الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ألفاظ العموم
لما ذكر بيان أحكام العموم وما يختلف من أحكامه قبل الخصوص وبعده احتاج إلى ذكر الألفاظ التي يحصل بها العموم، فتقديم الأحكام بسبب أن الأحكام هي المقصودة، وكونها مقصودة جهة في التقديم.
(فهو صيغة كل جمع مثل الرجال والنساء) أي بغي الألف واللام بأن قيل: رجال ونساء.
(أما صيغته فموضوعة للجمع)؛ لأن واضع اللغة وضع هذه الصيغة للجماعة، وقال: رجل ورجلان ورجال، وامرأة وامرأتان ونساء، وهو عام بمعناه أيضًا؛ لأنه شامل لكل ما يتناوله عند الإطلاق، وأدنى ما ينطلق عليه هذا اللفظ ثلاثة؛ لأن (أدنى الجمع) الصحيح (ثلاثة نص عليه محمد-
رحمه الله- في "السير الكبير" في الأنفال ويرها)، ومن قال: لفلان علي دراهم يلزمه الثلاثة والمرأة إذا اختلعت من زوجها بما في يدها من دراهم، فإذا ليس في يدها شيء تلزمها ثلاثة دراهم.
(والكلمة عامة لكل قسم يتناوله) أي كلمة العموم تعم ما تتناوله صيغة العموم مثل: كلمة العبيد عام في العباد، والنساء في الإناث
ليستقيم تعريفه.
(لأن كل جنس معهود فكان فيه عمل بالوصفين) أي وصف الجنس ووصف الجمع. بيان ذلك أن معنى الجمع مراعى في الجنس من وجه ولا يراعى معنى الجنس في الجمع أصلًا، وذلك لأن الجنس إذا أريد به الكل كان معنى الجمع فيه موجودًا في الجمع أصلًا، وذلك لأن الجنس إذا أريد به الكل كان معنى الجمع فيه موجودًا وهو الثلاث فصاعدًا، فعلى هذا التقدير كان معنى الجمع في الجنس مراعى في كل وجه.
وأما إذا أريد به الجمع فليس فيه معنى الجنس أصلًا؛ لأن الجنس ما يتناول الواحد ويحتمل الكل، وهذا معنى غير موجود في الجمع، فإنه لا يكون الواحد فيه مرادًا أصلًا، فلا يكون معنى الجنس على هذا التقدير موجودًا أصلًا، ولم يوجد أيضًا إذا أطلق الجمع على الثلاث لا غير.
فعلم بهذا أن معنى الجنسية في الجمع فائت على تقديرين أي على تقدير إرادة الثلاث فصاعدًا من الجمع على تقدير الثلاث منه لا غير.
وأما معنى الجمع. فمراد من كل وجه من الجنس إذا أريد به الجنس الأعلى، فاتضح الفرق فيهما فكان الحمل على الجنس أولى عند تعارض مقتضيهما.
وأما في قول المرأة لزوجها: خالعني على ما في يدي من الدراهم وليس في يدها شيء حيث يلزمها ثلاثة دراهم؛ فلأن الجمع المحلى بالألف واللام التي هي للجنس كان يجب أن يراعى الجمعية على تقدير إرادة الكل به، وذلك غير ممكن؛ لاستحالة كون الدراهم أجمع في يدها، وإذا انعدم المعنى الموجب لاعتبار الجنسية اعتبرنا جانب الصيغة وهو الجمع، وقد ذكرنا ما هو أريد من هذا في هذه المسألة في "النهاية".
(فإن آدم عليه السلام وحده كان كل الجنس)، وكذلك (حواء- رضي الله عنها - وحين لم يكن غيرهما كان اسم الجنس حقيقة لكل واحد منهما، فبكثرة الجنس لا تتغير تلك الحقيقة، وكما كان اسم الجمع واقعًا على الثلاثة فصاعدًا كان اسم الجنس واقعًا على الواحد فصاعدًا، فعند الإطلاق ينصرف إليه إلا أن يكون المراد الجمع، فحينئذ لا يحنث فقط ويدين في القضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه بخلاف ما إذا نوى التخصيص في صيغة العام، فإنه لا يدين في القضاء، فتذكر هاهنا ما ذكرنا من ورود الشبهة على هذا الأصل في مسألة الكوز قبل هذا في باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار.
(مثل الرهط والقوم). ذكر في "الصحاح" والرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} والقوم: الرجال دون النساء؛ لأنه لا واحد له من لفظه، وجمع القوم أقوام، وجمع الجمع أقاوم (ولما كان فردًا بصيغته جمعًا بمعناه كان اسمًا للثلاثة فصاعدًا) أي لما كان كل واحد من رهط وقوم فردا بصيغته.
فإن قيل: لما كان اللفظ مفردًا والمعنى جمعًا كان كالطائفة حيث اجتمعت فيها علامتا فرد وجماعة، فإن الطائف في أصله اسم فاعل على صيغة الفرد، وفيها علامة الجماعة وهي التاء، فلذلك صارت متناولة للواحد فصاعدا فيجب أن يكون الرهط كذلك، بأن يكون متناولًا للواحد فصاعدًا.
قلت: الفرق بينهما ظاهرًا؛ لأن الرهط والقوم من حيث الصيغة كقلب وكلب على صيغة الأسماء المفردة، ومع ذلك هما موضوعان لمعنى الجمع ولم يوضعا فيما دون الثلاثة كالركب والصحب والإبل والغنم، وكان عدم
استعمالهما لما دون الثلاثة بوضع الواضع.
وأما الطائفة فهي نعت فرد بحسب الاشتقاق. يقال: امرأة طائفة. إلا أنهما لما استعملت للجماعة أول تأنيثها بتأويل الجماعة، فلذلك اعتبر فيها حقيقة الفردية والاستعمال للجماعة.
({فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}) أي فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير؛ لأنه نعت فرد صار جنسا بعلامة الجماعة، فإن التاء فيها لعلامة الجماعة كالمعتزلة والكرامية؛ لأن الطائفة في أصلها نعت للمرأة الواحدة من طاف يطوف، لكن هي غير مرادة بالإجماع، فتعين الآخر وهو أن تكون التاء لسبب النعت الجماعة، فكانت للجنس بهذا الطريق؛ لأنه اجتمع فيها دليلان.
