الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب النهي]
لأن النهي له صيغة معلومة ومعنى معلوم على الانفراد؛ لأن النهي هو المنع عن الشيء بأبلغ الوجوه كالأمر هو الدعاء إلى الشيء بأبلغ الوجوه على سبيل الاستعلاء قولًان والنهي ضد الأمر فيكون على خلاف هذا. وحكمه:
وجوب الانتهاء وبقاء المنهي عنه على العدم.
ويثبت القبح اقتضاء للنهي شرعًا لا لغة كالأمر يقتضي الحسن شرعًا لا لغة؛ لأن الأمر والنهي كل واحد منهما يجيء في الحسن بعينه والقبيح بعينه ومعلوم أن النهي عن الحسن بذاته ليس بحكمة وكذا الأمر بالقبيح ليس بحكمة، والشارع عليم حكيم لا يأمر إلا بالحسن، ولا ينهي إلا عن القبيح، واقتضاء الأمر الحسن والنهي القبح كان من حكمة الشارع لا من اللغة.
ثم هو الحجر لغة لكن الفرق بينهما في الاصطلاح هو أن في الحجر تصرف إنسان على غيره بالمنع على وجه لا يبقى لتصرفه اعتبار أصلًا. كالقاضي إذا حجر الغير عن تصرف البيع والشراء وغيرهما لا ينفذ تصرفه أصلًا.
وأما النهي فلا ينفي نفاذ تصرف المنهي عما نهي عنه، فبعد ذلك اختلف العلماء في كيفية نفاذ التصرف بحسب المحال التي وقع فيها النهي. وذكر المصنف- رحمه الله هذا الباب لبيان ذلك فقال:
(النهي المطلق نوعان): أي النهي الذي لم يقيد بأن المنهي عنه قبيح لعينه أو لغيره نوعان: إذ المطلق هو المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات، أو الفعل الذي يتصور فيه النهي ويتحقق نوعان:
(نهي عن الأفعال الحسية)، فالأفعال الحسية هي: ما يتوقف وجوده وعرفانه على الحس (كالزنا وشرب الخمر والقتل)، فإنها تتحقق حسًا ممن يعلم الشرع وممن لا يعلم، ولا يتوقف وجودها على الشرع.
(والأفعال الشرعية)، هي: ما يتوقف حصوله وعرفانه على الشرع (كالصلاة) وغيرها، فإنها لغة الدعاء ثم زيد عليه أشياء شرعًا، فصارت
صلاة عرف ذلك بالشرع، وكذلك (الصوم) فإنه لغة الإمساك وزيد عليه أشياء شرعًا من اشتراط النية والوقت والطهارة من الحيض والنفاس، وقوله:(وما أشبه ذلك) كالطلاق والعتاق والوكالة والمضاربة.
(فالنهي عن الأفعال الحسية دلالة على كونها قبيحة في أنفسها لمعنى في أعيانها بلا خلاف)؛ لأن النهي أضيف إلى الفعل الحسي، والنهي الصادر من الحكيم يقتضي قبحًا ضرورة على ما ذكرنا، ثم لو كان قبيحًا لغيره لكان القبيح ذلك الغير في الحقيقة لا هون فلا يجوز أن يكون ما لم يضف إليه النهي قبيحًا.
وما أضيف إليه النهي لا يكون قبيحًا بخلاف الأفعال الشرعية على ما نبين إن شاء الله تعالى.
(إلا إذا قام الدليل على خلافه) فحينئذ يقتضي القبح لمعنى في غيره كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وقد علم أن النهي كان لمعنى مجاور للمحل لا لذاتهن وهو استعمال الأذى بدليل سباق الآية وهو قوله
تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} وكذلك قيل: لا يبطل به إحصان حد القذف، ويثبت به إحصان حد الرجم، ويثبت الحل للزوج الأول بهذا الوطء.
علم بهذه الأحكام أن هذا الوطء مشروع في نفسه ولكن القبح لمعنى في غيره.
وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} وقوله: {فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فالنهي في الأول باعتبار السفه، وفي الثاني باعتبار أن النشوز من جانب الزوج.
والدليل عليه إطلاق قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} وكذلك (نهي النبي عليه السلام عن المشي في نعل واحد) لم يكن لقبح في عينه ولكن كان ذلك تعليمًا للأدب.
ونظيره في العرف ما إذا قال الطبيب للمريض: لا تأكل اللحم، وما لو
قيل: لا تأكل هذا اللحم، وقد عرف أنه مسموم، فحينئذ يكون الأكل قبيحًا لغيره.
(فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول) أي يجب إثبات محتمل النهي عند قيام الدليل على أن المراد به محتمل النهي لا موجبه وكذلك عند الشافعي. وأما في حق إثبات موجب النهي لا يحتاج إلى إقامة الدليل.
بيان هذا أن النهي عن الأفعال الشرعية إذا صدر من الحكيم يثبت القبح في المنهي عنه لا محالة بطريق الاقتضاء بلا خلاف.
لكن عندنا يقتضي القبح لمعنى في غير المنهي عنه على وجه يبقى المنهي عنه مشروعًا إلا إذا قام الدليل على كون المنهي عنه قبيحًا لعينه كما في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} وكبيع الملاقيح والمضامين ففي هذه المواضع المنهي عنه قبيح لعينه فلم يبق مشروعًا، فكانت صورة النهي في هذه
المواضع ومثلها مجازًا عن النفي، فكانت إخبارًا عن التحريم لكن هذا عندنا محتمل النهي لا موجبه مطلقًا، وعند الشافعي يثبت القبح بمطلق النهي على وجه لا يبقى المنهي عنه مشروعًا فيكون قبيحًا لعينه وهو موجب النهي عنده. إلا إذا قام الدليل على كونه قبيحًا لغيره كالبيع وقت النداء.
فالحاصل أن ما هو موجب النهي المطلق عندنا فهو محتمل النهي عند الشافعي، وما هو موجب النهي عنده فهو محتمل النهي عندنا وهو معنى قوله: فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول والاستثناء في قوله: (إلا أن يقوم الدليل) راجع إلى المذهبين.
(فمن قال بأنه يكون مشروعًا في الأصل قبيحًا في الوصف يجعله مجازًا في الأصل حقيقة في الوصف). يعني الأصل أن النهي إذا أضيف إلى شيء أي إذا تعدى فعل النهي إليه يكون ذلك الشيء منهيًا عنه وقبيحًا، فمن جعل ما لم يضف إليه النهي منهيًا عنه وقبيحًا جعله مجازًا، وفيما نحن فيه أضاف النهي إلى الصوم فينبغي أن يكون هو منهيًا عنه وقبيحًا لإضافة النهي إليه، ولم يضف النهي إلى ما هو وصف الصوم على ما قال الخصم، فلو كان القبح ثابتًا في الوصف دون الأصل يكون الوصف حقيقة في كونه منهيًا عنه مع أنه لم يضف إليه النهي، والمنهي عنه وهو الصوم لا يكون قبيحًا مع أن
النهي أضيف إليه ولا يكون (هذا إلا عكس الحقيقة وقلب الأصل)؛ لأن الأصل أن يكون الأصل أصلًا والوصف تبعًا، وفيما قالوا: جعل الأصل تبعًا والتبع أصلًا وهو قلب الأصل.
ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى يكون حسنًا لمعنى في عينه إلا بدليل أي حينئذ يكون الأمر حسنًا لمعنى في غيره كالأمر بالوضوء، وقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} .
(وهذا لأن المطلق في كل شيء يتناول الكامل منه) أي الكامل في مسمى ذلك الشيء المطلق لا الزائد على ذلك المسمى. كالرجل يتناول ذكرًا من بني آدم جاوز حد البلوغ هذا مسمى مطلق الرجل، ولكن لا يحتاج إلى أن يكون عالمًا مجتهدًا أو حافظًا (للجامعين) و (الزيادات) لأن ذلك غير داخل في مسمى الرجل.
{شَرَعَ لَكُمْ} أي بين المسلك وفتح الطريق إلى مرضاته.
(فصار النهي عن هذه التصرفات نسخًا) أي بيانًا لانتهاء مدة المشروعية هذا هو النسخ فصار النهي عن هذه التصرفات نسخًا (بمقتضاه) وهو التحريم السابق. إنما وصف التحريم بالسبق؛ لأن قبل ورود النهي لابد للناهي
من إرادة التحريم قبل أن يخاطب المكلف بالنهي، حتى يتحقق النهي بمقتضاه وهو قبح المنهي عنه. يعني إنما صار النهي نسخًا بما اقتضاه النهي من القبح والحرمة، وهذا لأن النهي عن المشروع. وهو مشروع لا يصح، فيثبت القبح والحرمة سابقين على النهي بزمان ليصح النهي.
وقوله: (ولهذا لم تثبت حرمة المصاهرة) هذا إيضاح معنى الجمع بين المعصية والمشروعية، وحرمة المصاهرة عبارة عن حرمة الموطوءة على آباء الواطئ وأبنائه، وحرمة أمهات الموطوءة وبناتها على الواطئ.
