الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب أحكام الحقيقة والمجاز والصريح والكناية]
قوله: (أمرًا كان أو نهيًا خاصًا كان أو عامًا)، فالأمر كقوله تعالى:{وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، والنهي كقوله:{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} ، والخاص أيضًا كذلك.
وأما العام فكقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} ، فإن كلام منهما حقيقة شرعية، وقوله عليه السلام:"لا تبيعوا الدرهم بدرهمين" وجود ما استعير له خاصًا. كقول من يقول يصف غيره بالشجاعة: رأيت أسدًا يرمي، أو يقول لغيره: لا تضع قدمك في دار زيد أي لا تدخل، أو عامًا كقوله عليه السلام:"ولا الصاع بالصاعين"، وحاصله أن
الحقيقة: استعمال اللفظ في الموضع الأصلي كلفظ الأسد للهيكل المعروف.
والمجاز: استعماله في غير موضعه الأصلي بنوع مناسبة بالاتصال بين الأصل والفرع.
والصريح هو: الظاهر الجلي بواسطة الاستعمال حقيقة كان أو مجازًا.
والكناية: المستتر المراد حقيقة كان أو مجازًا، وقد ذكرنا قبل هذا نظائرها.
(وطريق معرفة الحقيقة التوقيف والسماع)، فالتوقيف التعليم من جهة المعلم، والسماع: من جهة المتعلم. (بمنزلة النصوص)، فإن في حق النصوص التوقيف والسماع، فكذا في حق الحقائق؛ لأن الحقيقة موضوعة بوضع الواضع أن اسم هذا كذا واسم هذا كذا، كما قال الله تعالى:{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، وفيه سؤال وهو أن الله تعالى علمه الأسماء والأفعال والحروف، فكيف خص الأسماء دونهما؟
والجواب عنه: أنك إذا أخبرت عن الأفعال والحروف فهما أيضًا يصيران اسمين، وهذا مقام الإخبار فكذا ذكر الكل، والله أعلم بالأسماء، وهذا لأن
كونه مخبرًا عنه من خواص الاسم فكان كل منهما اسمًا بواسطة الإخبار عنه، فلذلك أطلق اسم الأسماء على المجموع.
(فإن الحقيقة أولى منه)؛ لأن الوضع الأصلي أولى بأن يكون مرادًا من العارضي لسبقه على العارضي في الوجود، أو لتسارع الوضع الأصلي إلى أفهام السامعين.
(وأبى أن يعارضه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما) فإن قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" مع "نهي النبي عليه السلام عن الصاع بالصاعين" يتعارضان.
بيان المعارضة هو: أن قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" يشعر بكون الطعم علة لما عرف أن الحكم إذا كان مرتبًا على اسم مشتق كان مأخذ
الاشتقاق علة، كما في قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وكما يقال: أكرم العالم وأهن الجاهل، وقوله:"ولا الصاع بالصاعين" يقتضي كون الكيل علة، فيقتضي أن لا يجري الربا في غير الصاع؛ لأنه رتب حكم النهي على شيء مكيل يصاع، فكان الكيل علة لما ذكرنا من الأصل، فبين كون الطعم علة وبين كون الكيل علة تناف فتحققت المعارضة، إذ الأول يقتضي الحل في صاع بصاعين من الجص والنورة، والثاني الحرمة.
أو نقول: قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" يقتضي الحرمة في القليل والكثير، والحديث الآخر يقتضي الحرمة في الكثير لا في القليل، وإباحة القليل تثبت بالنص المبيح، وهو قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فقال: لا معارضة بينهما؛ لأن العموم لم يرد بالحديث الثاني؛ لأن لا عموم للمجاز عندي.
والمطعوم مراد بالصاع بالإجماع، فكان موافقًا لما ذكرت من كون الطعام علة، وهو مرجح المحرم لكونه حقيقة على حديث ابن عمر لكونه مجازًا.
(والصحيح ما قلنا؛ لأن المجاز أحد نوعي الكلام)، فإن الكلام منقسم إلى قسمين: حقيقة ومجاز؛ لأنه لا يخلو إما أن كان مستقرًا في محله أو لا يكون مستقرًا في محله ولا واسطة بينهما، فإذا ثبت أن المجاز أحد نوعي الكلام كان العموم الذي ثبت للكلام بدليله شاملًا لنوعيه من الحقيقة والمجاز؛ لأن الحكم إذا كان مرتبًا على الجنس كان مرتبًا على أنواعه، فإن الحكم إذا كان مرتبًا على الحيوان كان مرتبًا على الإنسان.
أما إذا كان مرتبًا على الإنسان لا يكون مرتبًا على الحيوان، بل يكون مرتبًا
على الذكر والأنثى من الإنسان، وهنا حكم العموم مرتب على الكلام، فكان مرتبًا على أنواعه لا محالة، وأنواع الكلام: الحقيقة والمجاز، فكان مرتبًا على المجاز ضرورة.
(لأن عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة)؛ لأن عمومها لو كان لحقيقتها لما جاز الخصوص في الحقيقة، وقولك: جاءني زيد أو رجل حقيقة وليس بعام.
(إلا أنهما يتفاوتان لزومًا، وبقاء) أي لا تسقط الحقيقة عن موضوعها بخلاف المجاز، واللزوم والبقاء مترادفان.
(حتى كثر ذلك في كتاب الله تعالى).
.......................................................................
فإن قيل: المقتضى ضروري ومع ذلك موجود في كتاب الله تعالى كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي رقبة مملوكة.
قلنا: إن الضرورة في المقتضى في حق السامع لا في حق المتكلم، فإن المتكلم يتكلم بما هو معلوم المراد عنده، لكن السامع يضطر إلى إدراج شيء حتى يعلم بذلك ما هو مراد المتكلم، فكانت الضرورة فيه راجعة إلى السامع لا إلى المتكلم؛ لأنا محتاجون إلى البيان لا الله تعالى.
(وهو أفصح اللغات)؛ لأن القرآن أنزل على أعلى طبقات الفصاحة، وقد يكون المجاز في موضعه أفصح اللغات، حتى أن الحقيقة لو ذكرت في موضعه يلزم القبح كما قال الله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولو قال: حتى يطلع الفجر لم يكن على تلك الفصاحة.
(إلا أن يكون مهجورًا) كقولهم بالفارسية: ديك بخت، والناس يفهمون من هذا طبخ الطعام في القدر، ولا يفهمون طبخ نفس القدر التي يطبخ في كانون الخزاف وهو حقيقتها.
(فيصير ذلك دلالة الاستثناء) من حيث إن المهجور غير المراد بهذا الكلام كما أن المستثنى غير مراد بصدر الكلام.
(كمن حلف لا يسن هذه الدار) فأخذ في الحال في النقلة لم يحنث، وصار ذلك القدر من السكون وهو حقيقة مستثنى من هذه اليمين بدلالة في الحالف، وهي أن مقصوده البر وهو منع النفس من السكون في الدار، وهذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه، فلم يحصل ما هو المقصود من اليمين وهو المنع فصار كأنه قال: لا يسكن هذه الدر إلا زمان الانتقال. أن السكون في ذلك الزمان كان مهجورًا.
(وكمن حلف لا يطلق) وقد حلف. قيل ذلك بأن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال بعد ذلك: إن طلق امرأته فعبده حر، ثم دخلت الدار لم يعتق عبده لما ذكرنا أن المقصود من اليمين منع النفس من التطليق، وهو كان ممتنعًا قبل هذا الحلف فلا يمكنه الامتناع بعد ذلك، فصار ذلك الحلف السابق مستثنى عن هذا الحلف، وكذلك في نظائرها.
(فصار ذلك كأولاده لإحيائهم بالإعتاق) يعني أن المولى بالإعتاق يصير سببًا لحياتهم كالأب يصير سببًا لحياة الولد، وهذا لأن الكفر موت. قال الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أي كافرًا فهديناه، وقال تعالى:{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} والرق أثر الكفر، فكان إزالته كإزالة الموت من
كل وجه، فكان الإعتاق سببًا للحياة من هذا الوجه، والمعنى فيه أن الكافر لم ينتفع بحياته وهو اكتساب الحياة الأبدية صار كأنه جماد ميت؛ لأن الجماد لا ينتفع بشيء، فصار كأنه ميت معنى.
ألا ترى أن الله تعالى سمى الكفار صمًا بكمًا عميًا مع أن كلًا منهم سميع ناطق بصير إلا أنه لما لم ينتفع بسمعه وهو اكتساب السمع الأبدي كان أصم وكذا في غيره، إذا ثبت أن الرق أثر الكفر، ولهذا لا يجوز ضرب الرق على المسلم ابتداء، فالمولى بالإعتاق صار سببًا لحياته، فيكون معتقًا بمنزلة الولد، ومعتق معتقه بمنزلة ولد الولد، وولده ولده حقيقة، وولد ولده ولده مجازًا لصحة النفي عنه، فلا يكون معتق المعتق مرادًا بهذه الوصية.
كما أن أولاد أولاده لا يكونون مستحقين شيئًا فيمن أوصى لبني فلان أو لأولاد فلان، وله بنون لصلبه وأولاد البنين، وتشبيه سببيته إلى الحياة بالإعتاق بسببية الولاد إلى الحياة مستفاد من قوله عليه السلام:"لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه" لما أن الجزاء مكافأة، وهي تنبئ عن المماثلة، فكل ما يوجد من الولد من الإنعام والإحسان في حق الأب لا
يماثل ما يوجد من الأب في حق الولد؛ لأن ما وجد منه كان سبب حياته وما يوجد من الولد لا يقابل هذا إلا إذا وجد مرقوقًا فاشتراه فأعتقه فهذا يماثل ما وجد من الأب في حق الولد وهو تحصيل الحياة في الأبد، كما أن الأب تسبب لحصول الحياة في الابن، فلذلك لم يجعل النبي عليه السلام جميع إنعامات الابن مساوية لإنعام الأب إلا إعتاقه؛ ليكون هذا جزاء وفاقًا منه لإنعام الأب بهذا الطريق.
وقيل: كان الأستاذ الكبير مولانا شمس الدين الكردري- رحمه الله يقول: هذا المعنى في هذا الحديث.
(والحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز)، وإنما قيد بقوله: والحقيقة ثابتة؛ "لأن الحقيقة لو لم تكن ثابتة أصلًا بأن لم يكن للموصي معتقون ولكن له معتقوا معتقين كانت الوصية لمعتقي معتقيه؛ لأن الحقيقة هنا غير مادة فيتعين المجاز، ولو كان له معتق واحد والوصية بلفظ الجماعة فاستحق هو نصف الثلث وكان الباقي مردودًا على الورثة، ولا يكون لموالي المولى من ذلك شيء؛ لأن الحقيقة هنا مرادة.
(حتى إن الوصية للمولى وللموصي موال أعتقوه باطلة) أي باطلة إلى
أن يبين أن مراده منها من هم؟ هكذا ذكره الإمام قاضي خان في "شرح الجامع الكبير" ثم هذا الذي ذكره هنا هو ظاهر الرواية.
وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنها جائزة ويكون الثلث بين الفريقين؛ لأن الاسم حقيقة لهما فيتناولهما. كما لو أوصي بثلث ماله لإخوته وله ستة إخوة، أخوان لأب وأم وأخوان لأب، وأخوان لأم كان الثلث بينهم السوية.
وعن أبي يوسف- رحمه الله أنه قال: الوصية للمولى الأعلى؛ لأنه منعم، ومجازاة المنعم واجب والزيادة على الإنعام ليس بواجب، فتصرف إلى الواجب، وعنه في رواية أنها تكون للمولى الأسفل؛ لأن كونه منعمًا عليه دليل الحاجة، فكان الصرف إلى المحتاج أولى.
وعن محمد- رحمه الله الوصية لا تجوز إلا أن يصطلح الموليان فيما بينهما. كما لو قال لرجلين: لأحدكما علي ألف درهم، قال محمد- رحمه الله الإقرار باطل إلا أن يصطلح المقر لهما على شيء.
وجه ظاهر الرواية أنه لا وجه لصرف الوصية إليهما؛ لأن اسم المولى
مشترك يتناول الأعلى والأسفل والناصر، واللفظ الواحد لا يتناول معنيين متنافيين في موضع الإثبات، ولا يمكن الصرف إلى أحدهما عينا؛ لأن المقصود من الوصية المجازاة والشكر، فلا يمكن تعيين أحدهما بغير دليل، ولا يمكن الصرف إلى أحدهما غير عين لجهالة المستحق فلا تصح، ولو صحت لدخل فيه الناصر والمحب وغيرهما؛ لأن اسم المولى يتناولهم بخلاف ما إذا أوصى لإخوته؛ لأن اسم الإخوة يتناول الكل بمعنى واحد وهو التفريع عن أصل واحد، فجاز أن يتناول الأشخاص المختلفة لمعنى واحد كاسم الحيوان وغير ذلك.
