الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حروف المعاني
هذه الإضافة إضافة بمعنى اللام أي الحروف التي تأتي للمعني كالترتيب والتراخي وغير ذلك، وكان هذا احترازا عن الحروف التي ليست لها معان كالجيم، والحاء، والخاء، وغيرها، ذكر وجه المناسبة في الكتاب فإنه ما من حرف من حروف المعاني ها هنا إلا له حقيقة ومجاز، فلاق إيرادها عقيب باب الحقيقة والمجاز، ثم وجه تقديم حروف العطف على غيرها وتقديم حرف الواو من بينها على غيرها مذكور في "الوافي".
[الواو]
(وقوله تعالى:} إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ {ورود هذا النص لإثباتهما من الشعائر، فلا يتصور فيه الترتيب، وصار الترتيب واجبا بفعل النبي عليه السلام لا بمقتضى الواو.
وترتب السجود على الركوع لكون الركوع وسيلة إلى السجود، حتى إن من سقط عنه السجود سقط عنه الركوع، ولا يجوز تقدم الأصل على الوسيلة، فاعتبر هذا بالصلاة مع الوضوء لا لأن الواو يوجب الترتيب مع أن ذلك معارض بقوله تعالى:} واسْجُدِي وارْكَعِي {، ولم يقل أحد بترتيب الركوع على السجود، فلو كان الواو للترتيب لقيل ذلك أيضا.
(وهذا حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب) فيه علامة الفصل، إذ منه ابتداء كلامنا، فكأنه قال: قلنا إن هذا حكم
…
إلى آخره.
(وكلاهما حجة عليه) أي الاستقراء والتأمل حجة على بعض أصحاب الشافعي.
(فيفهم به اجتماعهما في المجئ من غير تعرض للقران والترتيب في المجئ) حتى إنه يكون صادقا في كلامه أن لو جاء عمر وقبل زيد وعلى
العكس أو جاءا معا.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله.
فلو أتى بالمثل قبل النهي عار أيضا،
فعلم أن الواو ليس للترتيب، والمعنى: لا تجمع بين النهي والإتيان بالمثل.
وأما الثاني وهو التأمل في موضوع كلام العرب.
(أو عذر دعا إليه) وهو معنى الإبهام والإجمال، ومعنى عذر معنى إذا أريد من الواضع الله تعالى.
(فلو كان الواو للترتيب لتكررت دلالة الترتيب وليس ذلك بأصل).
فإن قيل: لم يلزم تكرار الدلالة مع سائر الحروف؛ لأن الفاء للترتيب مع الوصل، وثم للترتيب مع التراخي، فلو وضعت الواو لمطلق الترتيب من غير تعرض للترتيب مع الوصل أو التراخي لم يتكرر بهما.
قلنا: إن لم يتكرر معهما يتكرر مع "بعد" إذ هو موضوع لمطلق الترتيب، فصح قوله:"لتكررت الدلالة" وأورد على شيخي- رحمه الله قوله تعالى} والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ {فإن اعتبار العمل الصالح إنما يكون بعد تقديم الإيمان عليه، فكان العمل الصالح مرتبا على الإيمان لا محالة،
فعلم أن الواو للترتيب.
قال رضي الله عنه وأثابه الجنة- ترتب العمل الصالح على الإيمان لم يعلم باعتبار الواو، بل علن بآية أخرى وهي قوله تعالى:} فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ {، جعل الإيمان شرطا للعمل الصالح، والشرط مقدم على المشروط أبدا، فلذلك ثبت ترتب العمل الصالح على الإيمان لا باعتبار الواو.
(ثم انشعبت الفروع إلى سائر المعاني) يعني الفاء للتعقيب وثم للتراخي وغيرهما، وهو كالإنسان أنه لا يتعرض للذكر والأنثى (ثم وضعت لأنواعها أسماء على الخصوص)، وكالتمر؛ إنه جنس وله أنواع مثل: العجوة واللينة والبرلي والصيحاني، وكالبعير جنس وله أنواع فإن البعير بمنزلة الإنسان، والجمل كالرجل، والناقة كالمرأة، والقلوص كالجارية.