(ولا يلزم إذا جامع المحرم أو أحرم مجامعًا) يعني إذا أحرم في حالة الجماع يصير محرمًا مع أن الإحرام في حالة الجماع منهي عنه، فورد هذا على ما ذكر نقضًا وهذا ظاهر.
وأما إذا جامع المحرم فيرد عليه أيضًا، وهو أن الجماع مفسد للإحرام ومع ذلك بقي الإحرام بعد الجماع مفيدًا للأحكام كالإحرام الصحيح، حتى لو ارتكب شيئًا من محظورات الإحرام من قتل الصيد وحلق الرأس وقلم الأظفار كان موجبًا للدم، فاجتمع الفساد والمشروعية، فجاز أن يجتمعا فيما ذكر خصومك. والجواب للشافعي عن هذا: أن الإحرام منهي حالة الجماع لا لعين الإحرام بل للجماع، والجماع غير الإحرام لا محالة، فلم يمنع انعقاد الإحرام وصحته (لكنه محظور)، فصار مفسدًا للإحرام بعد ما صح وانعقد.
وقوله: (لكنه محظور) جواب إشكال وهو أن يقال: لما كان معنى الجماع غير الإحرام ينبغي ألا يفسد إحرامه فاستدرك، وقال:(والجماع غيره ولكنه محظورة) فلذلك (صار مفسدًا) للإحرام يعني أن الفساد نشأ من هذا وهو
المحظورية، وهذا أيضًا يصير جوابًا عن النقض الآخر. يعني فسد الإحرام بالجماع الواقع بعد الإحرام، ولكن الإحرام لازم شرعًا لا يحتمل الخروج باختيار العبد ففسد وبقي مشروعًا للزومه.
(ولم ينقطع بجنايته) وهي الجماع؛ لأن بقاءه مع ارتكاب هذه الجناية ضرب عقوبة، فلذلك لم ينقطع بجنايته لأن انقطاع الإحرام بجنايته نوع نعمة فلا يصلح أن يكون ذلك أثر الجناية، (وكلامنا فيما ينعدم شرعًا لا فيما لا ينقطع بجناية الجاني). يعني أن النزاع فيما إذا ورد النهي ابتدًاء عما هو مشروع أيبقى هو مشروعًا شرعًا أم ينعدم شرعًا؟ ولا نزاع فيما إذا جني على المشروع هل يبقى بعد جنايته للزومه أم ينقطع بجنايته؟
(ولا يلزم الطلاق في الحيض). يعني هو منهي عنه مع كونه مشروعًا (لمعنى في غيره) أي لمعنى في غير الطلاق (وهو الضرر على المرأة بتطويل العدة) يعني أن الطلاق في حالة الحيض إضرار بالمرأة؛ لأن هذه الحيضة لا تحتسب من العدة فتطول العدة عليها، (أو بتلبيس أمر العدة عليها) فإنه إذا طلقها في طهر جامعها فيه إضرار بها بتلبيس أمر العدة عليها؛ لأنها لا تدري
أن الوطء وقع معلقًا فتعتد بالحبل أو غير معلق فتعتد بالحيض، وهذا على مذهبه أظهر؛ لأن الحامل عنده تحيض فازداد الاشتباه، فكان قوله:(بتطويل العدة) متعلقًا بقوله: (ولا يلزم الطلاق في الحيض) وقوله: (أو بتلبيس أمر العدة) متعلقًا بقوله: (أو في طهر الجماع).
(ولنا ما احتج محمد-رحمه الله في كتاب الطلاق أن صيام العيد وأيام التشريق منهي عنه، والنهي لا يقع على ما لا يتكون). ذكر هذا التعليل على هذا الوجه في طلاق (المبسوط) وفي باب الرد على من قال: إذا طلق لغير السنة لا يقع، فقال: وهذه المسألة مختلف بيننا وبين الشيعة على فصلين:
أحدهما: أنه إذا طلقها في حالة الحيض أو في طهر قد جامعها فيه يقع الطلاق عند جمهور الفقهاء، وعندهم لا يقع.
والثاني: إذا طلقها ثلاثًا جملة عندنا يقع ثلاثًا، والزيدية من الشيعة يقولون: تقع واحدة، والإمامية يقولون: لا يقع شيء، وحجتنا في ذلك حرفان:
أحدهما: أن النهي دليل ظاهر على تحقق المنهي عنه؛ لأن النهي عما لا يتحقق لا يكون.
والثاني: النهي متى كان لمعنى في غير المنهي عنه لا يعدم المنهي عنه كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة.
(وبيانه أن النهي يراد به عدم الفعل مضافًا إلى اختيار العباد)
إلى آخره.
بيان هذا أن الله تعالى جعل الدنيا دار ابتلاء وجعل الآخرة دار جزاء، وخلق الجنة والنار، وخلق للنار فريقًا، وخلق للجنة فريقًا، وقال:{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقد كان علم بكل ما يوجد من العباد، فأمر العباد بأفعال ونهاهم عن أفعال تحقيقًا لما أخبر وما علم منهم ليجب عليهم الائتمار بما أمروا، ويجب عليهم الانتهاء عما نهوا عنه.
حتى أن من أطاع استحق الجنة بفضله، ومن عصى استحق النار بعدله، وإنما تتحقق الطاعة والعصيان إذا كانت أفعالهم اختيارية؛ لأن العقاب على ما لا مدخل للعبد فيه لا يجوز، فإذا امتنعوا عن تحصيل ما نهوا عنه صاروا مطيعين، وذلك إنما يكون إذا كان المنهي عنه مما يتصور أن يوجد، فإذا امتنعوا بقي الفعل على العدم بناء على امتناعه، ثم إن كان المنهي عنه حسيًا يتصور وجوده حسًا، وإن كان شرعيًا يتصور وجوده شرعًا. ليتصور الامتناع عن العبد ليبقى المنهي عنه على العدم بناء على امتناعه، وهذا هو حقيقة موجب النهي.
وأما النسخ فبيان أن المنسوخ لم يبق مشروعًا ولا يتصور وجوده شرعًا
كالتوجه إلى بيت المقدس.
وحل الأخوات، فإنه لم يبق مشروعًا البتة فصار باطلًا، ولا يمكن وجوده شرعًا، فامتناع الرجل عن ذلك بناء على عدم المشروعية ولا يتعلق ذلك باختيار العبد فكانا بمنزلة النقيضين.
إذ الأصل في أحدهما فرع في الآخر، والفرع في أحدهما أصل في الآخر، فإن عدم فعل العبد لعدم شرعيته في النسخ أصل وامتناع العبد فرع عليه، وامتناع العبد في النهي أصل وعدم الفعل فرع عليه، فلا يصح الجمع بينهما بحال.
فالنظر إلى حكم النهي يوجب صحة ما ذكرنا وفساد ما ذهب إليه الخصم، وكذلك النظر إلى مقتضى النهي وهو القبح. بيانه أن النهي الوارد من الحكيم يقتضي قبح المنهي عنه لصحة النهي، فكان ثبوت القبح في المنهي عنه شرطا لصحة النهي ثابتا بطريق الاقتضاء، فكان ثابتا بالضرورة فيجب إثباته على قدر ما ترتفع به الضرورة، وذلك فيما قلنا: وهو أن يجعل القبح وصفا للمشروع فلا يجوز إثبات القبح وهو المقتضى- بفتح الضاد- على وجه يبطل به المقتضي- بكسر الضاد- وهو النهي، وما قاله الخصم يؤدي إلى هذا؛ لأنه أثبت القبح في المنهي عنه لعينه، وفيه إبطال النهي وهو المقتضي، وفي إبطال
المقتضي إبطال المقتضى فكان مثبتًا القبح على وجه يبطل به القبح.
فثبت بهذا الذي ذكرنا أنه هو القائل بقلب الأصول وعكس المعقول لا نحن، وفيما ذكرنا رعاية منازل المشروعات؛ لأن الدليل دل على إثبات القبح في النهي على ما ذكرنا من ثبوته ضرورة، ودل الدليل أيضا على إثبات مشروعية المنهي عنه على ما ذكرنا.
وفيما ذكر إهدار بعض الأدلة لما أن منازل المشروعات متفاوتة. صحيحة وفاسدة ومكروهة، وفيما ذكر إبطال هذه الرعاية بخلاف الأفعال الحسية حيث يثبت القبح فيها لأعيانها؛ لأنها متصورة الوجود بل متحققة الوجود مع كمال القبح فيها وثبوت القدرة للعبد على تحصيلها بخلاف الأفعال الشرعية.