والأصل في الأدلة الجمع عند التعارض، فحملناها على الجنس ليكون عملا بهما؛ لأن الجنس يتناول الفرد مع احتمال الكل، والمراد من الجنس نفس الماهية واحدة في الذهن، وإنما تكثر في الخارج بكثرة أفراده، ولكل فرد من أفراده صلاحية أن يكون كل الجنس، وهو المعني من قولهم: الجنس يقع
على الواحد على أنه كل الجنس.
[من]
(ومن ذلك) أي ومن الذي هو عام بمعناه دون صيغة كلمة من، فإنها كلمة مبهمة عبارة عن ذات من يعقل (وهي تحتمل العموم والخصوص)، والنظير الواضح لها فيه قوله تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في بعض ضمائرها ذكر بلفظ الفرد وفي بعضها بلفظ الجمع.
(فشاؤوا جميعًا عتقوا)؛ لأن كلمة من تقتضي العموم، وإنما أضاف المشيئة إلى من دخل تحت كلمة من فتعمم بعمومه.
(فصار الأمر متناولًا بعضًا عامًا، فإذا قصر أي الأمر بالإعتاق عن الكل بواحد كان عملا بهما).
فإن قيل: إن قوله: عبيدي جمع فيتناول الثلاث لما عرف، فينبغي أن يعتق بعض الثلاث عند أبي حنيفة- رضي الله عنه وعندهما أن يعتق الثلاث لما أن الجمع يصرف إلى الثلاث لما مر في قوله:"إن اشتريت عبيدًا فعليه كذا" أن ذلك يقع على الثلاث.
قلنا: الجمع إنما يتناول الثلاث فيما ذكرت من الصورة وأمثالها؛ لأنه متيقن وما وراءه غير متناه وغير معلوم ولم يدل الدليل على ما وراءه.
وأما هاهنا فدل الدليل على ما وراء الثلاث وهو إضافة العبيد إلى نفسه، فكان مجموع العبيد معلوم العدد بسبب الإضافة إلى نفسه، فلما علم مجموع العبيد صرف كلامه إليه لا إلى الثلاث؛ لأن ذلك كان للضرورة وليس هاهنا ضرورة في الصرف إلى الثلاث.
فإن قلت: ما جواب أبي حنيفة- رحمه الله عن الآيتين اللتين وردتا على وفاق صورة المسألة، وهما شهدتا لصحة قولهما، وهو قوله تعالى: {فَاذَنْ
لِمَنْ شئتَ مِنْهُمْ} وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} ، فإضافة المشيئة إلى الخاص في هاتين الآيتين لم تغير العموم الثابت بكلمة من؟
قلت: قال هو- رحمة الله- وإنما رجحنا معنى العموم فيهما بالقرينة المذكورة فيهما، وهي قوله:{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} وقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} .
(وكذلك قوله: من شاء من عبيدي عتقه فهو حر). يعني لا يلزم على المسألة المتقدمة وهي قوله: من شيءت من عبيدي عتقه فأعتقه"، وإن كان المولى جمع بين من ومن في الصورتين، ومع ذلك عمل في المسألة المتقدمة بكلمتي العموم والخصوص، وفي هذه المسألة لم يعمل بكلمة الخصوص، فأجاب عنه بقوله:(إلا أنه أي إلا أن ذلك البعض موصوف بصفة عامة وهي المشيئة، فسقط بها أي بسبب الصفة العامة الخصوص) أي التبعيض.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يعم الكل في قوله: من شيءت عتقه" أيضًا؛
لأن محلية العتق عام، فإن العبيد هناك كانوا موصوفين بكونهم شائين العتق، وهاهنا أيضًا كانوا موصوفين بكونهم مشيئين للعتق.
قلنا: نعم كذلك إلا أن الاعتبار في الصفة جهة الفاعل لا جهة المفعول والمشيئة في قوله: أعتق من عبيدي من شيءت عتقه" خاصة باعتبار الشائي وهو المخاطب، وإن كانت عامة باعتبار المفعول لما أن الاعتبار للفاعل.
وحاصله أن كلمة من للبيان عندهما وللتبعيض عند أبي حنيفة- رضي الله عنه وهذا الأصل لم يفترق في الصورتين أي صورة قوله: من شاء من عبيدي عتقه"، وصورة قوله: من شيءت من عبيدي عتقه"، إلا أن المخالفة بينهما من حيث الحكم إنما جاءت من شيء آخر، وهو أن البعض في قوله: من شاء من عبيدي" وصف بصفة عامة وهي المشيئة فعمت، وهذا لا يدل على أن كلمة من فيه للبيان.
ألا ترى أن من قال لآخر: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوا جميعًا عتقوا.
ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضربهم لم يعتق إلا واحد منهم. لما أن في الأول أن النكرة وهي أي وصفت بصفة عامة فتعممت، وهذا لا يل على أن النكرة عامة في جميع الصور.
وأما في الثاني فقد وصف المخاطب بالضرب فبقيت النكرة وهي أي متعرية عن الصوف العام فلم تتعمم، فكذلك هاهنا أضاف المشيئة في قوله:"شيءت" إلى المخاطب، فبقي الأول بعضًا عامًا متعريًا عن دليل يوجب العموم، ولا كذلك من شاء من عبيدي عتقه على ما ذكرنا.
(وهذه الكلمة أي كلمة من تحتمل الخصوص أي تحتمل أن يراد به الفرد المحض؛ لأنها وضعت مبهمة أي وضعت كلمة من صالحة لإرادة العموم والخصوص، فإنها تذكر ويراد بها العموم وتذكر ويراد بها الخصوص.
(فلما قرنه بهذه الكلمة) أي فلما قرن الأول بكلمة من حملت كلمة من على الخصوص؛ لأن كلمة من تحتمل العموم والخصوص، وكلمة "الأول" محكمة في الخصوص؛ لأن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه غيره، فلما قرن بينهما حمل المحتمل على المحكم، وكان هذا بمنزلة من قال: لفلان علي ألف
درهم وديعة تكون وديعة لما أن كلمة الإيجاب وهي علي تحتمل إيجاب الحفظ بكون المال وديعة عنده، وتحتمل إيجاب المال في ذمته بسبب الدين، وقوله:"وديعة" محكم في الإيداع، فحمل المحتمل على المحكم، فكذلك هاهنا.