(وصارت الواو فيما قلنا نظير اسم الرقبة في كونه مطلقا غير عام ولا مجمل) يعني به إن كلمة الواو وضعت لمطلق العطف كما أن الرقبة وضعت
لمطلق الرقبة التي هي عبارة عن البنية السليمة، المطلق متعرض للذات دون الصفات، فيتناول فردا من الأفراد غير عين فلم يكن عاما؛ لأن العام ما له أفراد، والمطلق يمكن العمل به من غير توقف واستفسار، فلم يكن مجملا؛ لأن المجمل لا يمكن العمل به من غير استفسار من المجمل وبيانه، بل كان مطلقا كرقبة ورجل وامرأة وغيرها.
(فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه موجبه الافتراق) يعني أن الواو للعطف، وإنما يتعلق الطلاق بالشرط كما علقه، وهو علق الثانية بالشرط بواسطة الأولى، فإن من ضرورة العطف هذه الواسطة، فالأولى تتعلق بالشرط بلا واسطة، والثانية بواسطة الأولى، بمنزلة القنديل المعلق بالحبل بواسطة الحلق، ثم عند وجود الشرط ينزل ما يعلق، فينزل كما تعلق، ولكن
هما يقولان: هذا أن لو كان المتعلق بالشرط طلاقا وليس كذلك، بل المتعلق ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط إذا وصل إلى المحل، فإنه لا يكون طلاقا بدون الوصول إلى المحل.
(كما إذا حصل التعليق بشروط يتخللها أزمنة كثيرة) يعني لو قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم بعد ذلك اليوم أو أيام قال: أنت طالق إن كلمت زيدا، ثم بعد ذلك بأزمنة قال: أنت طالق إن شتمت عمرا، فوجد الشروط تطلق ثلاثا وإن وجد الترتيب عند التعليق، وكذلك إن علق في كل مرة بدخول الدار، وكذلك إن قدم الشرط.
(فلا يترك المطلق بالمقيد)، فالمقيد كون موجب هذا الكلام الاجتماع والاتحاد، والمطلق هو كون الواو محتملا للوجوه المختلفة من الترتيب والجمع. أي لا يترك موجب هذا الكلام الذي يوجب الاجتماع لما قررنا بالواو المطلق الذي لا يتعرض للتفرق والترتيب.
(وإذا تقدمت الأجزية) فقال قبل الدخول بها:
(أنت طالق وطالق وطالق) إن دخلت الدار، فدخلت طلقت ثلاثا بالاتفاق؛ لأن موجب هذا الكلام الاتحاد والاجتماع؛ لأن في آخر كلامه ما يغير أوله، فتتوقف الجملة الأولى فيتعلق. بخلاف ما إذا تأخرت الأجزية؛ لأنه ليس في آخر كلامه ما يغير أوله، فيتعلق الأول بالشرط قبل التكلم بالثاني والثالث، فيتعلقن على التفرق فنزلن كذلك وهو الفرق لأبي حنيفة- رحمه الله.
(فلا يترك بالواو) يعني لم يترك موجب هذا الكلام وهو الاجتماع والاتحاد على ما قلنا بالواو وهو المطلق، فيحتمل هذا القسم أيضا؛ لأنه مطلق غير متعرض للترتيب، وقوله:(بغير إذن الزوج) قيد اتفاقي، ولهذا لم يذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله في "شروح الجامع" و"أصول الفقه" بل قال: لو تزوج أمتين بغير إذن مولاهما ثم أعتقهما المولى إلى آخره؛ لأن في هذا الحكم الذي ذكره لا يحتاج إلى ذلك القيد، ولكن ذكر الإمام قاضي خان رحمه الله في "الجامع" ولو تزوج أمتين في عقدة بغير إذن مولاهما
فأعتق المولى إحداهما بعينها فأجاز الزوج نكاح الأمة لم يجز؛ لأن نكاح الأمة قد بطل فلا تلحقه الإجازة؛ لأنه جمع بينهما في عقدة، وإحداهما حرة لا يصح نكاح الأمة، فكذا إذا صارت إحداهما حرة حالة البقاء.