ومثال الفرق الواضح بين النهي عن الأفعال الحسية وبين النهي عن الأفعال الشرعية، ما ذكره الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي-رحمه الله بقوله:
وبيان هذا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فإنه كان تحريمًا لفعل القربان ولم يكن تحريمًا لعين الشجرة، وكما لا يتصور تحريم قربان
الشجرة بدون الشجرة، لا يتحقق تحريم أداء الصوم في وقت ليس فيه صوم مشروع، وبهذا الحرف يتبين الفرق بين الأفعال الحسية والأفعال الشرعية، فإنه ليس من ضرورة حرمة الأفعال الحسية انعدام التكون.
فقلنا: تأثير التحريم في إخراجها من أن تكون مشروعة أصلًا وإلحاقها بما هو قبيح لعينه، ومن ضرورة تحريم الأفعال الشرعية بقاء أصلها مشروعًا إذ لا تكون لها إذا لم تبق مشروعة، وبدون التكون لا يتكون تحريم فعل الأداء، وكذلك في العبادات فكان في إبقاء المشروع مشروعًا مراعاة حقيقة النهي لا أن يكون تركًا للحقيقة
فإن قيل: عند النهي كان الصوم متصورًا شرعًا فكفى ذلك التصور لصحة النهي فلا حاجة إلى بقائه مشروعًا بعد ذلك.
قلنا: النهي إنما كان لإعدام المنهي عنه من قبل المنهي في المستقبل كالأمر للإيجاد في المستقبل فلا بد أن يتصور وجوده شرعًا في المستقبل ليتحقق الانتهاء بالنهي كما في الأمر، ولا يكون ذلك إلا ببقائه مشروعًا في المستقبل حتى يكون المنهي عنه موجودًا في المستقبل، ولا يكون ذلك إلا بكونه مشروعًا في المستقبل.
ثم معنى إسناد الإرادة إلى عدم الفعل في قوله: (إن النهي يراد به عدم الفعل) إلى آخره.
قال الإمام العلامة مولانا شمس الكردري-رحمه الله المراد من النهي المطلق والأمر المطلق وجوب الانتهاء ووجوب الائتمار في حق الكل، فأما حصول المأمور به في حق من علم الله تعالى أنه يأتمر بأوامره مراد الله تعالى وفي حق من علم أنه لا يأتمر بأوامره حصول المأمور به ليس مراد الله تعالى، والامتناع عن المنهي عنه مراد الله تعالى في حق من علم أنه يمتنع عن تحصيل المنهي عنه.
وأما في حق من علم أنه لا يمتنع عن تحصيل المنهي عنه فالامتناع عنه غير مراد.
وفيما ذكرنا تحقيق أخباره من نحو قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وهذه الآية تدل على أن المعاصي بإرادة الله وتحقيق علمه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بناء على أن المعاصي والطاعات وجميع الحادثات بإرادة الله.
ولما كان كذلك كان قوله في الكتاب: (إن النهي يراد به عدم الفعل) محتاجًا إلى التأويل، وتأويله ما ذكرنا من أن ذلك مصروف إلى من علم الله
منه الامتناع عن مباشرة المنهي عنه، وأما في حق الكل فالمراد من النهي إيجاب الانتهاء لا حصول الانتهاء.
وقوله: (فيعتمد تصوره) أي فيقتضيه. (بين أن يكف عنه) أي يمتنع عنه. (ليصير امتناعه) أي امتناع العبد. (على عدمه) أي على عدم كونه مشروعًا.
(وفي النهي يكون عدمه أي عدم الفعل بناء على امتناعه) أي امتناع العبد (وهما في طرفي نقيض)؛ لأن الأصل في أحدهما فرع في الآخر على ما ذكره، (فلا يصح الجمع بحال) أي لا يصح الجمع بين النهي والنسخ أي لا يصح أن يكون النهي نسخًا فيه. رد لقول الشافعي؛ لأنه يلزم على قوله أن يكون النهي نسخًا.
(والحكم الأصلي في النهي ما ذكرنا) هو قوله: إن النهي يراد به عدم الفعل مضافًا إلى اختيار العباد) إلى آخره (مقتضى به) أي القبح ثبت بطريق الاقتضاء بالنهي؛ لأن قبح المنهي عنه إنما نشأ من ضرورة حكمة الناهي لما أن
الناهي إذا كان حكيمًا لا ينهى عن شيء إلا إذا كان في ذلك الشيء قبح، فوجب إثبات القبح على وجه يبقى النهي ببقائه وذلك إنما يكون إذا كان القبح في وصف المشروع لا في عينه. إذ لو كان في عينه لا يبقى وجود المنهي عنه؛ لأن وجوده شرعيته، فحينئذ لا يبقى النهي نهيًا بل يكون نسخًا، وهو معنى قوله:(فلا يجوز تحقيقه على وجه يبطل به ما أوجبه).
وقوله: تحقيقًا لحكمه (أي لحكم النهي وهو وجوب الانتهاء، فكان تابعًا أي فكان القبح تابعًا، فلا يجوز أي تحقيق القبح على وجه يبطل بذلك تحقيق ما أوجب النهي واقتضاه.
(فيصير المقتضى دليلًا على الفساد بعد أن كان دليلًا على الصحة) أي فيصير حينئذ أي حين تحقيق القبح على وجه يبطل به النهي دليلًا على فساد النهي بعد أن كان دليلًا على صحة النهي؛ لأنه لما كان مقتضيًا للنهي على الوجه الذي قررنا كان دليلًا على صحة النهي، ثم لو قلنا بأن القبح في عين المنهي عنه كان النهي نسخًا ولم يبق النهي نهيًا، فكان تحقيق القبح على ذلك الوجه دليلًا على فساد النهي وهو المقتضي.
(بل يجب العمل بالأصل في موضعه) أي بل يجب العمل بأصل النهي في موضع النهي، وهو أن يكون عدم الفعل بناء على امتناع العبد لا بناء على
عدم مشروعيته عن المنهي عنه.
(فتنعدم لما قلنا) أي في طرف الشافعي. (يحتمل هذا الوصف) أي وصف الفساد.
(والمشروع يحتمل الفساد بالنهي كالإحرام الفاسد)، فإن قلت: هذا النظير إنما يستقيم لما ادعاه المصنف أن لو لم يكن الشافعي أجاب عن هذا، وقد أجاب فيما تقدم بقوله:(والإحرام لازم شرعًا لا يحتمل الخروج باختيار العباد) إلى آخره وكذلك قاس النهي على الأمر بأن كل واحد منهما حقيقة فيما اقتضاه، ثم مطلق الأمر محمول على أن المأمور به حسن لمعنى في عينه فيجب أن يكون ضده النهي محمولًا على أن المنهي عنه قبيح لمعنى في عينه، فلا بد من وجه الدفع لجوابه ووجه الفرق لجمعه، حتى يسلم لنا ما تمسكنا به.
قلت: أما الدفع لجوابه فهو أن يقول: إن الذي ذكره من الجواب يرجع
إلى تحقيق ما قلنا وهو: أن فساد الإحرام بالجماع مع مشروعية أصله حكم ثابت شرعًا، وللشرع ولاية إعدام أصل الإحرام، فلو كان من ضرورة صفة الفساد انعدام الأصل في المشروعات لكان الحكم بفساده شرعًا معدمًا لأصله.
ألا ترى أن بسبب الردة ينعدم أصل الإحرام فعلم بهذا أن أصل الإحرام قابل للبطلان باختيار العباد، فلو كان من ضرورة قبح صفة المشروع فساد أصله لما بقي هنا الإحرام مع الفساد، وقد بقي أصله مشروعًا مع فساد وصفه.
علم بهذا أن ليس من ضرورة الفساد في وصف المشروعات، الفساد في أصلها مع احتمال فساد الأصل.
وأما الفرق لجمعه فظاهر، وهو أن من جعل الحسن في عين المأمور به لا يلزم بطلان الأمر، ومن جعل القبح في عين المنهي عنه يلزم بطلان النهي على ما ذكرناه.
وهذا لأن مطلق الأمر يوجب حسن المأمور به لعينه؛ لأنه طلب الإيجاد بأبلغ الجهات، فكان في إثبات صفة الحسن بمقتضى الأمر على هذا الوجه تحقيق المأمور به.
فأما النهي فطلب الإعدام بأبلغ الجهات، ولكن مع بقاء خيار العبد فيه
ليكون مبتلًى كما في الأمر، وتحقيق بقاء الخيار إنما يكون إذا كان انعدام الفعل بناءً على امتناع العبد عنه بالاختيار حتى يثاب عليه لا أن يكون انعدام الفعل بناءً على عدم المشروعية كما في النسخ. إلى هذا كله أشار الإمام شمس الأئمة السرخسي-رحمه الله.
(والطلاق الحرام) بأن طلقها في حالة الحيض حتى انتقص به عدد الطلاق ولزمت الرجعة، فترتب حكم الطلاق عليه دليل على شرعيته، ولزوم المراجعة عليه دليل على فساده رعاية لمنازل المشروعات، فإن الأحكام المشروعة تتفاوت شرعيتها بحسب كمال أسبابها ونقصانها، ولو لم نقل بالفساد لا نكون قائلين بمنازل المشروعات أجمع من صحيح وفاسد
ومكروه ومحافظةً لحدودها وهي حد النهي والنسخ والمقتضي والمقتضى، وتلك المحافظة إنما تكون فيما قلنا لا فيما قاله الشافعي؛ لأن فيما قاله لا يبقى النهي نهيًا ولا المقتضي والمقتضى على حقيقتهما.