ولما ترجح معنى الخصوص فيها لم يستحق النفل إلا واحد دخل سابقًا على الجماعة، فنظير كلمة من في هذه الوجوه كلمة ما على ما يجيء بعد هذا.
[كل]
(وقسم آخر) أي وقسم آخر من ألفاظ العموم التي هي عام بمعناها دون صيغتها.
(وهذا معنى أي معنى الانفراد على وجه أن يعتبر كل مسمى منفردا ليس معه غيره) إنما يثبت في حق المضاف إليه الذي أضيف إليه كل، وهو نفس في قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وامرأة في قول الرجل: كل امرأة يتزوجها؛ لأن كلًا من النفس والمرأة ذكرتا نكرة في موضع الإثبات، فكان الانفراد هو المراد لذلك، ومعنى الإحاطة إنما جاء من لفظ كل، فلذلك كان معناه أن يحيط كل ما يتناوله على سبيل الانفراد.
وقوله: (كأنها صلة) أي كأن كلمة كل صلة للذي أضيف هي إليه، وهو نفس وامرأة فيما ذكرنا من النظير، وإنما شبهها بالصلة؛ لأن الصلة لا تستعمل بدون الموصول كذلك كلمة كل لا تستعمل بدون ما أضيفت هي إليه إما لفظًا أو تقديرًا، وإنما ذكر هذا لبيان أن المقصود هو المضاف إليه فيه، والمضاف إليه فيما ذكر من النظير نكرة ذكرت في موضع الإثبات، فكانت خاصة، فلذلك اعتبر كل مسمى منفردًا كأن ليس معه غيره.
(وهي تحتمل الخصوص أيضًا مثل كلمة من) على ما ذكر بعد هذا بقوله: ولو دخل العشرة فرادى في كلمة كل كان النفل للأول لا غير؛ لأنه هو الأول من كل وجه.
(وإذا دخلت على النكرة أوجبت العموم) أي عموم الأفراد، وإنما قيد بقوله: وإذا دخلت على النكرة "احترازا عما لو دخلت على المعرفة، فإنها توجب عموم الأجزاء حينئذ. كما في لفظ "المنظومة" مستودع كل المراد ولم يقل كل مراد لما أنه لم يرد به كل فرد من أفراد المراد؛ لأن المرادات جمة، وهو ليس بجامع للجميع، بل أراد أنه جامع كل جزء من أجزاء المراد من نوع
المسائل الخلافية.
وعن هذا قالوا: كل رمان مأكول صادق، وكل الرمان مأكول ليس بصادق؛ لأن قشوره غير مأكولة.
(فإذا وصلت أوجبت عموم الأفعال)، ولكن يقتضي عموم الأفعال عموم الأسماء لا على القلب، فوجه الفرق هو أن الفعل لا يتصور بدون الاسم حتى إن التزوج لا يتصور بدون المرأة، فلذلك جاء من ضرورة عموم الأفعال عموم الأسماء، فلذلك حنث كل عند تزوج في قوله: كلما تزوجت امرأة سواء كان تكرار التزوج على المرأة الأولى أو على غيرها.
بخلاف ما لو قال: كل امرأة أتزوجها؛ لأن من عموم النساء لا يلزم عموم التزوج، إلا أنها عند العموم تخالفها في إيجاب الإفراد أي أن كلمة كل تخالف كلمة من في اقتضاء العموم، وكلمة كل توجب الإحاطة على سبيل الانفراد، على وجه أن يكون مع كل واحد مما دخلت هي عليه كأن ليس معه غيره ولا كذلك إفراد كلمة من، بل ذلك يوجب هي الاجتماع ولا يوجب الانفراد.
ويظهر ذلك في مسألة ("السير الكبير" التي ذكرها محمد) رحمه الله على ما ذكر في الكتاب، وهو قوله:(من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا، فدخل جماعة بطل النفل، ولو قال: كل من دخل منكم هذا الحصن أولا، فدخل عشرة معا وجب لكل رجل منهم النفل كاملا على حياله).
وذكر الإمام قاضي خان في "الجامع الكبير" فقال: إذا قال الرجل: كل امرأة لي تدخل الدار فهي طالق، وله أربع نسوة فدخلت واحدة فطلقت؛ لأن كلمة كل تتناول كل واحدة على سبيل الانفراد، وبخلاف ما لو قال: إذا دخلتن الدار فأنتن طوالق. لا يقع م لم تدخل الكل.
لأن لفظ الجمع لا تناول الفرد في حق من تخلف من الناس، وهم الذين لم يدخلوا.
(ولو دخل العشرة فرادى) يعني لو دخل العشرة على التعاقب كان النفل الأول خاصة في الفصلين؛ لاحتمال الخصوص في كلمة كل.
[الجميع]
(فصارت بهذا المعنى) أي بصفة معنى الاجتماع (مخالفة للقسمين الأولين)، وهما: كلمة كل وكلمة من، وذلك لأن كلمة للإحاطة على سبيل الانفراد على التفصيل الذي ذكرنا، وكلمة من توجب العموم من غير أن تتعرض لصفة الاجتماع ولا لصفة الانفراد، فعلى أي وجه وجد وجب اعتباره وهو معنى ما ذكر في كلمة من وجب اعتبار جماعتهم؛ لأنها وجدت كذلك لا أن كلمة من توجبه، وكلمة الجميع تخالفهما في هذا؛ لأنها متعرضة لصفة الاجتماع، فصار كلمة من عامة مطلقة، وكلمة الجميع عامة مقيدة بصفة الاجتماع وكذلك كلمة كل عامة مقيدة، لكن بصفة الانفراد على مضادة قيد الجميع.
(أن لهم نفلًا واحدا بينهم جميعًا)؛ لأن لفظ الجميع للإحاطة على وجه الاجتماع وهم سابقون بالدخول على سائر الناس.