وكذلك لو زوج رجل رجلا يعني بغير إذنه أمتين في عقدة بإذنهما وإذن المولى فأعتقت إحداهما، فالمسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها- أن يعتقهما بكلام واحد معا بأن قال: أنتما حرتان أو أعتقتكما، فنكاحهما جائز.
والثاني- أن يقول: هذه حرة وهذه حرة، وهي على وجهين: إما أن فصل بينهما بالسكوت أو لم يفصل والجواب في الفصلين واحد إن أجاز نكاح الأولى جاز، وإن أجاز نكاح الثانية لم يجز، وكذا إذا أجاز نكاحهما جميع جاز نكاح الأولى في كلمتين منفصلتين بأن قال: هذه حرة وهذه.
(فيمن هلك عن ثلاثة أعبد وقيمتهم سواء) إنما قيد باستواء القيمة ليكون كل واحد منهم ثلث المال، فإن أقر به في كلام متصل ومعنى الاتصال
ها هنا هو أن يقول الوارث: (أعتق والدي في مرضه هذا وهذا وهذا) من غير سكوت بينهما، فكان هذا بمنزلة قوله: أعتقهم والدي في مرضه.
قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله في "الجامع": من أصحابنا من يقول المجموع بحرف الجمع وهو الواو كالمجموع بلفظ الجمع، فكأنه قال: أعتقهم والدي، وهذا ليس بصحيح، فإن الواو عندنا ليس له عمل في الجمع ولا في الترتيب، ولكنا نقول: الكلام موصول بحرف العطف، وفي آخره ما يغير حكم أوله؛ لأن حكم أول الكلام سلامة جميع الثلاث الأول، ويتغير ذلك بآخره فلت يسلم له إلا ثلث الثلاث، وفي مثله يتوقف أول الكلام على آخره؛ كما لو ألحق بآخره شرطا أو استثناء، وهذا بخلاف ما لو قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق، لم تقع عليها إلا واحدة؛ لأنه ليس في آخر الكلام ما يغير حكم أوله ولم يتوقف أوله على آخره، فإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث وإنما كان هذا هكذا؛ لأنه لما أقر بعتق الأول فقد أقر بالثلث له فعتق من غير سعاية، ثم لم يصلح ما بعده في تغيير حقه؛ لأن المغير إنما يصح بشرط الوصل، وإذا أقر بالثاني فقد زعم أن الثلث بينهم أثلاثا، لكنه لم يصدق في إبطال حق الأول وصدق في إبطال حق
الثاني، ولما أقر بالثالث فقد زعم أن الثلث بينهم أثلاثا، لكنه لم يصدق في إبطال حق الأولين. كما ذكره المصنف- رحمه الله في "شرح الجامع الكبير".
(لكنه غلط لما قدمنا) وهو قوله: "والأصل في كل قسم منها أن يكون لمعنى خاص ينفرد به، والمشترك والتكرار من غفلة الواضع، وقد جاءت كلمة (مع) للقران، فلو حملنا الواو عليه كان تكرارا".
(ولم يقف على التكلم بالثاني)؛ لأنه لم يوجد في آخره ما يقرر أوله؛ لأن الطلاق الثاني يقرر الطلاق الأول في حق رفع القيد، ولما لم يتوقف الأول وقع الطلاق وبانت المرأة من غير عدة، فلم يقع الثاني لذلك.
(فسقطت ولايته) أي ولاية الزوج لفوات محل التصرف؛ لأن المرأة بانت من غير عدة فلم تبق محلا للطلاق الثاني. (لا لخلل في العبارة) أي لا يكون الواو للترتيب؛ لأن الواو لو كان للترتيب كان مقيدا بالترتيب،
وفي القيد نوع خلل بالنسبة إلى المطلق؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل،
وبيان كماله أنه يتناول الترتيب والمقارنة، والمقيد لا يتناول المطلق.
