المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌المبحث الرابع: آراؤه

‌المبحث الرابع: آراؤه

لم يفرد المؤلف لبيان آرائه في قضايا علم أسباب النزول فصلًا يوردها فيه وقد قمت بتتبع كلماته وإيراده الروايات لأقف على ذلك، فكان لدي ما يأتي.

1-

مفهوم سبب النزول عنده:

لم أجده يصرح بهذا المفهوم في شيء من كتابه، إلا أنه من خلال انتقاده للواحدي نعلم أنه يفرق بين سبب نزول الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وبين سبب الحوادث أو الأمور التي اشتملت عليها الآية.

وتوضيح هذا أنه قال في الآية "255" من سورة البقرة وهي {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَه} :

"قال الثعلبي: قال المفسرون: سبب نزولها أن الكفار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله فانزل {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى آخرها فبين الله أن لا شفاعة إلا لمن أذن له.

هذا يصلح في هذا الكتاب، وأما الذي قبله فليس هو سبب نزولها على النبي، وإنما هو سبب محصل ما اشتملت عليه على موسى1، وقد ذكر الواحدي نظائر لذلك وليس من شرطه

" وهذا الذي قبله هو ما أورده في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} إذ قال: "أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم

عن سعيد "بن جبير" قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: هل ينام ربك؟ قال: فقال موسى: اتقوا الله، فقالوا: أيصلي ربك؟ قال:

1 كذا العبارة في الأصل.

ص: 162

اتقوا الله، فقالوا: هل يصبغ ربك؟ قال: اتقوا الله، قال: فأوحى الله إليه إن بني إسرائيل سألوك أينام ربك فخذ زجاجتين فضعهما على كفيك ثم قم الليل.

قال: ففعل موسى ذلك، فلما ذهب من الليل ثلث نعس موسى فوقع لركبتيه ثم ضبطهما فقام، فلما أدبر الليل نعس أيضًا فوقع لركبتيه فسقطت الزجاجتان فانكسرتا، فأوحى الله: لو كنت أنام لسقطت السماوات على الأرض، ولهلك كل شيء كما هلك هاتان قال أشعث "عن جعفر عن سعيد": وفيه نزلت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الحديث".

وقال في الآية "260" وهي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} : "ذكر الواحدي ما أورده أئمة التفسير في ذلك عن ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج وابن إسحاق في كتاب المبتدأ، وهذا ليس من أسباب النزول التي يكثر السؤال عنها، ويبني عليها الأحكام أهل الكلام حيث يكون الحكم عامًّا، أو يختص بها من نزلت بسببه، وإنما هو من ذكر أسباب ما وقع في الأمم الماضية، وقد أخل بالكثير من هذا.." إذن فهو يرى أن أسباب النزول المقصودة هي ما يقع أيام نزول القرآن وليته اقتصر على هذا فلم يستدرك النوع الثاني.

هذا وقد نقل عن الجعبري في كلامه على الفاتحة أن نزول البسملة سببين، أحدهما التبرك بالابتداء بها، والثاني الفصل بين السورتين.

ومثل هذا لا يعد من أسباب النزول بالمعنى الاصطلاحي، وقد يشعر نقله هذا بأنه لا يفيد النزول بالأسباب الأرضية.

وفات ابن حجر أن الواحدي تكلم على أول ما نزل وآخر ما نزل وآية التسمية والفاتحة من باب التقديم لكتابه لا أنه يقصد أن لها أسبابًا فقد قال في خاتمة

ص: 163

مقدمته: "ولا بد من القول أولًا في مبادئ الوحي، وكيفية نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعهد جبريل إياه بالتنزيل، والكشف عن تلك الأحوال، والقول فيها على طريق الإجمال، ثم نفرغ للقول مفضلًا في سبب نزول كل آية روي لها سبب مقول، مروي منقول

"1.

والسبب عنده قد يكون في الدنيا، وقد يكون في عالم الغيب، والأول كثير، ومن الثاني ما ذكره في سبب نزول الآية "169" من سورة آل عمران وهي:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .

وقد وقع منه ما يثير التساؤل:

ذلك أن الواحدي أورد عن المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أي خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد. قال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد قصتنا {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَال} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} .

فقال ابن حجر: "ليس في هذا سبب نزول وإنما كتبته تبعًا له" أقول: صحيح أنه لم يذكر جزئية ولكن أليس الفصل كله قد نزل بسبب المعركة تلك وأحداثها ومخلفاتها؟

على حين نجده أصاب في نقده ما أورده الواحدي في الآية "200" من آل عمران إذ قال: "أورده الواحدي وليس من شرطه" فانظره في محله.

ومما يتعلق بمفهوم سبب النزول: ضرورة أن تكون الرواية منسجمة مع الآية في سياقها.

1 أسباب نزول القرآن" "ص6".

ص: 164

وقد التفت الحافظ ابن حجر إلى ذلك في مواضع متعددة منها في الآية "194" من سورة البقرة الرقم "106" والآية "65" من سورة النساء الرقم "312".

2-

الألفاظ الدالة على سبب النزول:

لم يبين لنا ابن حجر الألفاظ الدالة على سبب النزول عنده إلا إنه التزم في مقدمته أن لا يذكر إلا ما هو سبب نزول ببادئ الرأي لا ما يكون من هذا القبيل بضرب من التأويل.

وهذا الالتزام يعني أن ينص على قصة صريحة تقع في عهد الني صلى الله عليه وسلم فينزل فيها قرآن، ولكن المؤلف لم يلتزم ذلك.

فقد ذكر ما يحتاج إلى تأويل وما لا ينفع معه التأويل فلاحظ معي:

- قال في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} البقرة "284""قيل: نزلت في كتمان الشهادة".

أسند الطبري من طريق يزيد بن أبي زيادة عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: "في هذه الآية

نزلت في كتمان الشهادة

".

- وقال في قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَة} النساء "74" "قال الثعلبي: معناه أنه يؤمر بالإيمان ثم بالقتال.

قال: وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في المؤمنين المخلصين".

فأين سبب النزول هنا؟

والظاهر أنه يرى في لفظة: "نزلت في كذا" سببًا صريحًا، سواء ذكرت واقعة عينية أم لم تذكر.

ص: 165

"وأخرج البخاري

عن أبي هريرة رفعه: من أتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعًا أقرع.. ثم تلا هذه الآية ".

وأين "تلا" من "نزل"؟

3-

طريق اعتماد الأسباب:

انتقد ابن حجر الواحدي لأنه أورد أسبابًا بغير إسناد وأن فيما أورده من الأسانيد ما لا يثبت وهذا يعني أنه يرى الأسباب مرتبطة بالإسناد، وقائمة عليه ويشترط فيه أن يكون صحيحًا.

ولكن الواقع يثبت أنه لم يلتزم ذلك، وقد دفعه حب الاستيعاب والاستقصاء إلى إيراد ما قاله مقاتل والكلبي والزجاج والثعلبي وابن ظفر وفي ذلك ما لا يصح وما ليس له إسناد أصلًا.

وهو معذور في النقل عن مقاتل والكلبي وغيرهما من الضعفاء، لكلامه عليهم في المقدمة، فأما ما ليس له إسناد فهو خارج عن شرطه.

4-

تعدد الأسباب والنازل واحد:

صرح ابن حجر في كلامه على الآية "11" من سورة النساء أنه "لا يمتنع نزولها في عدة أسباب".

وفي الآية "128" من آل عمران وهي {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْء} أورد ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم أورد رواية عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على لحيان ورعل وذكوران وعصية ثم ترك ذلك لما نزلت عليه الآية.

وهنا قال: "وفي هذا نظر لأن ظاهر الآثار الماضية أن الآية نزلت أيام أحد، وقصة بئر معونة متراخية عن ذلك بمدة، لكن يمكن الجمع بأن نزولها تأخر حتى وقعت بئر

ص: 166

ورعل وذكوان وعصية ثم ترك ذلك لما نزلت عليه الآية.