(لأن الجميع يحتمل أن يستعار لمعنى الكل)؛ لأن كل واحد منهما عام، فيستعار هذا لذلك لمعنى يجمعهما وهو العموم عند تعذر موجب حقيقته، فإذا دخلوا فرادى لم يوجد موجب الجميع وهو الاجتماع، وقد دل الدليل على الاستعارة؛ لأن الحال حال التشجيع وهذا في واحد أقوى؛ لأن المراد الترغيب في دخول الحصن، ومعنى الشجاعة والجرأة من واحد أقوى عند الإرادة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يستعار من لمعنى الكل فيما إذا قال: من دخل
منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا، فدخل عشرة حتى يستحق كل واحد منهم نفلًا كاملًا كما في كلمة كل. كما استعير كلمة الجميع لمعنى الكل حين دخلوا فرادى كان النفل للأول في مسألة الجميع استعارة لها لمعنى كل؟
قلنا: لا يصح ذلك لما ذكرنا أن كلمة من تحتمل الخصوص وقد قرن بها الأول وهو محكم في الفرد السابق، فصار المراد به فردًا سابقًا على الحقيقة كما لو قال: إن دخل فلان الحصن أولًا فله من النفل كذا، فدخل معه غيره لم يستحق النفل لانتفاء صفة الأولية، فكذلك هاهنا الشرط دخول رجل واحد سابق لا يشاركه غيره في الدخول حقيقة، فلم يجز استعارته لذلك بخلاف الجميع والكل؛ لأنه يجوز أن يذكر العام ويراد به الخاص.
وأما استعارة الجميع لمعنى الكل حين دخلوا فرادى كان النفل للأول كما في مسألة كل فحقق ما ذكرنا بأن الأول محكم في الفرد السابق وقد قرن بالجميع، فكان ترجيح جانب المحكم أولى.
[الذي]
(وكذلك كلمة الذي في مسائل أصحابنا)؛ فإنها مبهمة مستعملة فيما يعقل وفيما لا يعقل، وفيها معنى العموم حتى إذا قال المولى لأمته: إن كان الذي في بطنك غلامًا كان بمنزلة قوله: إن كان ما في بطنك غلاما.
[ما]
(وهذه في احتمال الخصوص) أي كلمة ما.
(لما قلنا في الفصل الأول) أي في قوله: من شيءت من عبيدي عتقه فأعتقه.
(ويجوز أن يستعار كلمة ما لمعنى كلمة من) كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} كما يستعار كلمة من لمعنى كلمة ما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} وهو الأصنام، وإنما أوثرت كلمة ما على كلمة من في قوله:{وَمَا بَنَاهَا} لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، وفي كلامهم: سبحان ما سخركن لنا.
وأما استعارة كلمة من لمعنى كلمة ما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} مع إرادة الأصنام من قوله: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} ، فلأنه ذكر فعل الخلق وهو صفة من يعلم، فإن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها وأجروها مجرى أولي العلم، ذكرها الله تعالى على حسب اعتقادهم".
وبكلمة من في قوله: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} أو ذكرت كلمة من في قوله:
{كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} لمشاكلة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية. إلى هذا أشار في "التيسير"، و"الكشاف".
(وهذه كلمات موضوعة غير معلولة) أي لم يقل إنها موضوعة لهذه المعاني بسبب هذه العلة بخلاف المسلمين والكافرين وسائر الكلمات المشتقة من ألفاظ العموم، فإنها موضوعة على معانيها باعتبار عللها وهي قيام الإسلام والكفر.
وقوله: "هذه" إشارة إلى الكلمات المذكورة من قوله: وأما العام الذي بمعناه دون صياغته مثل: الرهط، والقوم، والطائفة، ومن، وكل، والجميع، وما، والذي، فإن هذه الكلمات موضوعة لما ذكرها من موضوعاتها الحقيقية، وليست هي بموضوعة لما وضعت باعتبار العلة، فلذلك لم يقس
الرهط على الطائفة حتى يطلق على الواحد وما فوقه كما هو حقيقة الطائفة، وكذلك لم يجز قياس كلمة من على كلمة كل في مسألة من دخل منكم هذا الحصن أولًا، فدخل جماعة حتى يستحق كل واحد منهم نفلًا كاملًا كما يستحقه في مسألة كل.
وأما ما ورد من استعارة بعض الكلمات لبعضها، فلم يكن ذلك باعتبار أنها معلولة بعلة، ثم وجد تلك العلة في كلمة أخرى، فاستعرت هي لها باعتبار وجود بعض أوصاف كلمة في كلمة أخرى. كما استعير لفظ الأسد للرجل الشجاع؛ لوجود بعض صفة الأسد في الرجل الشجاع وهو الشجاعة لا أن الأسد إنما سمي أسدًا لأنه شجاع.
أن النكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص. قيل: هذا الذي ذكره في الإثبات فيما إذا كانت تلك النكرة اسمًا غير مصدر، فيحتمل العموم حتى وصف هو بالكثرة في قوله تعالى:{لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} .
وكذلك لو قال رجل لامرأته: أنت طالق طلاقًا، ونوى به الثلاث يصح.
(وذلك ضروري لا للمعنى في صيغة الاسم) أي كون النكرة في موضع النفي للعموم لا لدلالة العموم في صيغته مثل صيغة الجمع ومثل الألف واللام التي هي للجنس، ولكن كان ذلك لضرورة الكلام ومقتضاه.
ولذلك وقع الفرق بين وقوع النكرة في الإثبات ووقوعها في النفي؛ لأن في موضع الإثبات المقصود إثبات المنكر، وفي موضع النفي المقصود نفي المنكر، فالصيغة في الموضوعين تعمل فيما هو المقصود، إلا أن من ضرورة نفي رؤية رجل منكر في قوله: ما رأيت رجلا نفي رؤية جنس الرجال، فإنه بعد رؤية رجل واحد لو قال: ما رأيت رجلا كان كاذبًا.
ألا ترى أنه لو أخبر بضده، فقال: رأيت اليوم رجلًا كان صادقًا، وليس من ضرورة إثبات رؤية رجل واحد إثبات رؤية غيره، فهذا معنى قولنا: النكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص.
(لا يحتمل التعريف بعينه لمعنى العهد) أي في موضع لا يراد به معين. مثل قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} والواو في قوله: {وَالزَّانِيَةُ} للعطف، فكان من حقها أن يلفظ بقطع الهمزة.
(ومثاله قول علمائنا: المرأة التي أتزوجها طالق) تطلق كل امرأة يتزوجها.