فإن قلت: يشكل على هذا كله ما لو قال لأمرأته قبل الدخول لها: أنت طالق وحد وعشرين، فإنها تطلق ثلاثا عندنا خلافا لزفر مع وجود حرف العطف بين الطلاق الأول والثاني، وليس في آخره ما يغير أوله، وكذلك لو قال لها: أنت طالق إحدى وعشرين تطلق ثلاثا عندنا، وكذلك لو قال لها: أنت طالق واحدة ونصفا كانت طالق ثنتين عندنا ولم يعتبر بالواو.
قلت: جعل هذا الكلام في الكل بمنزلة كلام واحد لا واو فيه لما أن هذه الجمل من الكلام ليس لها صيغة بدون الواو التي هي أوجز منها فجعلت لذلك بمنزلة تركيب كلام لا واو فيه كما لو قال: أنت طالق أحد عشر طلاقا، وهناك تطلق ثلاثا بالاتفاق، فكذا في غيره. إلى هذا أشار في "المبسوط".
(ثم لم يصح التدارك) أي بإعتاق الثانية؛ لأن نكاح الحرة على الحرة جائز، ولكن لما بطل نكاح الثانية في حكم التوقف لم يكن إعتاقها بعد ذلك تداركا لذلك البطلان لا لاقتضاء واو العطف القران؛ بل باعتبار أن آخر
الكلام هنا يغير أوله؛ لأنه إذا لم تضم الثانية إلى الأولى صح نكاح الأولى، وإذا ضم إليه بطل النكاح الأول؛ لأنه جمع بين الأختين فنزل منزلة الاستثناء والتعليق، فيتوقف الأول عليه فصار كالجمع بكلمة واحدة فلذلك بطلا. كذا ذكره المصنف- رحمه الله.
(إن ضم إلى الأولى لم ستغير نكاح الأولى من الصحة إلى الفساد) بخلاف نكاح الأختين إذا كان في عقدتين بدون إذن الزوج، فإن صدر الكلام فيه توقف على آخره؛ لما أن نكاحهما لو كان في عقدتين توقف كما في الشرط يتوقف أول الكلام عليه.
(وعن الوجود إلى العدم) كما في قوله: إن علي ألف درهم إلا مائة، توقف أول الكلام على آخره؛ لأنه لولا استثناء المائة لوجب عليه الألف
كاملاً، فإذا الحق استثناء المائة يغير أول الكلام من وجوب المائة إلى عدمه، فلذلك توقف أول الكلام لوجود المغير في آخره، فلما لم يتغير أول الكلام في مسألة الأمتين بلحوق آخره لم يتوقف أول الكلام على آخره.
فإن قيل: نكاح الأختين في عقدة واحدة لا يجوز، ولو عقد نكاحهما بطريق الفضولي في عقدتين متفرقتين يتوقف نكاحهما، وكذلك نكاح الأمة مع الحرة لا يجوز نكاح الأمة، ولو كان نكاحهما بطريق الفضولي لا يتوقف نكاح الأمة، فيجب أن يتوقف نكاحهما كما يتوقف نكاح الأختين؛ بل أولى؛ لأن نكاح الأختين لا يجوز أصلا سواء تقدم نكاح إحداهما على نكاح الأخرى أو اجتمعا، ونكاح الأمة إذا كان متقدما على الجرة جائز، فما وجه الفرق بينهما؟
قلنا: وجه الفرق نشأ من صيغة النص في نكاح الأختين، أضاف الله تعالى الحرمة إلى المباشرين بقوله:} وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ {لا إلى المحل، فلم يكن المحل خارجا عن محليته؛ بل الحرام هو فعل الجمع والفعل لم يوجد من الزوج في نكاح الفضولي، فلم تكن الحرمة في حقه ثابتة فيتوقف،
وأما نكح الأمة مع الحرة فقد أخرج النبي عليه السلام الأمة في ذلك عن
محلية النكاح بقوله: "لا تنكح الأمة على الحرة" فلا تحل عليها بوجه من الوجوه، ولو توقف نكاحها على نكاح الحرة كان نكاح الأمة على الحرة من وجه، وهذا لا يجوز لما عرف من الأصل أن كل حكم يرجع إلى المحل فالابتداء والبقاء فيه سواء/
(ولهذا قلنا: إن قول محمد رحمه الله في الكتاب) أي في "الجامع الصغير".