بخلاف ما إذا خلف لا يكلم موالي فلان، فكلم ثلاثة من الفريقين، فإنه يحنث في يمينه؛ لأن ذلك موضع النفي واللفظ الواحد يجوز أن يتناول شيئين متنافيين في موضع النفي. يقول الرجل: ما رأيت لونًا ينتفي به السواد والبياض جميعًا. كذا في "شرح الجامع الكبير" للإمام قاضي خان- رحمه الله إنه (لا يلحق بالخمر في الحد) أي لا يلحق سائر الأشربة المسكرة بالخمر حتى لا يجب الحد بها ما لم تسكر؛ لأن الاسم للنيئ من ماء العنب المشتد حقيقة ولسائر الأشربة المسكرة مجاز، فإذا كانت الحقيقة مرادة يتنحى المجاز. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.
(لأن الحقيقة أريدت بذلك النص) وهو قوله عليه السلام: "من شرب
الخمر فاجلدوه".
(لأن المجاز مراد بالإجماع وهو الوطء حتى حل للجنب اليتيم أي بإجماع بيننا وبين الشافعي فبطلت الحقيقة) وهو المس باليد.
فإن قلت: يحتمل أن يقول الشافعي بحل اليتيم للجنب بدليل آخر غير هذه الآية، فحينئذ لا يتم الاستدلال على أن المجاز هو المراد من هذه الآية استدلالًا بجواز اليتيم بالإجماع.
قلت: لا يحتمل ذلك؛ لأنه لما قال بجواز التيمم للجنب، وذلك لا يخلو إما أن يقول بهذه الآية بغير الوجه الذي ذكرنا في الآية بأن يقول بالتقديم والتأخير على تقدير {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ، أو بالحديث من حديث عمار وغيره فلا يجوز الأول؛ لأن الصحابة- رضي الله عنهم كانوا
مختلفين في جواز التيمم للجنب على قولين: قال علي وابن عباس- رضي الله عنهم بجوازه، وقال ابن عمر وابن مسعود- رضي الله عنهما بعدم جوازه.
فكل من قال منهم بالجواز حمل اللمس والملامسة على مجازهما، وهو المجامعة، ولم يقل أحد منهم بالتقدير والتأخير، وكل من قال بعدم جواز التيمم للجنب قال: المراد من اللمس اللمس باليد، فجوز التيمم للمحث خاصة، فكان الفريقان كلاهما متفقين على عدم جواز التقديم والتأخير، فكان القول به قولًا باطلًا. إذ الاختلاف على القولين إجماع منهم على بطلان قول ثالث، وكذلك لا يجوز التمسك في جواز التيمم للجنب بحديث عمار وغيره؛ لأن ذلك كله من أخبار الآحاد فلا تجوز الزيادة على كتاب الله تعالى بخبر الواحد.
فعلم بهذا أن الدليل على جواز التيمم للجنب إنما كان لحمل اللمس والملامسة على المجاز الذي هو الوطء لا غير، وإنما علم ذلك بجواز التيمم للجنب فكان الاستدلال بجواز التيمم للجنب على أن المراد من الآية المجاز تامًا.
وقوله: (دون بني بنيه لما قلنا) إشارة إلى قوله: الحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز.
(لأنه موجبه) أي لأن الدخول موجب وضع القدم.
(إذا كان لا يمتد كان الظرف أولى به) ثم المراد من الفعل الذي لا يمتد في مسألتنا فعل القدوم لا معنى الفعل الذي هو حر كما هو مزعوم بعض الأحداث لبطلان ما زعموا بمسألتي "الجامع الصغير"، وقد أوفيناه في "الوافي".
(ثم العمل بعموم الوقت واجب، فلذلك دخل الليل والنهار)، واليوم إنما يكون عبارة عن بياض النهار إذا قرن بما يمتد ليصير معيارًا له حتى إذا قال: أمرك بيدك يوم يقدم فلان ليلا لا يصير أمرها بيدها، وكذلك إذا قرن بما يختص ببياض النهار كقوله: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان.
فأما إذا قرن بما لا يمتد ولا يختص بأحد الوقتين يكون عبارة عن الوقت كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (ففيها رواية أخرى بعد ذلك الباب) أي في "السير".
(لله علي أن أصوم رجبًا أنه إن نوى اليمين كان نذرًا ويمينًا) حتى إذا لم يصم رجبًا وجب عليه قضاء الصوم وتجب عليه الكفارة أيضًا، فوجب الكفارة يتعلق باليمين، ووجوب القضاء يتعلق بالنذر؛ لأن القضاء لا يجب في اليمين، والكفارة لا تجب في النذر.
ألا ترى أنه لو قال: والله لأصومن رجبًا ولم يصم يجب عليه القضاء دون الكفارة ولو قال: لله علي أن أصوم رجبًا ولم يصم لا تجب الكفارة بالإجماع، وفيما نحن فيه يجب القضاء والكفارة. فعلم أنه نذر ويمين.
(أما أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- فقد عملا بإطلاق المجاز وعمومه)؛ لأنه الحقيقة إذا كانت مستعملة ولكنها نادرة والمجاز متعارف، فالمجاز عندهما أولى من الحقيقة والمستعملة النادرة؛ لأنه عمل بالحقيقة والمجاز وهذا هو العمل بعموم المجاز.
وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه الحقيقة أولى وإن كانت نادرة إذا كانت مستعملة إلا إذا كانت الحقيقة مهجورة فحينئذ يصير بمنزلة دليل الاستثناء على ما ذكرنا إلا عند زفر، فإن عنده الحقيقة المهجورة أولى ويتبين هذا فيمن حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه، فإذا كان المجاز المتعارف عندهما أولى لم يكن جمعًا بينهما.
(وهذه النسبة لا تنقطع بالأواني) قيد بالأواني؛ لأن هذه النسبة تنقطع بالأنهار الكبار التي تأخذ الماء من الفرات.
(بل هو نذر بصيغتة ويمين بموجبه) يريد به أنه قبل إصدار هذه الصيغة كان صوم رجب لم يكن واجبًا عليه، فبالنذر يصير واجبًا وباليمين أيضًا يصير واجبًا، لكن عند إرادة اليمين يكون الوجوب لغيره، وهذه الإرادة صحيحة بالإجماع من هذه الصيغة؛ بدليل أنه إذا نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرًا يصير يمينًا بالإجماع.
علم أن إرادة الوجوب لغيره من هذه الصيغة صحيحة، فإذا نوى اليمين ولم ينف النذر حصل فيه دليلان: أحدهما يدل على الوجوب لعينه وهو الصيغة، والآخر يدل على الوجوب لغيره، فنعمل بالدليلين إذ لا تنافي بينهما؛ لأن الواجب لعينه يجوز أن يكون واجبًا لغيره مع ذلك.
ألا ترى أنه لو حلف ليصلين ظهر هذا اليوم صح حتى أنه لو لم يصل يجب عليه القضاء باعتبار أنه أوجب لعينه، وتجب الكفارة باعتبار أنه ترك الواجب لغيره وهو محافظة اسم الله تعالى، فلما جاز الاجتماع بينهما ولا تنافي، فنعمل بهما فيما نحن فيه وهو عمل بموجبين مختلفين لا أنه جمع بين الحقيقة والمجاز كالهبة بشرط العوض هبة وبيع، لأنه هبة باعتبار صيغته وبيع باعتبار معناه.
إذ البيع هو مبادلة المال بالمال بالتراضي وهو موجود هاهنا، فقلنا بهما عند وجود الدليل عليهما، وكما ذكر في الكتاب بقوله:
(وصار ذلك كشراء القريب)؛ لأن الشراء تملك بصيغته فيستحيل أن يكون هو بهذه الجهة إعتاقًا إلا أنه لما اختلف الجهة صح الجمع بينهما؛ لأنه باعتبار صيغته ليس بإعتاق، وباعتبار أنه إعتاق ليس بتملك؛ لأن التملك كان باعتبار الصيغة والإعتاق كان باعتبار الحكم، والحكم غير الصيغة، والصيغة غير الحكم، فكذلك ما كان يثبت بكل واحد منهما لا يكون ثابتًا بالآخر، والمنافاة إنما تكون إذا ثبت الحكمان المتنافيان في محل واحد إذا كانا من جهة واحدة وليس كذلك، فيصح الجمع بينهما بموجبين مختلفين.
وقوله: بل هو نذر بصيغته "وهي قوله: على"، وهذه الصيغة مجاز لليمين بموجبها وهو الوجوب، فإن لهذه الصيغة موجبًا وهو الوجوب، وباعتبار هذا الوجوب يكون يمينًا؛ لأن إيجاب المباح يمين بمنزلة تحريم المباح، وتحريم المباح يمين، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} ، ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .
ويلزم من هذا أن يصير إيجاب المباح يمينًا؛ لأن في تحريم المباح إيجاب المباح؛ لأن الترك قبل النذر كان مباحًا وبعده صار واجبًا، وكان ترك الصوم عليه حرامًا؛ فيلزم من إيجاب المباح تحريم المباح، فكان يمينًا بموجبه لهذا، وقوله:"وهو الإيجاب" أي الوجوب؛ لأن موجب نذر الوجوب لا
الإيجاب" إلا أن الوجوب لا يكون إلا بالإيجاب، فكان في الوجوب اقتضاء، فأطلق عليه اسم المقتضى.
(وطريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين الشيئين).
اعلم أن الاستعارة تفتقر إلى ستة أشياء: المستعار هو لفظ الأسد، والمستعار له: وهو الإنسان الشجاع، والمستعار عنه: وهو الهيكل المخصوص، والمستعير: وهو المتلفظ بهذه اللفظة، والاستعارة: هي التلفظ به لإثبات معنى الشجاعة، وما يقع به الاستعارة: وهو الاتصال بين المستعار عنه والمستعار له (وذلك الاتصال يكون صورة أو معنى؛ لأن كل موجود من الصور)، فالتقييد بالصور إما للاحتراز عن ذات الله تعالى، أو للاحتراز عن موجودات لا تشاهد معاينة كالعلم والقردة والحلم والغضب،
فإنها موجودات لم تجر السنة برؤيتها، فلم يكن لها بالشيء اتصال صورة.
(ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم) هذا من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب حيث أطلق اسم السماء على المطر، وكذا في قوله:
إذا سقط السماء بأرض قوم .... رعيناها وإن كانوا غضابا
وكذا في قوله الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} ، ويجوز أيضًا إطلاق اسم المسبب على السبب كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي عقدتم؛ بدليل ما بعده بقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} والنكاح: هو الوطء حقيقة، والعقد سببه، فكان
فيه إطلاق اسم المسبب على السبب، وكذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} أي إذا أردتم القيام إليها والقيام مسبب وإرادته سببه.
(وقال الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وهو المطمئن من الأرض) أي الساكن منها أي إلى المنخفض الغائط: من غاط في الشيء أي دخل، والمضارع: يغوط ويغيط، وإنما يكون فيه عند الحدث عادة تسترًا عن أعين الناس.
وكان شيخي- رحمه الله يقول: الآدمي فهرست الملكوت. فيه الملكية والإنسية والبهيمية والشيطنة، فالأكل والشرب والتغوط والبول من خواص البهائم، فينبغي أن يستر الإنسان نفسه فيما يشبه به البهائم.
فلذلك وقع في الشرع والعادة أن يكون الحدث في المكان المطمئن تسترًا عن أعين الناس، ولذلك قال عليه السلام:"الأكل عورة؛ رحم الله من ستره".
(الثفل) ما يسفل من كل شيء أي يرسب.
(وهو السببية والتعليل) يعني أن استعارة السبب للمسبب والعلة للمعلول أو المعلول للعلة هو الاستعارة من حيث الصورة في المحسوسات؛ لأنه لا اتصال بينهما من حيث المعنى؛ لأن معنى السبب لا يوجد في المسبب.
ومعنى العلة لا يوجد في المعلول؛ لأن العلة هي الموجبة، والمعلول هو الموجب، ولا مشابهة بينهما من حيث المعنى بل بينهما مضادة إذ من أثر الموجب المؤثر القوة، ومن أثر الموجب المتأثر الضعف، لكن بينهما قرب ومجاورة؛ لأن حال وجود السبب حال وجود المسبب.
وكذا العلة والمعلول، فلذلك كان الاتصال بينهما من حيث الصورة؛ لأن الاتصال الصوري في المحسوسات بين الشيئين لم يكن بينهما إلا القرب والمجاورة من غير اتصال بينهما من حيث المعنى، وهذا كذلك في الشرعيات بين الشيئين من حيث السببية والتعليل، فلذلك جعل الاتصال من حيث السببية، والتعليل نظير الاتصال الصوري في المحسوسات.
