَقد هجا الْأَنْصَار فَقَالَ لَهُم عمر لَوْلَا أَن لَهُ صُحْبَة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أَدْرِي مَا قَالَ فِيهَا لكفيتكموه

انْتهى

فَانْظُر توقف عمر عَن مُعَاتَبَته فضلا عَن معاقبته لكَونه علم أَنه لَقِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم تعلم أَن فِيهِ أبين شَاهد على أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن شَأْن الصُّحْبَة لَا يعدله شَيْء كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من قَوْله صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه)

وتواتر عَنهُ صلى الله عليه وسلم قَوْله (خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ)

وَصَحَّ أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِن الله اخْتَار أَصْحَابِي على الثقلَيْن سوى النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ) وَفِي رِوَايَة

ص: 610

(أَنْتُم موفون سبعين أمة أَنْتُم خَيرهَا وَأَكْرمهَا على الله عز وجل

وَاعْلَم أَنه وَقع خلاف فِي التَّفْضِيل بَين الصَّحَابَة وَمن جَاءَ بعدهمْ من صالحي هَذِه الْأمة فَذهب أَبُو عمر بن عبد الْبر إِلَى أَنه يُوجد فِيمَن يَأْتِي بعد الصَّحَابَة من هُوَ أفضل من بعض الصَّحَابَة وَاحْتج على ذَلِك بِخَبَر (طُوبَى لمن رَآنِي وآمن بِي مرّة وطوبى لمن لم يرني وآمن بِي سبع مَرَّات)

وبخبر عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كنت جَالِسا عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (أَتَدْرُونَ أَي الْخلق أفضل إِيمَانًا) قُلْنَا الْمَلَائِكَة

قَالَ (وَحقّ لَهُم بل غَيرهم) قُلْنَا الْأَنْبِيَاء قَالَ وَحقّ لَهُم بل غَيرهم ثمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم (أفضل الْخلق إِيمَانًا قوم فِي أصلاب الرِّجَال يُؤمنُونَ بِي وَلم يروني فهم أفضل الْخلق إِيمَانًا)

وَبِحَدِيث (مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدرى آخِره خير أم أَوله)

ص: 611

وبخبر (ليدركن الْمَسِيح أَقْوَامًا إِنَّهُم لمثلكم أَو خير ثَلَاثًا وَلنْ يخزي الله أمة أَنا أَولهَا والمسيح آخرهَا)

وبخير (يَأْتِي أَيَّام لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أجر خمسين)

قيل مِنْهُم أَو منا يَا رَسُول الله قَالَ (بل مِنْكُم) وَبِمَا روى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز لما ولي الْخلَافَة كتب إِلَى سَالم بن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَن أكتب لي بسيرة عمر فَأَنت أفضل من عمر لِأَن زَمَانك لَيْسَ كزمان عمر وَلَا رجالك كرجال عمر وَكتب إِلَى فُقَهَاء زَمَانه فكلهم كتب بِمثل قَول سَالم

قَالَ أَبُو عمر فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تَقْتَضِي مَعَ تَوَاتر طرقها وحسنها التَّسْوِيَة بَين أول هَذِه الْأمة وَآخِرهَا فِي فضل الْعَمَل إِلَّا أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة قَالَ وَخبر (خير النَّاس قَرْني) لَيْسَ على عُمُومه لِأَنَّهُ جمع الْمُنَافِقين وَأهل الْكَبَائِر الَّذين قَامَ عَلَيْهِم وعَلى بَعضهم الْحُدُود انْتهى

ص: 612

والْحَدِيث الأول لَا شَاهد فِيهِ للأفضلية وَالثَّانِي ضَعِيف فَلَا يحْتَج بِهِ لَكِن صحّح الْحَاكِم وَحسن غَيره خبر يَا رَسُول الله هَل أحد خير منا أسلمنَا مَعَك وجاهدنا مَعَك قَالَ (قوم يكونُونَ من بعدكم يُؤمنُونَ بِي وَلم يروني)

وَالْجَوَاب عَنهُ وَعَن الحَدِيث الثَّالِث فَإِنَّهُ حَدِيث حسن لَهُ طرق قد يرتقي بهَا إِلَى دَرَجَة الصِّحَّة وَعَن الحَدِيث الرَّابِع فَإِنَّهُ حسن أَيْضا وَعَن الحَدِيث الْخَامِس الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ أَن الْمَفْضُول قد يكون فِيهِ مزية لَا تُوجد فِي الْفَاضِل

وَأَيْضًا مُجَرّد زِيَادَة الْأجر لَا تَسْتَلْزِم الْأَفْضَلِيَّة الْمُطلقَة

وَأَيْضًا الْخَيْرِيَّة بَينهمَا إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَار مَا يُمكن أَن يجتمعا فِيهِ وَهُوَ عُمُوم الطَّاعَات الْمُشْتَركَة بَين سَائِر الْمُؤمنِينَ فَلَا يبعد حِينَئِذٍ تَفْضِيل بعض من ياتي على بعض الصَّحَابَة فِي ذَلِك

وَأما مَا اخْتصَّ بِهِ الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وفازوا بِهِ من مُشَاهدَة طلعته صلى الله عليه وسلم ورؤية ذَاته المشرفة المكرمة فَأمر من وَرَاء الْعقل إِذْ لَا يسع أحد أَن يَأْتِي من الْأَعْمَال وَإِن جلت بِمَا يُقَارب ذَلِك فضلا عَن أَن يماثله وَمن ثمَّ سُئِلَ عبد الله ابْن الْمُبَارك وناهيك بِهِ جلالة وعلما أَيّمَا أفضل مُعَاوِيَة أَو عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ الْغُبَار الَّذِي دخل أنف فرس مُعَاوِيَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر ابْن عبد الْعَزِيز كَذَا وَكَذَا مرّة

أَشَارَ بذلك إِلَى أَن فَضِيلَة صحبته صلى الله عليه وسلم ورؤيته لَا

ص: 613

يعدلها شَيْء وَبِذَلِك علم الْجَواب عَن اسْتِدْلَال أبي عمر بقضية عمر بن عبد الْعَزِيز وَأَن قَول أهل زَمَنه لَهُ أَنْت أفضل من عمر

إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لما تَسَاويا فِيهِ إِن تصور من الْعدْل فِي الرّعية وَأما من حَيْثُ الصُّحْبَة وَمَا فَازَ بِهِ عمر من حقائق الْقرب ومزايا الْفضل وَالْعلم وَالدّين الَّتِي شهد لَهُ بهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأنى لِابْنِ عبد الْعَزِيز وَغَيره وَأَن يلحقوه فِي ذرة من ذَلِك

فَالصَّوَاب مَا قَالَه جُمْهُور الْعلمَاء سلفا وخلفا لما يَأْتِي وَعلم من قَول أبي عمر إِلَّا أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة

أَن الْكَلَام فِي غير أكَابِر الصَّحَابَة مِمَّن لم يفز إِلَّا بِمُجَرَّد رُؤْيَته صلى الله عليه وسلم وَقد ظهر أَنه فَازَ بِمَا لم يفز بِهِ من بعده وَأَن من بعده لَو عمل ماعساه أَن يعْمل لَا يُمكنهُ أَن يحصل مَا يقرب من هَذِه الخصوصية فضلا عَن أَن يساويها هَذَا فِيمَن لم يفز إِلَّا بذلك فَمَا بالك بِمن ضم إِلَيْهَا أَنه قَاتل مَعَه صلى الله عليه وسلم أَو فِي زَمَنه بأَمْره أَو نقل شَيْئا من الشَّرِيعَة إِلَى من بعده أَو أنْفق شَيْئا من مَاله بِسَبَبِهِ فَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِي أَن أحدا من الجائين بعده لَا يُدْرِكهُ وَمن ثمَّ قَالَ تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} الْحَدِيد 10

وَمِمَّا يشْهد لما عَلَيْهِ الْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف من أَنهم خير خلق الله وأفضلهم بعد النَّبِيين وخواص الْمَلَائِكَة والمقربين مَا قَدمته من فَضَائِل الصَّحَابَة ومآثرهم أول الْكتاب وَهُوَ كثير فَرَاجعه وَمِنْه حَدِيث الصَّحِيحَيْنِ (لَا تسبوا

ص: 614

أَصْحَابِي فَلَو أَن أحدا أنْفق مثل أحد مَا بلغ مثل أمد أحدهم وَلَا نصيفه) وَفِي رِوَايَة لَهما (فَإِن أحدكُم) بكاف الْخطاب وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ (لَو أنْفق أحدكُم)

الحَدِيث والنصيف بِفَتْح النُّون لُغَة فِي النّصْف

وروى الدَّارمِيّ وَابْن عدي وَغَيرهمَا أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ)

وَمن ذَلِك أَيْضا الْخَبَر الْمُتَّفق على صِحَّته (خير الْقُرُون أَو النَّاس أَو أمتِي قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ)