ولو قال: العبد الذي يدخل الدار من عبيدي حر، يعتق كل عبد يدخل الدار؛ وهذا لأن الألف واللام للمعهود، وليس هنا معهود، فيكون بمعنى الجنس مجازا كالرجل يقول: فلان يحب الدينار، ومراده الجنس، وفي
الجنس معنى العموم. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله.
(وفيه نظر عندنا) أي عندي أي مما يتأمل في صحته، وإنما قال هذا؛ لأنه غير مطرد طردًا وعكسًا أما طردًا: ففي صورة إعادة المعرفة معرفة،
والثانية غير الأولى، وذلك في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} ، فإن المراد من الكتاب الثاني الكتاب الذي أنزل على من قبلنا، ومن الأول القرآن وهما غيران مع إعادة المعرفة معرفة.
وأما عكسا ففي صورة إعادة النكرة نكرة، والثانية عين الأولى، وذلك في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} ، فالضعف الثاني عين الضعف الأول مع أن كلًا منهما نكرة، وكذلك قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} .
وقال الإمام المحقق مولانا حميد الدين- رحمه الله وإنما قال هذا؛ لأنه إنما يستقيم هذا إذا كانا كلامين كل واحد منهما منفرد على حياله كما لو قال: جاءني رجل، وكلمت رجلا، فهذا كلامان، فكان الثاني غير الأول.
وأما لو قال جاءني رجل، وجاءني رجل، فهو تكرار للأول في كلام واحد، فكان التكرار للتأكيد.
وأما ما نحن بصدده عند أهل التحقيق فكلام واحد كرر التأكيد كقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} ، وكقوله:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ذكر في سورة واحدة مرارًا للتأكيد والتكرار لما هو المقصود؛ ليتقرر في الأذهان.
(والله لا أقربكما إلا يومًا أقربكما فيه)، وقوله:"أقربكما" صفة لقوله: "يوما" كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} أي لا تجزي فيه.
قال المصنف- رحمه الله في "شرح الجامع الكبير" إذا قال رجل لامرأتين له: والله لا أقربكما إلا يوما أقربكما فيه لم يكن موليا بهذا الكلام أبدًا، لأن يوم الاستثناء عام فيمكنه أبدا أن يقربهما في كل يوم يأتي، فلا يلزمه شيء، فعدمت علامة الإيلاء؛ لأن كل يوم يقربهما فيه فهو مستثنى، فلذلك لا
يكون موليًا بهذه اليمين أبدًا. بخلاف ما لو قال: والله لا أقربكما إلا يوما واحدًا أو إلا يومًا أو إلا في يوم، ثم قربهما في يوم، فإذا مضى اليوم انعقد الإيلاء، فإن قلت: لا شك أن النكرة إذا كانت موصوفة كانت أخص مما لم تكن موصوفة.
ألا ترى أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} كانت أخص من قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ؛ لأن تلك مقيدة وهذه مطلقة ولا يرتاب أحد في أخصية المقيد بالنسبة إلى المطلق.
وكذلك لو قلت: جاءني رجل، هو أعلم من قولك: جاءني رجل عالم، حتى إن المطلق عند الشافعي عام، وعندنا إن لم يكن عامًا فهو محتمل للأوصاف والمقيد لا، فلابد من تأويل قول المشايخ: إن النكرة إذا وصفت بصفة عامة تتعمم وتترى، أي إن قولهم: ذلك محمول على ما إذا كانت
النكرة الموصوفة مستثنى من النفي، فإن ذلك مخصوص به بدليل ما أورد من النظائر في الكتاب من هذا القبيل.
قلت: لا، بل قولهم ذلك في المستثنى وفي غير المستثنى أيضًا بدليل ما ذكر في الكتاب أيضًا بعيد هذا بقوله: وقال محمد- رحمه الله أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه. إنهم يعتقدون إلى قوله: لكنها متى وصفت بصفة عامة عمت لعمومها كسائر النكرات.
ألا ترى أنه كيف عم هذا التعليل في النكرات أجمع، وأما قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، فإنما كان خاصًا مع عموم الصفة لعدم احتماله العموم بوجه آخر وإن كان فيه دلالة العموم. إذ ليس في وسعه إعتاق جميع الرقاب المؤمنات؛ إما لعدم الملك في الجميع أو لعدم التصور، فكان من قبيل ما قيل: إن صيغة العموم إذا أضيفت إلى محل لا يقبل العموم "يراد بها أخص الخصوص الذي دل عليه الكلام كما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، فلذلك اكتفي هاهنا بإعتاق رقبة واحدة مؤمنة إذ لا أخص منها.
ألا ترى أنه لو قيل في هذا الموضع: فتحرير الرقبة- بالألف واللام- لما
كان عليه أيضًا إلا إعتاق رقبة واحدة، لما ذكرنا من المعنى بأن إجراء العموم على عمومه لا يتحقق؛ لما ذكرنا أنه لا يمكن له إعتاق جميع الرقاب في العالم، فكان أخص الخصوص مرادًا وهو الرقبة الواحدة.
[أي]
(قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا}).
فإن قيل: لم ينتهض هذا دليل على أن كلمة أي فرد، فإن كلمة من عامة بالاتفاق، ومع ذلك ما أسند الفعل إلى ضميره. جاء على لفظ فعل أسند إلى ضمير الاسم المفرد كقوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} نظرًا إلى اللفظ.
قلنا: انعقد إجماع أهل اللغة على ما ذكرنا، وما ذكرنا من الاستعمال مؤيد لذلك، ولأن صيغة العموم استعملت أيضًا في كلمة من. قال تعالى:{ومنهم من يستمعون إليه} ، ولم يستعمل مثل ذلك في أي، فثبت بهذا
عموم كلمة من، ولما ثبت عمومها ثبت احتمال خصوصها أيضًا نظرا إلى اللفظ، لكن لما وصفت بصفة عامة عمت لعمومها.
فإن قيل: أيكم يحمل هذا الخشبة فهو حر، فحملوها جميعًا وهي خفيفة يحملها كل واحد منهم، لم يعتقوا، وإن عمهم صفة الحمل.