وهنا قال: "وفي هذا لا ينظر لأن ظاهر الآثار الماضية أن الآية نزلت أيام أحد، وقصة بئر معونة متراخية عن ذلك بمدة، لكن يمكن الجمع بأن نزولها تأخر حتى وقعت بئر معونة فكان يجمع الدعاء بين من شج وجهه بأحد، ومن قتل أصحاب بئر معونة، فنزلت الآية في الفريقين جميعًا فترك الدعاء على الجميع، وبقي بعد ذلك الدعاء للمستضعفين إلى أن خلصوا وهاجروا وهذه أولى من دعوى النزول مرتين".

وهذا تصريح آخر بقوله بتعدد الأسباب، وإن كان قد ذهب بعد في "فتح الباري" إلى أن ذكر نزول هذه الآية بلاغ من الزهري لا يصح، وعد الصواب نزولها في أحداث أحد على أنه لم يخل الأمر من احتمال فقال:"ويحتمل أن يقال إن قصتهم كانت عقب ذلك وتأخر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك"1.

ومهما يكن فإن هذا المعنى -أي تعدد الأسباب- تعدد منه في الفتح2، مما يدل على أنه رأي له ملتزم، ووجدنا السيوطي يستند إليه3.

وقد أورد هنا في كتابه هذا في آيات كثيرة أسبابًا متعددة، وعلينا حين نمر عليها أن نلاحظ أسانيدها، فإن لم يكن الترجيح بمرجح، وكانت غير متباعدة صرنا إلى القول بتعدد الأسباب.

وفيما يأتي بيان الآيات التي ذكر فيها أكثر من سبب، أبدأ بالآية وبجانبها رقم الأسباب.

1 "فتح الباري""8/ 227".

2 انظر "8/ 213، 227، 233، 531، 550".

3 انظر "لباب النقول""ص178".

ص: 167

سورة البقرة:

76: 3، 102: 2، 108: 2، 109: 2، 114: 2، 115: 5، 138: 2، 177: 2، 183: 2، 186: 6، 189: 6، 190: 2، 194: 2، 195: 9، 196: 2، 197: 2، 198: 3، 199: 2، 200: 3، 204: 2، 207: 6، 215: 2، 223: 3، 224: 2، 228: 2، 232: 2، 245: 2، 256: 4، 271: 2، 272: 2، 274:2.

سورة آل عمران:

7: 3، 12: 2، 19: 4، 23: 4، 28: 4، 31: 4، 32: 2، 65: 2، 77: 4، 79: 4، 86: 2، 128: 5، 135: 3، 161: 4، 165: 2، 169: 4، 180: 2، 188:5.

سورة النساء:

2: 2، 3: 2، 4: 4، 5: 3، 6: 2، 11: 4، 19: 2، 24: 2، 32: 2، 33: 3، 43: 2، 43: 4، 49: 2، 59: 4، 60: 3، 77: 2، 78:2.

والقول بالتعدد ذهب إليه ابن تيمية1 والسيوطي2 والآلوسي3 وهو صنيع كثير من المفسيرين4 ونازع فيه بعض المعاصرين5 كما أسلفت وأرى أن للتعدد

1 انظر "الفتاوى الكبرى""13/ 340".

2 وهذا رأيه الآخير كما في "الإتقان""1/ 33" وكان في "التحبير" قد قال "ص78":

"فإن استويا "أي الإسنادان" فهل يحمل على النزول مرتين أو يكون مضطربًا يقتضي طرح كلٍ منهما؟ عندي فيه احتمالان، وفي الحديث ما يشبهه".

3 انظر "روح المعاني""3/ 204" ونصه: "ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه".

أفدت هذه الإحالة من كتاب "الآلوسي مفسرًا" لأستاذنا الدكتور محسن عبد الحميد "ص226".

4 انظر على سبيل المثال "زاد المسير" لابن الجوزي.

5 أعني الباحث عبد الرحيم أبا علبة في رسالته "أسباب نزول القرآن""ص239".