والقرن أهل زمن وَاحِد مُتَقَارب اشْتَركُوا فِي وصف مَقْصُود وَيُطلق على زمن مَخْصُوص وَقد اخْتلفُوا فِيهِ من عشرَة أَعْوَام إِلَى مائَة وَعشْرين إِلَّا السّبْعين والمئة وَعشرَة فَلم يحفظ قَائِل بهما وَمَا عداهما قَالَ بِهِ قَائِل وَأَعْدل الْأَقْوَال قَول صَاحب الْمُحكم هُوَ الْقدر الْمُتَوَسّط من أَعمار أهل كل زمن وَالْمرَاد بقرنه صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الحَدِيث الصَّحَابَة وَآخر من مَاتَ مِنْهُم على الْإِطْلَاق بِلَا خلاف أَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة

ص: 615

اللَّيْثِيّ كَمَا جزم بِهِ مُسلم فِي صَحِيحه وَكَانَ مَوته سنة مائَة على الصَّحِيح وَقيل سنة سبع وَمِائَة وَقيل سنة عشر وَمِائَة

وَصَححهُ الذَّهَبِيّ لمطابقته للْحَدِيث الصَّحِيح وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم قبل وَفَاته بِشَهْر (على رَأس مائَة سنة لَا يبْقى على وَجه الأَرْض مِمَّن هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْم أحد) وَفِي رِوَايَة مُسلم (أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه فَإِنَّهُ لَيْسَ من نفس منفوسة يَأْتِي عَلَيْهَا مائَة سنة) فَأَرَادَ بذلك انخرام الْقرن بعد مائَة سنة من حِين مقَالَته

وَالْقَوْل بِأَن عكراش بن ذُؤَيْب عَاشَ بعد وقْعَة الْجمل مائَة سنة غير صَحِيح وعَلى التنزل فَمَعْنَاه استكملها بعد ذَلِك لَا أَنه بَقِي بعْدهَا مائَة سنة كَمَا قَالَ الْأَئِمَّة وَمَا قَالَه

ص: 616

جمَاعَة فِي رتن الْهِنْدِيّ وَمعمر المغربي وَنَحْوهمَا فقد بَالغ الْأَئِمَّة سِيمَا الذَّهَبِيّ فِي تزييفه وبطلانه قَالَ الْأَئِمَّة وَلَا يروج ذَلِك على من لَهُ أدني مسكة من الْعقل وَمر أَن أَفضَلِيَّة قرنه صلى الله عليه وسلم على من يَلِيهِ وهم التابعون بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَجْمُوع لَا إِلَى كل فَرد خلافًا لِابْنِ عبد الْبر وَكَذَا يُقَال فِي التَّابِعين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وتابعيهم

ثمَّ الصَّحَابَة أَصْنَاف مهاجرون وأنصار وحلفاء وهم من أسلم يَوْم الْفَتْح أَو بعده فأفضلهم إِجْمَالا الْمُهَاجِرُونَ فَمن بعدهمْ على التَّرْتِيب الْمَذْكُور وَأما تَفْصِيلًا فسباق الْأَنْصَار أفضل من جمَاعَة من متأخري الْمُهَاجِرين وسباق الْمُهَاجِرين أفضل من سباق الْأَنْصَار ثمَّ هم بعد ذَلِك يتفاوتون فَرب مُتَأَخّر إسلاما كعمر أفضل من مُتَقَدم كبلال

وَقَالَ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ من أكَابِر أَئِمَّتنَا أجمع أهل السّنة أَن أفضل

ص: 617

الصَّحَابَة أَبُو بكر فعمر فعثمان فعلي فبقية الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ فَأهل بدر فباقي أهل أحد فباقي أهل بيعَة الرضْوَان بِالْحُدَيْبِية فباقي الصَّحَابَة

انْتهى

وَمر اعْتِرَاض حكايته الْإِجْمَاع بَين عَليّ وَعُثْمَان إِلَّا إِن أَرَادَ بِالْإِجْمَاع فيهمَا إِجْمَاع أَكثر أهل السّنة فَيصح مَا قَالَه حِينَئِذٍ هَذَا وَقد أخرج الْأنْصَارِيّ عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (يَا أَبَا بكر لَيْت أَنِّي لقِيت إخْوَانِي)

فَقَالَ أَبُو بكر يَا رَسُول الله نَحن إخوانك قَالَ (أَنْتُم أَصْحَابِي إخْوَانِي الَّذين لم يروني وَصَدقُوا بِي وأحبوني حَتَّى إِنِّي لأحب إِلَى أحدهم من وَلَده ووالده)

قَالُوا يَا رَسُول الله نَحن إخوانك

قَالَ (أَنْتُم أَصْحَابِي أَلا تحب يَا ابا بكر قوما أحبوك بحبي إياك فأحبهم مَا أحبوك بحبي إياك)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (من أحب الله أحب الْقُرْآن وَمن أحب الْقُرْآن أَحبَّنِي وَمن أَحبَّنِي أحب أَصْحَابِي وَقَرَابَتِي)

رَوَاهُ الديلمي

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (يَا أَيهَا النَّاس احْفَظُونِي فِي أختاني وأصهاري وأصحابي

ص: 618

لَا يطالبنكم الله بمظلمة أحد مِنْهُم فَإِنَّهَا لَيست مِمَّا يُوهب)

رَوَاهُ الخلعي

قَالَ صلى الله عليه وسلم (الله الله فِي أَصْحَابِي لَا تتخذوهم غَرضا بعدِي من أحبهم فقد أَحبَّنِي وَمن أبْغضهُم فقد أبغضني وَمن آذاهم فقد آذَانِي وَمن آذَانِي فقد آذَى الله وَمن آذَى الله يُوشك أَن يَأْخُذهُ)

وَرَوَاهُ المخلص الذَّهَبِيّ

فَهَذَا الحَدِيث وَمَا قبله خرج مخرج الْوَصِيَّة بِأَصْحَابِهِ على طَرِيق التَّأْكِيد وَالتَّرْغِيب فِي حبهم والترهيب عَن بغضهم وَفِيه أَيْضا إِشَارَة إِلَى أَن حبهم إِيمَان وبغضهم كفر لِأَن بغضهم إِذا كَانَ بغضا لَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ كفرا بِلَا نزاع لخَبر (لن يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من نَفسه)

وَهَذَا يدل على

ص: 619

كَمَال قربهم مِنْهُ من حَيْثُ أنزلهم منزلَة نَفسه حَتَّى كَأَن أذاهم وَاقع عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيه أَيْضا أَن محبَّة من أحبه النَّبِي صلى الله عليه وسلم كآله وَأَصْحَابه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم عَلامَة على محبَّة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا أَن محبته صلى الله عليه وسلم عَلامَة على محبَّة الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ عَدَاوَة من عاداهم وبغض من أبْغضهُم وسبهم عَلامَة على بغض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعدواته وسبه وبغضه صلى الله عليه وسلم وعداوته وسبه عَلامَة على بغض الله تَعَالَى وعداوته وسبه فَمن أحب شَيْئا أحب من يحب وَأبْغض من يبغض قَالَ الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} المجادلة 22 فحب أُولَئِكَ أَعنِي آله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وذرياته وَأَصْحَابه من الْوَاجِبَات المتعينات وبغضهم من الموبقات المهلكات وَمن محبتهم توقيرهم وبرهم وَالْقِيَام بحقوقهم والاقتداء بهم بِالْمَشْيِ على سنتهمْ وآدابهم وأخلاقهم وَالْعَمَل بأقوالهم مِمَّا لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مجَال ومزيد الثَّنَاء عَلَيْهِم وَحسنه بِأَن يذكرُوا بأوصافهم الجميلة على قصد التَّعْظِيم فقد أثنى الله عَلَيْهِم فِي آيَات كَثِيرَة من كِتَابه الْمجِيد وَمن أثنى الله عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِب الثَّنَاء وَمِنْه الاسْتِغْفَار لَهُم

قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أمروا بِأَن يَسْتَغْفِرُوا لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فسبوهم

رَوَاهُ مُسلم وَغَيره على أَن فَائِدَة المستغفر عَائِد أَكْثَرهَا إِلَيْهِ

ص: 620

إِذْ يحصل بذلك مزِيد الثَّوَاب

قَالَ سهل بن عبد الله التسترِي

وناهيك بِهِ علما وزهدا وَمَعْرِفَة وجلالة لم يُؤمن برَسُول الله صلى الله عليه وسلم من لم يوقر أَصْحَابه

وَمِمَّا يُوجب أَيْضا الْإِمْسَاك عَمَّا شجر أَي وَقع بَينهم من الِاخْتِلَاف والإضراب صفحا عَن أَخْبَار المؤرخين سِيمَا جهلة الروافض وضلال الشِّيعَة والمبتدعين القادحين فِي أحد مِنْهُم فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِذا ذكر أَصْحَابِي فأمسكوا)

