الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: قواعد علم أسباب النزول
أ- تعريفه:
قال السيوطي1: "والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره2 في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة3 فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية
…
".
وعلى هذا فنزول القرآن -كما يقول الجعبري- على قسمين:
- قسم نزل ابتداء.
- وقسم عقب واقعة أو سؤال4.
فكل رواية لا تذكر واقعة عينية او سؤالًا محددًا في أيام تنزل الوحي فلا تقبل على أنها سبب نزول، وإنما تؤخذ باعتبارها تفسير لتلك الآية أو الآيات، وبهذا التحديد يحصل التمايز بين القسمين. على أننا يجب أن لا يغيب عن بالنا ما قاله الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: "أسباب النزول ما هي إلا مناسبات، لا أسباب
1 في "الإتقان""1/ 31" و"لباب النقول""ص14" وقد شرح الزرقاني هذا التعريف انظر "مناهل العرفان""1/ 99-101".
2 لم يقل في "لباب النقول": في تفسيره، وفي "الأسباب" "ص500": نزلت في قصة أصحاب الفيل
…
".
3 في الأصل هنا زيادة هي: "به" وهي زيادة لا معنى لها فحذفتها.
4 "الإتقان""1/ 28".
حقيقية، وإن سميت أسبابًا على طريقة التسامح والتجاوز"1.
ب- فوائده وأهميته:
تواردت كلمات العلماء والباحثين على فائدة هذا العلم وأهميته، وقد عد له الزركشي2 ست فوائد هي باختصار:
1-
"معرفة"3 وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
2-
تخصيص الحكم به عند مَنْ يرى أن العبرة بخصوص السبب.
3-
الوقوف على المعنى قال الشيخ أبو الفتح القشيري4: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز هو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا.
4-
أنه قد يكون اللفظ عامًّا، ويقوم الدليل على التخصيص، فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد والإجماع5، كما حكاه القاضي أبو بكر6 في "مختصر التقريب" لأن دخول السبب قطعي7.
1 "التفسير ورجاله""ص20" عن "محاضرات في علوم القرآن" للأستاذ غانم قدوري "ص211".
2 في "البرهان""1/ 22-29".
3 ساقطة من الأصل زدتها من الإتقان.
4 نقل الباحث أبو علبة في كتابه "أسباب نزول القرآن""ص19" هذا القول ثم علق بأن الزركشي نسبه إلى أبي الفتح القشيري وأن السيوطي نسبه إلى ابن دقيق العيد! ولم يعرف أنهما واحد فأبن دقيق العيد يكنى بأبي الفتح وينسب: القشيري انظر ترجمته لموسعة في مقدمة "كتاب الاقتراح في بيان الاصطلاح" للأستاذ الدكتور قحطان بن عبد الرحمن الدوري "ص18".
5 كذا العبارة في الأصل، ولعل الصواب: بالإجماع.
6 وهو الباقلاني.
7 أورد الباحث أبو علبة هذه الفائدة بنص: "معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إلا إذا ورد مخصصًا لها". انظر كتابه "أسباب نزول القرآن""ص28".
5-
دفع توهم الحصر ولا يتضح هذا إلا بإيراد المثال الذي ذكره الزركشي1 ونقله مَنْ بعده حتى اليوم وهو:
"قال الشافعي ما معناه في معنى قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية 2: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلًا منزلة مَنْ يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة؛ فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد به حل ما وراءه؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل".
6-
إزالة الإشكال. ومثل له بسؤال مروان بن الحكم3 عن قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} وجواب ابن عباس له.
وقد أخذ السيوطي كل هذه الفوائد وذكرها في "الإتقان" ولم يعزها للزركشي، وتصرف بأن جمع بين الثالثة والسادسة في فائدة واحدة، وزاد أخرى وهي4:
7-
"معرفة اسم النازل فيه الآية وتعيين المبهم فيها، ولقد قال مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر: إنه الذي أنزل فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَاْ} 5 حتى ردت عليه
1 "البرهان""1/ 23".
