الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث أقسام كنايات الطلاق
-تنقسم كنايات الطلاق إلى أقسام مفصلة في المذاهب (1) .
ولا بد في إيقاع الطلاق بالكناية من أحد أمرين: إما النية كما ذكرنا، وإما دلالة الحالة الظاهرة التي تفيد المقصود من الكنايات كما إذا سألته الطلاق، فقال لها: أنت بائن فإنه يقع بدون نية كما سيأتي في تقسيم الكنايات.
الشافعية - قالوا: كناية الطلاق هي اللفظ الذي يحتمل الطلاق وغيره، بنية مقارنة لأي جزء من أجراء اللفظ، كقوله لامرأته: أطلقتك، فإن لفظ أطلقتك يحتمل اطلاقها من حبسها بالمنزل ونحوه، ويحتمل اطلاقها من عقدة الزواج، ولا يقع طلاق إلا إذا نوى الطلاق بنية مقارنة للفظ، وهكذا.
الحنابلة - قالوا: كناية الطلاق تارة تكون ظاهرة، وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة الآتي بيانها، وتارة تكون خفية، وهي الألفاظ الموضوعة للطلقة الواحدة الآتي بيانها، ولا بد في الكناية بقسميها من نية مقارنة للفظ.
المالكية - قسموا الكناية إلى أقسام كثير، وسيأتي تعريف كل قسم على حدة في مبحث أقسام الكناية) .
(1)
(الحنفية - قالوا: تنقسم الكنايات إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول ما يكون معناه جواب طلب التطليق، فلا يصح سباً للمرأة ولا رداً لها عن طلب التطليق، وهذا يشتمل على ألفاظ: منها اعتدى، وهو تخيير بين الأمر بالعدة، أو الأمر بعد أيادي الزوج ونعمه عليها، ومنها استبرئي رحمك، واستبراء الرحم معناه تعرف طهارته من ماء الرجل، وهو كناية عن العدة، لأن تعرف براءة الرحم تكون بالعدة، ومنها أنت واحدة، وهذا اللفظ يحتمل أنت طالق تطليقة واحدة، ويحتمل أنت واحدة، بمعنى منفردة في القبح. أو في الحسن، وعلى هذا يكون لفظ واحدة منصوباً لأنه وصف للمصدر، فهل إذا قال: أنت واحدة بالرفع ونوى الطلاق يقع أو لا؟ والجواب: أنه يقع الطلاق ولو لحناً، لأن الإعراب لا يعتبر في هذه الباب، خصوصاً إذا صدر من العامي، على أن الرفع قد يحمل على وجه صحيح من الإعراب، فيقال: معناه أنت تطليقة واحدة، فجعل المرأة نفس التطليقة مبالغة، ومنها أنت حرة، فإنها تحتمل الاخبار بحريتها في تصرفها وتحتمل إنشاء تحريرها من قيد النكاح، ومنها سرحتك من السراح - بفتح السين - وهو الإسال، فكأنه قال لها: أرسلتك. والإرسال إما لأنه طلقها، أو لتمكث يوماً في دار أبيها، أو نحو ذلك.
وقد عرفت أن سرحتك عند الشافعية من الصريح، ومنها فارقتك، وهي مثل سرحتك، لأن فراقها إما أن يكون لتطليقها. وإما أن يكون فراقاً مؤقتاً بالانصراف من المنزل مثلاً.
هذا، وقد ذكر بعض الشراح. والفتاوى الكبيرة لفظين في هذا القسم: أحدهما اختاري. ثانيهما: أمرك بيدك، وهما كنايتان عن تفويض الطلاق للمرأة، لأن كلاً منهما يحتمل معنيين، فاختاري
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نفسك يصح أن يراد به اختاري نفسك بالطلاق. أو اختاري نفسك في عمل من الأعمال وكذلك أمرك بيدك، فإنه يصح أن يراد به أمرك بيدك في الطلاق. أو في تصرفاتك المختصة بك ولكن الصواب عدم ذكرهما هنا، وذلك لأنه لا يقع بهما طلاق إلا إذا طلقت المرأة نفسها، وإنما يصح تفويض الطلاق بهذين اللفظين بشرط أن ينوي الزوج الطلاق لها، أو يدل الحال على أنه فوض، كما إذا طلبت منه أن يطلقها في حالة الغضب، فإذا فوض لها في هذه الحالة وطلقت نفسها بانت منه، أما إذا لم تطلق فإنها لا تبين، فمن عد هذين اللفظين في كنايات الطلاق فقد أوهم أن الطلاق يقع بهما بمجرد نية الزوج، وهو خطأ واضح.