بيانه أنك إذا نظرت في الحكمين إن كان بين سببيهما اتصال بأن كان أحدهما يثبت الحكم الذي أثبته الآخر كالبيع والنكاح، فإن حكم البيع ملك الرقبة وحكم النكاح ملك المتعة، والبيع يثبت الحكم الذي يثبت النكاح في الجارية عند زوال المانع، فتجوز استعارة البيع للنكاح حتى ينعقد النكاح بلفظ البيع، ولا ينعقد البيع بلفظ النكاح، وكان ينبغي أن ينعقد؛ لأن المناسبة بين الشيئين يكون من الطرفين جميعًا، إلا أنه لم ينعقد لما نبين في هذا الكتاب بعد هذا.
(هو نظير القسم الآخر من المحسوس). بيانه أنك إذا تأملت في مشروع ووقفت على معناه، فإن وجدت هذا المعنى في المشروع الآخر يجوز استعارة أحدهما للآخر، كما أنك لو تأملت في معنى شرعية الميراث وكيفيتها وجدت أن الميراث شرع بعد فراغ الميت عن حوائجه، ووجدت الوصية كذلك شرع بعد فراغ الميت عن حوائجه، فاتصلا في معنى المشروع كيف شرع جازت الاستعارة بأن يذكر الميراث ويراد الوصية، أو الوصية ويراد الميراث، ومنه قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} أي يورثكم، وكذلك معنى الحوالة هو: نقل الدين من ذمة إلى ذمة، والوكالة أيضًا نقل ولاية التصرف،
فتستعير لفظ الحوالة للوكالة فتقول: أحل رب المال، أي وكله كما استعار محمد- رحمه الله هكذا في "كتاب المضاربة"، فقال: يقال للمضارب أحل رب المال أي وكله.
وكذلك نص في المكاتب إذا قال المولى لعبده: جعلت عليك ألفا تؤديها إلي نحو ما أولها كذا وآخرها كذا، فإذا أديتها فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق، فإن هذه مكاتبة، لأنه أتى بتفسير الكتابة، وقال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .
فالقصاص إماتة لا إحياء، لكن إحياء معنى من حيث الشرع والاستيفاء، وقد ذكرنا وجهه في باب القضاء والأداء، فلذلك أطلق اسم الحياة على القصاص، وكذا أيضًا قال الشافعي: يجوز استعارة الطلاق للعتاق، والعتاق للطلاق لاتصال بينهما في المعنى؛ لأن الطلاق بني على السراية والإسقاط واللزوم، وهذا المعنى موجود في العتاق، فيجوز استعارة كل واحد منهما للآخر.
(أن الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع) وهذا احتراز عن المحسوس، ومعناه ما ذكرنا أن أحد اللفظين يثبت من الحكم ما يثبته الآخر، فيجوز استعارة أحدهما للآخر.
(ومن حيث وجدا) يريد به أن الاستعارة إنما تجوز بين الموجودين حيث وجد القرب والاتصال سواء كانا شرعيين أو حسيين؛ لأن ما هو المجوز القرب والاتصال بينهما وذلك لا يختص باللغة.
(والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له، وبسببه الذي تعلق به).
أما بسببه الذي تعلق به فظاهر كالنكاح يتعلق وجوده بقول المتناكحين زوجت وتزوجت، والبيع بقول المتبايعين: بعت واشتريت، وهذان المشروعان قائمان بسببهما ويوجدان بهما.
وكذلك المشروع قائم بمعناه الذي شرع له؛ أي قائم بالماهية التي شرع لأجلها وقائم بها. كالولد قائم بمعناه الذي هو له وقائم بسببه وهو الوالدان، وكذلك النكاح قائم بمعناه الذي هو له من الانضمام والازدواج الموضوعين للتوالد والتناسل، وقائم بسببه وهو زوجت وتزوجت، وكذلك هذا في البيع
والهبة وفي جميع المشروعات، فعند وجدان المعنى الجامع بطريقة يجري المجاز، ولكن الشأن في الطلب والوجدان.
(ولأن حكم الشرع متعلقًا بلفظ شرع سببًا أو علة لا يثبت من حيث يعقل إلا واللفظ دال عليه لغة)؛ وهذا لأن حكم الشرع نوعان: حكم يدرك معناه بالعقل، وحكم لا يدرك معناه بالعقل، فالقسم الأول إذا تعلق بلفظ شرع ذلك اللفظ سببًا أو علة يدل على اللفظ على معناه لغة كالبيع والهبة وغير ذلك.
فإن الأحكام الثابتة بهذه تدرك معانيها بالعقل؛ لن العقل يقتضي أن يكون كل من فاز بالسبب فاز بالحكم؛ لأنه إذا لم يكن كذلك يؤدي إلى التنازع والتقابل، فالشرع جعل هذه الأحكام مختصة بأسباب. من فاز بها فاز بأحكامها لما عرف، فالألفاظ إذن دلالات على معانيها لغة فصحت الاستعارة، فكانت هذه الاستعارة شرعية فيها معنى اللغة أيضًا.
ألا ترى أنهم لم يجوزوا استعارة الخمر لغير الخمر لإثبات حكم ثبت بشرب الخمر، لما أن هذا الحكم لا يدرك بالعقل، وهو ضرب ثمانين سوطًا أو أربعين، وقوله:"متعلقًا" حال عن حكم الشرع والعامل فيه لا يثبت مؤخرًا، أي أن حكم الشرع لا يثبت حال كونه متعلقًا بلفظ من حيث السببية أو العلية من الجهة التي يعقل، إلا واللفظ دال على ذلك الحكم، فلما دل اللفظ عليه من
حيث اللغة لو استعير لغيره باعتبار مشابهته في المعنى كان هذه الاستعارة استعارة من حيث اللغة أيضًا، وإنما قال:"متعلقًا بلفظ"؛ لأن عامة وجوب العبادات متعلقة بالمعنى لا باللفظ، كوجوب الصلاة تعلق بدلوك الشمس، والصوم بشهود الشهر.
(ولا استعارة فيما لا يعقل)؛ لأن الاستعارة نظير القياس، فالقياس إنما يجري فيها يعقل معناه، فكذلك الاستعارة والذي لا يعقل كالمقدرات في الحدود وغيرها.
وقوله: (ألا ترى أن البيع لتمليك العين) إيضاح للنوع الذي يعقل معناه وهو صالح للاستعارة، فاستعرنا لفظ البيع للنكاح؛ لأن في تمليك العين تمليك ملك المتعة في محله بطريق السببية، والنكاح أيضًا يثبت ملك المتعة مقصودًا، فلما اتحدا في إثبات ملك المتعة وإن كانا يتفاوتان في الأصالة وغير الأصالة جوزنا استعارته للنكاح، (وكذلك ما شاكله) كالهبة استعيرت للنكاح، وكذلك الكفالة والحوالة والوكالة يجوز استعارة كل واحدة منها للأخرى.
(ولا اختصاص للرسالة بالاستعارة). هذا جواب عن قول الشافعي ذكره في موضع في تعليل جواز نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة بطريق الاستعارة، ويقول: كان ذلك الجواز مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره حتى لا يجوز لغيره أن يستعير لفظ الهبة للنكاح لا أنه انعقد هبة؛ لأن انعقاده هبة إنما يكون فيما إذا كانت المرأة أمة ولم يكن كذلك، فلذلك قلنا: إنه لم ينعقد هبة حقيقة؛ لأن تمليك المال في غير المال لا يتصور يعني أن الهبة لتمليك المال.
وانعقد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة، ولم يكن نفس المرأة الحرة مالًا، فلابد من أن يجعل ذلك استعارة للنكاح؛ لأنه لما لم يمكن العمل بالهبة بحقيقتها التي هي لتمليك المال كانت هي مستعارة لا محالة.
(لأنه عقد شرع لأمور لا تحصى) كالتوارث وانتفاع كل منهما بالآخر،
وحصول غض البصر عن الحرام، وحصول المصاهرة التي تشبه قرابة الآباء والأمهات وغير ذلك.
(بل فيهما إشارة إلى ما قلنا) أي من معنى النكاح والتزويج، فالنكاح يدل على الضم، والتزويج يدل على التلفيق، وهو إن لم يذكر معنى النكاح والتزويج هاهنا لكن جعل دلالة هذين اللفظين على ذينك المعنيين بمنزلة ذكره إياهما (فلم يصح الانتقال عنه) أي عن اللفظ الموضوع للنكاح وهو لفظ النكاح أو التزويج (لقصور اللفظ عن اللفظ الموضوع له) أي
لقصور لفظ التمليك عن لفظ النكاح أو التزويج، وهذا لن هذا العقد عقد مشروع لمقاصد لا تحصى مما يرجع إلى مصالح الدين والدنيا، ولفظ النكاح والتزويج يدل على ذلك باعتبار أنه ينبئ عن الاتحاد، فالتزويج تلفيق بين الشيئين على وجه يثبت الاتحاد بينهما في المقصود كزوجي الخف ومصراعي الباب.
والنكاح بمعنى الضم الذي ينبئ عن الاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة، وليس في هذين اللفظين ما يدل على التمليك باعتبار أصل الوضع، ولهذا لا يثبت ملك العين بهما، فالألفاظ الموضوعة لإيجاب ملك العين فيها قصور فيما هو المقصود بالنكاح. إلا أن في حق رسول الله عليه السلام كان ينعقد نكاحه بهذا اللفظ مع قصور فيه تخفيفًا عليه وتوسعة، وفي حق غيره لا يصلح هذا اللفظ لانعقاد النكاح به لما فيه من القصور.
وقوله: "من مصالح الدين والدنيا".
أما مصالح الدين: فإن مباشرة منكوحته التي هي حلال له تمنعه عن طموح العين إلى غيرها التي هي حرام محض عليه على وجه يوجب مباشرته إياها والرجم أو جلد مائة، وأيده قوله عليه السلام:"من تزوج فقد حصن نصف دينه".
وأما مصالح الدنيا: فإنها تقوم بأمور داخل البيت، كما أن الزوج يقوم بأمور خارج البيت، وبهذين الأمرين ينتظم أمور المعيشة في الدنيا.
(وهو أن يقول: أحلف بالله؛ لأنه موجب لغيره) وهو الاحتراز عن هتك اسم الله تعالى.
(لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة عندكم)، وإنما قيد بقوله:"عندكم" لأن شركة المفاوضة غير جائزة عنده، وهذا الذي ذكره هو أن ذلك العقد لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة غير مجرى على إطلاقه بل ذلك فيما إذا لم يعرف المتعاقدان أحكام المفاوضة.
وأما إذا كانا يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها؛ لأن المعتبر المعنى دون اللفظ، ثم فيما إذا لم ينعقد مفاوضة فيما إذا لم يعلما أحكامهما ولم يذكرا لفظ المفاوضة كانت
الشركة عنانًا. كذا ذكره في "المبسوط".
(مقام ما ذكرنا من المجاورة) أي في المحسوسات بهذا الاتصال بين الشيئين، وهما: الهبة والنكاح، والحكمين وهما: ملك الرقبة وملك المتعة.
(على حكم الملك له عليها) وهو حل الوطء، وهذا جواب عما قاله الشافعي بقوله:"لأنه عقد شرع لأمور لا تحصى".
قلنا: لم يشرع لتلك الأشياء مقصودًا، بل شرع لحكم واحد وهو حل الاستمتاع للزوج بثبوت الملك له عليها.
(لأنه أمر معقول) أي ما ذكرناه وهو شرعية النكاح لإثبات الملك عليها.
ألا ترى أن للمرأة تثبت الملك عليه في المهر، فيثبت ملك المتعة للزوج عليها تحقيقًا للمعادلة، وإنما قلنا. إن ثبوت حل الوطء له بثبوت الملك له
عليها أمر مقصود، وما ذكره الشافعي من أمور لا تحصى من الثمرات لوجود تلك الأمور من غير النكاح، ووجود النكاح مع عدم تلك الأمور، فإن من تلك الأمور التوارث، وهو أخصهما فهو معدوم في صورة نكاح الكتابية، وكذلك المصاهرة لا تثبت فيما إذا طلق امرأته قبل الدخول في حق بينهما حتى حل له نكاحها.
وأما نكاح ما فلا يوجد بدون إثبات الملك له عليها في حل الاستمتاع.
فعلم بهذا أن تلك الأمور من الثمرات، وثبوت الملك له عليها في حل حق الاستمتاع من المقاصد.
فإن قيل: ملك المتعة أيضًا مشترك بينهما.
ألا ترى أن للمرأة أن تطالب زوجها بالوطء، حتى إذا لم يوف حقها في ذلك يفرق كما في العنين.
قلنا: ثبوت حق المطالبة لا يدل على الملك كما في نفقة المماليك، أو لأن حد الملك الذي هو الاختصاص بالمطلق الحاجز يوجد في حق الرجل لا في حق المرأة، فإن المرأة ممنوعة عن تزوج غيره، وليست للمرأة أن تمنع زوجها عن غيرها حتى لا يختل حقها في الوطء.
(وإذا كان كذلك قلنا): أي لما كان بناء النكاح لأجل حل الوطء له
وثبوت ملك المتعة له عليها لا بمعناه بمنزلة النص، فإنه يوجب الحكم فيما تناوله سواء كان هو معقول المعنى أو لم يكن. لما أن الاسم الموضوع للشيء يدل على ما وضع له سواء عقل معناه أو لم يعقل؛ لأن الحقيقة موقوفة على السماع من غير أن يعقل.