2 "سورة الأنعام""145".
3 انظر التفصيل في الآية "188" من "سورة آل عمران".
4 انظر "الإتقان""1/ 259".
5 "سورة الأحقاف": "17".
عائشة وبينت له سبب نزولها".
وقد أخذ الزرقاني نص السيوطي وزاد فائدة هي1:
8-
"تيسير الحفظ، وتسهيل الفهم، وتثبيت الوحي، في ذهن كل مَنْ يسمع الآية إذا عرف سببها، وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة. كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن، وسهول استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر وذلك هو قانون تداعي المعاني، المقرر في علم النفس".
وقد ناقش الباحث أبو علبة الفائدة الأولى والخامسة والثانية والرابعة فرد الأوليين وذهب إلى أن موضع الآخريين في علم أصول الفقه لا هنا2.
هذا وقد اعتاد المؤلفون أن يوردوا في هذا السياق قول الواحدي: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"3 وقول ابن تيمية4: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"5.
ومن المهم إيراد بعض كلام الإمام الشاطبي في هذا الموضوع لأهميته فإنه يقول: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
1 انظر "مناهل العرفان""1/ 106-107".
2 انظر التفصيل في كتابه "أسباب نزول القرآن""ص23-29".
3 هكذا نقله السيوطي في "الإتقان واللباب ونص الواحدي" في كتابه "ص4-5" في كلامه على الأسباب: "إذ هي أوفى ما يجب على الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها".
4 في "مقدمة التفسير" المدرجة في مجموع الفتاوى "13/ 339".
5 وتتمة قوله: "ولهذا كان أصح قولي الفقهاء إنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وآثارها".
أحدهما: إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره عن معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معانٍ أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها. ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال: وليس كل حال يُنقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب ولا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجه.
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد1 عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد [فأرسل إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد] 2 وقبلتها واحدة؟
فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن
1 هو القاسم بن سلام في كتابه "فضائل القرآن" باب فضل علم القرآن والسعي في طلبه "مخطوط الورقة 13ب و14أ"، و"الخبر في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي "2/ 285" في كتب أحاديث التفسير، ونحوه في "سير أعلام النبلاء" للذهبي "3/ 234".
2 ما بين المعقوفين ساقط من "الموافقات" استدركته من "فضائل القرآن".
عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه، فقال: أعد علي ما قلت. فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار، يتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعًا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن".
ثم ذهب يمثل على كلامه.
وقد اشترط العلماء للمفسر معرفته بأسباب النزول: يقول مؤلف1 "مقدمة كتاب المباني لنظم المعاني"2:
"ووجه آخر من التفسير أن يبين الناسخ والمنسوخ من أحكام القرآن وما هو حتم من أوامر، أو ترغيب أو تأديب، وما هو عام من الأخبار أو خاص، ويقطع على مراد الله تعالى من كل شيء من ذلك. وما كان من هذا الوجه فإن أولئك الذين شاهدوا وعرفوا سبب نزول الآيات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين بعدهم ممن كانوا مِنْ علم تلك الأحوال بمنزلة مَنْ شاهدها لقرب عهدهم بها، واستفاضة أخبارها لديهم وهم التابعون، مَنْ3 كان يجوز لهم تفسير آيات القرآن على مقتضى ما
1 المؤلف غير معروف ويرى الأستاذ الدكتور غانم قدوري حمد في بحثه "مؤلف التفسير المسمى كتاب المباني لنظم المعاني" المنشور في مجلة الرسالة الإسلامية "السنة السابعة عشرة في العديين "164-165 ص243-255" أنه محمد حامد بن أحمد بن جعفر بن بسطام وهو من رجال القرن الخامس الهجري، ويرجح أنه شرقي.
2 "ص195" من الفصل الثامن وهو "في ذكر مَنْ تخرج عن التفسير واستنكره، وفيمن شرع فيه وقام به وأظهره..".