وَالْوَاجِب أَيْضا على كل من سمع شَيْئا من ذَلِك أَن يثبت فِيهِ وَلَا ينْسبهُ إِلَى أحدهم بِمُجَرَّد رُؤْيَته فِي كتاب أَو سَمَاعه من شخص بل لَا بُد أَن يبْحَث عَنهُ حَتَّى يَصح عِنْده نسبته إِلَى أحدهم فَحِينَئِذٍ الْوَاجِب أَن يلْتَمس لَهُم أحسن التأويلات وأصوب المخارج إِذْ هم أهل لذَلِك كَمَا هُوَ مَشْهُور فِي مناقبهم ومعدود من مآثرهم مِمَّا يطول إِيرَاده وَقد مر لذَلِك مِنْهُ جملَة فِي بَعضهم

وَمَا وَقع بَينهم من المنازعات والمحاربات فَلهُ محامل وتأويلات وَأما سبهم والطعن فيهم فَإِن خَالف دَلِيلا قَطْعِيا كقذف عَائِشَة رضي الله عنها أَو إِنْكَار صُحْبَة

ص: 621

أَبِيهَا كَانَ كفرا وَإِن كَانَ بِخِلَاف ذَلِك كَانَ بِدعَة وفسقا

وَمن اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن مَا جرى بَين مُعَاوِيَة وَعلي رضي الله عنهما من الحروب فَلم يكن لمنازعة مُعَاوِيَة لعَلي فِي الْخلَافَة للْإِجْمَاع على حقيتها لعَلي كَمَا مر فَلم تهج الْفِتْنَة بِسَبَبِهَا وَإِنَّمَا هَاجَتْ بِسَبَب أَن مُعَاوِيَة وَمن مَعَه طلبُوا من عَليّ تَسْلِيم قتلة عُثْمَان إِلَيْهِم لكَون مُعَاوِيَة ابْن عَمه فَامْتنعَ عَليّ ظنا مِنْهُ أَن تسليمهم إِلَيْهِم على الْفَوْر مَعَ كَثْرَة عَشَائِرهمْ واختلاطهم بعسكر عَليّ يُؤَدِّي إِلَى اضْطِرَاب وتزلزل فِي أَمر الْخلَافَة الَّتِي بهَا انتظام كلمة أهل الْإِسْلَام سِيمَا وَهِي فِي ابتدائها لم يستحكم الْأَمر فِيهَا فَرَأى عَليّ رضي الله عنه أَن تَأْخِير تسليمهم أصوب إِلَى أَن يرسخ قدمه فِي الْخلَافَة ويتحقق التَّمَكُّن من الْأُمُور فِيهَا على وَجههَا وَيتم لَهُ انتظام شملها واتفاق كلمة الْمُسلمين ثمَّ بعد ذَلِك يلتقطهم وَاحِدًا فواحدا ويسلمهم إِلَيْهِم وَيدل لذَلِك أَن بعض قتلته عزم على الْخُرُوج على عَليّ ومقاتلته لما نَادَى يَوْم الْجمل بِأَن يخرج عَنهُ قتلة عُثْمَان وَأَيْضًا فَالَّذِينَ تمالؤا على قتل عُثْمَان كَانُوا جموعا كَثِيرَة كَمَا علم مِمَّا قَدمته فِي قصَّة محاصرتهم لَهُ إِلَى أَن قَتله بَعضهم جمع من أهل مصر قيل سَبْعمِائة وَقيل ألف وَقيل خَمْسمِائَة وَجمع من الْكُوفَة وَجمع من الْكُوفَة وَجمع من الْبَصْرَة وَغَيرهم قدمُوا كلهم الْمَدِينَة وَجرى مِنْهُم مَا جرى بل ورد أَنهم هم وعشائرهم نَحْو من عشرَة آلَاف فَهَذَا هُوَ الْحَامِل لعَلي رضي الله عنه على الْكَفّ عَن تسليمهم لتعذره كَمَا عرفت وَيحْتَمل أَن عليا رضي الله عنه رأى أَن قتلة عُثْمَان بغاة حملهمْ على قَتله

ص: 622

تَأْوِيل فَاسد استحلوا بِهِ دَمه رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لإنكارهم عَلَيْهِ أمورا كجعله مَرْوَان ابْن عَمه كَاتبا لَهُ ورده إِلَى الْمَدِينَة بعد أَن طرده النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وتقديمه أَقَاربه فِي ولَايَة الْأَعْمَال وَقَضِيَّة مُحَمَّد بن أبي بكر رضي الله عنهما السَّابِقَة فِي مَبْحَث خلَافَة عُثْمَان مفصلة ظنُّوا أَنَّهَا مبيحة لما فَعَلُوهُ جهلا مِنْهُم وَخطأ والباغي إِذا انْقَادَ إِلَى الإِمَام الْعدْل لَا يُؤَاخذ بِمَا أتْلفه فِي حَال الْحَرْب عَن تَأْوِيل دَمًا كَانَ أَو مَالا كَمَا هُوَ الْمُرَجح من قَول الشَّافِعِي رضي الله عنه وَبِه قَالَ جمَاعَة آخَرُونَ من الْعلمَاء وَهَذَا الِاحْتِمَال وَإِن أمكن لَكِن مَا قبله أولى بالاعتماد مِنْهُ فَإِن الَّذِي ذهب إِلَيْهِ كَثِيرُونَ من الْعلمَاء أَن قتلة عُثْمَان لم يَكُونُوا بغاة وَإِنَّمَا كَانُوا ظلمَة وعتاة لعدم الِاعْتِدَاد بشبههم وَلِأَنَّهُم أصروا على الْبَاطِل بعد كشف الشُّبْهَة وإيضاح الْحق لَهُم وَلَيْسَ كل من انتحل شُبْهَة يصير بهَا مُجْتَهدا لِأَن الشُّبْهَة تعرض للقاصر عَن دَرَجَة الِاجْتِهَاد وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا هُوَ الْمُقَرّر فِي مَذْهَب الشَّافِعِي رضي الله عنه من أَن من لَهُم شَوْكَة دون تَأْوِيل لَا يضمنُون مَا أتلفوه فِي حَال الْقِتَال كالبغاة لِأَن قتل السَّيِّد عُثْمَان رضي الله عنه لم يكن فِي قتال فَإِنَّهُ لم يُقَاتل بل نهى عَن الْقِتَال حَتَّى إِن أَبَا هُرَيْرَة رضي الله عنه لما أَرَادَهُ قَالَ لَهُ عُثْمَان عزمت عَلَيْك يَا أَبَا هُرَيْرَة إِلَّا رميت بسيفك إِنَّمَا ترَاد نَفسِي وسأقي الْمُسلمين بنفسي كَمَا أخرجه ابْن عبد الْبر عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة

وَمن اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَيْضا أَن مُعَاوِيَة رضي الله عنه لم يكن فِي أَيَّام عَليّ خَليفَة وَإِنَّمَا كَانَ من الْمُلُوك وَغَايَة اجْتِهَاده أَنه كَانَ لَهُ أجر وَاحِد على

ص: 623

اجْتِهَاده وَأما عَليّ رضي الله عنه فَكَانَ لَهُ أَجْرَانِ أجر على اجْتِهَاده وَأجر على إِصَابَته بل عشرَة أجور لحَدِيث (إِذا اجْتهد الْمُجْتَهد فَأصَاب فَلهُ عشرَة أجور) وَاخْتلفُوا فِي إِمَامَة مُعَاوِيَة بعد موت عَليّ رضي الله عنهما فَقيل صَار إِمَامًا وَخَلِيفَة لِأَن الْبيعَة قد تمت لَهُ وَقيل لم يصر إِمَامًا لحَدِيث أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ (الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تصير ملكا)

وَقد انْقَضتْ الثَّلَاثُونَ بوفاة عَليّ وَأَنت خَبِير بِمَا قَدمته أَن الثَّلَاثِينَ لم تتمّ بِمَوْت عَليّ وَبَيَانه أَنه توفّي فِي رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ من الْهِجْرَة