ويتعلق بهذا القسم حكمان: أحدهما أن الألفاظ الثلاثة الأولى، وهي: اعتدي. واستبرئي رحمك وأنت واحدة، يقع بها طلقة واحدة رجعية، وإن نوى أكثر منها. أو نوى البائن.
ثانيهما: أن الذي ينطق بكلمة من هذه الكلمات لا يخلو حاله عن ثلاثة أمور: الأمر الأول أن يكون في حالة غضب. الأمر الثاني: أن يكون في حالة رضا. الأمر الثالث: أن يكون في حالة مذاكرة الطلاق، بمعنى أن المرأة سألته الطلاق. أو سأله شخص طلاقها، فإذا كان في حالة غضب، وقال لزوجته، اعتدي، أو استبرئي رحمك. أو أنت واحدة الخ وقع عليه الطلاق قضاء، سواء نوى، أو لم ينو، فإذا قال: لم أنو الطلاق لم يصدق، ولكن لا يقع عليه ديانة بينه وبين الله، ومثل ذلك ما إذا كان في حالة مذاكرة الطلاق، فإذا سألته الطلاق فقال لها: اعتدي، أو استبرئي رحمك الخ وقع عليه الطلاق قضاء، سواء نوى، أو لم ينو، وسواء كان في حالة غضب، أو في حالة رضا. أما إذا كان في حالة رضا بدون مذاكرة طلاق، وقال كلمة من هذه الكلمات فإنه لا يقع بها طلاق إلا بالنية، وإذا قال: لم أنو بها الطلاق، فإنه يصدق بيمينه.
القسم الثاني: ما يصح جواباً للسؤال عن التطليق. وما يصح رداً، أي دفعاً لهذا السؤال، وهذا لقسم يشتمل على ألفاظ، منها اخرجي، فإذا قالت له: طلقني، فقال لها: اخرجي، فإنه يحتمل أن يكون جوباً لها عن سؤال الطلاق، ويحتمل أن يكون مراده اخرجي الآن من المنزل حتى يهدأ الغضب وتنصرفي عن طلب الطلاق ومنها اذهبي، فهو مثل اخرجي، ومنها قومي. أو انتقلي، أو انطلقي، ومثل اخرجي، ومنها تقنعي أو تبرقعي، أي ضعي القناع - وهو البرقع - على وجهك، ومنها تخمري، أي البسي الخمار، وهو الملاءة - أو استتري - فأمرها بلبس البرقع أو الخمار. أو الستر يحتمل أمرين: أن يكون ذلك من أجل تطليقها إذ لا يحل له النظر إليها بعد. أو لئلا ينظرها أحد وهي غضبانة، فيكون على الأول جواباً لسؤال الطلاق، ويكون على الثاني رداً لطلب الطلاق، ومنها اغربي - بالغين والراء - ومعناه ابتعدي، وهو مثل اخرجي، يحتمل أن يكون جواباً عن طلب التطليق، ويحتمل أن يكون الغرض منه البعد المؤقت الذي ينكسر به الشر. ومنها اعزبي - بالعين والزاي - من العزوبة بمعنى البعد، وهي مثل اغربي.
وحكم هذا القسم أن الطلاق لا يقع به إلا بالنية، سواء كان في حالة غضب. أو في حالة رضا،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو في حالة مذاكرة الطلاق. فإذا قال: لم أنو الطلاق، فإنه يصدق بيمينه قضاء، وهو وشأنه فيما بينه وبين الله، وذلك لأنها تحتمل ردها عن طلب الطلاق، وتحتمل إجابتها إلى طلبها، فإذا نوى الرد فقد نوى ما يحتمله اللفظ، فيقبل قوله قضاء في حالة مذاكرة الطلاق، وفي حالة الغضب، بخلاف القسم الأول، فإنه لا يحتمل سوى إجابتها عن سؤال الطلاق، فيقع حال المذاكرة. وحال الغضب مطلقاً، ولا يسمع منه أنه لم ينو الطلاق، أما في حال الرضا. وعدم المذاكرة فإنه يحتمل إرادة غير الطلاق.