3 في الأصل: "ومَنْ" فرجحت حذف الواو ليكون "مَنْ" خبر قوله: "إن أولئك" وهذا الكتاب حققه "! " المستشرق "آرثر جفري".
شاهدوه وعرفوا من أسباب نزولها وأحوال من نزلت فيهم، وليس لمن بعدهم ممن لم يتحققوا تلك الأحوال إلا بأخبار تنقل إليهم على ألسنة الرواة مما لا ينقطع على مغيبه باليقين، أن يتعاطوا هذا الوجه من التفسير، وإنما عليهم أن يتبعوا أولئك السابقين ويتطلبوا مذاهبهم وأقوالهم في ذلك فيأخذوا بما أجمعوا عليه أخذًا لا معدل عنه، وينظروا فيما اختلفوا فيه فيتخيروا ما هو أهنأ وأهدى
…
".
وعلى هذا درج الزركشي1 والسيوطي2 والمتأخرون3 ولم أقف على مخالف إلا حجة الله الدهلوي فقد قال4:
"إن أكثر أسباب النزول لا مدخل لها في فهم معاني الآيات اللهم إلا شيء قليل من القصص يذكر في هذه التفاسير الثلاثة5 التي هي أصح التفاسير عند المحدثين، وأما إفراد محمد بن إسحاق والواقدي والكلبي وما ذكروا تحت كل آية من قصة فأكثره غير صحيح عند المحدثين وفي إسناده نظر، ومن الخطأ البين أن يعد ذلك من شروط التفسير" قلت: لم يعد أحد هذا من شروط التفسير وقد اشترطوا الصحة
1 انظر "البرهان""1/ 31".
2 انظر "الإتقان""2/ 181" في النوع "78".
3 انظر "التفسير والمفسرون" للذهبي "1/ 85" و"التحرير والتنوير" لابن عاشور: المقدمات "ص42""ومقاصد القرآن الكريم" للشيخ حسن عبد الرحمن البنا "ص27" و"مبادئ أساسية لفهم القرآن" لأبي الأعلى المودودي المطبوعة في صدر ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية بقلم عبد الله يوسف علي "ص7" وغيرها.
4 "الفوز الكبير في أصول التفسير""ص60-61".
5 يقصد: "البخاري والترمذي الحاكم".
والكلام مسلم على الإمام البخاري، وأما على الإمامين الترمذي والحاكم ففيه نظر معلوم.
في الأسباب وصرخوا بذلك كما سيأتي.
ج- طريق معرفة سبب النزول:
لا طريق لمعرفة أسباب النزول إلا النقل الصحيح يقول الإمام السيوطي في "المقامة السندسية في النسبة المصطفوية": "قد تقرر في علوم الحديث أن سبب النزول حكمه حكم الحديث المرفوع، لا يقبل منه إلا الصحيح المتصل الإسناده، لا ضعيف ولا مقطوع"1.
وهذا أدق من قول الواحدي2:
"لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب".
فإن اشتراط الرواية والسماع لا يكفي ولا بد من التصريح باشتراط الصحة ولهذا انتقد ابن حجر المواحدي كما سيأتي3.
وقد رويت أسباب النزول عن صحابة وتابعين:
1-
فما كان من صحابي فهو مقبول، وله حكم الرفع -في هذا الباب- والإمام الحاكم، وإن قال في "المستدرك4 على الشيخين":"وتفسير الصحابي عندهما مسند" فإنه قيد هذا في "معرفة علوم الحديث" فقال5: "فأما ما نقول في تفسير الصحابي
1 "المقدمة السندسية "ص7" -في ضمن الرسائل التسع له- وانظر "التحبير في علم التفسير" "ص86".
2 في "أسباب نزول القرآن""ص5".
3 انظر مقدمة "العجاب".
4 انظر "1/ 27، 123، 452".
5 "ص20".