وَالْأَكْثَرُونَ على أَن وَفَاته سَابِع عشر ووفاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَانِي عشر ربيع الأول فبينهما دون الثَّلَاثِينَ بِنَحْوِ سِتَّة أشهر وتمت الثَّلَاثِينَ بِمدَّة خلَافَة الْحسن بن عَليّ رضي الله عنهما فَإِذا تقرر ذَلِك فَالَّذِي يَنْبَغِي كَمَا قَالَه غير وَاحِد من الْمُحَقِّقين أَن يحمل قَول من قَالَ بإمامة مُعَاوِيَة عِنْد وَفَاة عَليّ على مَا تقرر من وَفَاته بِنَحْوِ نصف سنة لما سلم لَهُ الْحسن الْخلَافَة والمانعون لإمامته يَقُولُونَ لَا يعْتد بِتَسْلِيم الْحسن الْأَمر إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُسلمهُ إِلَيْهِ إِلَّا للضَّرُورَة لعلمه بِأَنَّهُ أَعنِي مُعَاوِيَة لَا يسلم الْأَمر لِلْحسنِ وَأَنه قَاصد لِلْقِتَالِ والسفك إِن لم يسلم الْحسن الْأَمر إِلَيْهِ فَلم يتْرك الْأَمر إِلَيْهِ إِلَّا صونا لدماء الْمُسلمين وَلَك رد مَا وَجه بِهِ هَؤُلَاءِ مَا ذكر بِأَن الْحسن كَانَ هُوَ الإِمَام الْحق والخليفة الصدْق وَكَانَ مَعَه من الْعدة وَالْعدَد مَا يُقَاوم من مَعَ مُعَاوِيَة فَلم يكن نُزُوله عَن الْخلَافَة وتسليمه الْأَمر لمعاوية اضطراريا بل كَانَ اختياريا كَمَا

ص: 624

يدل عَلَيْهِ مَا مر فِي قصَّة نُزُوله من أَنه اشْترط عَلَيْهِ شُرُوطًا كَثِيرَة فالتزمها ووفى لَهُ بهَا وَأَيْضًا فقد مر عَن صَحِيح البُخَارِيّ أَن مُعَاوِيَة هُوَ السَّائِل لِلْحسنِ فِي الصُّلْح وَمِمَّا يدل على مَا ذكرته حَدِيث البُخَارِيّ السَّابِق عَن أبي بكرَة قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَر وَالْحسن بن عَليّ إِلَى جنبه وَهُوَ يقبل على النَّاس مرّة وَعَلِيهِ أُخْرَى وَيَقُول (إِن ابْني هَذَا سيد وَلَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين)

فَانْظُر إِلَى ترجيه صلى الله عليه وسلم الْإِصْلَاح بِهِ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَا يترجى إِلَّا الْأَمر الْحق الْمُوَافق للْوَاقِع بترجيه الْإِصْلَاح من الْحسن يدل على صِحَة نُزُوله لمعاوية عَن الْخلَافَة وَإِلَّا لَو كَانَ الْحسن بَاقِيا على خِلَافَته بعد نُزُوله عَنْهَا لم يَقع ينزوله إصْلَاح وَلم يحمد الْحسن على ذَلِك وَلم يترج صلى الله عليه وسلم مُجَرّد النُّزُول من غير أَن يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَائِدَته الشَّرْعِيَّة وَوُجُوب طَاعَته على الكافة وَهِي اسْتِقْلَال المنزول لَهُ بِالْأَمر وَصِحَّة خِلَافَته ونفاذ تصرفه وَوُجُوب طَاعَته على الكافة وقيامه بِأُمُور الْمُسلمين فَكَانَ ترجيه صلى الله عليه وسلم لوُقُوع الْإِصْلَاح بَين أُولَئِكَ الفئتين العظيمتين من الْمُسلمين بالْحسنِ فِيهِ دلَالَة أَي دلَالَة على صِحَة مَا فعله الْحسن وعَلى أَنه مُخْتَار فِيهِ وعَلى أَن تِلْكَ الْفَوَائِد الشَّرْعِيَّة وَهِي صِحَة خلَافَة مُعَاوِيَة وقيامه بِأُمُور الْمُسلمين وتصرفه فِيهَا بِسَائِر مَا تَقْتَضِيه الْخلَافَة مترتبة على ذَلِك الصُّلْح فَالْحق ثُبُوت الْخلَافَة لمعاوية من حِينَئِذٍ وَأَنه بعد ذَلِك خَليفَة حق وَإِمَام صدق كَيفَ وَقد أخرج التِّرْمِذِيّ وَحسنه عَن

ص: 625

عبد الرَّحْمَن بن أبي عميرَة الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لمعاوية (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هاديا مهديا)

وَأخرج أَحْمد فِي مُسْنده عَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول (اللَّهُمَّ علم مُعَاوِيَة الْكتاب والحساب وقه الْعَذَاب)

وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن عبد الْملك ابْن عُمَيْر قَالَ قَالَ مُعَاوِيَة مَا زلت أطمع فِي الْخلَافَة مُنْذُ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (يَا مُعَاوِيَة إِذا ملكت فَأحْسن)

فَتَأمل دُعَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي الحَدِيث الأول بِأَن الله يَجعله هاديا مهديا والْحَدِيث حسن كَمَا علمت فَهُوَ مِمَّا يحْتَج بِهِ على فضل مُعَاوِيَة وَأَنه لَا ذمّ يلْحقهُ بِتِلْكَ الحروب لما علمت أَنَّهَا كَانَت مَبْنِيَّة على اجْتِهَاد وَأَنه لم يكن لَهُ إِلَّا أجر وَاحِد لِأَن الْمُجْتَهد إِذا أَخطَأ لَا ملام عَلَيْهِ وَلَا ذمّ يلْحقهُ بِسَبَب ذَلِك لِأَنَّهُ مَعْذُور وَلذَا كتب لَهُ أجر

وَمِمَّا يدل لفضله أَيْضا الدُّعَاء فِي الحَدِيث الثَّانِي بِأَن يعلم ذَلِك ويوقى

ص: 626

الْعَذَاب وَلَا شكّ أَن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب فَعلمنَا مِنْهُ أَنه لَا عِقَاب على مُعَاوِيَة فِيمَا فعل من تِلْكَ الحروب بل لَهُ الْأجر كَمَا تقرر

وَقد سمى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فئته الْمُسلمين وساواهم بفئة الْحسن فِي وصف الْإِسْلَام فَدلَّ على بَقَاء حُرْمَة الْإِسْلَام لِلْفَرِيقَيْنِ وَأَنَّهُمْ لم يخرجُوا بِتِلْكَ الحروب عَن الْإِسْلَام وَأَنَّهُمْ فِيهِ على حد سَوَاء فَلَا فسق وَلَا نقص يلْحق أَحدهمَا لما قَرَّرْنَاهُ من أَن كلا مِنْهُمَا متأول تَأْوِيلا غير قَطْعِيّ الْبطلَان وَفِئَة مُعَاوِيَة وَإِن كَانَت هِيَ الباغية لكنه بغي لَا فسق بِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صدر عَن تَأْوِيل يعْذر بِهِ أَصْحَابه

وَتَأمل أَنه صلى الله عليه وسلم أخبر مُعَاوِيَة بِأَنَّهُ يملك وَأمره بِالْإِحْسَانِ تَجِد فِي الحَدِيث إِشَارَة إِلَى صِحَة خِلَافَته وَأَنَّهَا حق بعد تَمامهَا لَهُ بنزول الْحسن لَهُ عَنْهَا فَإِن أمره بِالْإِحْسَانِ الْمُتَرَتب على الْملك يدل على حقية ملكه وخلافته وَصِحَّة تصرفه ونفوذ أَفعاله من حَيْثُ صِحَة الْخلَافَة لَهُ من حَيْثُ التغلب لِأَن المتغلب فَاسق معاقب لَا يسْتَحق أَن يبشر وَلَا يُؤمر بِالْإِحْسَانِ فِيمَا تغلب عَلَيْهِ بل إِنَّمَا يسْتَحق الزّجر والمقت والإعلام بقبيح أَفعاله وَفَسَاد أَحْوَاله

فَلَو كَانَ مُعَاوِيَة متغلبا لأشار لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِك أَو صرح لَهُ بِهِ فَلَمَّا لم يشر لَهُ فضلا عَن أَن يُصَرح إِلَّا بِمَا يدل على حقية مَا هُوَ عَلَيْهِ علمنَا أَنه بعد نزُول الْحسن لَهُ خَليفَة حق وَإِمَام صدق

ص: 627

وَيُشِير إِلَى ذَلِك كَلَام الإِمَام أَحْمد فقد أخرج الْبَيْهَقِيّ وَابْن عَسَاكِر عَن إِبْرَاهِيم بن سُوَيْد الأرمني قَالَ قلت لِأَحْمَد ابْن حَنْبَل من الْخُلَفَاء قَالَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي

قلت فمعاوية قَالَ لم يكن أحد أَحَق بالخلافة فِي زمَان عَليّ من عَليّ

فأفهم كَلَامه أَن مُعَاوِيَة بعد زمَان عَليّ أَي وَبعد نزُول الْحسن لَهُ أَحَق النَّاس بالخلافة

وَأما مَا أخرجه ابْن ابي شيبَة فِي المُصَنّف عَن سعيد بن جمْهَان قَالَ قلت لسفينة إِن بني أُميَّة يَزْعمُونَ أَن الْخلَافَة فيهم

فَقَالَ كذب بَنو الزَّرْقَاء بل هم مُلُوك من أشر الْمُلُوك وَأول الْمُلُوك مُعَاوِيَة