القسم الثالث: ما يصلح جواباً للمرأة عن سؤال الطلاق، وما يصلح شتماً لها، ويشتمل هذا القسم على ألفاظ: منها خلية بمعنى خالية عن النكاح. أو خالية عن الأدب والخير، فالمعنى الأول يصلح جواباً لسؤال الطلاق، والمعنى الثاني يصلح شتماً للمرأة، كما هو ظاهر. ومنها: برية. أو بريئة، بمعنى منفصلة عن النكاح. أو منفصلة عن الأدب وحسن الخلق، فهي كالأول تصلح جواباً وسبباً، ومنها كلمة بائن، من بان الشيء انفصل، فقوله لها: أنت بائن يحتمل أنها منفصلة من النكاح، أو منفصلة عن الخير والأدب، كما في الأول، ومنها كلمة بتة، بمعنى منقطعة، فإذا قال لها: أنت بتة كان معناه أنت منقطعة إما عن النكاح، أو الأدب، ومنها كلمة بتلة، وهي مثل بتة بمعنى منقطعة، ومنه فاطمة البتول، أي منقطعة النظير عن نساء العالمين نسباً وديناً رضي الله عنها.
وحكم هذا القسم أنه لا يقطع به الطلاق إلا بالنية في حالة الغضب، وفي حالة الرضا. أما في حالة مذاكرة الطلاق فإنه يقع قضاء بدون نظر إلى نية
فتحصل من هذا أنه في حال مذاكرة الطلاق يقع الطلاق قضاء بدون نظر إلى نية إلا في القسم الثاني، وهو ما يصلح جواباً ورداً فإنه لا يقع في الأقسام الثلاثة إلا بالنية، أما في حالة الرضا فإن الطلاق لا يقع في الأقسام الثلاث إلا بالنية، وأما في حالة الغضب فإنه لا يقع الطلاق إلا بالنية في القسمين الأخرين، أما القسم الأول، وهو ما يصلح جواباً، ولا يصلح شتماً، فإنه يقع به الطلاق حال الغضب قضاء بدون نظر إلى نية.
ثم اعلم أن جميع الألفاظ التي ذكرت في الأقسام الثلاثة يقع بها الطلاق بائناً ما عدا الألفاظ الثلاثة المذكورة في القسم الأول، وهي: اعتدي، استبرئي رحمك، أنت واحدة، فإنه يقع بكل لفظ منها طلاق رجعي، فإذا نوى بالبائن ثنتين فإنه لا يقع به إلا واحدة. أما إذا نوى به الثلاث فإنه يصح ويقع به الثلاث، وذلك لأن المراد بلفظ البائن بينونة المرأة من الزواج، والبينونة لا تحتمل التثنية لأنها مصدر لا يراعى فيه العدد، فإما أن يراعى فيه الوحدة فيكون مقيداً بها، أو يراعى فيه الجنس المستغرق لأفراده فيشتمل الثلاث، ويستثنى لفظ اختاري فإنه لا يصح فيها تفويض الثلاث لها.
هذا، وبقيت ألفاظ أخرى من الكنايات يقع بها الطلاق رجعياً، منها أن يقول لها: أنت مطلقة - بتخفيف اللام - فإن هذا اللفظ يحتمل إطلاقها من القيد، ويحتمل إطلاقها من عقد النكاح، فيقع به الطلاق بالنية، ولكن لما كان مشتملاً على مادة الصريح فإنه لا يقع به إلا واحدة رجعية، ومنها أن يقول لها: أنت أطلق من امرأة محمد إذا كانت امرأة محمد مطلقة، فقوله: أنت أطلق منها أفعل تفضيل،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يحتمل أنها أكثر إطلاقاً منها في شؤونها، ويحتمل أنها أشد منها تطليقاً من عقد الزواج، فإذا نوى الثاني طلقت واحدة رجعية، كما علمت، وإنما تلزم النية إذا لم تقل له امرأته: إن محمداً طلق زوجته، فإذا قالت له ذلك وأجابها هو بقوله: أنت أطلق منها وقع الطلاق بدون نية قضاء ديانة، لأن دلالة الحال تجعله من باب الصريح، لا من باب الكناية، فيقع بدون نية، أما إذا لم تقم قرينة فإنه يكون كناية لا يقع إلا بالنية، كما علمت، ومنها أن ينطق بالطلاق بحروف الهجاء، كأن يقول: أنت ط ال ق وذلك لأن الحروف المقطعة لا تستعمل