قلنا: إنه ما ميز العتيق بالحمل مطلقًا، ولكن بحمل الخشبة، وإذا حملوها جملة فما اتصف واحد منهم بحمل الخشبة، وإنما اتصف بحمل البعض وبوجود بعض الشرط لا يترك شيء من الجزاء، فأما الضرب فيتم من الواحد بفعله وإن ضرب معه غيره.
(وإذا قال: أي عبيدي ضربته فقد قطع الوصف عنها فلم يعتق إلا واحد)؛ لأن صفة الضرب قائمة بالضارب لا بالمضروب، فكان الضرب مضافًا إلى المخاطب لا إلى النكرة التي تناولها كلمة أي، فبقيت نكرة غير موصوفة، فلذلك لم يتناول إلا الواحد منهم.
فإن قيل: كما ن الضاربية صفة فكذلك المضروبية صفة أيضا، وهي قائمة بالعبيد فتعم على العبيد بعموم المضروبية.
قلنا: عموم صفة المضروبية ثابت بطريق الاقتضاد؛ ليصح الضرب ولا
وجود للاقتضاء فيما وراء المقتضي وثبوت الحرية وراءه، فلا يظهر في حقه فلا يعتق.
إلى هذا أشار الإمام قاضي خان- رحمه الله في "شرح الجامع الكبير"، وهذا لأنه لم يذكر المضروب صريحًا بل قال: ضربته، والضرب قام بالضارب لا بالمضروب، فكان ثبوت المضروبية مقتضى فلا يتعمم لما أن الضرب صفة المخاطب فيستحيل أن يكون صفة أي؛ الوصف الواحد يستحيل أن يقوم بشخصين، والمتصل بالمضروب أثر الضرب وهو الألم لا الضرب، فلم يتصف أي بما هو يعممه وهو الضرب، والمفعولية زائدة على أصل الفعل وكم من فعل لا مفعول له.
بخلاف قوله: لا أقربكما إلا يومًا أقربكما فيه "أن المستثنى عام بعموم وصفه وهو وجود القربان في ذلك اليوم، واليوم هاهنا ظرف وهو أحد المفاعيل، فحصل العموم بعموم صفحة المفعول لما أن الفعل المحدث يتعلق بالزمان فيكون اليوم عامًا بما اتصل به من الوصف العام وهو القربان.
ولا كذلك قوله: "أي عبيدي ضربته"؛ لأن الضرب اتصل بالضارب فيستحيل اتصاله بالمضروب، ثم لما لم يعتق من العبيد إلا واحد في قوله:
"أي عبيدي ضربته" بعد ذلك ينظر إن ضربهم المأمور على الترتيب عتق الأول؛ لأنه لا مزاحم له، وإن ضربتهم جملة عتق واحد منهم والخيار إلى المولى؛ لأن الإجمال منه. كذا ذكره المصنف في "شرح الجامع الكبير".
قلت: وعن هذا يظهر حمل أهل السنة والجماعة قوله عليه السلام: "القدرية مجوس هذه الأمة" على القائلين بأن القضاء والقدر منا لا من الله وهم المعتزلة. لما أن قيام الصفة لما كان بالفاعل لا بالمفعول.
وهم يجعلون أنفسهم فاعلي القدر، فكانوا هم أولى باستحقاق وصف القدرية.
وأما أهل السنة فإنهم ينفون القدر عن أنفسهم بل يضيفون القدر إلى الله تعالى، فكيف يستقيم قيام صفة القدرية بهم وهم ينفون هذه الصفة عن أنفسهم والله الموفق.
(لأن المراد به فيما يخف حمله انفراد كل واحد منهم).
فإن قيل: الإرادة أمر باطن وهذا اللفظ ظاهر، فيجب أن يعمل بالظاهر.
قلت: الأمر الباطن لما صار مستعملا معتادا صار بمنزلة الظاهر، فإذا كان مراده انفراد كل احد منهم في العادة لم يبق مطلقًا بل صار مقيدًا.
(فأما النكرة المفردة في موضع الإثبات فإنها تخص عندنا أي لا تتناول إلا واحدًا إلا أنها مطلقة).
اعلم أن المعنى من المطلق هو كل نكرة مفردة غير موصوفة في موضع الإثبات؛ لأنها إذا كانت موصوفة كانت مقيدة، وإذا كانت في موضع النفي كانت عامة، ثم المطلق ليس بعام عندنا (خلافًا للشافعي، فإنه قال بعمومه، حتى قال في قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إنها عامة تتناول الصغيرة والكبيرة والبيضاء والسوداء المؤمنة والكافرة) حيث جعل الأوصاف المحتملة بمنزلة الأفراد؛ أي الأعيان الموجودة.
(وقد خص منها الزمنة بالإجماع، فيصح تخصيص الكافرة منها بالقياس على كفارة القتل) وهو وإن لم يكن محتاجًا إلى تخصيص العام أولا بالدليل القطعي لتخصيصه بالقياس عليه، ثانيًا على مذهبه ذكر ذلك على وفاق مذهبنا ليتيسر عليه تخصيص العام بالقياس بالإجماع.
وقلنا نحن: هذه مطلقة لا عامة؛ لأنها فرد فتتناول على احتمال وصف دون وصف، (والمطلق يحتمل التقييد) دون التخصيص؛ لأنه ليس بعام والتقييد نسخ للإطلاق، فالتقييد مع التخصيص على طرفي نقيض؛ لأن التخصيص يبين أن بعض أفراد العام ليس بمراد بالعام، والباقي من ذلك البعض مراد بصدر الكلام، فكان الأول وهو العام الباقي معمولًا.
وأما المقيد فهو بنفسه مراد ولم يبقى لصدر الكلام حكم البتة، فكان المراد من التقييد الثاني ومن التخصيص الأول، ولأن التقييد مفرد والتخصيص جملة، ولأن التقييد تصرف فيما كان الأول عنه ساكتًا كصفة الإيمان في الرقبة، والتخصيص تصرف فيما تناوله العام السابق، ولأن التقييد زيادة
معنى، والتخصيص إخراج من العام السابق بعضه بإثبات ضد حكم العام السابق، وهذه فروق بين التخصيص والتقييد.