فإنه قيد هذا في "معرفة علوم الحديث" فقال1: "فأما ما نقول في تفسير الصحابي: مسند، فإنما نقوله في غير هذا النوع2 فإنه كما أخبرناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار حدثنا إسماعيل3 بن إسحاق القاضي ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كانت اليهود تقول: مَنْ أتى امرأته من دبرها. في قبلها، جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} .
"ف"4 هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي5 شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند".
وقد تبعه الخطيب البغدادي6 وابن الصلاح7 والعراقي فقال في ألفيته:
وعد ما فسره الصحابي
…
رفعًا فمحمول على الأسباب8
1 "ص20".
2 يقصد النوع الخامس وهو الموقوفات من الروايات.
3 الأصل: إسحاق والتصحيح من نسخ أخرى.
4 زيادة منى وفي الأصل: قال الحاكم، ثم رأيت اللفظ كذلك في تدريب الراوي للسيوطي "1/ 193" منقولًا عن الحاكم.
5 في نسختين: إذا.
6 في "الجامع""2/ 444" وانظر "النكت" لابن حجر "2/ 530" و"فتح المغيث" للسخاوي "1/ 142".
7 في "علوم الحديث" النوع الثامن "ص45-46" وقد قال السخاوي في "فتح المغيث""143/ 1" إن ابن الصلاح قيد إطلاق الحاكم. والوقع أن الحاكم هو الذي قيد الإطلاق وإن ابن الصلاح تابعه ونقل كلامه ومثاله ولم يشر إلى مصدره! والظاهر أن السخاوي لم ينظر في أثناء كتابة هذا في "معرفة علوم الحديث" واكتفى نظره بالاقتصار على المستدرك.
8 انظر "فتح المغيث" للسخاوي، "بحث المقطوع""1/ 139".
وليس كل تفسير له حكم الرفع يقول الحافظ ابن حجر في كتابه "النكت على ابن الصلاح"1: والحق أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولا عن لسان العرب فحكمه الرفع، وإلا فلا، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء، وعن الأمور الآتية: كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع.
قال أبو عمرو الداني: قد يحكي الصحابي رضي الله عنه قولًا يوقفه، فيخرجه أهل الحديث في المسند، لامتناع أن يكون الصحابي قاله إلا بتوقيف
…
وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي فيحتمل أن يكون مستفادًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القواعد، فلا يجزم برفعه، وكذا إذا فسّر مفردًا فهذا نقل عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه2.
وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصاحبي الصحيحين والإمام الشافعي وأبي جعفر الطبري وأبي جعفر الطحاوي وأبي بكر بن مردوية في تفسيره المسند والبيهقي وابن عبد البر في آخرين3.
وكلام ابن تيمية يشير إلى أن قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا أي: غير الصريح في السببية فيه نزاع يقول4:
1 "2/ 531-532".
2 أفاد السخاوي من كلام شيخه هذا في "فتح المغيث""1/ 143" ولم يشر.
3 ثم استثنى مِنَ الصحابة مَنْ عرف بالنظر في الإسرائيليات انظر "النكت""2/ 532-533" و"نزهة النظر" شرح نخبة الفكر له "ص84".
4 في مقدمة التفسير انظر "مجموع الفتاوى""13/ 340".
"وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند".
ويفهم من هذا أن البخاري رحمه الله لا يفرق بين التصريح بالسبب وعدمه ويكتفي بظاهر العبارة والله أعلم.
ومن متعلقات الموضوع ما قاله السيوطي في "تدريب الراوي"1 في هذا المبحث:
"ما ذكروه من أن سبب النزول مرفوع، قال شيخ الإسلام: يعكر على إطلاقه ما إذا أسقط الراوي السبب: كما في حديث زيد بن ثابت أن الوسطى الظهر، نقلته من خطه".
هذا وقد كان الصحابة يطلبون علم ذلك ويبحثون عنه:
روى الإمام البخاري عن ابن عباس قال: "مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجًّا فخرجت معه، فلما رجعت وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأراك لحاجة له، قال: فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت له: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟
فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به
…
"2. وإضافة إلى ذلك كانوا يفخرون بهذا
1 انظر "1/ 194".