فيه اللفظ الصريح، فلا بد لوقوع الطلاق بها من النية، وإذا نوى يقع واحدة رجعية، ومنها أن يقول لها: الطلاق عليك، أو الطلاق لك، أو أنت طال - بضم اللام وفتحها - أما بكسرها فإنه يكون صريحاً لا يحتاج إلى نية على المعتمد، وذلك لأن حذف آخر الكلمة مشهور في العرف، فإذا حذف الآخر مع بقاء شكل الحرف الذي قبله على حاله فإن معنى الكلمة لا يتغير، أما إذا غير شكله بالرفع، أو النصب فإنه يحتمل أن يكون المراد به أمراً آخر فإذا قال لها: أنت طال يحتمل أن يكون طال فعل، أي طال عمرك مثلاً، وبالرفع يحتمل أن يكون المراد تشبيها باسم، ومنها أن يقول لها: وهبتك طلاقك، أو أعرتك طلاقك، وفي هذه الحالة يكون أمر طلاقها بيدها إذا نوى به الطلاق وكذا أقرضتك طلاقك أو قد
شاء الله طلاقك أو شئت طلاقك، أو قضي الله طلاقك أو طلقك الله، ففي كل هذه الألفاظ يقع بالنية طلقة واحدة رجعية، وأما إذا قال لها: خذي طلاقك فإنه صريح على المعتمد، ومنها لست لي بامرأة وما أنا لك بزوج، وإذا قال لها: أنا بريء من طلاقك ونوى به الطلاق هل يقع أو لا؟
قال بعضهم: إنه لا يقع به شيء ولو نوى، وذلك لأن البراءة من الطلاق ترك له، ولا معنى لأن يراد من الشيء ضده.
وقال بعضهم: يقع به واحدة رجعية وعلل ذلك بأن قوله: أنا بريء من طلاقك معناه ترك الطلاق عجزاً عنه لعدم فائدته، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت المرأة غير محل للطلاق، بأن كانت بائنة بينونة صغرى أو كبرى، فيحتمل أنه أراد من البراءة من الطلاق بينونتها، ولكن هذه العلة تنتج وقوع الطلاق البائن لا الرجعي، لأن الذي يفيد العجز عن الطلاق هو البراءة منه لا لفظ الطلاق، إلا أن يقال: إضافة البراءة إلى لفظ الطلاق الصريح جعل اللفظ في حكم الصريح الذي تقع به واحدة رجعية، ومثل أنا بريء من طلاقك، قوله لها: تركت طلاقك. ومن الكنايات التي يقع بها الطلاق بالنية لفظ العتق، فإذا قال لها: أعتقتك ونوى به الطلاق بانت منه، وكذا إذا سألته الطلاق فأجابها بقوله: أعتقتك وإن لم ينو، لأن دلالة الحال تقوم مقام النية، أما إذا قال لجاريته: طلقتك ونوى بذلك عتقها فإنها لا تعتق، لأن لفظ الطلاق ليس موضوعاً لإزالة الملك، خلافاً للشافعية.
المالكية - قالوا: تنقسم الكناية إلى قسمين: كناية خفية، وكناية ظاهرة.
فالكناية الخفية ما كانت دلالتها على الطلاق غير ظاهرة، وهي ثلاثة أقسام: قسم يوجد فيه حروف الطلاق ولكن العرف لم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يستعمله في إنشاء الطلاق، وهو ثرثرة ألفاظ: منطلقة، مطلوقة، مطلقة بفتح اللام مخففة - وقسم يحتمل الدلالة على الطلاق مع بعد نحو اذهبي، انصرفي، لم أتزوجك، أنت حرة، الحقي بأهلك، ومثل ذلك ما إذا سأله شخص، هل لك امرأة، فقال: لا، أو قال لها: لست لي بامرأة من غير تعليق على شيء، أما إذا قال لها: إن دخلت الدار فلست لي بامرأة، فإن لم ينو به شيئاً. أو نوى الطلاق بدون عدد، فإنه يلزمه ثلاث، وإن نوى غير الطلاق فإنه يصدق بيمينه قضاء، ويصدق بدون يمين في الإفتاء. والقسم الثالث: أن يكون بين اللفظ وبين الطلاق علاقة ما، نحو كلي واشربي، وادخلي، واسقني الماء، وغير ذلك من الألفاظ التي يقصد بها تطليق زوجته. وليست من الطلاق الصريح. ولا الكناية الظاهرة الآتي بيانها.