ألا ترى أن الولد الرضيع يسمى أميرا وعالمًا من غير وجود معناهما فيه، وأقصر خليقة الله تعالى يسمى طويلا، والأسود يسمى كافورا، والأعمى يسمى أبا العينا من غير وجود المعاني.
علم أن الأعلام إنما تعمل وضعًا لا باعتبار المعاني، كما أن النصوص توجب الأحكام بأنفسها سواء عقل معناها أو لم يعقل؛ لأن النصوص بمنزلة الحقائق، فإذا احتيج إلى القياس حينئذ يعتبر فيها المعاني.
فكذلك في الاستعارة تعتبر المعاني حين يعدى هذا اللفظ إلى محل آخر، وإذا كان كذلك فالنكاح والتزويج هما (اسمان جعلا علمًا لهذا الحكم، والعلم يعمل وضعًا لا بمعناه)، ثم لما ثبت ملك النكاح بهما مع أنهما لا ينبئان عن الملك لغة فالبيع وأخواته ينبئ عنه لغة كان ثبوت ملك النكاح بها أحق؛ لأن اللفظ الدال على المعنى كان أحق من اللفظ الذي لم يدل عليه لغة، وعلى هذا التقرير كان ثبوت ملك النكاح بلفظ البيع وأخواته من قبيل ما يثبت الحكم بدلالة النص.
وقوله: (فلما ثبت الملك بهما) أي بالتزويج والنكاح (وضعا) أي شرعا (صحت التعدية به) أي بثبوت الملك بلفظ التزويج والنكاح إلى ما هو صريح في التمليك وهو البيع وأخواته.
(فهلا صحت استعارة النكاح للبيع)؟ أي لم لم يجز أن يستعار لفظ النكاح للبيع بأن يقول البائع للمشتري: نكحت هذا العبد أو هذه الجارية لك، فقال المشتري: قبلت.
حتى يصح البيع بلفظ النكاح كما يصح النكاح بلفظ البيع بقوله: بعت ابنتي منك، ولهذا قلنا: فيمن قال إن ملكت عبدًا فهو حر، إنما وضع المسألة في المنكر؛ لأن تعليق العتق بالملك في العبد المعين كتعليق العتق بالشراء في أنه يحنث في الوجهين أي في اجتماع النصفين في ملكه أو في غير الاجتماع بعد أن ملك الكل، ثم هذا الذي ذكره في العبد المنكر في الملك من اجتماع النصفين في ملكه جواب الاستحسان.
وأما جواب القياس فهو كالشراء؛ لأن الشرط ملك العبد مطلقًا من غير شرط الاجتماع وقد حصل.
وأما وجه الاستحسان فإن الملك المطلق يقع على كماله وذلك بصفة
الاجتماع يكون فاختص بها.
ألا ترى أن الرجل إذا قال: إن ملكت مائتي درهم فعبده حر، أنه يقع على اجتماع الملك فيهما.
وألا ترى أن الرجل يقول: والله ما ملكت من مائتي درهم قط، ولعله أن يكون ملك ذلك وزيادة متفرقًا ولكن لم يجتمع في ملكه مائتا درهم، فكان صادقًا، وإذا كان الاجتماع مقصودًا اعتبر هذا الوصف في غير العين؛ لأنه يعرف بأوصافه، فإذا لم يوجد لم يحنث، وفي المعين لم يعتبر الاجتماع حتى أنه إذا قال: إن ملكت هذا العبد فهو حر، فملك نصفه فباع ثم ملك النصف الباقي، فإنه يعتق هذ الذي في ملكه؛ لأن صفة الاجتماع مرغوبة
فلم تعتبر في العين؛ لأنها تعرف بالإشارة إليه كمن حلف لا يدخل هذه الدار أنه لا يعتبر فيها صفة العمران وتعتبر في غير العين، فكذلك هذا.
(ولو قال: إن اشتريت عبدا عتق النصف الباقي وإن لم يجتمع)، ففرق بين الشراء والملك من وجهين: أحدهما- أن في الملك إنما يقيد بصفة الاجتماع في المنكر بحكم العرف ولا عرف في الشراء، فبقي على ما يقتضيه القياس من غير تقييد صفة الاجتماع.
والثاني- أن صفة كونه مشتريًا تبقى بعد زوال الملك.
أما صفة كونه مالكًا لا تبقى بعد زوال الملك فافترقا، وهذا لأن الاشتراء لا يقتضي أصل الملك فكيف يقتضي وصفه؟
ألا ترى أنه لو قال: إن اشتريت عبدًا فامرأته طالق. أنه لو اشتراه لغيره حنث في يمينه، فلما كان كذلك أنه إذا اشترى النصف الباقي بعد بيع النصف الأول فقد اشترى كله فوجب الحنث. هذا كله في جامعي فخر الإسلام وقاضي خان- رحمهما الله-.
(وفي العبد المعين يستويان) أي يعتق في كلا وجهي التفرق والاجتماع سواء كان ذلك في صورة الملك أو صورة الشراء؛ لأن استعار الحكم لسببه في الفصل الأول.
(واستعار السبب لحكمه في الفصل الثاني) أي استعار الحكم لعلته في مسألة ذكر الملك، واستعار العلة لحكمها في مسألة ذكر الشراء. أراد بالسبب العلة في الصورتين، ثم عند ذكر الملك لو أراد به الشراء كان مصدقًا قضاء وديانة؛ لأنه لا تخفيف فيه بل فيه تغليظ.
وأما عند ذكر الشراء لو أراد به الملك يصدق ديانة؛ لأنه استعار العلة لحكمها وهو جائز، ولا يصدق قضاء؛ لأن استعارة العلة للحكم لا يجوز، بل لأنه نوى التخفيف على نفسه مع احتمال ما ذكره التغلظ ظاهرا؛ لأن عند ذكر الشراء هو إرادة ما يتعلق بالشراء وهو أن يعتق النصف الثاني الذي في ملكه، وإن حصل في ملكه بطريق التفرق هو الظاهر.
وأما العدول عن إرادة الشراء بذكر الشراء إلى إرادة الملك الذي هو يقتضي صفة الاجتماع فليس هو بظاهر مع وجود التخفيف عليه، فلذلك لا يصدقه القاضي.
(وأما الاتصال الثاني) أراد به اتصال السبب المحض بمسببه (فاستعارته جائزة من أحد الطرفين) وهو استعارة السبب لمسببه. كما جوزنا استعارة البيع للنكاح لما أن البيع سبب لملك المتعة في محله وليس بعلة له؛ لأن للبيع
حكما آخر موضوعًا له، وهو ملك الرقبة فكان ثبوت ملك المتعة له بحسب اتفاق الحال لا حكمًا مقصودًا له بدليل شرعيته فيما لا يحتمل ملك المتعة أصلا كما في العبيد والبهائم، فلذلك كان البيع لإثبات ملك المتعة سببا محضًا وذلك يجوز استعارة السبب للحكم، ولا يجوز استعارة الحكم للسبب بأن يذكر النكاح ويراد البيع، وهذا لأن موجب النكاح ملك المتعة وليس هو بسبب لملك الرقبة البتة، وملك المتعة في حق ملك الرقبة بمنزلة العدم، فلو قلنا بالاستعارة يؤدي إلى استعارة المعدوم للموجود فلم يثبت الاتصال بينهما؛ لأن الاتصال إنما يكون بين الشيئين الموجودين لا بين الموجود والمعدوم، فلم يجز الاستعارة لعدم طريق الاستعارة وهو الاتصال.
يحققه أن الأصل- يعني ملك الرقبة- مستغن عن ملك المتعة لوجوده بلا ملك المتعة، وكان ملك المتعة في حق ملك الرقبة بمنزلة العدم لما عرف أن الأصل مستغن عن الفرع، والفرع لا يستغنى عن الأصل، فلذلك صلح هذا الاتصال الثاني طريقا للاستعارة في أحد الطرفين دون الآخر.
وقوله: (وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم) جاز أن يكون مراده من ذكر السبب للحكم الأصل للفرع لكن كرر هذه للتنبيه على أن في هذا السبب معنى الأصالة والسببية، وفي حكمه هذا معنى الفرعية، وكونه حكمًا لبيان استغناء السبب عن وجود المسبب بتسميته له ذكر الأصل والسبب.
أما الأصل فظاهر فإنه مستغن في وجوده عن الفرع، وكذلك ذكر السبب؛ لأن المراد من هذا السبب هو السبب المحض لا السبب الذي هو بمعنى العلة، وله حكم آخر مقصود به وعلة في حقه، فكان هو مستغنيًا في وجوده عن هذا المسبب بخلاف العلة والمعلول؛ لأن لكل واحد منهما افتقارا إلى الآخر.
(وهذا كالجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة) كما إذا قال: أنت طالق وعمرة. لما أن الجملة الناقصة مفتقرة إلى الجملة الكاملة كالفرع مفتقر إلى الأصل، والمسبب مفتقر إلى السبب، وكذلك الجملة الكاملة لا تفتقر إلى الجملة الناقصة، والناقصة تفتقر إلى الكاملة.
(وعلى هذا الأصل قلنا: إن ألفاظ العتق تصلح أن تستعار للطلاق) أي عند نية الطلاق بأن يقول لامرأته: أنت حرة، ونوى به الطلاق تطلق بطريقين استعارة لفظ العتق للطلاق وبدون النية لا يقع الطلاق.
فإن قلت: ما الفرق بين استعارة ألفاظ العتق للطلاق هنا حيث تحتاج إلى النية لصحة الاستعارة وبين استعارة ألفاظ التمليك في باب النكاح للنكاح وهناك لا تحتاج إلى النية لصحة الاستعارة؟
قلت: الفرق بينهما من حيث إن استعمال ألفاظ العتق على حقيقته هاهنا ممكن بأن يخبر بها عن حريتها بقوله: أنت حرة، فلذلك لم تتعين الاستعارة للطلاق إلا عند النية لاحتماله الطلاق على ما ذكرنا من استلزام هذا اللفظ زوال ملك المتعة في محل الاستلزام، فجاز أن يستعار اللفظ الموضوع لإزالة ملك المتعة وهو الطلاق مع إمكان العمل بحقيقته على طريق الإخبار، والنية وضعت لتعيين بعض ما احتمله اللفظ، فلما كان المستعار له من محتملات اللفظ احتيج إلى النية.
وأما ألفاظ التمليك المضافة إلى الحرة عند وجود شرائط النكاح لم تقبل شيئًا إلا النكاح وإلا فيلغو، فتعينت لذلك لاستعارتها للنكاح من غير نية، وهذا لأن الأب إذا قال لآخر: بعت ابنتي منك أو وهبت لك لا يحتمل هذا المحل حقيقة البيع والهبة، وللفظ التمليك صلاحية الاستعارة للنكاح بطريق السببية؛ لأن البيع أو الهبة يصلح أن يكون سببًا لملك المتعة في الأمة بواسطة ملك الرقبة، فكانت هذه الاستعارة استعارة السبب للمسبب، وهي طريق من طرق الاستعارة، فيجوز بغير النية لعدم احتمال شيء آخر.
وقوله: (تبعًا لا قصدا على نحو ما قلنا) إشارة إلى ما ذكر من ألفاظ التمليك في النكاح بقوله: وملك الرقبة سبب لملك المتعة"، إلى آخره يعني لما ثبت ملك المتعة عند ثبوت ملك الرقبة بطريق التبعية ثبت زوال ملك المتعة أيضًا عند زوال ملك الرقبة بطريق التبعية، فصار هذا نظير عزل السلطان واحدًا من
أمرائه، فإنه يكون عزلا لإتباع ذلك الأمير بطريق التبعية.
(لأن كل واحد منهما إسقاط بني على السراية واللزوم)، فأثر الإسقاط في صحة التعليق، ولو كان للإثبات لما صح التعليق، وكذلك يثبت من غير قبول المرأة والعبد، وكذلك يصح كل واحد منهما بغير شهود، وأثر السراية ما إذا قال: أنت طالق نصف تطليقة ونصف عتق تطلق ويعتق، وأثر اللزوم في حق عدم قبول كل واحد منهما الفسخ والرد والرجوع.
(والمناسبة في المعاني من أسباب الاستعارة) أي من طرق الاستعارة.
وقوله: (من الوجه الذي قلنا) أي في طرف الشافعي أن التعليل بكل وصف صحيح من غير أثر خاص، كما علل الشافعي في مسح الرأي بقوله: إنه ركن في الوضوء، فيسن فيه التثليث، وليس الركنية بأثر خاص في استدعاء التثليث لانتقاضه بالمضمضة والاستنشاق.