فَلَا يتَوَهَّم مِنْهُ أَن لَا خلَافَة لمعاوية لِأَن مَعْنَاهُ أَن خِلَافَته وَإِن كَانَت صَحِيحَة إِلَّا أَنه غلب عَلَيْهَا مشابهة الْملك لِأَنَّهَا خرجت عَن سنَن خلَافَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فِي كثير من الْأُمُور فَهِيَ حقة وصحيحة من حِين نزُول الْحسن لَهُ واجتماع النَّاس أهل الْحل وَالْعقد عَلَيْهِ وَتلك من حَيْثُ إِنَّه وَقع فِيهَا أُمُور ناشئة عَن اجتهادات غير مُطَابقَة للْوَاقِع لَا يَأْثَم بهَا الْمُجْتَهد لَكِنَّهَا تُؤخر عَن دَرَجَات ذَوي الاجتهادات الصَّحِيحَة الْمُطَابقَة للْوَاقِع وهم الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَالْحسن رضي الله عنهم فَمن أطلق على ولَايَة مُعَاوِيَة أَنَّهَا ملك أَرَادَ من حَيْثُ مَا وَقع فِي خلالها من تِلْكَ الاجتهادات الَّتِي ذَكرنَاهَا وَمن أطلق عَلَيْهَا أَنَّهَا خلَافَة أَرَادَ انه بنزول الْحسن لَهُ واجتماع أهل

ص: 628

الْحل وَالْعقد عَلَيْهِ صَار خَليفَة حق مُطَاعًا يجب لَهُ من حَيْثُ الطواعية والانقياد مَا يجب للخلفاء الرَّاشِدين قبله

وَلَا يُقَال بنظير ذَلِك فِيمَن بعده لِأَن أُولَئِكَ لَيْسُوا من أهل الِاجْتِهَاد بل مِنْهُم عصاة فسقة وَلَا يعدون من جملَة الْخُلَفَاء بِوَجْه بل من جملَة الْمُلُوك بل من أشرهم إِلَّا عمر بن عبد الْعَزِيز فَإِنَّهُ مُلْحق بالخلفاء الرَّاشِدين وَكَذَلِكَ ابْن الزبير

وَأما مَا يستبيحه بعض المبتدعة من سبه ولعنه فَلهُ فِيهِ اسوة أَي أُسْوَة بالشيخين وَعُثْمَان وَأكْثر الصَّحَابَة فَلَا يلْتَفت لذَلِك وَلَا يعول عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لم يصدر إِلَّا عَن قوم حمقى جهلاء أغبياء طغام لَا يُبَالِي الله بهم فِي أَي وَاد هَلَكُوا فلعنهم الله وخذلهم أقبح اللَّعْنَة والخذلان وَأقَام على رؤوسهم من سيوف أهل السّنة وحججهم المؤيدة بأوضح الدَّلَائِل والبرهان مَا يقمعهم عَن الْخَوْض فِي تنقيص أُولَئِكَ الْأَئِمَّة الْأَعْيَان وَلَقَد اسْتعْمل مُعَاوِيَة عمر وَعُثْمَان رضي الله عنهم وَكَفاهُ ذَلِك شرفا وَذَلِكَ أَن أَبَا بكر رضي الله عنه لما بعث الجيوش إِلَى الشَّام سَار مُعَاوِيَة مَعَ أَخِيه يزِيد بن أبي سُفْيَان فَلَمَّا مَاتَ أَخُوهُ يزِيد اسْتَخْلَفَهُ على دمشق فأقره ثمَّ أقره عمر ثمَّ عُثْمَان وَجمع لَهُ الشَّام كُله فَأَقَامَ أَمِيرا عشْرين سنة وَخَلِيفَة عشْرين سنة

قَالَ كَعْب الْأَحْبَار لم يملك أحد هَذِه الْأمة مَا ملك مُعَاوِيَة

ص: 629

قَالَ الذَّهَبِيّ توفّي كَعْب قبل أَن يسْتَخْلف مُعَاوِيَة وَصدق كَعْب فِيمَا نَقله فَإِن مُعَاوِيَة بَقِي خَليفَة عشْرين سنة لَا ينازعه أحد الْأَمر فِي الأَرْض بِخِلَاف غَيره مِمَّن بعده فَإِنَّهُ كَانَ لَهُم مُخَالف وَخرج عَن أَمرهم بعض الممالك

انْتهى

وَفِي إِخْبَار كَعْب بذلك قبل اسْتِخْلَاف مُعَاوِيَة دَلِيل على أَن خِلَافَته مَنْصُوص عَلَيْهَا فِي بعض كتب الله الْمنزلَة فَإِن كَعْبًا كَانَ حبرها فَلهُ من الِاطِّلَاع عَلَيْهَا والإحاطة بأحكامها مَا فاق سَائِر أَحْبَار أهل الْكتاب وَفِي هَذَا من التقوية لشرف مُعَاوِيَة وحقية خِلَافَته بعد نزُول الْحسن لَهُ مَا لَا يخفى وَكَانَ نُزُوله لَهُ عَنْهَا واستقراره فِيهَا من ربيع الآخر أوجمادى الأولى سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين فَسُمي هَذَا الْعَام عَام الْجَمَاعَة لِاجْتِمَاع الْأمة فِيهِ على خَليفَة وَاحِد

وَاعْلَم أَن اهل السّنة اخْتلفُوا فِي تَكْفِير يزِيد بن مُعَاوِيَة وَولي عَهده من بعده فَقَالَت طَائِفَة إِنَّه كَافِر لقَوْل سبط ابْن الْجَوْزِيّ وَغَيره الْمَشْهُور أَنه لماجاء رَأس الْحُسَيْن رضي الله عنه جمع أهل الشَّام وَجعل ينكت رَأسه بالخيزران وينشد ابيات ابْن الزِّبَعْرَى

ص: 630

(لَيْت أشياخي ببدر شهدُوا

) الأبيات الْمَعْرُوفَة وَزَاد فِيهَا بَيْتَيْنِ مشتملين على صَرِيح الْكفْر

وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِيمَا حَكَاهُ سبطه عَنهُ لَيْسَ الْعجب من قتال ابْن زِيَاد للحسين وَإِنَّمَا الْعجب من خذلان يزِيد وضربه بالقضيب ثنايا الْحُسَيْن وَحمله آل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَبَايَا على أقتاب الْجمال

وَذكر أَشْيَاء من قَبِيح مَا اشْتهر عَنهُ ورده الرَّأْس إِلَى الْمَدِينَة وَقد تَغَيَّرت رِيحه ثمَّ قَالَ وَمَا كَانَ مَقْصُوده إِلَّا الفضيحة وَإِظْهَار الرَّأْس أفيجوز أَن يفعل هَذَا بالخوارج لَيْسَ بِإِجْمَاع الْمُسلمين أَن الْخَوَارِج والبغاة يكفنون وَيصلى عَلَيْهِم ويدفنون وَلَو لم يكن فِي قلبه أحقاد جَاهِلِيَّة وأضغان بدرية لاحترم الرَّأْس لما وصل إِلَيْهِ وكفنه وَدَفنه وَأحسن إِلَى آل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

انْتهى

ص: 631

وَقَالَت طَائِفَة لَيْسَ بِكَافِر فَإِن الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للكفر لم يثبت عندنَا مِنْهَا شَيْء وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ على إِسْلَامه حَتَّى يعلم مَا يُخرجهُ عَنهُ وَمَا سبق أَنه الْمَشْهُور يُعَارضهُ مَا حُكيَ أَن يزِيد لما وصل إِلَيْهِ رَأس الْحُسَيْن قَالَ رَحِمك الله يَا حُسَيْن لقد قَتلك رجل لم يعرف حق الْأَرْحَام

وتنكر لِابْنِ زِيَاد وَقَالَ قد زرع لي الْعَدَاوَة فِي قلب الْبر والفاجر ورد نسَاء الْحُسَيْن وَمن بَقِي من بنيه مَعَ رَأسه إِلَى الْمَدِينَة ليدفن الرَّأْس بهَا وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لم يثبت مُوجب وَاحِدَة من المقالتين وَالْأَصْل أَنه مُسلم فنأخذ بذلك الأَصْل حَتَّى يثبت عندنَا مَا يُوجب الْإِخْرَاج عَنهُ وَمن ثمَّ قَالَ جمَاعَة من الْمُحَقِّقين إِن الطَّرِيقَة الثَّابِتَة القويمة فِي شَأْنه التَّوَقُّف فِيهِ وتفويض أمره إِلَى الله سبحانه وتعالى لِأَنَّهُ الْعَالم بالخفيات والمطلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر فَلَا نتعرض لتكفيره أصلا لِأَن هَذَا هُوَ الأحرى والأسلم

وعَلى القَوْل بِأَنَّهُ مُسلم فَهُوَ فَاسق شرير سكير جَائِر كَمَا أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أَبُو يعلى فِي مُسْنده بِسَنَد لكنه ضَعِيف عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَا يزَال أَمر أمتِي قَائِما بِالْقِسْطِ حَتَّى يكون أول من يثلمه رجل من بني أُميَّة يُقَال لَهُ يزِيد) وَأخرج الرَّوْيَانِيّ فِي