وقد اعترض بعض المحققين على هذا بأن الكناية استعمال اللفظ في لازم ما وضع له، والطلاق ليس لازماً لمثل هذه الألفاظ، فكيف تسمى مستعملة في الطلاق؟! والجواب: أن الكلام هنا في اصطلاح الفقهاء، وما ذكره اصطلاح البيانيين، ولا مشاحة في الاصطلاح، وحكم الكناية الخفية يتبع النية، فإن لم تكن له نية أصلاً. أو نوى عدم الطلاق فإنه لا يلزمه بها شيء وإن نوى الطلاق لزمه، ثم إذا نوى واحدة لزمه واحدة، وإن نوى أكثر لزمه الأكثر، فلو قال لامرأته: ادخلي الدار ونوى به ثلاث طلقت منه ثلاثاً، فالمدار فيها على النية، واختلف فيما إذا نوى بها الطلاق ولكنه لم ينو عدداً، فقال بعضهم: إنه يلزمه الثلاث، ولكنهم اعترضوا على هذا بأن الطلاق الصريح إذا لم ينو به عدداً لا يلزمه إلى واحدة، فكيف تلزمه الثلاث بالكناية الخفية؟! وأجيب بالفرق بين الحالتين، وذلك لأن عدوله عن الصريح أوجب ريبة عنده في ذلك فعومل بالثلاث احتياطاً، ولا فرق في ذلك بين المدخول بها، وغيرها. وبعضهم قال: إنه لا يجب به إلا طلقة واحدة بائنة في غير المدخول بها، ورجعية في المدخول بها، أما الكناية الظاهرة فإنها تنقسم إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: ما يلزم فيه الطلاق الثلاث، سواء كانت الزوجة مدخولاً بها أو لا بدون نظر إلى نية، وهو لفظان: أحدهما أن يقول لها: أنت بتة، فإذا قال لها هذه الكلمة طلقت منه ثلاثاً سواء قال: إنه نوى الطلاق أو لا، وسواء قال إنه نوى واحدة أو أكثر، وذلك لأن البت معناه القطع، فكأنه قطع عقدة النكاح التي بينهما بتاتاً. ثانيهما: أن يقول لها: حبلك على غاربك فهذا كناية عن أنه ألقى عصمتها من يده على كتفها، فلا شأن له بها فيقع عليه الطلاق الثلاث.
وسيأتي أن هذين إنما يقع بهما الثلاث إذ كان العرف جارياً على أن يطلق الرجل بهما، وإلا كانت من الكنايات الخفية التي تقدم حكمها.
القسم الثاني: ما يلزم فيه الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، أما إن كانت غير مدخول بها فإنه يلزمه فيه طلقة واحدة إن لم ينو أكثر، وهو ثلاثة أمور: الأول أن يقول لها: أنت طالق واحدة بائنة، فإذا قال لها ذلك، وكانت مدخولاً بها، وقع عليه الطلاق الثلاث وذلك لأن البينونة بغير عوض وبغير لفظ الخلع بعد الدخول تنحصر في البينونة الكبرى، وهي الطلاق الثلاث أما إذا كانت قبل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الدخول، أو كانت مقارنة لعوض الخلع فإنها تكون واحدة، فإن قلت: إن قوله: أنت طالق واحدة بائنة قد نص فيها على الواحدة، فلماذا لا يعامل بها؟ والجواب: أن لفظ الواحدة تهمل للاحتياط. الثاني: أن يذكر لفظ الطلاق صريحاً وينوي به الواحدة البائنة، كأن يقول لها: أنت طالق، وهو ينوي به واحدة بائنة فإن كانت الزوجة مدخولاً بها طلقت منه ثلاثاً لأن نية الواحدة البائنة كالنطق بها، فإن لم تكن مدخولاً بها طلقت واحدة إن لم تكن له نية، فإن نوى أكثر عومل بما نواه. الثالث: أن يذكر لفظ كناية خفية، ويريد به تطليقها واحدة بائنة، كما إذا قال لها: ادخلي الدار ونوى به تطليقها واحدة بائنة، فكأنه قال لها: أنت طالق واحدة بائنة فإنه يلزم بذلك الطلاق الثلاث إذا كانت الزوجة مدخولاً بها فإن لم تكن مدخولاً بها، لزمته طلقة واحدة إلا أن ينوي أكثر.