وأما قولنا: إنه مسح في الوضوء فلا يسن فيه التثليث فتعليل بأثر خاص
على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
(وأما بكل وصف) مثل الوجود والحيوانية (فلا)
(ولا منسبة بينهما من هذا الوجه) أي من الوجه الذي ذكره الشافعي من المناسبة بينهما من حيث الإسقاط والسراية واللزوم؛ (لأن معنى الطلاق ما وضع له اسمه) أي الذي وضع له اسمه.
(والنكاح لا يوجب حقيقة الرق) والتقييد بحقيقة الرق للاحتراز عن تعليل الشافعي في موضع آخر بقوله: لأن النكاح فيه معنى الرق قال عليه السلام:"النكاح رق".
كذا علل له في "المبسوط".
(ولا يسلب المالكية). ألا ترى أنها إذا وطئت بالشبهة يلزم العقر على الواطئ للمرأة لا للزوج. لم قلنا إن الملك بالنكاح ضروري ليس بأصلي فلا يظهر في حق العقر، فالطلاق لا يسقط إلا ما أثبته النكاح وهو القيد عن التزوج، والحبس عند التزوج بالملك الذي له عليها، فكان حاجتها إلى رفع المانع، وذلك يكون بالطلاق كما يكون برفع القيد عن الأسير؛ لأن المرأة بعد النكاح حرة محبوسة عن التزوج، وبالفرقة يزول المانع من الانطلاق.
(وأما الإعتاق فإحداث القوة) في الذات؛ لأنه لم يبق في الرقيق صفة المالكية، وبالعتق يحدث له صفة المالكية، ولا مشابهة بين إحداث القوة وبين إزالة المانع، وقوله: وأما الإعتاق فإثبات القوة".
فإن قلت: هذا إنما يستقيم على قولهما؛ لأن عندهما الإعتاق إثبات
العتق وهو القوة.
وأما عند أبي حنيفة- رضي الله عنه فعبارة عن إزالة الملك، فكان على هذا بين الطلاق والعتاق مناسبة من حيث إن كل واحد منهما موضوع لإزالة الملك، فينبغي أن تجوز الاستعارة من الجانبين على مذهبه.
قلت: في الطلاق إزالة محضة من غير شائبة إثبات القوة لا من حيث الوضع ولا من حيث الشرع.
وأما العتاق، فإزالة الملك مع دلالته على إثبات القوة نظرا إلى موضوع اللغة، ونظرا إلى حكمه من حصول ولايته على نفسه وصلاحيته للولاية على غيره؛ من القضاء والشهادة والإرث ووجوه التصرف من تملك المال وتمليكه ونفاذ وصيته وإعتاقه وغير ذلك، فكان بين الإزالتين تفاوت فاحش، فلا تصح الاستعارة لفحش التفاوت بينهما.
قوله: (قيل له: وقد قال بعض مشايخنا: إن البيع لا ينعقد بلفظ الإجارة، والإجارة تنعقد به)، وفي هذا منع لقوله: أليس لا يصح أن
يستعار البيع للإجارة؟ فإنه قد استعير عند بعضهم عند إضافة البيع إلى الحر على ما ذكر في الكتاب يعني بل يصح.
وقد ذكر شمس الأئمة- رحمه الله جواز استعارة لفظ البيع للإجارة عند إضافة لفظ البيع إلى نفس الحر مطلقا من غير تقييد بذكر بعض المشايخ.
وأما عند إضافة البيع إلى العبد، فإنما لم تصح الإجارة به، لانعدام المحل لا لانعدام الصلاحية للاستعارة، وهذا لأن لفظ البيع إذا أضيف إلى العبد فلا يخلو إما أن أضيف إلى منافع العبد أو إلى رقبته، ولو أضيف إلى منافع العبد لا يصح؛ لأن المنافع معدومة في الحال وهي ليست بصالحة حال عدمها لا للبيع ولا للإجارة.
ألا ترى أنه لو أضاف إليها صريح لفظ المستعار له وهو لفظ الإجارة بأن قال: آجرتك منافع هذا العبد لا يصح، فكذا ما يقوم مقامه وهو لفظ البيع.
وأما إذا أضيف لفظ البيع إلى عين العبد فلا تصح الإجارة أيضا؛ لأن المحل صالح لحقيقة اللفظ، والحقيقة حقيق بأن تراد؛ لأن المستعار لا يزاحم الأصل، فلما وجب العمل بحقيقة اللفظ لتقدمها سقط المجاز فلم تصح الإجارة، حتى إنه لو قال: بعت منافع عبدي هذا شهرا بعشرة دراهم كانت إجارة صحيحة بلفظ البيع، وإن أضيف لفظ البيع إلى منافع العبد لقيام القرينة الدالة على إرادة المجاز. هكذا ذكر في "التقويم".
وقوله: (وذلك يتصور في الحر) أي انعقاد الإجارة بلفظ البيع إنما يتصور في الحر لا في العبد؛ لأن في العيد يصير بيعا لا إجارة.
(لا تصلح محلا للإضافة) أي لعقد الإجارة.
(فكذلك ما يستعار لها) أي فكذلك لفظ البيع الذي استعير للإجارة
(ولكن العين أقيمت مقامها) أي عين الدار أقيمت مقام منافعها (في حق الإضافة في الأصل) أي في حق عقد الإجارة في إثبات الإجارة.
(فكذلك فيما يستعار لها) أي فكذلك في لفظ البيع الذي يستعار للإجارة يعني لما أقيمت العين مقام المنفعة في حق عقد الإجارة عند إضافة لفظ الإجارة إلى العين أقيمت العين أيضا في حق المستعار للإجارة، وهو لفظ البيع الذي أريد به الإجارة مجازا مقام المنفعة، ولكن إنما يكون ذلك إذا أضيف لفظ البيع إلى الحر مع ذكر المدة كما في قول الحر: بعت نفسي منك شهرا.
وأما إذا أضيف لفظ البيع إلى منافع العين وأريد الإجارة فلا يكون للإجارة، كما لو أضيف صريح لفظ الإجارة إلى منافع العين بأن قيل: أجرتك منافع هذه الدار لا يجوز، فكذلك فيما استعير لها وهو لفظ البيع إذا أضيف
إلى منافع العين لا يجوز سوى ما ذكرنا من رواية "التقويم" أن فيه يجوز أيضا عند قيام الدلالة على إردة المجاز.
(وصار هذا كالبيع للنكاح) وكلمة هذا إشارة إلى لفظ البيع إذا أضيف إلى منافع الدار.
وقوله: يستعار للنكاح (في غير محله) أي في غير محل النكاح (وهي المحرم من النساء) أي المحرم من النساء كما هي ليست بمحل لحقيقة لفظ النكاح، فكذلك أيضا ليست هي بمحل للفظ المستعار للنكاح وهو لفظ البيع الذي أريد به النكاح، فكان هذا عين نظير لفظ البيع الذي أريد به الإجارة إذا أضيف إلى منافع العين، فإن هناك لا تصح الإجارة لإضافته إلى المحل الذي لو أضيف إليه حقيقة لفظ الإجارة لا يصح، فكذا إذا أضيف إليه اللفظ المستعار للإجارة، فكذا هنا لما لم يصح النكاح بحقيقة لفظ النكاح إذا أضيف إلى المحرم من النساء، فكذا لا يصح النكاح باللفظ المستعار للنكاح إذا أضيف إلى المحرم من النساء؛ وهذا لأن المستعار لا يكون أقوى حالا من الحقيقة، فلما لم يصح النكاح بصريح لفظ النكاح الذي هو حقيقة في هذا المحل لم يصح هو أيضا باللفظ المستعار للفظ النكاح، وهو لفظ البيع إذا أضيف إلى هذا المحل
فعلم بهذا كله أن عدم جواز استعارة البيع للإجارة فيما لا يجوز لا باعتبار أن الاستعارة في نفسها لا تجوز بينهما، بل باعتبار أن اللفظ المستعار لم يضف إلى محله، حتى إذا أضيف إلى محله وهو عين غير قابل للبيع يجوز كما في استعمال لفظ المستعار له، وهو لفظ الإجارة إنما تنعقد إجارة إذا أضيف إلى العين لا إلى المنفعة، فكذا في اللفظ المستعار له لما أن اللفظ المستعار إنما يعمل على حسب عمل حقيقة لفظ المستعار له، فأينما يعمل فيه حقيقة لفظ المستعار له يعمل اللفظ المستعار في ذلك المحل وما لا فلا.
(ومن أحكام هذا القسم أيضا أن المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم عند أبي حنيفة) رضي الله عنه أي التكلم بلفظ المجاز مقام التكلم بلفظ الحقيقة بأن التلفظ بلفظ الأسد عند إرادة الرجل الشجاع به مقام التلفظ بلفظ الرجل الشجاع، ثم الحكم الثابت بلفظ المجاز كالحكم الثابت بلفظ الحقيقة كما في الوكالة، فإن الحكم الثابت بالوكيل كالحكم الثابت بالموكل حتى حل للموكل وطء جارية اشتراها الوكيل لموكله كما لو باشر شراءها بنفسه، وكذلك التراب مع الماء، فإن الخلفية هناك في حق الآلة وهي: الماء والتراب، وأما حصول الطهارة فيهما بطريق الأصالة، لأن حصول الطهارة حكم لهما فلا خلفية فيه.
(وعندهما المجاز خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم)؛ لأن الحكم هو
المقصود، فكان اعتبار الأصالة والخلفية فيما هو المقصود أولى، وبعد هذا إجماع بينهم أن شرط الخلف انعدام الأصل في الحال على احتمال الوجود، فعند أبي حنيفة- رحمه الله لما كانت الأصالة والخلفية في حق التكلم كان المنظور إليه والملتفت له تتبع صحة اللفظ وتصوره لغة من غير أن ينظر إلى صحته من حيث الشرع، فكان ذلك عنده كعمل الاستثناء، فإن الاستثناء تتبع صحته من حيث اللفظ على أن يكون عبارة عما وراء المستثنى، وإن لم يصادف أصل الكلام محلا صالحا له من حيث الحكم باعتبار أنه تصرف من المتكلم في كلامه، حتى إذا قال لامرأته: أنت طالق ألفا إلا تسعمائة تسعة وتسعين لم تقع إلى واحدة، ومعلوم أن المحل غير صالح لما صرح به، ومع ذلك كان الاستثناء صحيحا؛ لأنه تصرف من المتكلم في كلامه فهنا أيضا كذلك، وعندهما لما كان المجاز خلفا عن الحقيقة في حق إثبات الحكم كان المنظور إليه والملتفت له توهم صحة حكم الحقيقة، حتى يصير المجاز خلفا عنها في حق إثبات الحكم.
أما لو كان الحكم مستحيلا بمرة لا يمكن أن يجعل المجاز خلفا عن الحقيقة في إثبات الحكم، لأنه لا حكم للحقيقة أصلا، فكيف يصح المجاز عنه خلفا في إثبات الحكم المستحيل كما عند أبي حنيفة- رضي الله عنه إن التكلم لما لم يصح لغة أصلا لا يصير مجازه خلفا عنه في التكلم؛ لأنه لم يصح تكلما، فكذا هنا.
ثم في قوله (لعبده وهو أكبر سنا منه: هذا ابني لا يعتق عندهما)؛ لأن حكم حقيقة كلامه ها هنا، وهو إثبات البنوة محال، والمجاز خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم، ففي كل موضع يصلح أن يكون السبب منعقدًا
لإيجاب الحكم الأصلي، يصلح أن يكون منعقدا لإيجاب الحكم الخلفي كما في قوله: ليمسن السماء، وفي كل موضع لم يوجد في السبب صلاحية الانعقاد للحكم الأصلي لا ينعقد موجبا للحكم الخلفي كما في اليمين الغموس، وكما في حق الحائض والنفساء أنهما لما لم تخاطبا بآية الوضوء لم تخاطبا بآية التيمم.
قال أبو حنيفة- رحمه الله المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم. أي التكلم بلفظ المجاز خلف عن التكلم بلفظ الحقيقة حتى إن قوله: هذا أسد، للإنسان الشجاع مجاز عن قوله: هذا أسد في حقيقة للهيكل المخصوص.
هكذا كان تقرير أستاذي مولانا فخر الدين المايمرغي- رحمه الله-
فإن قيل: كيف يستعار قوله: هذا أسد عن قوله: هذا أسد وهما جميعا على عبارة واحدة؟
قلنا: يجوز ذلك عند قرينة دالة على المجاز بأن أشار إلى إنسان بقوله: هذا أسد، أو يقول: رأيت أسدا يرمي، ولا يبعد أن يختلف الشيء باختلاف صفته اسما وحكما.
ألا ترى إلى العصير هو حلال شربه، فإذا تخمر صار حراما، ثم إذا تخلل يصير أيضا حلالا، وتغير الأسماء والأحكام باعتبار تغير الصفات وهو في ماهيته شيء واحد وهو ماء العنب، وكذلك قوله: هذا أسد عند الاستعمال في الموضوع له حقيقة وعين هذا اللفظ عند الاستعمال في المستعار له مجاز بسبب اختلاف في محله.