ص: 632

مُسْنده عَن أبي ذَر قَالَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول (أول من يُبدل سنتي رجل من بني أُميَّة يُقَال لَهُ يزِيد)

وَفِي هذَيْن الْحَدِيثين دَلِيل أَي دَلِيل لما قَدمته أَن مُعَاوِيَة كَانَت خِلَافَته لَيست كخلافة من بعده من بني أُميَّة فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أخبر أَن أول من يثلم أَمر أمته ويبدل سنته يزِيد فَافْهَم أَن مُعَاوِيَة لم يثلم وَلم يُبدل وَهُوَ كَذَلِك لما مر أَنه مُجْتَهد وَيُؤَيّد ذَلِك مَا فعله الإِمَام الْمهْدي كَمَا عبر بِهِ ابْن سِيرِين وَغَيره عَن عمر بن عبد الْعَزِيز بِأَن رجلا نَالَ من مُعَاوِيَة بِحَضْرَتِهِ فَضَربهُ ثَلَاثَة أسواط مَعَ ضربه لمن سمى ابْنه يزِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ عشْرين سَوْطًا كَمَا سَيَأْتِي فَتَأمل فرقان مَا بَينهمَا

وَكَانَ مَعَ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه علم من النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمَا مر عَنهُ صلى الله عليه وسلم فِي يزِيد فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من رَأس السِّتين وإمارة الصّبيان

فَاسْتَجَاب الله لَهُ وتوفاه سنة تسع وَخمسين وَكَانَ وَفَاة مُعَاوِيَة وَولَايَة ابْنه سنة سِتِّينَ فَعلم أَبُو هُرَيْرَة بِولَايَة يزِيد فِي هَذِه السّنة فاستعاذ مِنْهَا لما علمه من قَبِيح أَحْوَاله بِوَاسِطَة إِعْلَام الصَّادِق المصدوق صلى الله عليه وسلم بذلك

وَقَالَ نَوْفَل بن أبي الْفُرَات كنت عِنْد عمر بن عبد الْعَزِيز فَذكر رجل يزِيد فَقَالَ قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يزِيد بن مُعَاوِيَة

فَقَالَ تَقول أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأمر بِهِ

ص: 633

فَضرب عشْرين سَوْطًا

ولإسرافه فِي الْمعاصِي خلعه أهل الْمَدِينَة فقد أخرج الْوَاقِدِيّ من طرق أَن عبد الله بن حَنْظَلَة بن الغسيل قَالَ وَالله مَا خرجنَا على يزِيد حَتَّى خفنا أَن نرمي بِالْحِجَارَةِ من السَّمَاء أَن كَانَ رجلا ينْكح أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات وَيشْرب الْخمر ويدع الصَّلَاة

وَقَالَ الذَّهَبِيّ وَلما فعل يزِيد بِأَهْل الْمَدِينَة مَا فعل مَعَ شربه الْخمر وإتيانه الْمُنْكَرَات اشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّاس وَخرج عَلَيْهِ غير وَاحِد وَلم يُبَارك الله فِي عمره

وَأَشَارَ بقوله مَا فعل إِلَى مَا وَقع مِنْهُ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ فَإِنَّهُ بلغه أَن أهل الْمَدِينَة خَرجُوا عَلَيْهِ وخلعوه فَأرْسل لَهُم جَيْشًا عَظِيما وَأمرهمْ بقتالهم فجاؤا إِلَيْهِم وَكَانَت وقْعَة الْحرَّة على بَاب طيبَة وَمَا أَدْرَاك مَا وقْعَة الْحرَّة

ذكرهَا الْحسن مرّة فَقَالَ لله مَا كَاد ينجو مِنْهُم وَاحِد قتل فِيهَا خلق كثير من الصَّحَابَة وَمن غَيرهم فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

وَبعد اتِّفَاقهم على فسقه اخْتلفُوا فِي جَوَاز لَعنه بِخُصُوص اسْمه فَأَجَازَهُ قوم مِنْهُم ابْن الْجَوْزِيّ وَنَقله عَن أَحْمد وَغَيره فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابه الْمُسَمّى بِالرَّدِّ على

ص: 634

المتعصب العنيد الْمَانِع من ذمّ يزِيد سَأَلَني سَائل عَن يزِيد بن مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ يَكْفِي مَا بِهِ فَقَالَ أَيجوزُ لَعنه فَقلت قد أجَازه الْعلمَاء الورعون مِنْهُم أَحْمد ابْن حَنْبَل فَإِنَّهُ ذكر فِي حق يزِيد مَا يزِيد على اللَّعْنَة ثمَّ روى ابْن الْجَوْزِيّ عَن القَاضِي أبي يعلى الْفراء أَنه روى فِي كِتَابه الْمُعْتَمد فِي الْأُصُول بِإِسْنَادِهِ إِلَى صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ قلت لأبي إِن قوما ينسبوننا إِلَى تولي يزِيد

فَقَالَ يَا بني وَهل يتَوَلَّى يزِيد أحد يُؤمن بِاللَّه وَلم لَا يلعن من لَعنه الله فِي كِتَابه فَقلت وَأَيْنَ لعن الله يزِيد فِي كِتَابه فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَهَل عسيتم إِن توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم} أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أَبْصَارهم مُحَمَّد 22 23 فَهَل يكون فَسَاد أعظم من الْقَتْل وَفِي رِوَايَة فَقَالَ يَا بني مَا أَقُول فِي رجل لَعنه الله فِي كِتَابه فَذكره

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وصنف القَاضِي أَبُو يعلى كتابا ذكر فِيهِ بَيَان من يسْتَحق اللَّعْن وَذكر مِنْهُم يزِيد ثمَّ ذكر حَدِيث (من أَخَاف أهل الْمَدِينَة ظلما أخافه الله وَعَلِيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ

وَلَا خلاف أَن يزِيد غزا الْمَدِينَة بِجَيْش وأخاف أَهلهَا

انْتهى

والْحَدِيث الَّذِي

ص: 635

ذكره رَوَاهُ مُسلم

وَوَقع من ذَلِك الْجَيْش من الْقَتْل وَالْفساد الْعَظِيم والسبي وَإِبَاحَة الْمَدِينَة مَا هُوَ مَشْهُور حَتَّى فض نَحْو ثَلَاثمِائَة بكر وَقتل من الصَّحَابَة نَحْو ذَلِك وَمن قراء الْقُرْآن نَحْو سبع مائَة نفس وأبيحت الْمَدِينَة أَيَّامًا وَبَطلَت الْجَمَاعَة من الْمَسْجِد النَّبَوِيّ أَيَّامًا وأخيفت أهل الْمَدِينَة أَيَّامًا فَلم يُمكن أحدا دُخُول مَسْجِدهَا حَتَّى دَخلته الْكلاب والذئاب وبالت على منبره صلى الله عليه وسلم تَصْدِيقًا لما أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَلم يرض أَمِير ذَلِك الْجَيْش إِلَّا بِأَن يبايعوه ليزِيد على أَنهم خول لَهُ إِن شَاءَ بَاعَ وَإِن شَاءَ أعتق فَذكر لَهُ بَعضهم الْبيعَة على كتاب الله وَسنة رَسُوله فَضرب عُنُقه وَذَلِكَ فِي وقْعَة الْحرَّة السَّابِقَة

ثمَّ سَار جَيْشه

ص: 636

هَذَا إِلَى قتال ابْن الزبير فرموا الْكَعْبَة بالمنجنيق وأحرقوها بالنَّار فَأَي شَيْء أعظم من هَذِه القبائح الَّتِي وَقعت فِي زَمَنه ناشئة عَنهُ وَهِي مصداق الحَدِيث السَّابِق (لَا يزَال أَمر أمتِي قَائِما بِالْقِسْطِ حَتَّى يثلمه رجل من بني أُميَّة يُقَال لَهُ يزِيد)