والحاصل أنه إذا صرح بقوله: أنت طالق واحدة بائنة لزمه الثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها ما لم ينو أكثر، وإذا عبر عن معنى هذه الجملة بطلاق صريح، كما إذا قال لها: أنت طالق ونوى تطليقها واحدة بائنة فكذلك، وكذا إذا عبر عنها بكناية خفية كما إذا قال لها: ادخلي الدار وأراد تطليقها واحدة بائنة أما التعبير عنها بالكناية الظاهرة، كما إذا قال لها: خليت سبيلك، فإنه، لا فائدة فيه، وذلك لأن الكناية الظاهرة يلزمه فيها الطلاق الثلاث في المدخول بها وإن لم ينو الواحدة البائنة، فإذا قال لامرأته المدخول بها: خليت سبيلك طلقت منه ثلاثاً وإن لم ينو الواحدة البائنة، وقد يقال: إنه إذا قال لها: خليت سبيلك لا يقع بها الثلاث إلا إذا نوى عدد الثلاث، بخلاف ما إذا نوى الواحدة البائنة، فإنه يقع بها الثلاث بدون نية عدد، وعلى هذا يصح أن يقال: إذا صرح بقوله: أنت طالق واحدة بائنة. أو عبر عنه بطلاق صريح، أو بكناية خفية. أو بكناية ظاهرة لزمه الطلاق الثلاث إذا كانت زوجته مدخولاً بها، ولزمته إذا كانت غير مدخول بها ما لم ينو أكثر.
القسم الثالث: من الكنايات الظاهرة ما يلزم به الطلاق الثلاث في المدخول بها وغيرها، ولكن في المدخول بها تلزمه الثلاث وإن لك ينو. أو نوى واحدة، أو ثنتين، أما غير المدخول بها فإنه يلزمه الثلاث إن نوى، أو لم ينو شيئاً. لأنه من الكنايات الظاهرة التي لا تتوقف على نية.
وذلك في ألفاظ، منها أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير، ومنها وهبتك لأهلك، أو وهبتك لنفسك. ومنها أن يقول لها: ما أرجع إليه من أهل الحرام، ويريد من الأهل الزوجة أما إذا أراد أقاربه غيرها فإنه يقبل منه، ومنها أن يقول لها: أنت خلية. أو برية، أو أنا منك خلي أو بري. ومنها أنت بائنة. أو أنا منك بائن، فكل هذه الألفاظ يقع بها الطلاق الثلاث في المدخول بها ولو نوى أقل، أو لم ينو، وفي غير المدخول بها يقبل منه إذا نوى أقل من الثلاث نعم إذا دلت قرينة على أنه لا يريد الطلاق، وقال: إنه لم ينو الطلاق فإنه يقبل منه قضاء وإفتاء بيمينه، وذلك كما إذا كان يتكلم معها في نظافتها ورائحتها، فقال لها: أنت كالميتة والدم ولحم الخنزير وأراد بذلك قذارتها ونتنها، أو كان يتكلم معها في حسن الأدب والمعاشرة فقال لها: أنت خلية، أو برية، أي خالية من الأدب، أو بريئة منه، أو كانت تتكلم معه في احتياج أبويها إلى خدمتها، أو في احتياجها إلى الراحة، فقال لها: وهبتك لأهلك، أو وهبتك لنفسك. أو طلب منها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أن تقرب منه وكان بينهما فرجة، وقال لها: أنت بائنة مني، أي منفصلة عن ملاصقتي، أو نحو ذلك وهذا ما يسميه المالكية بساط اليمين، فإذا دل البساط على أنه لا يريد الطلاق فإنه يقبل منه في المدخول بها وغيرها.
هذا ويشترط في وقوع الطلاق بهذه الألفاظ كلها أن يكون العرف جارياً على أن يطلق الناس بها، أما إذا كانوا لا يطلقون بهذه العبارات، فإنها لا تكون كناية ظاهرة، بل تكون من الكنايات الخفية التي لا يقع بها شيء إلا بالنية، ومثل هذه الألفاظ حبلك على غاربك التي يقع بها الثلاث في المدخول بها وغيرها فإنه إذا لم يكن عرف الناس جارياً على التطليق بها، كما في زماننا، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، فإذا نوى واحدة لزمته، وهكذا كما تقدم. وقد قال المحققون من المالكية: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق وغيره من الأحكام المبنية على العوائد والعرف، كالمنافع في الإجارة، والوصايا والنذر، والأيمان، إلا بعد أن يعلم عرف أهل البلد أو القبيلة في ذلك الأمر.
وبهذا تعلم أن معظم الكنايات الظاهرة التي قال المالكية إنه يقع الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نية هي من الكنايات الخفية في زماننا لأنه لم يطلق بها أحد.