وأما الفرق بين المطلق والعام: فإن المطلق واحد لا أفراد له؛ لأنه ليس بمحلى بحرف الجنس، وليس بجمع صيغة، وليس من المبهمات في شيء، ولم يتصل بصفة عامة، ولم يذكر نكرة في موضع النفي.
والعام ما كان موصوفًا بواحد من أضداد هذه الأشياء، فكانا هما أيضًا على طرفي نقيض، ومعرفة الفرق بين المطلق والعام، وبين التقييد والتخصيص من أهم المهمات لترتيب الأحكام عليها بحسب ذلك (قد جعل وجوب التحرير جزاء الأمر، فصار ذلك سببًا، فيتكرر مطلقًا بتكرره). هذا جواب سؤال وهو أن يقال: لو لم تكن الرقبة عامة لما وجبت الرقاب عند تعدد الحنث باليمين وتحت الرقاب جمعًا عند ذلك، فكانت عامة بهذا الطريق، فأجاب عنه وقال: وجوب تعدد الرقاب هنا بسبب تعدد الوجوب وتكرره لأن الرقبة عامة.
(وصار مقيدًا بالملك لاقتضاء التحرير) وهذا أيضًا جواب سؤال، وهو أن يقال: لو لم تكن الرقبة عامة لما قيدت هي بكونها مملوكة.
فأجاب عنه وقال: إنما اشترط الملك لاقتضاء التحرير الملك؛ لأن التحرير لا ينفذ إلا في الملوك. لا أن التقييد بالملك لكونها مخصوصة من الرقبة العامة، أو هو جواب عما ورد شبهة على قوله:"فصار نسخًا" بأن يقال: لو كان تقييد المطلق نسخًا له لما قيدت الرقبة بكونها مملوكة لئلا يلزم النسخ.
فأجاب عنه بهذا، وهو قوله: لاقتضاء التحرير الملك"، فلم يكن ذلك زائدًا على النص حتى يلزم النسخ.
وقوله: (ولم يتناول الزمنة) جواب عن قوله: وقد خص منها الزمنة بالإجماع".
وتفسير الجواب هو أن خروج الزمنة عن مطلق الرقبة لا باعتبار التخصيص، بل باعتبار أن إطلاق الرقبة يقتضي كمال البنية- لأن الرقبة اسم للبنية السالمة عن النقصان- والزمنة قائمة من وجه دون وجه، فلم تكن قائمة مطلقًا حتى تتناولها اسم الرقبة مطلقًا، ولهذا شرط كمال الرق أيضًا؛ لأن التحرير منصوص عليه مطلقًا وذلك إعتاق كامل ابتداء، وفي المدبر وأم الولد تعجيل لما صار مستحقا لهما مؤجلًا، فلا يكون إعتاقهما إعتاقًا مبتدأ مطلقًا- فلا يجوز- إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.
[وصار ما ينتهي إليه الخصوص]
(وأما الفرد بمعناه فمثل قوله: لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد إنه يصح الخصوص حتى يبقى الواحد) هذا الذي ذكره عند أهل الفقه.
وأما صاحب "الكشاف" جعل الجمع المحلى بلام الجنس كالجمع بدون لام الجنس، حتى لم يجوز تخصيصه إلى الواحد بل إلى أقل الجمع.
فقال: "إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحًا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه، وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا.
إلى الواحد "ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، وذكر أيضًا في سورة الحاقة في قوله:{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} ، أن الملك أعم من الملائكة.
ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة، ذكر الأصل في الجمع مع لام الجنس وأرى النظير من الجمع بدون لام الجنس.
قلت: قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} ، يدلان على وهاء ما ذكره في "الكشاف".
[أقل الجمع]
(وعلى ذلك مسائل أصحابنا) فإن من أقر لآخر بقوله: لفلان علي دراهم يصدق في الثلاث ولا يصدق فيما دونه.
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} حيث يقوم في الحجب هاهنا الاثنان مقام الثلاث، (وفي المواريث والوصايا).
أما في المواريث: ففي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، والحكم في الاثنتين كذلك.
وأما في الوصايا: فإن من أوصى لأقربائه، فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه ويكون للاثنين فصاعدًا.
(ولا خلاف أن الإمام يتقدم إذا كان خلفه اثنان)، ومن شرط الجماعة تقدم الإمام عليهما، ولو لم يكن الاثنان جمعًا لما تقدم الإمام عليهما، كما لا يتقدم على الواحد.
("الواحد شيطان والاثنان شيطانان")، فلو كان الاثنان ينطلق عليهما اسم الجمع لما أقامهما مقام الواحد في كونهما شيطانًا.
(فإن أهل اللغة مجمعون على أن الكلام ثلاثة أقسام: آحاد ومثنى وجمع)، فكل منها على ما وضع له حقيقة.
والدليل عليه أنه يستقيم نفي صيغة الجمع عن المثنى بأن يقال: ما في الدار رجال. إنما فيها رجلان، وقد بينا أن اللفظ إذا كان حقيقة في شيء لا يستقيم نفيه عنه، ولأن قسمتهم الكلام على هذا الوجه بأن الكلام ثلاثة
أقسام: آحاد ومثنى وجمع دليل على أن كل واحد منها مخالف للآخر، كما نقول: الإنسان قسمان: ذكر وأنثى، ولا شك أن الذكر يخالف الأنثى، وهو ظاهر.
(وله علامات) أي وللمثنى علامات على الخصوص، فإن رفعه بالألف والنون في آخره لازم عند عرائه عن الإضافة وهي مكسورة وما قبل الياء مفتوح.
(وأجمع الفقهاء على أن الإمام لا يتقدم على الواحد). هذا جواب عن قول الخصم. يعني أن الإمام من الجمع ولو كان المثنى جمعًا لتقدم الإمام على الواحد حيث اجتمعا والتقدم شرط الجماعة، وقد حصلت الجماعة على قول الخصم، ومع ذلك لا يتقدم بالإجماع. علم أن المثنى ليس بجمع.
(فإن الواحد إذا أضيف إليه الواحد أي ضم إليه تعارض الفردان، فلم يثبت الاتحاد ولا الجمع)، وهذا لأن الفرد بالنظر إلى نفسه واحد وبالنظر إلى مقابله جمع. إذ بالمقابلة يحصل الاجتماع بينهما، وهما فردان متساويان في القوة، فلا يترجح أحدهما على الآخر، فسقط الوصفان؛ أعني الاتحاد
والاجتماع عند التعارض، فثبت لهما وصف آخر سواهما وهو التثنية، وهذا معنى ما ذكره الإمام بدر الدين- رحمه الله فقال: إن الواحد إذا أضيف إليه الواحد تعارض الفردان.