واقرب من ذلك ما إذا أعطى رجل رجلا عشرة دراهم مثلا بأن يعطي مثلها للرجل المعطي غدا أو بعد غد إن ذكر لفظ البيع لا يجوز؛ لأنه ربا، وإن ذكر لفظ القرض يجوز؛ لأنه في معنى العارية، وفي كلتا الصورتين هو إعطاء الدراهم بمقابلة ما يأخذ مثل تلك الدراهم وهو شيء واحد، فيتغير الاسم والحكم بسبب شيء اقترن به، فكذلك هاهنا كان قوله: هذا ابني لعبده الذي هو أكبر سنا منه مجازا عن قوله: هذا ابني لعبده الذي هو يولد مثله لمثله، فلو قال ذلك في الذي يولد مثله لمثله كان يثبت البنوة والحرية لمصادفة حقيقة كلامه محلها، وفي الذي لا يولد مثله لمثله يثبت الحرية التي هي لازمة البنوة لقيام هذا المجاز مقاام تلك الحقيقة، وإن تخلف هذا المجاز لتلك الحقيقة في إثبات
البنوة للتعذر لم يتخلف في إثبات لازمته لعدم التعذر فيثبت، وهذا لأن المجاز لما كان خلفا عن الحقيقة في التكلم كان الشرط فيه أن يكون الكلام الحقيقي في نفسه مفيدا، وإفادته ها هنا بكونه مبتدأ وخبرا موضوعا للإيجاب بصيغته وقد وجد، فكان هذا الكلام عاملا في إيجاب الحكم الذي يقبله بطريق المجاز وهو الحرية، وإن تعدد العمل بحقيقة كلامه وهي إثبات البنوة؛ لأن ذلك إنما يعتبر إذا كانت الأصالة والخلفية في حق الحكم، وليس كذلك على ما قررنا؛ لأنه إن لم يتعذر كان الكلام عاملا بحقيقته، وعند التعذر بالعمل بحقيقته صير إلى مجازه؛ لأن هذا أولى من الإلغاء، فصار كأنه قال: عتق علي من حين ملكته بأن البنوة سبب لهذا، فإنه إذا ملك ابنه يعتق عليه من حين ملكه، فيجعل هذا النسب كناية عن موجبه مجازا، وتصحيح كلام العاقل واجب ما أمكن.
فإن قلت: يشكل على هذا التقرير الذي قاله أبو حنيفة- رضي الله عنه من أنه يتبع صحة الكلام لغة وأفادته في أن يكون المجاز خلفا عن الحقيقة لا
استحالته من حيث الحكم، لكن إذا كان لذلك الكلام الذي استحال حكمه حكم آخر لازم غير مستحيل يثبت ذلك كما في صورة النزاع.
أما إذا قال لعبده الصبي الصغير: هذا جدي، أو لعبده هذه ابنتي، أو لأمته هذا ابني، أو قال لغلامه: أعتقتك قبل أن أخلق حيث لا يعتق من هؤلاء بهذا الكلام، وكذلك لو قال في غير هذا الباب لو قال: قطعت يد فلان وله علي الأرش، فأخرج فلان يده صحيحة لم يستوجب شيئا.
قلت: أما في مسائل الإعتاق ففيه منع، وعلى ذلك التقدير لا يحتاج إلى الفرق على قوله، وعلى تقدير التسليم إذا قال لعبده: هذه ابنتي.
قلنا: الأصل إلى المشار إليه إذا لم يكن من جنس المسمى فالعبرة للمسمى كما لو باع فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج فالبيع باطل، والذكور والإناث من بني آدم جنسان مختلفان، فإذا لم يكن المشار إليه من جنس المسمى تعلق الحكم بالمسمى وهو معدوم، ولا يمكن تصحيحه إيجابا ولا إقرارا في المعدوم، فلا يمكن أن يجعل البنت مجازا عن الابن بوجه، وكذا عكسه.
ألا ترى أنه لا يعتق وإن احتمل أن يكون ولده بأن كان يولد مثله لمثله بخلاف ما نحن فيه، فإنه إن كان يولد مثله لمثله يعتق بالاتفاق، وتثبت البنوة إن كان مجهول النسب، وفي معروف النسب تثبت لازمة البنوة وهي الحرية بطريق المجاز، وكذا قوله لعبده الصغير: هذا جدي ففيه منع وتسليم، وعلى تقدير التسليم نقول: لا موجب لهذا الكلام في ملكه إلا بواسطة الأب، وتلك الواسطة غير ثابتة وبدونها لا موجب لكلامه حتى يجعل كناية عن
موجبه مجازاً، وبخلاف قوله: أعتقتك قبل أن أخلق؛ لأنه لا موجب فيما صرح به- فكذا للذي يقوم مقامه لما أن الإعتاق قبل الخلق إعتاق قبل الملك، ولو أعتقه قبل أن يملكه ثم يملكه لم يلزمه العتق، فكذا هنا؛ لأنه لما لم يكن لصريحه حكم العتق لم يكن لما كنى عنه أيضا حكم العتق- وكذلك قوله: قطعت يدك؛ لأنه لا موجب للجرح بعد البرء إذا لم يبق له أثر، فلا يمكن تصحيح كلامه بأن يجعل كناية عن موجبه، فلهذا كان لغوا. هذا كله مما أشار إليه في "المبسوط" و"الأسرار".
(بخلاف الندى؛ لأنه لاستحضار المنادي) أي لو قال: يا ابني لا يعتق؛ لأن الاستعارة إنما تصح لإثبات معنى والمعنى غير مرعي في الندى؛ لأنه لاستحضار المنادي (بصورة الاسم لا يمعناه، فإذا لم يكن المعنى مقصودا لم تجب الاستعارة لتصحيح معناه)، وإنما صير إلى الاستعارة فيما سبق؛ كي لا يلغو الكلام، وها هنا الكلام صحيح من غير أن يستعار للحرية لحصول المقصود وهو استحضار المنادي، فلا ضرورة في استعارة هذا الكلام للحرية بخلاف قوله:(با حر فإنه يستوي نداؤه وخبره) لما ذكر في
الكتاب (أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز)؛ لأن المستعار لا يزاحم الأصل؛ لأن الخلف لا يوجد مع وجود الأصل.
وحاصل هذا الأصل ما ذكره شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله بقوله:
الكلام على ضربين: حقيقة ومجاز، وأنه لا يحمل على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، فتمس الحاجة- لذلك- إلى معرفة الحقيقة والمجاز، والطريق في ذلك هو النظر في السبب الداعي إلى تعريف ذلك الاسم في الأسماء الموضوعة لا لمعنى، وإلى تعريف المعنى في المعنويات، فما كان أقرب في ذلك فهو أحق، وما كان أكثر إفادة فهو أولى بأن يجعل حقيقة، وذلك يكون بطريقتين: التأمل في محل الكلام، والتأمل في صيغة الكلام.
أما بيان التأمل في المحل، ففي قوله تعالى:} أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ {حملنا على المجامعة دون المس باليد؛ لأنه إذا حمل على المس باليد كان تكرارا لنوع حدث واحد، وإذا حمل على المجامعة كان بيانا لنوعي الحدث في التيمم، فكان هو أكثر فائدة مع أنه معطوف على ما سبق، والسابق ذكر نوعي الحدث، فإن قوله تعالى:} إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ {أي وأنتم محدثون، ثم
قال: {وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا {، ثم قال:} وإن كُنتُم مَّرْضَى {إلى قوله:} فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا {، فبدلالة محل الكلام يتبين أن المراد الجماع دون المس باليد.
وأما بيان الدلالة من صيغة الكلام ففي قوله تعالى:} ثَلاثَةَ قُرُوءٍ {إنها الحيض دون الأطهار؛ لأن اللفظ إما أن كان مأخوذا من القرء الذي هو الاجتماع إلى آخره.
وقوله: (لأن القرء للحيض حقيقة وللطهر مجاز).
فإن قلت: جعل المصنف رحمه الله القرء من الأسماء نظير المشترك بين الحيض والطهر في بيان المشترك ثم كيف جعل ها هنا نظير الحقيقة والمجاز حيث جعل الطهر مجازا له وبينها منافاة؛ لأن الاسم المشترك حقيقة في أنواعه؟
قلت: لا يبعد أن يسمى الشيء الواحد باسمين مختلفين.
ألا ترى أن الغائط الذي هو المطمئن من الأرض لما أطلق على الحدث جعلوه في قوله تعالى:} أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ {في موضع مجازا وفي موضع كناية، فالمجاز باعتبار أنه أطلق في غير موضعه الأصلي لاتصال بينه وبين الحدث بطريق المجاورة، والكناية باعتبار وجود الملازمة بينهما من حيث العادة. إذ الكناسة هي ذكر اللازم وإرادة الملزوم، فكذلك ها هنا جاز أن
يكون القرء مشتركا بين الحيض والطهر للاستعمال فيهما على السواء، وجاز أن يكون للحيض حقيقة دون الطهر لقوة دلالته على الحيض من وجوه الاشتقاق الذي ذكر في الكتاب.
ولا شك أن ما هو أكثر دلالة على شيء بحسب الاشتقاق كان هو أحق بذلك من غيره على ما ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله.
ثم قوله: (إنه مأخوذ من الجمع) أي أن لفظ القرء مأخوذ من القرء الذي هو الجمع (وهو معنى حقيقة هذه العبارة) أي كونه للجمع حقيقة للقرء (لغة) لا للطهر؛ لأن الاجتماع صفة الدم؛ لأن الاجتماع حقيقة يوجد في قطرات الدم على وجه لا بد منه ليكون حيضا، فإنه ما لم تمتد رؤية الدم لا يكون حيضا، فكان الحمل عليها أولى من الحمل على الطهر؛ لأن الطهر زمان انقطاع الدم لا اجتماع الدم، فكان ما وضع له اللفظ موجودا في
الحيض، فكان هو أقرب إلى الحقيقة.
(وكذلك العقد لما ينعقد حقيقة)؛ لأن العقد شد بعض الجسم وربط بعضه بالبعض من عقد الحبل، والعقد في الكلام: اسم لربط كلام بكلام. نحو ربط لفظ اليمين بالخبر الذي فيه رجاء الصدق لإثبات حكم وهو الصدق منه أعني البر، وكذلك عقد البيع ربط الإيجاب بالقبول لإثبات حكم وهو الملك، ثم يستعار لما يكون سببا لهذا الربط وهو عزيمة القلب، فكان ذلك دون العقد الذي هو ضد الحل فيما وضع الاسم له، فحمله عليه يكون أحق، وبهذا الذي ذكرنا يبطل قول الخصم حيث يطلق لفظ عقد اليمين على اليمين الغموس الذي فيه القصد، فقال: العقد عبارة عن القصد، فإن العزيمة تسمى عقيدة.
(وكذلك النكاح للجمع في لغة العرب) يعني نحن نحمله على الوطء، والخصم يحمله على العقد، وأصل الخلاف في قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا
نَكَح} وقلنا: موطوءة الأب على الابن حام سواء كان ذلك بالعقد أو بالزنا حملا للنكاح على الوطء لا على العقد، وعند الشافعي مزنية الأب لا تحرم على الابن حملا للنكاح على العقد، فما قلناه أحق؛ لأن الاسم في أصل الوضع لمعنى الضم والالتزام يقول: انكح الصبر أي التزمه وضمه إليك، ومعنى الضم في الوطء بتحقق حقيقة، ولهذا يسمى جماعا، ثم العقد يسمى نكاحا باعتبار أنه سبب يتوسل به إلى ذلك المضم.
فعلم به أن الوطء أحق به إلا في الموضع الذي يتعذر حمله على الوطء، فحينئذ يحمل على ما هو مجاز عنه، وهو العقد كما في قوله تعالى:} حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ {.
وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى، ومن تلك الأمثلة قوله تعالى: {لا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ {.
قال علماؤنا- رحمهم الله اللغو ما يكن خاليا عن فائدة اليمين شرعا ووضعا، فإن فائدة اليمين إظهار الصدق من الخبر، فإذا أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خاليا عن فائدة اليمين فكانوا لغوا، وقال الشافعي: اللغو ما يجري على اللسان من غير قصد، ولا خلاف في جواز إطلاق اللفظ على كل واحد منهما، ولكن ما قلناه أحق؛ لأن ما يجري من غير قصد له اسم آخر موضوع وهو الخطأ الذي هو ضد العمد، والسهو الذي هو ضد التحفظ.
فأما ما يكون خاليا عن الفائدة لمعنى في نفسه لا لحال المتكلم وهو عدم القصد، فليس له اسم موضوع سوى أنه لغو فحمله عليه أولى.
ألا ترى إلى قوله تعالى:} وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ {، يعني الكلام الفاحش الذي هو خال عن فائدة الكلام بطريق الحكمة دون ما يجري من غير قصد، فإن ذلك لا عتب فيه، وأصل الخلاف في هذا راجع إلى أن الغموس هل هو داخل تحت اللغو أم لا؟ فعندنا هو داخل خلافا له.