وذكر في كتاب الصلاة (وينوي) بالتسليمة الأولى (من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء).
(ولا يتصور فيه الترتيب) أي لا يتصور الترتيب في أنهما من الشعائر؛ لأن الترتيب إنما يكون في الأفعال لا في الأعيان، (وصار الترتيب واجبا
بفعله) أي وجوب تقديم الصفا في السعي على المروة إنما صار بفعل النبي عليه السلام لا بمقتضى الواو في النص.
فإن قيل: أفعال النبي عليه السلام غير موجبة عندنا على ما مر قلنا: نعم كذلك إلا أن فعله هاهنا صار بيانا لمجمل قوله عليه السلام: "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا"، لما أن السعي بين الشيئين لا بد أن يكون له مقدم ومؤخر وهو مجمل، فبين ذلك بفعل النبي عليه السلام في تقديم الصفا على المروة في الشعري، ولأن مواظبة النبي عليه السلام على الشيء بدون الترك تدل على الوجوب، وواظب النبي عليه السلام على بداية السعي من الصفا من غير ترك، فكان هو دليلا على الوجوب لا مجرد الفعل.
(كما قال أصحابنا- رحمهم الله في الوصايا بالقرب: النوافل) كالوصية ببناء الرباطات والسقايات والمساجد، وإنما قيد بالنوافل؛ لأنه إذا أوصى بأشياء من الفرائض والنوافل وأخر الفرائض كما في أداء الزكاة وغيرها، فإنه تقدم الفرائض على النوافل، وإن أخرها الموصي لما عرف.
(وأما قول الرجل: لفلان علي مائة ودرهم) إلى آخره، فإيراده هنا لسبب أن واو العطف هنا موجود، والعطف يقتضي المغايرة، وقد اختلف حكمه في هذه المسائل حتى صارت المائة دراهم في قوله: مائة ودرهم "وما صارت المائة أثوابا في قوله: مائة وثوب" فأورد هنا ليعلم أن الاختلاف ليس من قضية العطف بل (لأصل آخر يذكر هو في بابه إن شاء الله).
(ولهذا قلنا: إن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تتم به الأولى بعينه) يعني أن الكلام الثاني إذا كان ناقصا يشارك الكلام الأول في عين ما تم به الكلام الأول ضرورة ثبوت الشركة؛ لأنه لو أفرد الثاني بالخبر لم يكن هذا شركة في خبر الكلام الأول؛ لأنه حينئذ يصير كالجملة المنفردة بالخبر ولم تكن
ناقصة، نظيره: إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة، فإن فلانة تشارك الأولى في عين ذلك الشرط حتى لو دخلت الأولى طلقتا (ولا يقتضي الاستبداد به).
(كأنه أعاده) يعني كأنه أفرد الثانية بشرط على حدة، كأنه قال: وفلانة إن دخلت الدار؛ لأنه لو جعل كذلك لم تطلق فلانة بدخول الأولى الدار، فعلم أن الجملة الناقصة تشارك الكلام الأول في عين ما تم به الأول، وهذا في تمام الأول بالشرط. ونظير آخر فيه ما قال في الكتاب بقوله:(إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق. إن الثاني يتعلق بعين ذلك الشرط) إذ لو لم يتعلق بعين ذلك الشرط بل جعل كأنه قال: وطالق إن دخلت الدار تقع تطليقتان عند أبي حنيفة- رضي الله عنه أيضا، وإن كانت المرأة قبل الدخول بها؛ لأنه حينئذ يصير كأنه قال لامرأته قبل الدخول بها: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار تقع تطليقتان بالاتفاق، وحيث
وقعت عليها تطليقة واحدة- علم أن الثاني يتعلق بعين ذلك الشرط في الأول، وأما إذا كانت المرأة مدخولا بها لم يقع التفاوت بين ما أفرد الخبر للثاني أو لم يفرد، (فصار الثاني ضروريا) أي صار إفراد الكلام الثاني وهو الجملة الثانية بخبر على حدة ضروريا كما في جاءني زيد وعمرو، فإن تقديره وجاءني عمرو لاستحالة الاشتراك في الخبر الأول.