2 انظر "فتح الباري""8/ 657" و"تفسير القرطبي""1/ 26" و"مفحمات الأقران في مبهمات القرآن" للسيوطي "ص7" وقد كتب الدكتور عبد المجيد محمد أحمد الدوري في رسالته للماجستير "تفسير =
تحدثًا نبعمة الله عليهم:
أخرج الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء" من طريق أبي بكر بن عياش عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن علي "بن أبي طالب" قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيمَ أنزلت وأين نزلت، إن ربي وهب لي قلبًا عقولًا ولسانًا سئولًا"1.
وروى الإمام البخاري في كتاب فضائل القرآن من "صحيحه" عن مسروق قال: "قال عبد الله "بن مسعود" رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"2.
ب- وإن كانت الرواية عن تابعي:
فقال قال السيوطي3: "ما تقدم أنه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من
= ابن عباس: دراسة وتحليل: عن أسباب النزول عنده وقال "ص142": "إن ما انفرد به ابن عباس هو معرفته بأسباب النزول وكذلك معرفته أول ما نزل من القرآن، كل هذا له أثره في ترتيب الأحكام المستقاة من القرآن الكريم، ومما يؤيد تفرد ابن عباس بهذه المعرفة أن بعض الآيات كانت تشكل على كثير من الصحابة فيأتون إلى ابن عباس مستفسرين عنها، مثال ذلك ما أشكل على مروان بن الحكيم..".
ملاحظة: في قوله: "كثير من الصحابة" وعده مروان بن الحكم منهم نظر، وهذا "التقريب" لابن حجر -وهو من المصادر القريبة- يقول عن مروان "ص525":"لا تثبت له صحبة".
1 "حلية الأولياء""1/ 67-68" ونقله السيوطي في "الإتقان" النوع "80""2/ 187".
2 انظر "فتح الباري""9/ 47" ونقله الشاطبي في "الموافقات""3/ 350" وقال: "وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالمًا بالقرآن" وقد كتب الدكتور هاشم المشهداني في رسالته للدكتوراه "عبد الله بن مسعود ومدرسته في تفسير القرآن الكريم" عن أسباب النزول وفيمن نزل عند ابن مسعود فانظره "ص458-464"، وأما الدكتور مشعان سعود في رسالته "أبي بن كعب ومكانته بين مفسري الصحابة" فلم يذكر عن أسباب النزول عنده شيئًا.
3 في "الإتقان""1/ 31" وانظر "اللباب""ص15" و"مناهل العرفان""1/ 107" وأفاد من قول السيوطي هذا الباحثان عبد الهادي عبد الكريم المحمد في رسالته "سعيد بن جبير وأثره في التفسير""ص163" وأحمد محمد السروان في رسالته "أبو العالية الرياحي وأثره في تفسير القرآن الكريم""ص140" وإن لم يطبقاه علميًّا وأما الباحث مد الله مجيد الدوري في رسالته "مجاهد وأثره في تفسير القرآن الكريم" فلم يذكر عن أسباب النزول شيئًا.
تابعي فهو مرفوع أيضًا لكنه مرسل1، فقد يقبل:
1-
إذا صح السند إليه.
2-
وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.
3-
أو2 اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك"3.
وقد جاء عن التابعين ما يدل على اهتمامهم بالأسباب:
روى أبو عبيد4 في "فضائل القرآن"5 عن الحسن البصري أنه قال: "ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وما أراد بها"6.
وقال القرطبي7:
"قال عكرمة في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ
"ص163" وأحمد محمد السروان في رسالته "أبو العالية الرياحي وأثره في تفسير القرآن الكريم""ص140" وإن لم يطبقاه علميًّا وأما الباحث مد الله مجيد الدوري في رسالته "مجاهد وأثره في تفسير القرآن الكريم" فلم يذكر عن أسباب النزول شيئًا.