(لأن البيع بالخمر منهي عنه بوصفه وهو الثمن)؛ لأن الأصل في وجود البيع وصحته هو المبيع.
ألا ترى أن المبيع لو لم يكن مقدور التسليم لا يجوز البيع بخلاف الثمن، فإن القدرة على تسليم الثمن ليست بشرط لصحة البيع، فإن الفقير المعدم إذا اشترى أشياء كثيرة نفيسة بأثمان غالية صح البيع، ولو كان الثمن أصلًا فيه لما صح البيع كما في جانب المبيع.
وكذلك في حق صحة الإقالة لا يشترط بقاء الثمن ويشترط بقاء المبيع،
ويجوز الاستبدال بالثمن دون المبيع، وهذا كله آية لأصالة المبيع وعدم أصالة الثمن في البيع، ولكن مع ذلك لا يصح البيع بدون ذكر الثمن المعلوم، فكان جاريا مجرى الأوصاف، فلذلك كان الفساد المتمكن في الثمن مفسدًا للبيع كما في بيع الثوب أو العبد مثلا بالخمر بخلاف بيع الخمر بالدراهم أو الدنانير، فإنه باطل لا فاسد لتمكن الفساد في المبيع الذي هو الأصل.
(لأن الخمر مال)؛ لأنها داخلة تحت حد المال؛ لأن المال هو غير الآدمي خلق لمصلحة الآدمي ويجري فيه الشح والضنة وهذا كذلك (وليست متقومة)؛ لأن المتقوم عبارة عن شيء يضمن بالاستهلاك إما بمثله أو بقيمته.
وقيل: هو عبارة عن شيء واجب الإبقاء إلى وقت الحاجة بعينه أو بمثله
أو بقيمته وهي ليست كذلك خصوصًا في حق المسلم، فإنه لو أتلف خمر المسلم لا يجب الضمان
(ولا خلل في ركن العقد) وهو الإيجاب والقبول، (ولا في محله) وهو المبيع؛ لأنه مال.
(وكذلك إذا اشترى خمرًا بعبد؛ لأن كل واحد منهما ثمن لصاحبه)؛ لأن هذا بيع مقايضة فلا يتعين واحد منهما للثمنية، ولكن لم يكن بد في البيع من المبيع والثمن، فلذلك كل واحد منهما مبيع وثمن؛ لأن الثمنية إنما تكون بالوضع كالذهب والفضة، أو بوصف ما يجب في الذمة من المكيلات والموزونات من غير الدراهم عند دخول الباء عليه لأنه حينئذ يثبت في الذمة ولا كذلك العبد؛ لأنه لا يصلح أن يكون ثمنًا، وإن دخل الباء عليه فلم يتعين الخمر لكونه مبيعًا، فلذلك فسد البيع ولم يبطل.
(بخلاف الميتة) والدم، فإن كلًا منهما ليس بمال، وإن كانت طائفة يتمولونه لما أن تمولهم ليس بمعتمد على الدين السماوي، فلا يكون معتبرا، أما الخمر والخنزير كان مالًا في الدين السماوي فاعتبرت ديانتهم لذلك في حق دفع إلزام عدم الضمان.
(لأنه ليس بمال)؛ لأن جلد الميتة جزء الميتة، والميتة ليست بمال، والجزء لا يخالف الكل.
(غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العوض). يقال: بيع رابح، وبيع خاسر.
علم بهذا أن الفضل وصف للبيع كالنقصان.
(وكذلك الشرط الفاسد) أي المفسد (في البيع مثل الربا)؛ لأن الربا عبارة عن: الفضل الخالي عن العوض المستحق بعقد البيع وهذا كذلك، فكان الشرط المفسد فيه مثل الربا.
(يعدم الوصف من شهادته)، وهو الأداء حتى يخرج القاذف من أن يكون أهل اللعان؛ لأن اللعان أداء وأداؤه فاسد بعد هذا النهي، ويبقى الأصل حتى ينعقد النكاح بشهادته.
(صوم يوم العيد حسن مشروع بأصله) إلى أن قال: (بل هو طاعة انضم إليه وصف هو معصية) لا يعني بقوله: (انضم إليه وصف) صفة زائدة على وجود الصوم؛ لأن العرض لا يقوم بالعرض وإنما عنى به أن للصوم في هذا اليوم جهة في الإعراض، فصار قبيحًا من حيث إنه إعراض لا من حيث إنه صوم، فكان صوم يوم العيد مشروعًا بأصله لمصادفته وقت الصوم؛ لأن يوم العيد يوم كسائر الأيام، فكان مشروعًا في نفسه، ولكن هو متضمن لرد الضيافة باعتبار أن هذا اليوم يوم أكل وشرب وبعال وهذا المعنى باعتبار صفة اليوم، وهو أنه يوم عيد فيثبت القبح في الصفة دون الأصل.
فإن قيل: لم يصادف هذا الصوم وقته؛ لأنه تعين هذا اليوم للأكل
والشرب بالحديث فيخرج عن وقتية الصوم كما خرج الليل عن وقتيته لتعينه للأكل والشرب لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} وقوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وكُلُوا واشْرَبُوا} قلنا: نجمع بين ما ذكرت وبين ما تمسك محمد بن الحسن-رحمه الله بحديث النهي عن صوم يوم العيد فقال: أفينهانا عما لا يتكون أو عما يتكون؟
فنقول: على قضية ما ذكرت ينبغي ألا يصح الصوم ولا النذر لتعينه للأكل والشرب، وعلى موجب ما ذكر محمد بن الحسن-رحمه الله من النكتة ينبغي أن يصح، والأصل في المتعارضين الجمع، فجمعنا.
وقلنا: لا يجوز الصوم ابتدًاء عملًا بما ذكرت ويصح النذر بما ذكر محمد-رحمه الله من النكتة، ولئن صام صار صومه صومًا شرعيًا، وكان الصوم مستحق الفطر، ولا يضمن بالشروع عملًا بما ذكرت.
وقيل: إنما افترق هذان الحكمان من قبل أن الصوم إعراض منه عن الضيافة فكان هو مطالبًا بالكف عنه شرعًا لا بإتمامه، فلا يكون الإفطار جناية منه على حق الشرع، ولا يبقى في عهدته حتى يحتاج إلى القضاء.
فأما بالنذر فلا يصير مرتكبًا للحرام، فيصح نذره ويؤمر بالخروج عنه بصوم يوم آخر، فبه يتم التحرز. عن ارتكاب الحرام، ولكن لو صام فيه خرج عن موجب نذره؛ لأنه التزم المشروع في الوقت ويتيقن بأنه أدى المشروع في الوقت إذا صام، فيسقط عنه الواجب وإن كان الأداء فاسدًا منه.
كمن نذر أن يعتق عبدًا بعينه فعمي ذلك العبد أو كان أعمى يتأدى المنذور بإعتاقه، وإن كان لا يتأدى بإعتاقه شيء من الواجبات، لما أن العبد مستهلك باعتبار وصفه، قائم باعتبار أصله، وكذلك الصوم في هذا اليوم مشروع باعتبار أصله، فاسد الأداء باعتبار وصفه، ولهذا لا يتأدى واجب آخر بصوم هذا اليوم؛ لأن ذلك وجب في ذمته كاملًا، وبصفة الفساد والحرمة في الأداء ينعدم الكمال ضرورة.
(ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت) أي يوجد به كما نقول: قيام العرض أي وجوده به، وهذا إيضاح كونه طاعة (ولا فساد فيه)؛ لأنه يوم كسائر الأيام من طلوع الشمس وغروبها.
وأما القبح فباعتبار شيء آخر وهو كونه متضمنًا للإعراض عن ضيافة الله تعالى.
(والنهي يتعلق بوصفه وهو أنه يوم عيد) وإنما قال: إن قوله: (يوم عيد) صفة لليوم؛ لأن الصفة هي الاسم الدال على بعض أحوال الذات، فلليوم أوصاف من كونه حارًا وباردًا وأول الشهر وعاشره ويوم عيد، أو لأن الصفة هي المعنى الذي يقع به التفرقة بين المشتركين وهذا كذلك؛ لأن بكونه يوم عيد يقع التفرقة بين هذا اليوم وبين سائر الأيام.
(والمتناول من جنس الشهوات بأصله طيب بوصفه)؛ لأن بإراقة الدم تزول المعصية بأول قطرة منه كما جاء في الحديث فبقى اللحم طيب
الوصف، أو لأنه داخل تحت قوله تعالى:{كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(فصار تركه طاعة بأصله) من حيث إن الصوم يقوم باليوم ولا فساد فيه من حيث إنه يوم كسائر الأيام.