(والأول أصليا) أي وصار اشتراك الجملة الناقصة في عين ما تم به الكلام أصليا كما إذا قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان، يكون الألف بينهما. ذكر هذه المسألة في "الجامع الكبير" في باب من إقرار الوارث بالعتق بعد موت المورث من كتاب الإقرار، وفرق بين هذه المسألة وبين من قال لامرأته قبل الدخول: أنت طالق وطالق وطالق أنه تقع عليها واحدة ولا تقع الثلاث، والفرق أن آخر الكلام إذا غير أوله توقف عليه كما توقف على الشرط والاستثناء، وفي مسألة الإقرار بألف درهم إذا اتصل آخر الكلام بأوله صار حق الأول ناقصا فتوقف عليه.
وأما في الطلاق فلا يتغير أول الكلام بآخره؛ لأن التحريم حكم الكل فذلك لم يتوقف عليه.
فإن قيل: يشكل على هذا قوله: هذه طالق ثلاثا وهذه؛ أن الثانية تطلق ثلاثا أيضا، وإن كان الخبر صالحا بأن يجعل لهما جميعا بأن يقسم الثلاث
عليهما فتقع لكل واحدة منهما تطليقتان؛ لأن عند القسمة يصيب لكل واحدة منهما طلاق ونصف، ولم يجعل كذلك بل أفرد الثانية بالخبر، كما في جاءني زيد وعمرو مع أنه لا ضرورة فيه في إفراد الثانية بالخبر.
قلنا: فيه ضرورة؛ لأنه ذكر الثلاث وهي محرمة للمحل حرمة غليظة، وعند القسمة لا تكون محرمة للمحل، فيقع حينئذ على خلاف ما أصدره الزوج، وهذا لأنا ذكرنا أن الطلاق إذا قرن بالعدد كان الاعتبار للعدد لا لقوله: أنت طالق حتى إذا ماتت المرأة قبل قوله: ثلاثا لا يقع الطلاق بقوله: أنت طالق، وهو وإن صادفها في حالة الحياة، ولما كان كذلك قد أشرك الزوج الثانية للأولى في إيقاع الحرمة الغليظة، ولا يحصل ذلك إذا قسمت الثلاث بينهما، ولأن عند القسمة يزداد الثلاث إلى الأربع، والزوج لم يتلفظ به ووقوع الطلاق متعلق باللفظ، فلما لم يقبل الشركة بهذين المعنيين أضمر للثانية مثل الخبر الأول ضرورة فكان مثل قوله: جاءني زيد وعمرو.
(ومن عطف الجملة قول الله تعالى) أي ومن عطف الجملة على الجملة بدون إثبات المشاركة بينهما} وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ {في قصة القذف) هذا مبتدأ وخبر غير مشارك للأول؛ لأن الاشتراك إنما يكون للافتقار، وهذه
مسألة تامة.
وأما قوله:} ولا تَقْبَلُوا {وإن كانت تامة تثبت الشركة فيها؛ لأنها ناقصة من وجه آخر وهو كونها مفتقرة إلى السبب- فلذلك تعلقت بعين ما تعلق به الجد، وأما قوله:} وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ {فحكاية حال قائمة بهم بمعنى، ثم فسقوا أي خرجوا من أمر ربهم، وهو لا يصلح جزاء للقذف لأنهم فسقوا فسموا فاسقين، والدليل على الانقطاع عن الأول أن الأئمة لم يخاطبوا به، وإقامة الحد مما يخاطب به الأئمة.