1 مثل هذا في "تدريب الرواي""1/ 193".
2 أثبته الزرقاني واوًا وبين الحرفين فرق واضح.
3 وانظر "التحبير""ص86".
4 نقل عنه هذا السيوطي في "الإتقان""2/ 175" وتحرف في المطبوع "عبيد" إلى "عبيدة".
5 في باب "فضل علم القرآن والسعي في طلبه""الورقة 12ب".
6 أورد هذا أيضًا ابن عطية في "المحرر الوجيز""1/ 26" وابن الجوزي في "زاد المسير""1/ 4" والنص عنده: ألا أحب أن أعلم. وإن لم يكن تحريفًا -وهو الراجح- فلعله رواية آخرى: والقرطبي في "الجامع""1/ 26" والشاطبي في "الموافقات""3/ 350" وعلق عليه بقوله: "وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب" وللقول تتمية في "قصة التفسير" للدكتور أحمد الشرباصي "ص14".
7 في تفسيره "1/ 21" وانظر "مفحمات الأقران في مبهمات القرآن" للسيوطي "ص8 و34".
وَرَسُولِه} "
طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب".
وروى الواحدي1 بسنده عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة "بن عمرو" عن آية من القرآن فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن2.
وفي ختام هذه الفقرة لا بد من ذكر كلام لابن تيمية في شرح هذا الاستعمال:
"نزلت في كذا" يقول رحمه الله3:
"وقولهم: تزلت هذه الآية في كذا":
1-
يراد به تارة أنه سبب النزول".
2-
ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عُني بهذه الآية كذا.
والظاهر أن الزركشي أفاد هذا المعنى من ابن تيمية ولكنه ضيقه حين قال4:
"قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: إذا نزلت هذه الآية في كذا فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها، وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند كما في قول ابن عمر في قوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} وأما الإمام أحمد فلم يدخله في المسند وكذلك مسلم
1 في "أسباب نزول القرآن""ص5".
2 وكان قد قدم لهذا بقوله: "والسلف الماضون رحمهم الله، كانوا في أبعد الغاية احترازًا عن القول في نزول الآية ".
3 انظر "مجموع الفتاوى""13/ 339".
4 في "البرهان""1/ 31-32".
وغيره، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال وبالتأويل فهو من جنس الاستدلال بالآية على الحكم بالآية، لا من جنس لنقل لما وقع".
قلت: وفي هذا التضييق نظر، وقولهم:"نزل في" ليس مقصورًا على هذا.
د- قضية تعدد الأسباب والنازل واحد:
ممن تكلم في تحقيق هذه القضية الإمام السيوطي، وسأورد هنا كلامه وأطوي ذكر الأمثلة اعتمادًا على ورودها في "الإتقان"1 قال رحمه الله:
كثيرًا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابًا متعددة، وطريق الاعتماد في ذلك أن ينظر في العبارة الواقعة:
1-
فإن عبر أحدهم بقوله: "نزلت في كذا" والآخر: "نزلت في كذا" وذكر أمرًا آخر، فقد تقدم أن هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول فلا منافاة بين قولها إذا كان اللفظ يتناولهما وزاد في "لباب النقول"2 هنا قوله:
"وحينئذ فحق مثل هذا أن لا يورد في تصانيف أسباب النزول، وإنما يذكر في تصانيف أحكام القرآن".
2-
وإن عبر واحد بقوله: "نزلت في كذا" وصرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد، وذاك استنباط.
3-
وإن ذكر واحد سببًا وآخر سببًا غيره، فإن كان إسناد أحدهما صحيحًا دون الآخر، فالصحيح: المعتمد.
4-
أن يستوي الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر
1 انظر "1/ 31-34 ". قد اختصر هو هذا في كتابه "اللباب".
2 "ص15".
القصة زاد في "اللباب"1: "أو من علماء التفسير كابن عباس وابن مسعود" أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات.