قوله: (ولهذا قال ألو حنيفة- رضي الله عنه في الدعوى) إيضاح لقوله: إن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز؛ لأن المستعار لا يزاحم الأصل.
(في رجل له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة) قيد بالبطون المختلفة إذ لو كانوا في بطن واحد لا يثبت هذا الحكم، بل عند دعوى أحدهم يثبت نسب الآخرين؛ لأن الحكم في التوأمين ذلك إذ من ضرورة ثبوت أحدهما ثبوت الآخر؛ لأنهما خلق من ماء واحد. (إنه يعتق من كل واحد ثلثه)؛ لأن قول المولى: أحد هؤلاء ولدي؛ صار بمنزلة قوله: أحد هؤلاء حر؛ لأن العمل بثبوت النسب لا يمكن إذا مات قبل البيان لكونه مجهولا، فلما كان هذا بمنزلة الحقيقة لم يعتبر أبو حنيفة- رحمه الله ما يصيب الأوسط والآخر من قبل أمهما؛ لأن الإصابة منة قبيل الإيجاب المضاف إليه حقيقة؛ لأنه يصيبه من نفسه بلا واسطة، وما يصيب الولد من قبل أمه بمنزلة المجاز؛ لأنه لم يرد به حقيقته، بل أريد به غيره كما في المجاز، لأن المجاز إنما يصح
بواسطة وهي القرينة، والاتصال بين محل المجاز وبين الحقيقة، فلم يعتبر المجاز عند الحقيقة.
وذكر في دعوى "المبسوط" أمة لها ثلاثة أولاد ولدتهم في بطون مختلفة وليس لهم نسب معروف فقال المولى في صحته: أحد هؤلاء ابني ثم مات قبل أن يبين، لم يثبت نسب واحد منهم؛ لأن المدعي نسبه مجهول، ونسب المجهول لا يمكن إثباته من أحد؛ لأنه إنما يثبت في المجهول ما يحتمل تعليقه بالشرط ليكون متعلقا بخطر البيان، والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط، فلا يثبت في المجهول والجارية تعتق؛ لأنه أقر لها بأمية الولد، وهي معلومة، وأم الولد تعتق بموت مولاها من جميع المال، ويعتق من كل واحد من الأولاد ثلثه في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه لأن دعوى النسب إذا لم تعمل في إثبات النسب كانت إقرارا بالحرية، فكأنه قال: أحدهم حر، فيعتق ثلث كل واحد منهم من جميع المال، وعلى قول محمد- رحمه الله يعتق من الأكبر ثلثه ومن الأوسط نصفه والأصغر كله؛ لأن الأكبر إن كان هو المقصود بالدعوى فهو حر، وإن كان المقصود هو الأصغر أو الأوسط لم يعتق الأكبر، فهو حر في حال عبد في حالين فيعتق ثلثه.
وأما الأوسط فإن كان هو المقصود فهو حر، وكذلك إن كان المقصود هو الأكبر؛ لأنه ولد أم الولد فيعتق بموت المولى كما تعتق أمه، وإن كان المقصود الأصغر لم يعتق الأوسط، فهو يعتق في حالين ولا يعتق في حال، وأحوال الإصابة حالة واحدة في الروايات الظاهرة بخلاف أحوال الحرمان، فلهذا يعتق نصفه.
وأما الأصغر فهو حر بيقين سواء كان المقصود هو الأوسط أو الأكبر أو هو، إلا أن أبا حنيفة- رضي الله عنه لم يعتبر هذه الأحوال؛ لأنه مبني على ثبوت النسب، ولم يثبت النسب، ولأن جهة الحرية مختلفة وحكمه مختلف، فإنه إذا كان مقصودا بالدعوة كان حر الأصل، وإذا كان المقصود غيره كانت حريته بطريق التبعية للأم بعد موت المولى، وبين كونه مقصودا وتبعا منافاة، فلا يمكن اعتبار الجهتين جميعا.
فلهذا قال: يعتق من كل واحد منهم ثلثه، وقد روي عن أبي يوسف مثل قول محمد- رحمهما الله- إلا في حرف واحد وهو أنه قال: يعتق من الأكبر نصفه؛ لأن حاله تردد بين شيئين فقط، إما أن يكون ثابت النسب من المولى فيكون حرا كله أو لا يكون ثابت النسب منه فلا يعتق منه شيء، فلهذا قال: عتق نصفه وسعى في نصف قيمته. كذا في "المبسوط".
وقيل: إنما صار أحوال الحرمان أحوالا وأحوال الإصابة حالة واحدة؛
لأن عدم الشيء يجوز أن يكون لمعان شتى كما إذا قيل: إن زيدا غير مالك للنصاب؛ لأنه لم يكتسب، ولأنه لم يرث، ولأنه لم يتصدق عليه، ولأنه لم يوهب له، فيجتمع انعدام هذه الأسباب في حق عدم الملك.
وأما إذا ملك النصاب فلا بد أن يكون سبب ملك النصاب شيئا واحدا لا غير من تلك الأسباب، ومحال أن يتعدد سبب الملك عند وجود الملك، وهكذا ذكر أيضا علاء الدين- رحمه الله في "زياداته" وجه الفرق بين الإصابة والحرمان.
وذكر في "الأسرار" من تعليل محمد- رحمه الله في هذه المسألة.
ألا ترى أن الأم تصير أم ولد له، لو كان كناية عن قوله: أحدهم حر لما صارت الأم أم ولد له، وكذلك قيل في أمة لرجل ولدت ابنا فزوجه أمة له أخرى فولدت منه ابنا فنظر المولى إلى الابنين فقال: أحدهما ابني، ثم مات عتق نصف الأكبر وكل الأصغر، وعلى ما قاله أو حنيفة- رحمه الله يجب أن يعتق نصف كل واحد منهما.
(وكذلك لو حلف لا يشرب من هذا البئر لم يقع على الكرع) فالكرع
والكروع: دهان بر آب نهادن بوقت آب خوردن جعله في المصادر من باب علم، وجعل في "الصحاح" من باب منع، وجعل كسر الراء فيه لغة أخرى.
وقال في "المغرب" الكرع: تناول الماء بالفم من موضعه، ومنه كره عكرمة الكرع في النهر؛ لأنه فعل البهيمة يدخل فيه أكارعه، فالكراع ما دون الكعب من الدواب وما دون الركبة من الإنسان، وجمعه أكرع وأكارع.
(وعلى هذه الجملة يخرج قولهم) أي على الأصل الذي ذكر وهو قوله: أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز (أن الأم تصير أم ولد له) ولو لم يكن بطريق الحقيقة لما صارت أنه أم ولد له.
(وقال في "الجامع") أي قال في "الجامع الكبير في الباب الثالث عشر من كتاب الإقرار منه فقال: رجل له عبد ولعبده ابن وللابن ابنان في بطنين مختلفتين، فقال المولى في صحته: أحد هؤلاء ولدي، وكل واحد منهم يولد مثله لمثله، ثم مات قبل أن يبين، فإن الأول يعتق ربعه ويسعى في الباقي إلى آخره. قيد بقوله: في بطنين مختلفين"، إذ لو كانا في بطن واحد يعتق كل واحد منهما جميعا؛ لأن أحد التوأمين إذا صار ولدا لشخص أو حافدا له صار
الآخرُ أيضاً ولدًا أو حافدا ضرورة وإن لم يدع، فلذلك قال: في بطنين مختلفتين ليتأتى التفريع المذكور في الكتاب وهو عتق البعض من كل واحد منهم. فقلنا: يعتق من الأول ربعه ويسعى في الباقي، (ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه) ويسعى في ربع قيمته.
أما النسب فلا يثبت إذا مات قبل البيان؛ لأنه لو ثبت في المجهول لبقي متعلقا بالبيان، وتعليق النسب بالشرط باطل؛ لأنه إخبار عن أمر كائن، والتعليق إنما يكون في أمر معدوم، فلذلك لم يصح تعليقه.
أما وجه التقسيم فإن الأول لو كان مرادا عتق هو وعتق أولاده جميعا، فيعتق الأولاد ها هنا عند إرادة الأول باعتبار سراية أنه ملك أولاده وحافده لا لمعنى أن الأب صار حرا؛ لأن الأب لو كان حرا لا يلزم أن يكون ولده حرا، وإنما يلزم ذلك في حرية الأم، لكن بطريق أن الأول لو كان ولده لكان أولاده حفدة له وهم ملكه، فيعتقون عليه؛ لان (من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه).
وأما لو كان الثاني مرادا فعتق هو وولداه لما ذكرنا ولا يعتق الأول، وإن كان أحد الآخرين مرادا عتق هو ولم يعتق الأول والثاني وأحد الآخرين، فيعتق الأول في حال ولا يعتق في ثلاثة أحوال وهو ما ذكرنا، وأحوال الحرمان أحوال فعتق زبعه لذلك، والثاني يعتق في حالين ولا يعتق في حالين كما ذكرنا، وأحوال الإصابة حالة واحدة وأحوال الحرمان أحوال فيعتق في حال ولا يعتق في حالين، فيعتق ثلثه، وأحد الآخرين حر بيقين؛ لأنه حر بكل حال والآخر يعتق في ثلاثة أحوال وهي ما إذا أراد به نفسه أو أباه أو جده، ولا يعتق في حال وهو ما إذا كان المراد به أخاه، وأحوال الإصابة حالة واحدة، فيعتق حينئذ في حال ولا يعتق في حال، فاجتمع لهما عتق رقبة ونصف عتق رقبة، فيتصنف بينهما إذ ليس أحدهما أولى من الآخر فيعتق من كل واحد منهما ثلاثة أرباعه ويسعى كل منهما في الربع الآخر.
ثم قيل: هذا الذي ذكره هنا قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله-
فأما على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه ينبغي أن يعتق من كل واحد منهم ربعه؛ لأن من أصله أن الإقرار بالنسب إذا لم يفد إثبات النسب للجهالة ينقلب إقرارا بالعتق كما مر في المسألة الأولى وهي أن من له جارية ولها ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال: أحد هؤلاء ولدي. يعتق من كل واحد منهم ثلثه عنده، ولا يستغل باعتبار الأحوال فهذا كذلك، وإذا صار إقرارا بالحرية صار كأنه قال: احدهم حر بين أربعة نفر، فيعتق هناك ربع
كل واحد منهم وهنا كذلك، والأصح أنن هذا قولهم جميعا، وأبو حنيفة- رحمه الله يفرق بين هذه المسألة وبين تلك المسألة التي مرت فيقول: هناك جهة الحرية مختلفة في الحكم فمنها باعتبار النسب ومنها باعتبار أمية الولد من قبل أن ابن أم الولد له حكم أم الولد وهما يختلفان؛ لأن باعتبار النسب تتجزأ الحرية في الحال فيكون مقصودا، وباعتبار أمية الولد يتأخر إلى ما بعد الموت ويكون تبعا. لأمه وبين كونه تبعا ومقصودا تضاد، فلهذا لم يعتبر الأحوال هناك.
وأما ها هنا فجهة الحرية واحدة باعتبار النسب وهذا لأنه ابنه أو ابن ابنه وهو في كل ذلك مقصود، فلهذا اعتبر الأحوال. كذا في "شرح الجامع الكبير" للإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله وغيره.
(وأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة- رحمه الله طريقان). إنما قال هذا؛ لأن العتق في المسألة السابقة وهو في الأصغر سنا منه، ويلد مثله لمثله يثبت العتق فيه وفي أولاده بقوله: أحد هؤلاء ولدي"؛ لاحتمال النسب وهذا الاحتمال في الأكبر سنا منه غير ثابت حقيقة فبأي طريق قال ذلك أبو حنيفة- رحمه الله فيه؟ فقال في جوابه: فأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة طريقان".
(أحدهما - أنه تحرير مبتدأ من قبل) أنه ذكر السبب وإرادة المسبب فيكون هذا إنشاء إعتاق، (ولهذا قلنا في رجلين ورثا عبدا فقال أحدهما: هذا ولدي يغرم لشريكه) نصف قيمته إذا كان موسرا (كما إذا أعتقه)؛ لأنه لو كان بطريق النسب لا يضمن؛ لأنه إذا ورث ابنه هو وغيره لا يضمن لشريكه.
فعلم أنه بمنزلة تحرير مبتدأ، فعلى هذا الطريق لا تصير أنه أم ولد له؛ لأن هذا إنشاء إعتاق في ولدها، وذلك لا يؤثر في صيرورة الأم أم ولد له البتة.
(وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى) يعني أن أمومية الولد لا يحتمل الثبوت بإنشاء تصرف فيها ففي ولدها أولى، وهذا لأن (أمومية الولد) حكم الفعل المخصوص على الخصوص والخلوص، فلا يحتمل أن تصير حكما لقول بطريق الإنشاء بأن تقول: أنشأت فيك أمومية الولد.