ومثل قوله تعالى:} يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ {وما قبله} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ {وقوله:} ويَمْحُ {إنما صح وجه التمسك به في حالة الوقف حيث يوقف عليه بالواو، ولو كان مجزوما لوقف عليه بدون الواو، وهو في خط المصحف بدون الواو، وهو غير متعلق بالأول على أن يكون داخلا في جزاء الشرط بل هو مطلق، واستئناف الكلام ومعناه: يذهب الله الباطل ويزيله، وهذا لأن محو الله الباطل غير متعلق بمشيئته بل هو يمحوه على الإطلاق.
والدليل عليه قوله تعالى:} لِيُحِقَّ الحَقَّ ويُبْطِلَ البَاطِلَ ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ {.
فعلم بهذا أن محو الباطل غير متعلق بالمشيئة، فلا يجوز عطفه على جزاء
شرط المشيئة لذلك، ولأن قوله تعالى:} َأن يُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ {مرفوع. علم أن المعطوف وهو} ويَمْحُ اللَّهُ {مرفوع أيضا.
وذكر في "الكشاف": فإن قلت: إن كان} ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ {كلاما مبتدأ غير معطوف على} يَخْتِمْ {فما بال الواو ساقطة في خط؟
قلت: كما سقطت في قوله تعالى:} ويَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ {أيضا وقوله:} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {، على أنها مثبتة في بعض المصاحف، قال قتادة
{فَإن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ {: أي ينسيك القرآن فلا تبلغه ولا يكذبونك، وقال مقاتل: أي يختم بالصبر حتى لا تجد غصة التكذيب.
(ومثل قوله تعالى:} والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ {هذا على قول من يقول بوجوب الوقف عند قوله:} إلَاّ اللَّهُ {.
((وهذا معنى) أي كونه للحال (يناسب معنى الواو)؛ لأن الواو لمطلق الجمع والحال تجامع ذا الحال فكان فيها الجمع، فصحت الاستعارة لها؛ لأن مطلق الجمع يحتمل الجمع المكيف.
(واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل، فقالوا في رجل قال لعبده: أد إلي ألف وأنت حر. أن الواو للحال حتى لا يعتق إلا بالأداء).
اعلم أن ها هنا أربع مسائل:
إحداها- هذه.
والثانية- وهي أنه لو قال: أد إلي ألفا فأنت حر؛ عتق في الحال أدى أو لم يؤد.
والثالثة- إذا قال: إذا أديت إلي ألفا وأنت حر؛ عتق في الحال أيضا.
والرابعة- إذا قال: إذا أديت إلي ألفا فأنت حر؛ فإنه لا يعتق فيها إلا بالأداء؛ لأن جواب الشرط بالفاء دون الواو، فإن الجزاء يتصل بالشرط على أن يتعقب نزوله وجود الشرط، وحرف الفاء للوصل والتعقيب، فيتصل به الجزاء على الشرط لأنه يوجب تعليقه بالشرط، فكان تنجيزا.
وأما جواب الأمر بحرف الواو على معنى أنه بمعنى الحال أي وأنت حر
في حال أدائك.
فأما حرف الفاء في صيغة الأمر يكون بمعنى التعليل بقول الرجل: أبشر فقد أتاك الغوث بمعنى لأنه أتاك الغوث، فإذا قال: أد إلي ألفا فأنت حر معناه لأنك حر، فلهذا يتنجز به العتق في الحال. كذا ذكر في باب الأول في المأذون الكبير في "المبسوط" وهذا لأن الواو لما كانت للحال والأحوال شروط كما في قوله لأمته: إن دخلت الدار راكبة فأنت حرة. يجعل الركوب شرطا أيضا كالدخول.
وقيل: إن الحرية لما كانت حالا للأداء لا تسبق الأداء؛ لأنه معمول الأداء، والمعمول لا يتقدم على العامل.