5-
أن يمكن نزولها عقيب السببين أو الأسباب المذكورة بأن لا تكون معلومة التباعد، فيحمل على ذلك
…
قال ابن حجر2: لا مانع من تعدد الأسباب3.
6-
أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدد النزول وتكرره.
ثم ختم السيوطي كلامه بثلاثة تنبيهات:
- قال في الأول: "قد يكون في إحدى القصتين: "فتلا" فيهم الراوي فيقول: "فنزل".
- وفي الثاني: "عكس ما تقدم أن يذكر سبب واحد في نزول الآيات المتفرقة ولا إشكال في ذلك، فقد ينزل في الواقعة الواحدة آيات عديدة في سورٍ شتى".
1 "ص15-16".
2 تكررت الإشارة إلى هذا المعنى في "فتح الباري""8/ 213، 227، 233، 450". في العجاب في الآية "11" من سورة النساء، ولكن هذا اللفظ في "الفتح""8/ 531".
3 انتقد الباحث أبو علبة تعدد روايات أسبابا التنزيل وعده إشكالًا وجعل من صورة: "ذكر أسباب نزول مختلفة لآية واحدة مع تباعد زمن حدوث الوقائع" وقال "ص239":
"ولكن ديدن مَنْ بحثوا في أسباب تنزيل القرآن أن لا يضرهم لو جمعوا الروايات مع اختلاف زمن حدوثها، وقالوا: إنها جميعًا سبب نزول آية واحدة أي: قالوا بتعدد الأسباب والنازل واحد. فسبب هذا الإشكال".
قلت: واشتراط السيوطي عدم التباعد واضح وصريح فكان ينبغي الإشارة إليه والإشادة به، ولكن الباحث يميل إلى رد هذا أصلًا وقد قال في نتائج دراسته "ص309":
"إن القول بتعدد الأسباب غير دقيق، والصواب تعدد القصص والحوادث وفي هذه الحالة لا بد من الترجيح والتغليب". وسيأتي ما يتعلق بهذا.
- وفي الثالث: "تأمل ما ذكرته لك في هذه المسألة، واشدد به يديك، فإني حررته واستخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم، ولم أسبق إليه".
قلت: والفقرات الأولى والثانية والرابعة والخامسة من كلام ابن تيمية1، والتنبيه الأول مستنبط من كلام ابن حجر2، والباقي والأمثلة له3.
هذا وقد اعتاد الكاتبون في أسباب النزول التعرض إلى قضية عموم اللفظ وخصوص السبب وهي مسألة أصولية وموضعها في كتب الأصول4.
وكذلك يتناولون مسألة السبب والتناسب والعلاقة بينهما، ولم أر داعيًا لذكر هذا هنا5.
1 انظر "مجموع الفتاوى""13/ 339-340" وكتابه "مقدمة التفسير" من مصادره في "الإتقان" فقد ذكره في المقدمة "1/ 8" وسماه "قواعد في التفسير".
2 فقد نبه في "العجاب" في كلامه على الآية "77" من سورة آل عمران، وقد أورد حديثًا إن في بعض طرقه:"تلا" وفي بعضها: "فأنزل".
3 وقد أخذ منه هذا الزرقاني في "المناهل" والدكتوران أبو شهبة والصالح!
4 وهذا رأي شيخنا الأستاذ فرج توفيق الوليد من قبل كما في "المنتقى""ص139". وقد ناقش هذه المسألة الزرقاني في "المناهل""1/ 118-127" فعد إليه إن شئت، وثم كلام للسيوطي فيه جوابًا على سؤال في الفتاوى الأصولية في "الحاوي" "2/ 3". وقد ناقش مسالة انطباق هذه القاعدة على قوله تعالى:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} في كتابه "الحبل الوثيق في نصرة الصديق" في الحاوي" "2/ 44-54" فانظره فإنه مهم.
5 انظر "البرهان""1/ 25-26" و"الإتقان""1/ 30""المسألة الثالثة" و"مباحث في علوم القرآن" للصالح "ص149-157".