(معصية بوصفه) وهو لزوم رد ضيافة الله تعالى باعتبار أنه يوم عيد إنما وصف المعصية متصل بذاته فعلًا؛ لأن رد الضيافة إنما ينشأ من فعل الصوم.
(لا باسمه ذكرًا) أي لا تتصل المعصية به وقت نذره به بسبب نذره، فلما كان نذره خاليًا عن المعصية صح نذره؛ لأنه نذر بالطاعة نظرًا إلى أن الصوم طاعة.
(وهو منسوب إلى الشيطان) وذلك في حديث الصنابحي- رضي الله عنه أن النبي عليه السلام نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال:(إنها تطلع بين قرني الشيطان، وإن الشيطان يزينها في عين من يعبدها حتى يسجدوا لها، فإذا ارتفعت فارقها، وإذا كان عند قيام الظهيرة قارنها، وإذا مالت فارقها، وإذا دنت للمغيب قارنها، وإذا غربت فارقها، فلا تصلوا في هذه الأوقات) كذا في (المبسوط).
قرن الشيء قوته، أنا مقرن لهذا الأمر أي مطيق له وقوة الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها فيها، والتثنية للمبالغة، ولا يقال: لما كان تسويل الشيطان في هذه الأوقات لعبدة الشمس كان ينبغي أن يباح الصلاة في هذه الأوقات بل أن يستحب رغمًا للشيطان وردًا لتزيينه؛ لأنا نقول: النسبة إلى الشيطان كافية في إيراث الكراهة كما في ظرف المكان في كراهة الوقوف في بعض المواضع من بطن عرنة ووادي محسر لنسبتهما إلى الشيطان فكذلك في ظرف الزمان في
بعض الأوقات، وهذا لأن في بعض الطاعات لزوم رغم الشيطان، ولكن في بعضها ورد الحديث بالنهي عن الطاعة في ذلك الزمان أو المكان، فعلينا الانقياد أو التسليم غلي موجب ما ورد به الحديث.
(وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة). وقوله: وهو سببها كأنه جواب إشكال يرد على قوله "وهو ظرفها لا معيارها"؛ بأن يقال: لما كان الفساد وصف للصلاة من حيث الوقت، جب ألا تنتقص الصلاة بذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة حيث يتأدى فيها الكامل وإن ورد النهي عنها أيضًا، لما أن ذلك ظرف مكان وهذا ظرف زمان فيستويان في الظرفية فيجب أن يستويا في عدم إيراث النقصان.
فأجاب عنه وقال: نعم كذلك، إلا أن الوقت سبب للصلاة وقد اتصف السبب بالنقصان فظهر ذلك في المسبب، وهو الصلاة إذ الحكم يثبت على حسب ثبوت السبب، فلذلك لا يتأدى به الكامل بخلاف ظرف المكان، فإنه لا سببية فيه، فلم يورث النقصان فتأدى به بالكامل.
وقوله: لا فاسدة "نتيجة لقوله: لا معيارها" يعني لما لم يكن الوقت معيارًا للصلاة كان الفساد المتمكن في الوقت اقل اتصالًا بالصلاة بالنسبة إلى الصوم، فإن الوقت في الصلاة معيار له، والمعيار مستغرق لجميع ما يودي فيه، فكان القبح الثابت في المعيار أكثر اتصالًا بالمؤدي، فكثر تأثيره في
الفساد، فلذلك فلا يضمن في الصوم، ولأن الوقت داخل في ماهية الصوم، لأن الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهارًا مع النية، فكان القبح المتمكن في الوقت متمكنًا في الصوم، فأزداد أثر القبح في الصوم فأورث الفساد، فبهذين المعنيين أعني- كون الوقت معيارًا للصوم وكونه داخلًا في ماهية الصوم- صار الصوم كأنه فسد من أصله، فلم يضمن بالشروع.
وأما الوقت في الصلاة فغير داخل في ماهيتها فلم يكن القبح المتمكن في الوقت متمكنًا في الصلاة بصفة الكمال، فلم يوجب الفساد كالقبح الثابت في الأرض المغصوبة، إلا أن الوقت سبب الصلاة وهو ناقص في الأوقات المكروهة، فيظهر النقصان في المسبب.
أما الأرض فليست بسبب ولا معيار فلم يورث النقصان.
فحصل من هذا كله أن المشرع الذي يتصل به القبح من الصوم والصلاة على ثلاثة أوجه: فاتصال كامل ووسط وناقص، فبحسب ذلك تثبت الأحكام، والكمال في الصوم يوم العيد، فذلك فلم يضمن بالشروع ولم يتأد به الكامل، والوسط وهو الصلاة في الأوقات المكروهة. إذ اتصال القبح بها اقل بالنسبة إلى الصوم وأكثر بالنسبة إلى الصلاة في الأرض المغصوبة، فلذلك لا يتأدى بها الكامل وتضمن بالشروع.
وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فاتصال القبح بها أقل من اتصال القبح بالأولين، ولذلك وجب فيها مجرد الكراهة فلم يورث الفساد والنقصان؛
لأن القبح فيها عن طريق المجاورة لا على طريق الاتصال في الحقيقة؛ لأنه ليس للأرض اتصال بالصلاة من حيث السببية ولا من حيث المعيارية، ثم كون الوقت سببًا وهو ناقص في حق صلاة العصر ظاهر.
وأما في حق مطلق الصلاة كالتطوع وغيره فإن سبب الصلاة هو البقاء وترادف نعم الله تعالى على المكلف على هذا الوقت. هكذا ذكره صاحب «ميزان الأصول» علاء الدين أو بكر محمد بن أحمد السمرقندي- رحمه الله فأقيم الوقت مقامه تيسيرًا والبقاء موجود في حق المتطوع فكان السبب موجودًا.
أو نقول: لما كان الوقت سببًا لجنس الصلوات وهو الفرائض ألحق التطوع بها؛ فجعل سببًا في حق التطوع أيضًا لما أن التطوع يجب الشروع والشروع فعل العبد فكان فعل العبد إيجابًا له، وإيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، والوقت سبب فيما أوجب الله تعالى فكذلك فيما أوجب العبد؛ لأنه لو شرع فريضة الوقت كان هذا الوقت سببًا لها، فكذا إذا شرع التطوع في هذا الوقت كان هذا الوقت سببًا له.
والدليل على أن الوقت عند الشروع سببًا لصلاة التطوع، أن من شرع صلاة التطوع في وقت مكروه فأفسدها فقضاها في وقت آخر مكروه يجوز.
كذا في نوادر صلاة «المبسوط» فعلل وقال:
لأنه لو أداها حين افتتحها لم يكن عليه شيء آخر، فكذلك إذا قضاها في مثل ذلك الوقت لم يلزمه شيء آخر؛ لأن القضاء بصفة الأداء أثبت جواز نقصان القضاء بنقصان الوقت في الأداء، أو نقصان الوقت في الأداء إنما يؤثر في القضاء أن لو كان الوقت سببًا له.
(والصوم يقوم بالوقت) أي يوجد به؛ لأن الوقت معيار للصوم (ويعرف به) أي يقال: الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهارًا مع النية.
(فأزداد الأثر فصار فاسدًا) أي ازداد أثر فساد الوقت وقبحه في الصوم لكون الوقت معيارًا له ومعرفًا له فصار الصوم فاسدًا، وهذا لأن القبح إذا أشتد قربه من الصوم والصلاة اشتد تأثيره.
ألا ترى أن البيع وقت النداء جائز نافذ لبعد القبح عن البيع، والقبح في الصلاة في الأوقات المكروهة أبعد من القبح في الصوم؛ لأن القبح في الصوم ينشأ من الوقت الذي هو داخل في الصوم ففسد، والقبح في الصلاة لوصف
يقوم بالوقت والوقت غير داخل في ماهية الصلاة فكان أبعد فلا يوجب الفساد كالقبح في الأرض المغصوبة إلا أن الوقت سببها وهو ناقص، فيظهر النقصان في المسبب فانتقص، والناقص لا يكون فاسدًا بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة لأن القبح لا ينشأ من سببها فصار مجاورًا فيتأدى به الكامل، كذا قرره ملانا حميد الدين- رحمة الله.
(وهذا بخلاف بيع الحر والمضامين والملاقيح). يعني ورد في الحديث «نهى النبي عليه السلام عن بيع الحر» وروي أنه: «نهى عن بيع الملاقيح والمضامين» أي عن بيع ما في البطون وما في أصلاب الفحول. جمع ملقوحة ومضمون.
(وهذه الاستعارة) أي استعارة النهي عن النفي.
(لما بينهما من المشابهة) أي صورة ومعنى.
أما الصورة: فلوجود حرف النفي فيها.
وأما المعنى: فلأن كل واحد منهما للإعدام ولما كان كذلك جازت استعارة النهي للنفي هاهنا للقيام الدليل عليه. كما جازت استعارة النهي للنفي في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وقوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بشهود» في أحد التخريجين، وقوله عليه السلام:«لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وقوله (لا صلاة للآبق).