ص: 168

صورتين:

الصورة الأولى: تعدد أسباب لآية تشتتمل على عدة مضامين ولم تكن هذه الأسباب معلومة التباعد، وهذا ينبغي أن لا يكون فيه نزاع، فإن كانت معلومة التباعد فهذا يعني تجزئة الآية وسيأتي بحث ذلك.

الصورة الثانية: تعدد أسباب لآية ذات مضمون واحد، وهذا ينظر فيه إلى الأسانيد ويرجع إلى المرجحات وإلا قيل بالتعدد، وليس في ذلك -عندئذ- من مانع عقلًا ولا نقلًا.

5-

تعدد النازل والسبب واحد:

لقد أورد ابن حجر أقوالًا أو روايات تصرح بنزول أكثر من آية بسبب واحد ولم يعلق عليها مما يشير إلى قبوله هذا الأمر ومن ذلك في الآية "136" من البقرة و"26" من آل عمران و"51" من النساء، وهذا إن نازع فيه بعض الباحثين وقال بأنه يحتاج إلى تحرير وتحقيق1 قد يكون مقبولًا بالقياس إلى أمر آخر لاحظته في "العجاب" وهو أن المؤلف رحمه الله كان يورد آية ويحيل على نظيرها.

- فمن ذلك أنه قال في الآية "123" من البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} "تقدم".

- وفي الآية "69" من آل عمران: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب} : "تقدم في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ} ".

- وفي الآية "99" منها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} . "تقدم في نظيرتها أي: "69 أنها نزلت في حذيفة

".

- وفي الآية "176" منها أيضًا: {وَلا يَحْزُنْكَ} : "تأتي في تفسير سورة

1 "أسباب نزول القرآن" لأبي علبة "ص245".

ص: 169

المائدة" وغير ذلك.

وهذا الأمر غريب، وليس من الضرورة في الآيات المتشابهة في اللفظ أو في المعنى أن يكون لها سبب واحد ما دام أن هذا العلم يستند إلى النقل الصحيح أولًا، فإذا لم يكن هناك فيجب التوقف.

6-

تكرر النزول:

مر معنا أن ابن تيمية يجيزه وكذلك الزركشي، والسيوطي، وغيرهم، وعبارة ابن حجر السابقة في أن الجمع أولى من دعوى النزول مرتين تشير إلى إمكانية القول به عنده ولكن حين لا يمكن الجمع.

يقول السيوطي في النوع الحادي عشر وهو معقود لـ"ما تكرر نزوله"1:

"صرح جماعة من المتقدمين والمتأخرين بأن من القرآن ما تكرر نزوله".

ثم يقول: "أنكر بعضهم كون شيء من القرآن تكرر نزوله، كذا رأيته في كتاب "الكفيل بمعاني التنزيل"2.

- وعلله بأن تحصيل ما هو حاصل لا فائدة فيه.

وهو مردود بما تقدم من فوائده.

- وبأنه يلزم منه أن يكون كل ما نزل بمكة نزل بالمدينة مرة أخرى فإن جبريل كان يعارضه القرآن كل سنة.

ورد بمنع الملازمة.

1 انظر "الإتقان""1/ 35-36".

2 ذكره الحاج خليفة في "كشف الظنون""2/ 1502" وقال: "وهو تفسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية النحوي المتوفى سنة 720.. وهو تفسير ضخم في ثلاث وعشرين مجلدة كبيرة..".

ص: 170

- وبأنه لا معنى للإنزال إلا أن جبريل كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرآن لم يكن نزل به من قبل فيقرئه إياه.

ورد بمنع اشتراط قوله: لم يكن نزل به من قبل.

- ثم قال: ولعلهم يعنون بنزولها مرتين أن جبريل نزل حين حولت القبلة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن من الصلاة كما كانت فظن ذلك نزولًا لها مرة أخرى، أو أقرأه فيها قراءة أخرى لم يقرئها له بمكة فظن ذلك إنزالًا.

وقد نقل الشيخ طاهر الجزائري كلام المنكر وحدف ردود السيوطي ومال إلى عدم القول بالتكرار غير منكر له1.