وَقَالَ آخَرُونَ لَا يجوز لَعنه إِذْ لم يثبت عندنَا مَا يَقْتَضِيهِ وَبِه أفتى الْغَزالِيّ وَأطَال فِي الِانْتِصَار لَهُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بقواعد أَئِمَّتنَا وَبِمَا صَرَّحُوا بِهِ من أَنه لَا يجوز أَن يلعن شخص بِخُصُوصِهِ إِلَّا إِن علم مَوته على الْكفْر كَأبي جهل وَأبي لَهب وَأما من لم يعلم فِيهِ ذَلِك فَلَا يجوز لَعنه حَتَّى إِن الْكَافِر الْحَيّ الْمعِين لَا يجوز لَعنه لِأَن اللَّعْن هُوَ الطَّرْد عَن رَحْمَة الله المستلزم لليأس مِنْهَا وَذَلِكَ إِنَّمَا يَلِيق بِمن علم مَوته على الْكفْر وَأما من لم يعلم فِيهِ ذَلِك فَلَا وَإِن كَانَ كَافِرًا فِي الْحَالة الظَّاهِرَة لاحْتِمَال أَن يخْتم لَهُ بِالْحُسْنَى فَيَمُوت على الْإِسْلَام وصرحوا أَيْضا بِأَنَّهُ لَا يجوز لعن فَاسق مُسلم معِين وَإِذا علمت أَنهم صَرَّحُوا بذلك علمت أَنهم مصرحون بِأَنَّهُ لَا يجوز لعن يزِيد وَإِن كَانَ فَاسِقًا خبيثا وَلَو سلمنَا أَنه أَمر بقتل الْحُسَيْن وسر بِهِ لِأَن ذَلِك حَيْثُ لم يكن عَن استحلال أَو كَانَ عَنهُ لَكِن بِتَأْوِيل وَلَو بَاطِلا وَهُوَ فسق لَا كفر على أَن أمره بقتْله وسروره بِهِ لم يثبت صدوره عَنهُ من وَجه صَحِيح

بل كَمَا حُكيَ عَنهُ ذَلِك حُكيَ عَنهُ ضِدّه كَمَا قَدمته

ص: 637

وَأما مَا اسْتدلَّ بِهِ أَحْمد على جَوَاز لَعنه من قَوْله تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذين دلّ لعنهم الله مُحَمَّد 23 وَمَا اسْتدلَّ بِهِ غَيره من قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث مُسلم (وَعَلِيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) فَلَا دلَالَة فيهمَا لجَوَاز لعن يزِيد بِخُصُوص اسْمه وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِيهِ وَإِنَّمَا الَّذِي عَلَيْهِ جَوَاز لَعنه لَا بذلك الْخُصُوص وَهَذَا جَائِز بِلَا نزاع وَمن ثمَّ حُكيَ الِاتِّفَاق على أَنه يجوز لعن من قتل الْحُسَيْن رضي الله عنه أَو أَمر بقتْله أَو أجَازه أَو رَضِي بِهِ من غير تَسْمِيَة ليزِيد كَمَا يجوز لعن شَارِب الْخمر وَنَحْوه من غير تعْيين وَهَذَا هُوَ الَّذِي فِي الْآيَة والْحَدِيث إِذْ لَيْسَ فيهمَا تعرض للعن أحد بِخُصُوص اسْمه بل لمن قطع رَحمَه وَمن أَخَاف أهل الْمَدِينَة فَيجوز اتِّفَاقًا أَن يُقَال لعن الله من قطع رَحمَه وَمن أَخَاف أهل الْمَدِينَة ظلما

وَإِذا جَازَ هَذَا اتِّفَاقًا لكَونه لَيْسَ فِيهِ تَسْمِيَة أحد بِخُصُوصِهِ فَكيف يسْتَدلّ بِهِ أَحْمد وَغَيره على جَوَاز لعن شخص معِين بِخُصُوصِهِ مَعَ وضوح الْفرق بَين المقامين فاتضح أَنه لَا يجوز لَعنه بِخُصُوصِهِ وَأَنه لَا دلَالَة فِي الْآيَة والْحَدِيث للْجُوَاز

ثمَّ رَأَيْت ابْن الصّلاح من أكَابِر أَئِمَّتنَا الْفُقَهَاء والمحدثين قَالَ فِي فَتَاوِيهِ

ص: 638

لما سُئِلَ عَمَّن يلعنه لكَونه أَمر بقتل الْحُسَيْن رضي الله عنه لم يَصح عندنَا أَنه أَمر بقتْله رضي الله عنه وَالْمَحْفُوظ أَن الْآمِر بقتاله المفضي إِلَى قَتله كرمه الله إِنَّمَا هُوَ عبيد الله بن زِيَاد وَالِي الْعرَاق إِذْ ذَاك

وَأما سبّ يزِيد ولعنه فَلَيْسَ ذَلِك من شَأْن الْمُؤمنِينَ وَإِن صَحَّ أَنه قَتله أَو أَمر بقتْله

وَقد ورد فِي الحَدِيث الْمَحْفُوظ أَن (لعن الْمُسلم كقتله) وَقَاتل الْحُسَيْن رضي الله عنه لَا يكفر بذلك وَإِنَّمَا ارْتكب إِثْمًا عَظِيما وَإِنَّمَا يكفر بِالْقَتْلِ قَاتل نَبِي من الْأَنْبِيَاء

وَالنَّاس فِي يزِيد ثَلَاث فرق فرقة تتولاه وتحبه وَفرْقَة تسبه وتلعنه وَفرْقَة متوسطة فِي ذَلِك لَا تتولاه وَلَا تلعنه وتسلك بِهِ مَسْلَك سَائِر مُلُوك الْإِسْلَام وخلفائهم غير الرَّاشِدين فِي ذَلِك وَهَذِه الْفرْقَة هِيَ الْمُصِيبَة ومذهبها هُوَ اللَّائِق بِمن يعرف سير الماضين وَيعلم قَوَاعِد الشَّرِيعَة المطهرة

جعلنَا الله من أخيار أَهلهَا آمين

انْتهى لَفظه بِحُرُوفِهِ وَهُوَ نَص فِيمَا ذكرته

وَفِي الْأَنْوَار منكتب أَئِمَّتنَا الْمُتَأَخِّرين والباغون لَيْسُوا بفسقة وَلَا كفرة وَلَكنهُمْ مخطئون فِيهَا يَفْعَلُونَهُ ويذهبون إِلَيْهِ وَلَا يجوز الطعْن فِي مُعَاوِيَة لِأَنَّهُ من كبار الصَّحَابَة وَلَا يجوز لعن يزِيد وَلَا تكفيره فَإِنَّهُ من جملَة الْمُؤمنِينَ

ص: 639

وَأمره إِلَى مَشِيئَة الله إِن شَاءَ عذبه وَإِن شَاءَ عَفا عَنهُ قَالَه الْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَغَيرهمَا

قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره وَيحرم على الْوَاعِظ وَغَيره رِوَايَة مقتل الْحُسَيْن وحكاياته وَمَا جرى بَين الصَّحَابَة من التشاجر والتخاصم فَإِنَّهُ يهيج على بغض الصَّحَابَة والطعن فيهم وهم أَعْلَام الدّين تلقى الْأَئِمَّة الدّين عَنْهُم رِوَايَة وَنحن تلقيناه من الْأَئِمَّة دراية فالطاعن فيهم مطعون طَاعن فِي نَفسه وَدينه

قَالَ ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ الصَّحَابَة كلهم عدُول وَكَانَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم مائَة ألف وَأَرْبَعَة عشر ألف صَحَابِيّ عِنْد مَوته صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآن وَالْأَخْبَار مصرحان بِعَدَالَتِهِمْ وجلالتهم وَلما جرى بَينهم محامل لَا يحْتَمل ذكرهَا هَذَا الْكتاب

انْتهى مُلَخصا

وَمَا ذكره من حُرْمَة رِوَايَة قتل الْحُسَيْن وَمَا بعْدهَا لَا يُنَافِي ماذكرته فِي هَذَا الْكتاب لِأَن هَذَا الْبَيَان الْحق الَّذِي يجب اعْتِقَاده من جلالة الصَّحَابَة وبراءتهم من كل نقص بِخِلَاف مَا يَفْعَله الوعاظ الجهلة فَإِنَّهُم يأْتونَ بالأخبار الكاذبة الْمَوْضُوعَة وَنَحْوهَا وَلَا يبينون المحامل وَالْحق الَّذِي يجب اعْتِقَاده فيوقعون الْعَامَّة فِي بغض الصَّحَابَة وتنقيصهم بِخِلَاف مَا ذَكرْنَاهُ فَإِنَّهُ لغاية إجلالهم وتنزيههم هَذَا

ص: 640

وَقد بتر عمر يزِيد لسوء مَا فعله واستجابة لدَعْوَة أَبِيه فَإِنَّهُ ليم على عَهده إِلَيْهِ فَخَطب وَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كنت إِنَّمَا عهِدت ليزِيد لما رَأَيْت من فعله فَبَلغهُ مَا أملته وأعنه وَإِن كنت إِنَّمَا حَملَنِي حب الْوَالِد لوَلَده وَأَنه لَيْسَ لما صنعت بِهِ أَهلا فاقبضه قبل أَن يبلغ ذَلِك

فَكَانَ كَذَلِك لِأَن ولَايَته كَانَت سنة سِتِّينَ وَمَات سنة أَربع وَسِتِّينَ لَكِن عَن ولد شَاب صَالح عهد إِلَيْهِ فاستمر مَرِيضا إِلَى أَن مَاتَ وَلم يخرج إِلَى النَّاس وَلَا صلى بهم وَلَا أَدخل نَفسه فِي شَيْء من الْأُمُور وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَقيل شَهْرَيْن وَقيل ثَلَاثَة شهور وَمَات عَن إِحْدَى وَعشْرين سنة وَقيل عشْرين