القسم الرابع: ما يلزم به الطلاق الثلاث إلا إذا نوى أقل منها في المدخول بها وغيرها وهي أن يقول لها: خليت سبيلك فإذا قال لامرأته ذلك فإنه يلزمه الثلاث إن نوى الثلاث، أو لم ينو شيئاً، أما إذا نوى واحدة، أو اثنتين فإنه يلزمه ما نواه، سواء دخل بها، أو لم يدخل فإذا نوى بقوله: خليت سبيلك طلقة واحدة بائنة في المدخول بها لزمه الثلاث، وإن لم ينو الثلاث، لما عرفت من أن الواحدة البائنة يلزم بها الثلاث، فكذا ما يعبر به عنها، أما في غير المدخول بها فإنه يلزمه واحدة، كما تقدم.
القسم الخامس: ما يلزم فيه واحدة في المدخول بها وغيرها إلا إذا نوى أكثر، وهو اعتدي، وفارقتك.
هذا، ومن الكنايات الظاهرة التي يلزم فيها الثلاث أنت خالصة، أو لست لي على ذمة. وأما عليه السخام فيلزم فيه واحدة إلا أن ينوي أكثر، أما نحو عليه الطلاق من فرسه، ومن ذراعه فإنه لا يلزم فيه شيء، وبعضهم يقول: إن قوله أنت خالصة أو لست لي على ذمة، يقع به واحدة بائنة.
الشافعية - قالوا: ألفاظ الكنايات كلها يقع بها الطلاق الذي ينويه الزوج، فإذا لم ينو طلاقاً لا يلزمه شيء، وإذا نوى بها أكثر من واحدة وقع ما نواه، ولو قيدها بواحدة كأن قال لها: أنت واحدة، ونوى بذلك تطليقها ثنتين، أو ثلاث، كما تقدم في الصريح، فإن الرجل يعامل في الطلاق بنيته، لأن الشارع جعل عدد الطلاق منحصراً في ثلاث، فما نواه منها يكون في حكم الملفوظ، فهو داخل في اللفظ حكماً، والتقيد بواحدة لا يمنع من دخول المنوي في اللفظ بحيث لا يجعل واحدة صفة لمصدر محذوف تقديره أنت طالق طلقة واحدة. فلا يحتمل الاثنتين، أو الثلاث وإنما يجعل حالاً من المرأة فكأنه قال لها: أنت طالق حال كونك واحدة، أو منفردة عن الزوج، وتجعل نيته أكثر من واحدة قرينة على ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويشترط في الكناية التي يقع بها الطلاق أن تكون محتملة للطلاق بحيث يكون اللفظ دالاً على الفرقة بدون تعسف، فليس من الكنايات نحو أغناك الله، لأنه يحتمل أغناك الله عني لأني طلقتك، ولكن هذا تعسف، ومثله اقعدي وقومي، وزوديني، وأحسن الله عزاءك، وكذا عليّ السخام لا أفعل كذا، لأن السخام لا يحتمل الطلاق، أما كلي، واشربي فقيل: ليست من الكناية، ولكن المعتمد أنها من الكناية، لأنها تحتمل كلي واشربي مرارة الفراق، وقد يقال إن هذا تعسف ظاهر.
أما ألفاظ الكنايات التي تنبئ عن الفراق. فمنها ما يشتمل على حروف الصريح، وهي: أطلقتك، أنت طالق، أنت مطلقة، ومنها ما ليس كذلك، كأنت خلية، أنت برية، بتة، أي مقطوعة الوصلة، بتلة، متروكة النكاح، بائن، اعتدي، استبرئي رحمك فإنه يحتمل افعلي ذلك لأني طلقتك، وكذا الحقي بأهلك، حبلك على غاربك. لا أنده سربك - بفتح السين - وهو الإبل، وهو كناية عن أنه لا يهتم بشأنها لأنه طلقها، وكذا اعزبي واغربي، وقد تقدم تفسيرهما في المذاهب وكذا دعيني - أي لأني طلقتك - ومنها أن يقول لها: أشركتك مع فلانة المطلقة ومنها تجردي، أي من الزوج وكذا تزودي، أي اخرجي، سافري أي لأني طلقتك، ومنها أن يقول لها: أنا طالق منك، أو بائن. وذلك لأن الزوج وإن لم يصلح لإضافة الطلاق إليه ولكن لما كان محجوراً عليه زواج أختها، أو التزوج بأكثر من أربعة صح أن يطلق نفسه من هذا القيد، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أو نوى تطليقها فإنه يعمل بنيته، فإن لم ينو طلاقها فلا يقع به شيء، سواء نوى الطلاق في ذاته، أو نوى طلاق نفسه، أو لم ينو شيئاً، وهذا بخلاف ما إذا قال لها: استبرئ رحمي منك، أو أنا معتد منك، فإنه محال في حقه فلا يقع به طلاقها، ومنها أن يقول لها: أعتقتك، أو لا ملك لي عليك، ونوى طلاقها فإنه يلزمه. ومنها أن يقول لها: الزمي الطريق، لك الطلاق، عليك الطلاق، وهكذا كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره فإنه يكون كناية يقع بها ما نواه.