وأرى أن الخلاف قد يعود لفظًا، وإذا بدلنا لفظ "التكرار" وقلنا إنه نزل للتذكير به مثلًا: إما لحدوث واقعة تشتمل الآية على حكمها، أو للمعارضة السنوية، ارتفع به مثلًا: إما لحدوث واقعة تشتمل الآية على حكمها، أو للمعارضة السنوية، ارتفع الخلاف إن شاء الله.

7-

تجزئة الآية:

الظاهر من عمل المؤلف أنه يقبل نزول الآية مجزأة، وقد أورد روايات تفيد ذلك وسكت عليها، ومن ذلك رواية الشيخين في سبب نزول قوله تعالى:{مِنَ الْفَجْرِ} في الآية "187" من سورة البقرة {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم} إلى أن قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .

ونص البخاري:

عن سهل بن سعد قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْر} وكان رجال إذا أردوا الصوم ربط

1 انظر "التبيان" له "ص56".

ص: 171

أحدهم في رجليه الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعده {مِنَ الْفَجْر} فعلموا أنما يعني الليل من النهار.

ثم نقل عن ابن عطية قوله: "روي أنه كان بين طرفي المدة عام "من رمضان إلى رمضان تأخر البيان إلى وقت الحاجة".

ونقل في "فتح الباري" عن القرطبي المحدث مثل هذا1 دون أن يذكر هو ولا ابن عطية من قبله دليلًا وسكت ابن حجر في كتابيه، وعلى أية حال فإن المهم وهو أن الحديث صريح ينزول جزء من الآية متأخر عنها. ويقول السيوطي في "التحبير"2:

"والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآن كان ينزل على حسب الحاجة خمسًا وعشرًا وأقل، وآية وآيتين، وقد صح نزول قصة الإفك جملة وهي عشر آيات، ونزول بعض آية وهي قوله تعالى:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 3.

وهذا الحديث رواه البخاري من طرق متعددة منها عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه؛ فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليَّ قال: يا رسول الله والله لو استطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فثقلت على حتى خفت أن ترض فخذي ثم سرّي عنه فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4.

1 "فتح الباري""4/ 134".

2 انظر "النوع العشرين: كيفية النزول""ص117".

3 النساء: "95".

4 "صحيح البخاري مع الفتح""8/ 259".

ص: 172

قال ابن حجر في شرحه1: "وزاد في رواية خارجة بن زيد: قال زيد بن ثابت: فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف".

وقد عد بعض الباحثين2 القول بتجزئة تنزيل الآية الواحدة إشكالًا وقال:

"لقد ثبت بالتواتر أن ترتيب الآيات في السور توقيفي، وأن الآية كانت تنزل متكاملة دون تجزئة والقول: بخلافه لا يقبل إلا إذا ورد دليل قطعي عليه قال الشافعي رحمه الله3: "ولم أعلم مخالفًا أن كل آية أنما أنزلت متتابعة لا مفرقة، وقد تنزل الآية ان في السورة مفرقتين، فأما آية فلا؛ لأن معنى الآية أنها كلام واحد غير منقطع.." وعليه فلا بد من تأويل أو رد رواية سهل بن سعد الساعدي التي رواها البخاري.

أقول: وهذا كلام لا يثبت على النقد، فأين التواتر في نزول الآية متكاملة؟ والاستشهاد بكلام الإمام الشافعي لا يسلم فكل ما هنالك أنه نفى علمه هو إذ ثبت ذلك في الحديث، ولأكثر من واقعة أيضًا فرده مردود، وتأويله غير سائغ وهذه جزأة على الصحيح غير محمودة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} 4.

نعم قد يقال: إن إلحاق مقطع بالآية بعد عام وقد سارت في الآفاق وانتشرت بين المسلمين يثير إشكالًا في كيفية إلحاقها؟!

أقول: إن الفارق الزمني المقدر بعام في الآية الأولى لم يثبت، وفي الحالة الثانية كان الفارق يسيرًا جدًّا، ومهما يمكن فإذا ثبت مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمر

1 "8/ 261".