(والثاني) - وهو الوجه الأول في الكتاب أنه جعل (إقرارا بحرية الولد) من حين ملكه، فصار قوله: هذا ابني لأكبر سنا منه" إقرارا بعتقه من حين ملكه؛ لان ما صرح به وهو البنوة سبب لحريته من حين ملكه، وهذا الطريق هو الأصح، فقد قال في كتاب الإكراه: إذا أكره على أن يقول لعبده هذا ابني فأقدم عليه لا يعتق عبده، والإطراه يمنع صحة الإقرار بالعتق لا صحة
إنشاء العتق.
فعلم أن الأصح ما ذكرنا، فعلى هذا الطريق تصير أنه أم ولد له؛ لأن هذا الحق يحتمل الإقرار فيثبت في حق الأم أيضا؛ لأن هذا الكلام سبب موجب هذا الحق في الأم أيضا، فإذا جعل هذا الكلام مجازا عن الإقرار بالعتق عن حكم حقيقة هذا الكلام جعل إقرارا أيضا بكون الأم أم ولد له؛ لأنه من حكم حقيقة هذا الكلام أيضا، ووجوب الضمان في مسألة كتاب الدعوى بهذا الطريق أيضا، وهو الإقرار بالحرية لا باعتبار إنشاء التحرير؛ لأنه لو قال: عتق علي من حين ملكته يضمن لشريكه، فكذلك إذا قال: هذا ابني؛ لأن موجب هذا الكلام عتقه من حين ملكه فلا ضرورة تدعونا إلى جعله تحريرا مبتدأ وهو إخبار.
وحاصله أن ما قاله أبو حنيفة- رحمه الله في الأكبر سنا منه هذا ابني يحتمل أن يكون ثبوت العتق في العبد بهذا اللفظ باعتبار أن اللفظ إقرار منه بالعتق، أو بهذا اللفظ ينشيء العتق فيه ويحدثه من غير إقرار، وعلى تقدير الإقرار بكون العبد حرا يكون إقرارا أيضا بأن أمه أم ولد له، وأمومية الولد تثبت بطريق الإقرار، وهو معنى قوله:(لأنه يحتمل الإقرار) أي لأن كونها أم ولد يحتمل الإقرار، ولكن لا تثبت أمومية الولد بطريق الإنشاء، وهو معنى قوله:(وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى) وقوله:
بابتداء تصرف المولى "احتراز عن تصرف المولى في أمومية الولد بطريق الإقرار وهو صحيح؛ لأن ذلك ليس بتصرف في أمومية الولد ابتداء، بل هو إخبار عن كونها أم الولد وهو صحيح، فتثبت به أمومية الولد.
(وقد تتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا)؛ لأن الحكم إذا كان ممتنعا بحقيقة اللفظ كان ممتنعا أيضا بالاستعارة عنها كما قلنا ذلك في المحرم من النساء، فإن النكاح فيها كما لا يثبت بحقيقة لفظ النكاح فكذلك لا يثبت باللفظ المستعار عنها، وهو لفظ البيع أو لفظ الهبة، ثم جعل النكاح ها هنا مستعارا عنه مع أنه مستعار له في الحقيقة، كان كجعل وضع القدم مستعارا عن الدخول في قوله:"قلنا وضع القدم صار مجازا عن الدخول"، مع أن الدخول مستعار له لوضع القدم لما أن وضع القدم في الدار سبب للدخول فيها، كذلك البيع أو الهبة سبب لملك المتعة الذي هو موجب النكاح، فكان في كل منهما ذكر السبب وإرادة المسبب وهو جائز.
وقوله: (إذا استحال حكمه) وهو الحرية (ومعناه) وهو ثبوت النسب.
وقيل: "حكمه" أي حكم الحقيقة وهو البنتية ها هنا، وحكمه" أي حكم المجاز وهو الحرية لا يثبت ها هنا واحد منهما، وكذلك قلنا أيضا بعدم جواز الإجارة بحقيقة لفظ الإجارة إذا أضيفت إلى المنافع، نقول أيضا بعدم جواز الإجارة باللفظ المستعار عنها كلفظ البيع إذا أضيف إلى المنافع، لم يثبت الحقيقة ولا المجاز؛ لعدم إضافة اللفظ إلى محلهما، وهذا لأن الاستعارة لإثبات حكم الحقيقة في محل المجاز ليعمل عمله في محل الحقيقة كما قلنا في القياس لإثبات حكم النص في الفرع، فإذا كان الحكم ممتنعا بالحقيقة لم تصح الاستعارة؛ لأن مثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص، ومن شرط صحة القياس ثبوت الحكم في المنصوص عليه على وجه لا يتغير عند القياس، فإذا تغير حكم النص بالقياس بطل القياس، فكذلك ها هنا إذا تعذر حكم الحقيقة بالمجاز بطلت الاستعارة، وهو معنى قوله: (لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصح حقا من حقوق الملك) وقوله: مناف للملك" أي لملك النكاح أي الحرمة الثابتة بهذا الكلام لم تصلح حقا من حقوق الملك، وهذا لأن حكم الحقيقة انتفاء المحلية والحرمة المؤبدة، فكان منافيا وجود النكاح فلم يصلح أن يستعار هذا؛ لأنه لو استعير تغير حكم الحقيقة؛ لأن الحرمة الثابتة بتفريق الزوج تعتمد صحة النكاح ووجوده، والحرمة الثابتة لحكم الحقيقة منافية للنكاح، فيستحيل أن تثبت مرتبة على صحة النكاح، فتغير حكم الحقيقة، بطلت الاستعارة وبطلت الحقيقة أيضا فلغا كلاهما.
فإن قلت: إذا لم يثبت موجب حقيقة كلامه وهو البنتية باعتبار تكذيب القاضي فلم لم يثبت لازمة تلك الحقيقة وهي الحرمة المؤبدة كما ثبت ذلك في قوله: وهو أكبر سنا منه عند أبي حنيفة- رضي الله عنه فإنه لما لم يثبت موجب حقيقة كلامه وهو النسب ثبت لازمه وهو الحرية، وكما قالوا جميعا في الأصغر سنا منه إذا اشتهر نسبه من الغير، وقال له: هذا ابني، يعتق بالاتفاق ولم يثبت نسبه باعتبار اشتهار نسبه من الغير ويثبت لازمه وهو الحرية؟
قلت: لا وجه لذلك هاهنا؛ لأن في حكم الحرمة ها هنا بهذا الطريق إقرارا بها على المرأة لا على نفسه؛ لأن ملك الحل واقع عليها، ولو أثبتنا لازم حكم الإقرار ها هنا كان هو واقعا عليها؛ لأن العين هي التي يتصف بالحرمة، وهو مكذب شرعا في إقراره على غيره، وهذا لأن المرأة حرة مالكة على نفسها، فلم يصح إقرار الغير عليها بخلاف العبد، فإنه ليس بمستبد بنفسه وهو في حق الملك بمنزلة سائر الجمادات المملوكة، والإقرار ببطلان الملك فيها إقرار على نفسه فصح، ولأن الفرقة الصادرة من جانب الزوج إنما تثبت شرعا بالطلاق أو بالمستعار عن الطلاق الذي يعمل عمل الطلاق، والطلاق يستدعي سابقة النكاح، والبنتية مانعة للنكاح فكيف تكون البنتية موجبة للذي هو يثبت بالنكاح، وهو الفرقة الصادرة من جانب الزوج شرع بناء على صحة النكاح؟ يوضحه أن المجاز يقرر حكم الحقيقة فيما هو فيه، وحكم الحقيقة ها هنا انتفاء المحلية والحرمة المصمتة الباتة التي لا تنكشف أصلا، ومثل هذه الحرمة لا تثبت
في محل المجاز لو كان هو مجازا عن الطلاق، ولو كان هو مجازا عن الطلاق مع ذلك كان فيه تغيير حكم الحقيقة في المجاز، والمجاز وضع للتغير في اللفظ لا في الحكم. بخلاف قوله: هذا ابني، فإنه يعمل مثل عمله في محل حقيقته؛ لأن عمله في الحقيقة عتقه من حين ملكه لا انتفاء الملك من الأصل، فكذا يعمل في محل المجاز بالعتق من حين ملكه، فاتحد الحكم ولم يتغير، فلذلك صح ولم يلغ، وقوله: فإن الحرمة لا تقع به أبدا عندنا" غير أنه إذا دام على هذا اللفظ إنما يفرق القاضي بينهما لا باعتبار أن هذا اللفظ يوجب الحرمة، فإنه لو كان يوجب الحرمة لكان لا يشترط الدوام كما في الرضاع وغيره من المحرمات، لكنه لما دام على ذلك ولا يقربها وصار ظالما في حقها وصارت هي كالمعلقة لا ذات بعل ولا مطلقة. فرق بينهما دفعا للظلم، ولأن الإمساك بالمعروف لما فات، تعين التسريح بالإحسان.
فلم تصلح حقا من حقوق الملك" أي لم تصلح الحرمة الثابتة بهذا الكلام الصادر من الزوج حقا من حقوق ملك النكاح كالطلاق، فلو جعل هذا الكلام مجازا عن الطلاق لصار حقا من حقوق ملك النكاح. لما أن الطلاق يملك بالنكاح، فكذا مجازه (وهو التجريم في الفصلين متعذر) أي الحرمة الثابتة بطريق المجاز عن الطلاق متعذر في فصل معروفة النسب التي يولد مثلها لمثله وفي فصل المرأة التي هي أكبر سنا منه.
(لأن الرجوع عنه صحيح) أي الرجوع عن الإقرار بالنسب صحيح.
والدليل على صحته ما أشار إليه في الفرائض بقوله: ثم المقر له بالنسب على الغير إذا مات المقر على إقراراه ففي تقييده بقوله: "إذا مات المفر على إقراره" دليل على أنه إذا رجع عن إقراره بالنسب يصح رجوعه، ثم لما صح رجوعه عن إقراره بالنسب في قوله لامرأته: هذه بنتي، وهي معروفة النسب عن الغير عند تكذيب القاضي إياه، لم يبق الإقرار ولم تثبت به الحرمة في محل المجاز؛ لأنه لا إقرار، إذ لو ثبتت الحرمة كانت ثابتة بناء على إقراره ولم يبق الإقرار بالرجوع عنه فيما يحتمل الرجوع عنه، فكذلك ما بني عليه وهو الحرمة لما أن هذا الإقرار بالنسب لم يصلح أن يقوم مقام الإقرار بالطلاق؛ لأنه لا يصلح أن يكون حقا من حقوق ملك النكاح لما بينا.
وأما في قوله: هذا ابني" وإن كان مكذبا حقيقة إذا كان العبد أكبر سنا منه أو شرعا فيما إذا كان صغيرا ونسبه مشهور من الغير، فهو قائم مقام قوله: "عتق علي من حين ملكته" فكان هذا إقرارا منه بالعتق، والرجوع عن العتق لا يصح، وإن كان يصح رجوعه من الإقرار بالنسب.
(وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- العمل بعموم المجاز أولى).
والدليل على جواز العمل بعموم المجاز ما ذكره في "الكشاف" في سورة
النحل في قوله تعالى: {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ {الآية. سأل نفسه بقوله: إن سجود المكلفين على خلاف سجود غيرهم، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟
ثم قال: قلت المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى، وأنها غير ممتنعة وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد، وهذا التخريج يؤيد صحة القول بعموم المجاز في القرينة.
(وعندهما يقع على شرب ماء يجاور الفرات)، فلذلك يحنث عندهما إذا شرب من الفرات بالكرع أو بالاغتراف بالإناء أو بيده؛ عملاً بعموم
المجاز كما في قوله: لا يضع قدمه في دار فلان. كذا في "شروح الجامع".
(وذلك لا ينقطع بالأواني؛ لأنها دون النهر في الإمساك) أي لأن الأواني دون النهر في الإمساك، فلما كان كذلك من اغترف بالأواني من الفرات فشرب منها كان حانث عندهما.
وأما إذا شرب من نهر منشبعة من الفرات فلا يحنث؛ لأن ماء الفرات ينقطع من الفرات بالنهر دون الأواني، وفي "نظم الجامع".
ولم يحنث بشرب من سري
…
وذلك كان ينشعب الفراتا
وهذا لأن ماء الفرات إذا جرى في نهر آخر يضاف فعل الشرب إلى ذلك النهر؛ لأن الشرب من الفرات إنما يكون إذا كان الفرات ظرفا للماء الجاري، وهذا الماء جار في نهر لا يسمى فراتا، وإنما قيد في صورة المسألة بقوله: إذا حلف لا يشرب من الفرات"؛ لأنه إذا حلف لا يشرب من ماء الفرات، فشرب من نهر يأخذ الماء من الفرات كرعا أو في إناء، حنث في يمينه في قولهم جميعا؛ لأنه عقد يمينه ها هنا على ماء الفرات، وهذا الماء ماء الفرات وإن تحول إلى نهر آخر بخلاف الأول، فإنه هناك عقد اليمين على المحل وهو الفرات، والله أعلم.