(ولا خلاف فيه) أي في جواز الاستعارة عند قيام الدليل عليه، (إنما الخلاف في حكم حقيقته) أي في حكم حقيقة النهي يعني أن حقيقة النهي ما هي؟ فعندنا أن النهي في الأفعال الشرعية يقتضي الشرعية وعند الخصم لا يقتضيها.
(وكذلك صوم الليالي) أي النهي الوارد في صوم الوصال، وهي راوية الراوي:«نهي النبي عليه السلام عن صوم الوصال» أو روايته بقوله: «لا تواصلوا في الصيام» ذلك النهي مستعار عن النفي، والمراد بصوم الوصال أن يواصل الرجل الأيام والليالي بالصوم ويمسك عن المفطرات، وإنما قلتا: أنه مستعار عن النفي؛ لأن الصوم لا يتكون في الليل شرعًا.
وقد ذكرنا أن النهي في الأفعال الشرعية يقتضي تكون المنهي عنه شرعًا فلذلك كان النهي مستعارًا عن النفي، والقبح الذي كان في صوم الليالي وإن كان لعينه بحيث لا شرعية فيه أصلًا، وهو مجاور لصوم النهر فلم يؤثر في كمال صوم النهر، فلذلك قلنا: بأن صوم الفري يتأدى في أيام الوصال إذا نواه، لأن النهي للمجاور لا لمعنى اتصل بالوقت الذي يؤدى فيه الصوم. إلا أن الوصال لا يتحقق؛ لأن الشرع أخرج زمان الليل من أن يكون وقتًا لركن
الصوم وهو الإمساك باعتبار أن الإمساك عادة، كذا ذكره الأمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه- الله-
(فيتعين للصوم تحقيق تحقيقًا للابتلاء)؛ لأن الله تعالى ابتلى عباده بأفعال بالترك أو بالأقدام، وهذا المعنى في حق الصوم يتحقق بالنهار؛ لأن النفس داعية إلى الأكل والشرب وذلك بالنهار في العادة، فيتحقق به خلاف هوى النفس.
فأما في الليل فعلى وفاق هوى النفس فلا يتحقق فيه معنى الابتلاء على الكمال، ولا يقال بأن الجماع يوحد بالليالي في الأعم والإمساك عن الجماع ركن في الصوم أيضًا كالأكل والشرب؛ لأنا نقول: إن ذلك تبع لشهوة البطن؛ لأن ذلك ينشأ من الشبع.
(ولا يلزم النكاح بغير شهود) وجه الورود أن قوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بالشهود» مستعار عن النهي؛ لأنه لو حمل عن النفي على ما هو صيغته لكان إخبارًا عن عدمه وقد يوجد حسًا، فحينئذ يلزم الخلف في كلام صاحب الشرع، وعن هذا جمل النفي المذكور في قوله تعالى:
{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} على النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
أو لأن إحضار الشهود في النكاح مأمور به فيكون الأمر نهيًا عن ضده اقتضاء ضرورة فيما إذا لم يتعرض ضد الأمر بشيء، فكيف إذا ما تعرض الضد بالنفي الذي هو أبلغ من النهي، فورد نقصًا عن الأصل الذي قلنا إن النهي في الأفعال الشرعية لا ينفي المشروعية، والنكاح أمر شرعي وعند عدم الشهود يفسد النكاح أصلا ووصفًا فأجاب عنه بطريقتين:
أحدهما: على وجه المنع يعني لا نسلم بأنه نهي بل هو نفي على حقيقة فلا يرد علينا نقصًا؛ لأن كلامنا في النهي لا في النفي.
وأما قوله: «فلولا حمل علي النهي يلزم الخلف في كلام صاحب الشرع» . فقلنا: لا نسلم لزوم الخلف؛ لأن المنفي هو النكاح الشرعي وهو كذلك؛ لأن النكاح الشرعي بغير شهود لا يوجد أصلًا، فكان النفي على حقيقته.
بخلاف الرفث ونحوه فإنه يوجد حسًا أينما وجد، فلا يمكن حمله على النفي والثاني: على وجه التسليم فنقول: إن سلمنا أنه نهي لكن النهي يقتضي الحرمة لا محالة وملك النكاح ملك ضروري؛ لأنه استيلاء على جزء الحرة وهي بجميع أجزائها غير قابلة لتملك الغير إياها، وإنما شرع لحل الاستمتاع مع منافاة الدليل، فكان الحل فيه ضروريًا، والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها فمتى اتصف ذلك المحل بالحرمة لم يبق الحل أصلًا ووصفًا.
أو نقول: الحل في النكاح يثبت مقصودًا؛ لأن الحل لا ينفك عن النكاح الشرعي أصلًا، ثم من ضرورة فساد السبب ثبوت صفة الحرمة فيه لما أن بين الحرمة وبين ملك النكاح منافاة فينعدم الملك، ومن ضرورة انعدامه خروج السبب من أن يكون مشروعًا؛ لأن الأسباب الشرعية يراد لأحكامها.
فأما ثبوت النسب ووجوب المهر والعدة وسقوط الحد به من حكم الشبهة لا من حكم انعقاد أصل العقد شرعًا.
وقوله: (والتحريم لا يضاده) أي تريح الاستمتاع لا يضاد ملك اليمين؛ لأن الحل فيه تابع فلا يبالي بفوات الحل عند وجود حكم مخصوص مقصود للبيع وهو ملك اليمين.
وأما النكاح فالحكم المقصود له الحل، ومتى لم يثبت الحل لم يكن وجود
النكاح إلا صورة بلا معنى، ولصورة النكاح شبهة النكاح، فتثبت بها من الأحكام ما تثبت بالشبهة وهي ما ذكرناه من ثبوت النسب وغيره.
(ولفظ النهي في قوله تعالى {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} مستعار عن النفي بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أو نقول: إن قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} لا يرد نقضا علينا، فإن ذلك لم يكن مشروعًا أصلًا بدليل آخر الآية {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} وما هذا شأنه لا يكون مشروعًا من الأصل وكلامنا فيما كان مشروعًا ثم ورد النهي عنه في حقه. هكذا قرره الأستاذ الكبير- رحمة الله- (وأما استيلاء أهل الحرب) وجه الإيراد فيه أن الشافعي- رحمه الله يقول: عندي أن النهي يقتضي القبح لعينه على الإطلاق سواء كان المنهي عنه شرعيًا أو حسيًا فلا يفيد حكمًا مطلوبًا، وأنتم تفرقون بينهما، وقد وافقتموني في أن القبيح لعينه لا يفيد حكمًا مطلوبًا كبيع الحر والمضامين والملاقيح وغيرها، واستيلاء أهل الحرب من الأفعال الحسية، وهو محظور قبيح لعينه، والكفار بالحرمات مخاطبون بالإجماع، والملك المشروع يقتضي
سببًا مشروعًا بالإجماع؛ لأنه لابد من الملاءمة بين المؤثر والأثر وقد قلتم بثبوت الملك به مع أن الملك نعمة واستيلاء أهل الحرب معصية محضة، وكذلك هذا في الملك بالغضب وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وهذه أيضا نعمة بدليل أن الله تعالى من به في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} والنعمة لا تنال بالمعصية.
والجواب عنه ما ذكره في الكتاب وهو قوله: (فإنما صار منهيًا بواسطة العصمة) أي إنما صار الاستيلاء منهيًا عنه بواسطة أن المال معصوم لمالكه بعصمة ثابتة شرعًا، والعصمة إنما تثبت في حقنا، فكانوا منهيين عن الاستيلاء في اعتقادنا وهم يعتقدون ذلك وولاية الإلزام منقطعة عنهم بانعدام ولايتنا عليهم فلم يثبت النهي باعتقادهم فلم يعمل ما هو الحق الذي هو في اعتقادنا من حرمة الاستيلاء، فكان ثبوت الملك لهم باستيلائهم على
تقدير أنه ليس بمنهي عنه فلم يتجه علينا نقضًا.
فإن قيل: ينبغي أن لا يثبت الملك لهم في اعتقادنا؛ لأن في اعتقادنا أنهم منهيون، والمرء مؤاخذ بزعمه.
ألا ترى أن من زعم أن العبد الذي يسترقه زيد وهو حر فهو مؤاخذ بزعمه، حتى أنه لو وقع في ملكه بسبب من الأسباب يعتق عليه عملًا باعتقاده، فلم لم نجعل هنا كذلك حتى لا يثبت الملك لهم لما أن استيلاءهم على أموالنا قبيح لعينه ومعصية محضة فلا ينال له الملك الذي هو نعمة؟
قلنا: نعم كذلك، إلا أننا مأمورون بالعمل على حسب اعتقادهم وبتركهم مع اعتقادهم خذلانًا لهم.