إذ الفرد الأول يمنع نفسه عن الإتباع إلى مماثله ليبقى هو فردًا كما هو صفته، والثاني يجذب المقابل إلى نفسه ويجعله جمعًا مع نفسه وهما متساويان في القوة فتعارض الشبهان، فلم يبق التوحد حيث وجد الجمع، ولم يحصل التجمع حيث لم يرتفع التعارض، فبقي قسمًا آخر بين القسمين وهو المثنى بين الواحد والجمع، وهو المنزلة بين المنزلتين، والمنقول عن الأساتذة في هذا بالفارسية في معنى التعارض بين الفردين يك فرد مي خواهد كه با آن يكي جمع شود وآن يكي فدر خويشتن را منع مي كند أز وي جمع بودن را فيثبت التعارض بينهما.
(وأما في الثلاث فقد عارض لكل فرد اثنان) فغلبا وترجح جانب التجمع وبطل التوحد بمرة، فحصل التجمع فصار الثلاث حقيقة لصيغة الجمع حيث لا ينفى عنه، وأما في المثنى فينفى عنه كما ذكرنا.
(وقد جعل الثلاثة في الشرع حدا في إبلاء الأعذار) أي في إظهار الأعذار والاختبار بها، كما في قصة موسى مع معلمه عليهما السلام حيث جعل السؤال الثالث نهاية في ترك المؤاخذة، وكذلك في حد مدة السفر
وخيار الشرط ومدة مسح المسافر وغيرها. يعني ليس هذا الذي جعل الشرع الثلاثة في إبلاء الأعذار للاثنين. علم بهذا أن الاثنين ليسا في حكم الثلاثة.
(وأما الحديث فمحمول على المواريث) أي الحديث الذي ذكر في تعليل الشافعي، وهو قوله عليه السلام:"الاثنان فما فوقهما جماعة" محمول على المواريث، ثم في المواريث إنما جعل للاثنين حكم الجماعة بدلالة النص، لا لأن لفظ الاثنين أطلق على لفظ الجمع. بيان ذلك هو أن قوله تعالى:{فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} بين أن للاثنين من الأخوات إذا كانتا لأب وأم أو لأم الثلثين، فهذا بيان أن الثلثان نصيبهما، ولا يزاد
على الثلثين وإن زدن.
علم ذلك بدليل آخر وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، فكان فيه بيان أن النساء وإن كثرن لا يزاد نصيبهن على الثلثين فكان للجمع حكم الاثنين بهذا الطريق. لا أنه أطلق حقيقة الجمع على الاثنين، وهذا صريح في الأختين، وأما للبنتين فلهما الثلثان أيضًا بدلالة النص وإشارته.
أما الدلالة: فلأنه لما كان للأختين الثلثان، لأن يكون للبنتين الثلثان بالطريق الأولى؛ لأن الأخت تبع للبنت في استحقاق الفرض حتى لا يفرض للأخت مع وجود البنت.
وأما طريق الإشارة فهو قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، فهذا يقتضي أن يكون للابن مثل حظ البنتين في جميع صور اختلاط الابن مع البنت، حتى إذا كان للميت ابن وبنت لا غير، فللابن الثلثان ولو لم يكن للبنتين الثلثان لتناقض {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وتعالى كلام الله عن التناقض.
وأما الوصايا: فمبينة على المواريث أيضًا من حيث إن كلًا منهما سبب لملك المال بعد الموت، ولأن الإرث فرض ثابت قطعًا والوصية نافلة وهما بعد الموت، فكانت الوصية تبعًا للإرث لما أن النوافل تبع للفرائض.
(والثاني ما قلنا: إن الخبر محمول) أي الوجه الثاني من حمل حديث الشافعي نقول: إن ما ذكرنا من الخبر في تعليلنا بقوله: ولنا قول النبي عليه السلام "الواحد شيطان" إلى آخره هو محمول (على ابتداء الإسلام)، فإذا ظهر قوة المسلمين قال ذلك الحديث الذي رواه الشافعي بقوله:"الاثنان فما فوهما جماعة".
(فإذا ظهر قوة المسلمين قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة") أي المسافرة مع الاثنين جائزة كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} ، وكان موسى عليه السلام مع فتاه اثنين في السفر، علم أن المسافرة كانت جائزة في الأصل، وإنما كان الحظر عنه في ابتداء الإسلام لعارض الخوف.
(وأما الجماعة فإنما تكمل بالإمام) فيكون الإمام مع القوم جماعة، فالإمام مع الاثنين جماعة والتقدم من سنة الجماعة، فيتقدم الإمام على الاثنين لهذا المعنى لا أن الاثنين جماعة، (حتى شرطنا في الجمعة ثلاثة سوى الإمام)؛ لقيام الدليل على اشتراط أن يكون القوم جماعة سوى الإمام،
وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ففي قوله {نُودِيَ} فهم المنادي وهو المؤذن، وفي قوله:{إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فهم الذاكر وهو الخطيب، وفي قوله {فَاسْعَوْا} يفهم الساعون الخاطبون وأقلهم اثنان بالاتفاق، فيعلم من هذا كله اشتراط ثلاثة سوى الإمام.
(فألحق الفرد بالزوج لعظم منفعته). ألا ترى أن من قطع لسان إنسان يلزمه كمال الدية، كما لو قطع اليدين خطأ كأنه زوج، فصار قلب اثنين كأنه أربع قلوب، (وقد جاء في اللغة خلاف ذلك كقوله):
ظهراهما مثل ظهور الترسين.
قاله في صفة مفازتين.
هذا الذي ذكره من ذكر الجمع وإرادة الاثنين فيما إذا كان متصلين.
وأما في المنفصلين فلا يجوز ذكر الجمع، وإرادة الاثنين للإلباس حتى لا يقال: أفراسهما ولا غلمانهما، إذا كان لكل منهم فرس واحدة وغلام واحد.
* * *