ومن كنايات الطلاق لفظ العتق، فإذا قال لزوجته: أعتقتك، ونوى به الطلاق لزمه ما نواه، وكذلك لفظ الطلاق يستعمل كناية عن العتق، فإذا قال لعبده: أنت طالق وأراد به العتق فإنه يصح.
الحنابلة - قالوا: تنقسم الكنايات إلى قسمين: القسم الأول الكنايات الظاهرة، وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة، كما تقدم، وهي ست عشرة كناية:
- 1 - أنت خلية.
- 2 - أنت برية، أو بريئة.
- 3 - أنت بائن.
- 4 - أنت بتة.
- 5 - أنت بتلة.
- 6 - أنت حرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- 7 - أنت الحرج، يعني الحرام، والإثم.
- 8 - حبلك على غاربك.
- 9 - تزوجي من شئت.
- 10 - حللت للأزواج.
- 11 - لا سبيل لي عليك.
- 12 - لا سلطان لي عليك.
- 13 - أعتقتك.
- 14 - غطي شعرك.
- 15 - تقنعي.
- 16 - أمرك بيدك.
واختلف فيما يقع بالكناية الظاهرة، فقيل: يقع بها الطلاق الثلاث إذا نوى الطلاق سواء نوى واحدة، أو أكثر أما إذا لم ينو بها الطلاق فلا يقع شيء، وهذا هو المشهور في المتون، وقد روي عن علي وابن عمر،
وزيد بن ثابت، وابن عباس، وأبي هريرة في عدة وقائع، وذلك لأن اللفظ يقتضي البينونة بالطلاق فيقع ثلاثاً بلا فرق بين المدخول بها وغيرها، وقيل يقع به ما نواه، كما يقول الشافعية، واختار هذا جماعة، لما روي من أن ركانة طلق امرأته بقوله: ألبتة، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستحلفه على أنه ما أراد إلا واحدة فحلف فردها له، رواه أبو داود وصححه، وابن ماجة، والترمذي، ولكن البخاري قال: إن في هذا الحديث اضطراباً، وعلى هذه الرواية إذا نوى الطلاق ولم ينو عدداً لا واحدة ولا لأكثر لزمته طلقة واحدة كما إذا نوى واحدة، فإذا نوى أكثر لزمه ما نواه، وعلى كل حال فيشترط لوقوع الطلاق بالكناية سواء كانت ظاهرة، أو خفية - وهي الآتي بيانها في القسم الثاني - شرطان:
الشرط الأول: أن ينوي بها الطلاق، لأن اللفظ يحتمل غير الطلاق، فلا يتعين الطلاق إلا بالنية، ويقوم مقام النية دلالة الحال كما إذا كانت بينهما خصومة، أو كان في حالة غضب، أو كان جواب سؤالها الطلاق، ففي هذه الحالة يقع الطلاق بالكناية ولو بلا نية لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال، فإذا ادعى في حال الغضب أو في حال سؤالها الطلاق. أو في حال الخصومة انه لم يرد به الطلاق فإنه لا يسمع منه قضاء، ولكن بينه وبين الله لا يقع عليه شيء إن كان صادقاً، أما في غير هذه الأحوال، كما إذا كان في حالة رضا ولم تسأله طلاقها، وقال لها: أنت بائن، وادعى أنه لم ينو طلاقاً فإنه يسمع منه قضاء أيضاً، لأن النية خفية، وقد نوى ما يحتمله اللفظ.
والحاصل أنه لا يقع طلاق بلفظ الكناية إلا بالنية، سواء كانت ظاهرة أو خفية ثم إن أمر النية موكول للمطلق قضاء وديانة إلا أنه إذا نوى الطلاق ولم ينو عدداً فإنه في الكنايات الظاهرة يقع به الثلاث على المشهور، وكذا إذا نوى واحدة، أما على القول الثاني وهو أنه لا يقع بالكنايات إلا ما