ألا ترى أن العقود الفاسدة التي هي محكومة بفسادها في اعتقادنا لو دانوا بصحتها نقول بصحة تلك البياعات، ونحكم بتلك البياعات على ما نحكم بالبياعات الصحيحة من لزوم الملك بنفس العقد ولزوم البيع بحيث لا ينفرد أحمد المتعاقدين بالفسخ.
وكذلك في الأنكحة الفاسدة لو دانوا بصحتها حكمنا أيضا بصحتها حتى قلنا بثبوت الإرث بها وثبوت الملك وثبوت النسب حسب ثبوتها بالعقود لصحيحة إلا ما استثنى منها من نكاح المحارم على ما قاله عليه السلام:
"ولدت من نكاح لا من سفاح"، بخلاف ما ذكرت من اعتقاد حرية عبد زيد، فإن المعتقد هناك بالحرية غير مأمور بالعمل على حسب اعتقاد غيره، بل هو مأمور بالعمل بما هو في اعتقاده؛ لأن اعتقاده في حق نفسه يقين، واعتقاد غيره في حقه باطل أو شك، واليقين لا يترك بالشك.
أو نقول: وإن كان النهي ثابتًا على الإطلاق وتثبت العصمة على الإطلاق لكنها سقطت بالإحراز بدار الحرب، لأنها لم تبق محرزة بدار الإسلام فسقط حكم النهي في حق أحكام الدنيا؛ لأن الحكم ينتهي بانتهاء سببه، والعصمة كانت ثابتة بسبب الإحراز بدار السلام فسقطت هي بانتهاء سببها وهو الإحراز بدار السلام.
ألا ترى أن الحل إذا ثبت بالنكاح يبطل الحل ببطلان النكاح، وكذلك الملك والحل ينتهي بانتهاء البيع، حتى إن في رقاب الأحرار لما كانت العصمة عن الاسترقاق بالحرية المتأكدة بالإسلام ولم ينته بالإحراز الموجود منهم قلنا إنهم لا يملكون رقابنا.
ثم قوله: (وهي ثابتة في حقنا) أي والعصمة ثابتة في حقنا لبقاء ولاية إلزام عصمة ملك المالك في حقنا، وأما في حق أهل الحرب فلا.
وقوله: (ولأن العصمة متناهية بتناهي سببها)، وسببها إحراز المسلمين بدارهم، فإذا أحرز الكفار بدارهم انتهي ذلك السبب فسقط حكم.
النهي عنهم في حكم الدنيا ففلم يبق حرامًا في حقهم لذلك، حتى إن رقاب الأحرار لما كان عصمتها متأكدة بالإسلام لم يملكوا أحرارًا بإحرازهم في دارهم بالأسر والقهر لبقاء الإسلام، وهذا لأن العصمة على نوعين: مقومة، ومؤثمة، فالعصمة المؤثمة بالإسلام، والعصمة المقومة بالدار، فلا تبقى العصمة المقومة إذا أحزروا أموالنا بدارهم لانقطاع إحرازنا بدار الإسلام، وتبقى العصمة المؤثمة في الإحراز بدارهم لبقاء الإسلام.
آو نقول في الفرق بين الأموال والرقاب: إن الأصل في الأموال أن لا تكون معصومة لأحد لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} ثم الاختصاص بالملك كان بعارض الاختصاص بسبب من الأسباب ليتمكن من الانتفاع من باشر سببه، فلما زال تمكنه من الانتفاع بسبب استيلاء الكفار عاد إلى الأصل الذي هو عدم العصمة، وإن الأصل في الرقاب عدك كونها محلًا للتملك لقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} ، وفي التملك ترك التكريم، لكن يثبت فيها محلية التملك بعارض الكفر، وليس في رقابنا ذلك.
فبقيت على ما يقتضيه الأصل وهو عدم التملك، فكانت صفة الأموال مع صفة الرقاب على طرفي النقيض.
(وأما الملك بالغضب فلا يثبت مقصودًا بالغضب، بل شرطًا لحكم شرعي وهو الضمان).
بيان هذا أن الضمان حكم مشروع ثابت بالغصب بالإجماع، وهذا الحكم لا يثبت إلا بثبوت الملك للغاصب في المبدل، فكان ثبوت الملك للغاصب شرطًا لثبوت هذا الحكم المشروع وهو الضمان، وهذا لأن الضمان إنما شرع جبرًا لما فاته من المال لاعتبار جنابة الغاصب بالغصب.
ألا أن طائفة إذا اجتمعوا على غصب عين واحد يجب عليهم قيمة واحدة، ولو كان جنابة الفعل لوجب على كل واحد منهم قيمة تامة.
كما لو اشترك المحرمون في قتل صيد واحد يجب على كل واحد منهم جزاء كامل؛ لأن ضمان الفعل يتعدد بتعدد الفاعلين وهو معروف.
(وشرط الحكم تابع له) أي وفوات ملك المغصوب منه تابع لوجوب الضمان. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله: فإن الضمان ضمان الجبر، وإنما يجبر الفائت لا القائم، فكان انعدام ملكه في العين شرطًا لسلامة
الضمان له، وشرط الشيء تبعه، فإنما تراعي صلاحية السبب في الأصل لا في التبع.
ثم بعد فوات الملك المغصوب منه من المغصوب لضرورة ملكه في يد له لم يكن أحد اقرب في ثبوت الملك في المغصوب من الغاصب؛ لما أن الضمان وجب عليه فيثبت الملك له أيضًا، فكان ثبوت الملك بالغصب تبعًا للضمان الذي هو مشروع، والتبع لا يعطي له حكم الأصل كما إذا ضحى نصف سبع البدنة لا يجوز بالإجماع، وإذا ضحى ثلاثة أجزاء ونصف سبعة يجوز؛ لأن النصف هنا وقع ضمنا لا حكم له أصلًا؛ بل شرطًا لحكم شرعي؛ لأن النصف هنا وقع ضمنا لا حكم له أصلًا؛ بل شرطًا لحكم شرعي؛ أي بل يثبت الملك للغاصب لكون ثبوت الملك له شرطًا لحكم شرعي وهو الضمان.
(فصار حسنًا بحسنه) أي فصار ثبوت الملك للغاصب حسنًا بسبب حسن الضمان عليه إذ لا يمكن إيجاب الضمان على الغاصب بدون أن يخرج المغصوب عن ملك المغصوب منه ويدخل في ملك الغاصب، وإلا يلزم اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وهو المغصوب منه، وليس له نظير في الشرع.
وكان الأستاذ الإمام المحقق مولانا فخر الدين المايمرغي- رحمه الله-
يقول في تقرير قوله: إذا الجبر يعتمد الفوات، أو نمي بيني كه إسبان جامه رابر جاي مي زنيد كه در وي دريدكي بودنه در جائيكه أن جاي درست بود، وإن في قوله: وإن قبح كان مقصودًا به للوصل، يعني: اكر جه قبيح أست زوال ملك المالك در أن حالتيكه زوال ملك مقصود بود بغصب، ولكن حسن بود در آن حالت كه بطريق تبعيت أمر حسن مي شود.
وقوله: (في ضمان المدبر) جواب شبهة ترد على قوله: بل يثبت الملك شرطًا لحكم شرعي وهو الضمان بان يقال: يشكل على هذا المدبر فإن الضمان واجب على غصبه ومع ذلك لم يثبت الملك له؟
فأجاب عنه بهذا، وتحقيقه ما ذكر شمس الأئمة- رحمه الله فقال:
وفي المدبر على هذا الطريق نقول: لما سلم الضمان للمغصوب منه يجعل الأصل زائلًا عن ملكه؛ لأن المدبر محتمل لذلك، ولهذا لو اكتسب كسبًا ثم لم يرجع من إباقه حتى مات كان ذلك الكسب للغاصب، وإنما لم يثبت الملك للغاصب صيانة لحق المدبر، والتدبير موجب حق العتق له عندنا ولهذا امتنع بيعه.
وأما في القن بعد زوال الملك المغصوب منه فلا مانع من دخوله في ملك الغاصب الضامن وهو أحق الناس به؛ لأنه ملك عليه بدله.
وذكر في "شرح الطحاوي" فائدة عدم ثبوت الملك لغاصب المدبر في المدبر ان المدبر لو ظهر يرد على مولاه ويسترد منه القيمة، وليس للغاصب حبسه لأجل القيمة؛ لأنه لا يجوز بيعه فلا يجوز حبسه بالدين.
(ولا يدخل في ملك المشتري) أراد به الغاصب لما قلنا: إن مآله المعارضة، فكان الغاصب مشتريًا، أو أراد به المشتري حقيقة؛ لأن من اشترى مدبرًا وهلك في يده ضمن ضمان الغصب، (ولأن ضمان المدبر جعل مقابلًا بالفائت وهو اليد، وهذا طريق جائز. والأول طريق واجب) أي يصرف إليه على الإطلاق.