وَمن صَلَاحه الظَّاهِر أَنه لما ولي الْعَهْد صعد الْمِنْبَر فَقَالَ إِن هَذِه الْخلَافَة حَبل الله وَإِن جدي مُعَاوِيَة نَازع الْأَمر أَهله وَمن هُوَ أَحَق بِهِ مِنْهُ عَليّ بن أبي طَالب وَركب بكم مَا تعلمُونَ حَتَّى أَتَتْهُ منيته فَصَارَ فِي قَبره رهينا بذنوبه ثمَّ قلد أبي الْأَمر وَكَانَ غير أهل لَهُ وَنَازع ابْن بنت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقصف عمره وانبتر عقبه وَصَارَ فِي قَبره رهيبا بذنوبه ثمَّ بَكَى وَقَالَ إِن من أعظم الْأُمُور علينا علمنَا بِسوء مصرعه وبئيس منقلبه وَقد قتل عترة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأباح الْحرم وَخرب الْكَعْبَة وَلم أذق حلاوة الْخلَافَة فَلَا أتقلد مرارتها

ص: 641

فشأنكم أَمركُم وَالله لَئِن كَانَت الدُّنْيَا خيرا فقد نلنا مِنْهَا حظا وَلَئِن كَانَت شرا فَكفى ذُرِّيَّة أبي سُفْيَان مَا أَصَابُوا مِنْهَا ثمَّ تغيب فِي منزله حَتَّى مَاتَ بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا على مَا مر فرحمه الله حَيْثُ أنصف من أَبِيه وَعرف الْأَمر لأَهله كَمَا عرفه عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان الْخَلِيفَة الصَّالح رضي الله عنه فقد مر عَنهُ أَنه ضرب من سمى يزِيد أَمِير الْمُؤمنِينَ عشْرين سَوْطًا ولعظيم صَلَاحه وعدله وَجَمِيل أَحْوَاله ومآثره قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ كَمَا أخرجه عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه الْخُلَفَاء الراشدون خَمْسَة أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَعمر بن عبد الْعَزِيز

وَإِنَّمَا لم يعد الْحسن وَابْن الزبير مَعَ صَلَاحِية كل مِنْهُمَا أَن يكون مِنْهُم بل مر النَّص على أَن الْحسن مِنْهُم لقصر مُدَّة الْحسن وَلِأَن كلا مِنْهُمَا لم يتم لَهُ من نَفاذ الْكَلِمَة واجتماع الْأمة مَا تمّ لعمر بن عبد الْعَزِيز

وَعَن ابْن الْمسيب أَنه قَالَ إِنَّمَا الْخُلَفَاء ثَلَاثَة أَبُو بكر وَعمر وَعمر

فَقَالَ لَهُ حبيب هَذَا أَبُو بكر وَعمر قد عرفناهما فَمن عمر قَالَ إِن عِشْت أَدْرَكته وَإِن مت كَانَ بعْدك

هَذَا مَعَ كَون ابْن الْمسيب مَاتَ قبل خلَافَة عمر وَالظَّاهِر أَنه اطلع على ذَلِك من بعض أخصاء الصَّحَابَة الَّذين أخْبرهُم النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِكَثِير مَا يكون بعده كَأبي هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وَكَذَا يُقَال فِيمَا يَأْتِي عَن عمر من

ص: 642

التبشير بعمر

وَورد من طرق أَن الذئاب فِي أَيَّام خِلَافَته رعت مَعَ الشَّاة فَلم تعد إِلَّا لَيْلَة مَوته

وَأمه بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب وَكَانَ يبشر بِهِ وَيَقُول من وَلَدي رجل بِوَجْهِهِ شجة يمْلَأ الأَرْض عدلا

أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي تَارِيخه وَكَانَ بِوَجْهِهِ عمر بن عبد الْعَزِيز شجة ضَربته دَابَّة فِي جَبهته وَهُوَ غُلَام فَجعل أَبوهُ يمسح الدَّم عَنهُ وَيَقُول إِن كنت أشج بني أُميَّة إِنَّك لسَعِيد فَصدق ظن أَبِيه فِيهِ

وَأخرج ابْن سعد أَن عمر بن الْخطاب قَالَ لَيْت شعري من ذُو الشين من وَلَدي يملؤها عدلا كَمَا ملئت جورا

وَأخرج ابْن عمر قَالَ كُنَّا نتحدث أَن الدُّنْيَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يَلِي رجل من آل عمر يعْمل بِمثل عمل عمر فَكَانَ بِلَال بن عبد الله بن عُمَيْر بِوَجْهِهِ شامة وَكَانُوا يرَوْنَ أَنه هُوَ حَتَّى جَاءَ الله بعمر بن عبد الْعَزِيز

وَأخرج الْبَيْهَقِيّ وَغَيره من طرق عَن أنس مَا صليت وَرَاء إِمَام بعد رَسُول الله

ص: 643

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير من هَذَا الْفَتى

يَعْنِي عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ أَمِير على الْمَدِينَة من جِهَة الْوَلِيد بن عبد الْملك فَإِنَّهُ لما ولي الْخلَافَة بِعَهْد أَبِيه إِلَيْهِ بهَا أَمر عمر عَلَيْهَا من سنة سِتّ وَثَمَانِينَ إِلَى سنة ثَلَاث وَتِسْعين

وَأخرج ابْن عَسَاكِر عَن إِبْرَاهِيم بن أبي عيلة قَالَ دَخَلنَا على عمر بن عبد الْعَزِيز يَوْم الْعِيد وَالنَّاس يسلمُونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ تقبل الله منا ومنك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَيرد عَلَيْهِم وَلَا يُنكر عَلَيْهِم

قَالَ بعض الْحفاظ الْفُقَهَاء من الْمُتَأَخِّرين وَهَذَا أصل حسن للتهنئة بالعيد وَالْعَام والشهر

انْتهى

وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ من أوعية الْعلم وَالدّين وأئمة الْهدى وَالْحق كَمَا يعلم ذَلِك من طالع مناقبه الجليلة ومآثره الْعلية وأحواله السّنيَّة وَقد استوفى كثيرا مِنْهَا أَبُو نعيم وَابْن عَسَاكِر وَغَيرهمَا

وَلَوْلَا خوف الإطالة والانتشار لذكرت مِنْهَا غررا مستكثرة لَكِن فِيمَا أَشرت إِلَيْهِ كِفَايَة

ولنختم الْكتاب بحكاية جليلة نفيسة فِيهَا فَوَائِد غَرِيبَة وَهِي أَن أَبَا نعيم أخرج بِسَنَد صَحِيح عَن رَبَاح بن عُبَيْدَة قَالَ خرج عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى الصَّلَاة وَشَيخ يتَوَكَّأ على يَده فَقلت فِي نَفسِي إِن هَذَا الشَّيْخ جَاف فَلَمَّا صلى وَدخل لحقته فَقلت أصلح الله الْأَمِير من الشَّيْخ الَّذِي كَانَ يتكىء على يدك قَالَ يَا رَبَاح رَأَيْته قلت نعم قَالَ مَا أحسبك إِلَّا رجلا صَالحا ذَاك أخي الْخضر أَتَانِي فَأَعْلمنِي أَنِّي سألي أَمر هَذِه الْأمة وَأَنِّي سأعدل فِيهَا

فرحمه الله وَرَضي عَنهُ

ص: 644

وَأَنا أسأَل الله المنان الْوَهَّاب أَن يلحقني بعباده الصَّالِحين وأوليائه العارفين وأحبائه المقربين وَأَن يميتني على محبتهم ويحشرني فِي زمرتهم وَأَن يديم لي خدمَة جناب آل مُحَمَّد وَصَحبه ويمن عَليّ بِرِضَاهُ وحبه ويجعلني من الهادين المهديين أَئِمَّة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة الْعلمَاء والحكماء السَّادة القادة العاملين إِنَّه أكْرم كريم وأرحم رَحِيم دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتحيتهم فِيهَا سَلام وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ وَسَلام على الْمُرْسلين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

وَالْحَمْد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله وَالْحَمْد لله أَولا وآخرا وظاهرا وَبَاطنا سرا وعلنا يَا رَبنَا لَك الْحَمد كَمَا يَنْبَغِي لجلال وَجهك وعظيم سلطانك حمدا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ ملْء السَّمَاوَات وملء الأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد أهل الثَّنَاء وَالْمجد أَحَق مَا قَالَ العَبْد وكلنَا لَك عبد لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد

وَالصَّلَاة وَالسَّلَام التامان الأكملان على أشرف خلقك سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وذرياته عدد خلقك ورضا لنَفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك كلما ذكرك وَذكره الذاكرون وغفل عَن ذكرك وَذكره الغافلون

وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

ص: 645