2 انظر "أسباب نزول القرآن" لأبي علبة "ص234".

3 انظر "أحكام القرآن" له الذي جمعه البيهقي، مبحث "ما يؤثر عنه في الصيام""ص124".

4 من سورة النحل، الآية "101".

ص: 173

متروك له وهو المبلغ المختار {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه} 1.

وينبغي أن نعلم أن ذكر أسباب متعددة للآية ذات المضامين المتعددة لا يعني بالضرورة نزولها مجزأة، فقد تقع الأسباب ثم تنزل الآية لتعالجها كلها.

وكذلك يقال في الفصل القرآني ذي الموضوع الواحد الذي تذكر له أسباب، لكل آية منه سبب، فإن هذا لا يعني بالضرورة أيضًا نزوله مفرقًا.

8-

عموم اللفظ وخصوص السبب:

لم يذكر المؤلف عن هذه القاعدة صريحًا، إلا أنه في الآية "7" من آل عمران التي فيها {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} أخرج حديثًا مرفوعًا رواه الإمام أحمد قال: هم الخوارج ثم قال: "وذكر الخوارج نبه به الحديث المذكور على من ضاهاهم في اتباع المتشابه وابتغاء تأويله فالآية شاملة لكل مبتدع سلك ذلك المسلك.

قال ابن حجر: المراد في قلوبهم زيغ كل مبتدع بدعة تخالف ما مضى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأول من بعض الآيات التأويل ما يشيد به بدعته".

وذكره لكلام ابن جرير يشير إلى قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"2.

كما أنه في الآية "204" من سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} نقل عن الطبري من طريق أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن، قال:

1 من سورة الأنعام، الآية "124".

2 من الموافقات الطريفة أن الأستاذ الدكتور غانم قدوري حمد استشهد بكلام ابن جرير هذا للغرض نفسه، ولم يقف على كتاب ابن حجر انظر كتابه "محاضرات في علوم القرآن""ص217".

ص: 174

سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب فقال: إن في الكتب: "إن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر". الحديث، فقال محمد بن كعب هذا في كتاب الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية؟ فقال محمد بن كعب: إن الآية لتنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد".

وقد استدل السيوطي بهذا الخبر على هذه القاعدة1 -مع أن السند ضعيف- وتعرض ابن حجر لذكرها في مواضع متعددة من الفتح2، وفي إحداها نقل عن الإمام المازري قوله:

"والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض الأصوليين، وعند الأكثر العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"3.

هذا وقد أكد ابن حجر هنا في موضعين أن القول بعموم اللفظ لا يمنع خصوص السبب ففي الآية "121" من البقرة {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه} نقل عن قتادة وعكرمة: "نزلت في أصحاب محمد"، ثم قال:"وجوز غيره "هو ابن عطية": أن يكون المراد عموم المسلمين انتهى وهذا لا يمنع خصوص السبب".

وفي الآية "188" منها أيضًا وهي {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّام} نقل عن الرازي قوله: "قيل المراد مالًا بينه عليه كالودائع، وقيل: شهادة الزور وقيل: في دفع الأوصياء بعض مال الآية ام إلى الحاكم، وقيل: أن يخلف ليذهب حق غريمة وقيل: تزلت في

1 انظر "الإتقان""1/ 29".

2 انظر 1/ 18، 261، 315، 4/ 184، 5/ 228، 8/ 185، 191، 213، 214، 9/ 459، 659، 12/ 35، 107، 13/ 112، وهذه الإحالات مستفادة من "توجيه القاري" للزاهدي "ص: 81".

3 انظر "فتح الباري""8/ 191".

ص: 175

الرشوة وهو الظاهر وإن كان الكل منهيًا عنه".

وهنا علق ابن حجر: "بل السبب لا يعدل عن كونه مرادًا، وإن كان اللفظ يتناول غيره".

وهذه المسألة قريبة مما قاله الزركشي1: "فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد، بالإجماع" أي: في حالة ورود مخصص.

1 البرهان "1/ 22-23".

ص: 176