وأما هذا الطريق وهو أن يكون الضمان بمقابلة تفويت اليد إنما يصار إليه عند العجز عن العمل؛ بأن يكون الضمان بمقابلة تفويت ملك الرقبة، والضمان بمقابلة تفويت اليد إنما يكون في ضمان المدبر لا في ضمان القن؛ لأنه لا ضرورة في المصير إلى أن يجعل الضمان بمقابلة تفويت اليد في القن؛ لأنه قابل للنقل من ملك إلى ملك.
وقد قلنا: إن كون الضمان بمقابلة تفويت ملك الرقبة هو الأصل المقرر فلا يعدل عنه بدون الضرورة.
فكان القول بالضمان بمقابلة اليد أمرًا جائزًا، فإن الضمان قد يكون بمقابلة ما ليس بمال كما قلنا بوجوب الدية في القتل الخطأ، وهذا إنما يكون ضرورة لا أصلًا، وهذه الضرورة إنما يصار إليها في المدبر لا في القن؛ لأنه يمكن هناك إجراء الحكم على ما هو الموجب الأصلي فلا يصار إلى الأمر المحتمل كما قلنا في موجب اللفظ مع محتمله: إن الأصل هو العمل
بحقيقة اللفظ وموجبه، فإذا تعذر العمل بالحقيقة حينئذ يصار إلى المجاز وهو محتمل اللفظ، والمراد من الوجوب والجواز هذا.
(وأما الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة أصلًا بنفسه) أي من حيث الأصالة بنفسه أي من حيث إنه زنا لما عرف أن الفاسد لا ينتج إلا الفاسد، وحرمة المصاهرة نعمة على ما ذكرنا فكيف تضاف إلى ماهو قبيح وحرام لعينه؟ ولكن إنما ثبت حرمة المصاهرة باعتبار شبهة البعضية والجزئية. بيان ذلك (أن الزنا سبب للماء، والماء سبب لوجود الولد، والولد هو الأصل في استحقاق) حرمة المصاهرة باعتبار أنه جزء الوالدين لما خلق من مائهما على ما قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن ْنُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} .
علم أن الولد جزء لوالديه لما أن المشج- بكسر الميم- ما أختلط من ماء الرجل بماء المرأة، والولد كله يضاف إلى الأب، ويضاف أيضًا كله إلى الأم، فكان الرجل والمرأة صارا شخصًا واحدًا كزوجي الباب وزوجي الخف، فصار جزء الرجل جزء المرأة، فكان آباؤه كآبائها، وأبناؤه كأبنائها، وأمهاتها وبناتها كأمهاته وبناته.
وهو معنى ما قال في الكتاب "الأصل في ثبوت حرمة المصاهرة الولد ثم
يتعدى إلى أطرافه".
وقيل: هذا التعليل مستخرج من قول عمر- رضي الله عنه وتعليله في عدم جواز بيع أمهات الأولاد: "فكيف تبيعونها وقد أختلط لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن"، وكان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا باعتبار أنه سبب للولد لا باعتبار أنه زنا، فأخذ حكم الأصل وهو الولد في الأصل. لا عصيان ولا عدوان بل هو محترم مكرم داخل تحت قوله تعالى:} وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم {والأصل أن ما قام مقام شيء يعمل عمل أصله لا عمل نفسه.
ألا ترى أن الوكالة جائزة غير لازمة، وإذا وقعت في ضمن الرهن أخذت حكم الرهن وهو صفة اللزوم، وبطل حكمها بنفسها لقيامها مقام الرهن، وكذلك عبد الهاشمي إذا أعتقه مولاه أخذ حكم الهاشمي في حق حرمة الصدقة لقيامه مقام مولاه بحكم الاتصال بالسببية، فكذلك هاهنا قام الزنا مقام الولد باعتبار أنه سببه، فأخذ حكم الولد ويهدر وصف الزنا في إيجاب حرمة المصاهرة فكان الولد مثبتًا لحرمة المصاهرة لا باعتبار أنه حلال ولا باعتبار أنه حرام بل باعتبار أنه قام مقام الولد. وقوله: الولد هو الأصل في استحقاق
الحرمات؛ أي في استحقاق حرمة المصاهرة.
(ولا عصيان فيه) أي ولا معصية لله تعالى في الولد، أي لم يوجد منه عصيان لله تعالى. (ولا عدوان) أي ولا تعدي، أي لم يوجد منه تعد في حق العباد.
(ثم يتعدى منه إلى أطرافه) أي إلى الأب وألام، (وإلى أسبابه) أي إلى أسباب وجود الولد، كدواعي الوطء من القبلة والمس بشهوة.
(فإنما يعمل بعلة الأصل) وإذا كان عمله بعلة الأصل صار المنظور إليه الأصل لا القائم مقام الأصل.
(وسقط وصف التراب) وهو التلوث.
(لقيامه) أي لقيام الزنا (مقام ما لا يوصف) وهو الولد بذلك أي بالحرمة بتأويل التحريم، (في إيجاب حرمة المصاهرة) أي عدم اتصاف الزنا بالحرمة، إنما كان في حق إيجاب حرمة المصاهرة لا غير؛ لأنه في حق غيره هو معصية محضة وفعله فاحشة موجبة للجلد أو للرجم الذي هو أسوأ القتل.
(وأما سفر المعصية فغير منهي عنه لمعنى فيه) يعني أن العاصي في سفره يترخص برخص المسافرين عندنا خلافًا للشافعي، لأن سبب الرخصة السير المديد وهو موجود بصفة الكمال.
وأما العصيان فليس في نفس السفر؛ لأن العصيان هو التمرد على من يلزمه طاعته، والبغي على المسلمين ينفصل عن السفر وجودًا وعدمًا، فإنه قد يتمرد على مولاه وهو غير مسافر، بل هو في المصر، ويوجد سفره وهو مطيع على مولاه، وكذلك في قطع الطريق.
ألا ترى أن الرجل قد يخرج غازيًا ثم يستقبله غير، فيبدو له فيقطع عليهم.
فعلم بهذا أن النهي عن هذه الجملة كان نهيًا لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه، وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل مشروعًا، فلا يمتنع تحقق الفعل سببًا للرخصة بخلاف السكر، فإنه عصيان بعينه فلم يصح أن تتعلق الرخصة بأثره.
(ولا يلزم على هذا النهي عن الأفعال الحسية) أي ولا يلزم على ما ذكرنا من أن النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي المشروعية في المنهي عنه النهي عن الأفعال الحسية؛ حيث لا مشروعية في المنهي عنه أصلًا بل هو قبيح لعينه؛ (لأن القول بكمال القبح فيها وهو مقتضى مع كمال المقصود) وهو بقاء النهي نهيًا ممكن، أو أن المقصود من النهي هو الابتلاء، ويشترط في ذلك أن يكون العبد قادرًا على تحصيل ما نهي عنه ليكون مبتلى بين أن يكف عنه باختياره ليثاب عليه وبين أن يفعله ليعاقب، وهذا ممكن مع ثبوت القبح بكماله في الأفعال الحسية.
ألا ترى أن أقبح القبائح الكفر وهو مقدور للعبد، فثبت أن النهي يتصور فيها مع ثبوت القبح لمعنى في عين المنهي عنه؛ لأن وجوده ليس من الشرع حتى ينعدم بانعدام المشروعية، فوجب القول بكمال القبح فيها وهو الأصل.
فأما الأفعال الشرعية فلا يمكن القول بكمال القبح فيها مع بقاء النهي عنها، فلذلك وجب القول فيها على وجه لا يبطل النهي على ما بينا ليبقى مقدورًا للعبد.
(والنهي في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر) يعني أن الحسن في المأمور به ينقسم إلى أقسام: منها ما هو حسن لعينه، ومنها ما هو حسن ملحقًا بالحسن لعينه، ومنها ما هو حسن لغيره، وما حسن لغيره ينقسم إلى أن الغير يتأدى بنفس المأمور به، وما لا يتأدى بنفس المأمور به، فكذلك النهي ينقسم إلى هذه الأقسام تحقيقًا للمقابلة؛ لأن النهي يقابل الأمر وأقسامه مذكورة في الكتاب، وهي:(أن القبيح لعينه وضعًا الكفر، وما قبح لعينه ملحقًا به بيع الحر والمضامين والملاقيح، وما قبح لمعنى في غيره) وهو أيضًا على نوعين:
(الذي قبح لمعنى في غيره وهو مجاور للمنهي عنه: البيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة، والذي قبح لمعنى في غيره وهو متصل بالمنهي عنه وصفًا وهو صوم يوم النحر والبياعات الفاسدة).
وعن هذا قال مشايخنا- رحمهم الله في البيع الفاسد ونحوه، فمن حيث إنه مشروع يوجب الصحة ومن حيث إنه قبيح بوصفه يوجب البطلان، فقلنا بالفساد عملًا بالأدلة؛ لأن الأصل في الأدلة إعمالها لا إهمالها، فمن نتيجة فساد الوصف عدم اللزوم بالشروع، ومن نتيجة صحة الأصل لو صامه يخرج عن عهدة نذره.
***