فإن قلت: كيف وجه تفسير هذا الكلام في "المبسوط" أي وأنت حر في حال الأداء، والواو إنما دخلت على قوله: وأنت حر، وهو جعل معنى الحال في الأداء؟
قلت: لما كان هذا المجموع عبارة عن كلام واحد جاز تقديم المؤخر وتأخير المقدم على حسب ما يسوق معنى الكلام إليه.
ألا ترى إلى ما ذكر في "الجامع" قال: كل امرأة أتزوجها إن دخلت الدار فهي طالق ثلاثا فتزوج امرأة ثم دخل الدار، ثم تزوج أخرى تطلق التي تزوجها بعد الدخول خاصة على طريق التقديم والتأخير، فصار كأنه قال: إن
دخلت الدار كل امرأة أتزوجها طالق كما في قوله تعالى:} ولا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ {. معناه إن كان الله يريد أن يغويكم، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، ثم معنى الكلام يسوق إلى ما ذكره في "المبسوط" لأن مثل هذا الكلام إنما يذكر للتحريض على أداء المال، ولا يتأتى ذلك إلا على ذلك التقدير.
(وقالوا فيمن قال لامرأته: أنت طالق وأنت مريضة أو أنت تصلين) إلى آخره، وفي "المبسوط" وإن قال: أنت طالق وأنت تصلين طلقت للحال؛ لأن قوله: وأنت تصلين، ابتداء، فإن قال: عنيت إذا صليت لم يصدق في القضاء؛ لأن الشرط لا يعطف على الجزاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن هذا اللفظ بمعنى الحال تقول: دخلت على فلان وهو يفعل كذا أي في تلك الحالة، فيكون معنى هذا أنت طالق في حال اشتغالك بالصلاة، فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال لفظة ما نوى، وكذلك لو قال: أنت طالق مصلية في القضاء تطلق في الحال، وإن قال: عنيت إذا صليت دين فيما بينه وبين الله تعالى لمعنى الحال، وأهل النحو يقولون: إن قال: مصلية بالرفع لا يدين فيما بينه وبين الله، وإن قال مصلية بالنصب حينئذ يصدق في القضاء
أيضا وهو نصب على الحال.
وكذلك قوله: أنت مريضة. إذا قال: عنيت إذا مرضت صدق في القضاء عند أهل النحو، وعند الفقهاء يدين فيما بينه وبين الله تعالى.
(وقالوا في المضاربة إذا قال لرجل: خذ هذا المال مضاربة واعمل به في البر إن هذه الواو لعطف الجملة لا للحال حتى لا يصير شرطا).
وكذلك لو قال: خذه مضاربة بالنصف واعمل به في الكوفة فله أن يعمل به حيث شاء؛ لأن الواو للعطف، والشيء لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره.
وقد تكون الواو للابتداء خصوصا بعد الجملة الكاملة، وقوله: خذه
مضاربة بالنصف جملة تامة، وقوله: واعمل عطف فتكون مشورة أشار به عليه لا شرطا في الأمر الأول.
فإن قيل: لماذا لم يجعل لمعنى الحال كما قال في قوله: أد إلي ألفا وأنت حر.
قلنا: لأنه غير صالح للحال هاهنا فحال العمل لا يكون وقت الأخذ، وإنما يكون العمل بعد الأخذ مع أن الواو تستعار للحال مجازا، وإنما يصار إليه للحاجة إلى تصحيح الكلام، والكلام صحيح ههنا باعتبار الحقيقة، فلا حجة إلى حمل حرف الواو على المجاز. كذا في "المبسوط".
لأن حال الخلع حال المعاوضة وفي المعاوضات لا يعطف أحد العوضين على آخر إنما يلصق أحدهما بالآخر. كما في قوله: احمل هذا المتاع إلى بيتي ولك درهم.
وقوله: (لأن الحال فعل) كما لو قال: خذ هذه الألف مضاربة تعمل بها في الكوفة، (أو اسم فاعل) كما لو قال: خذ هذه الألف مضاربة عاملا بها في الكوفة، فلو عمل بها في غير الكوفة كان ضامنا في الصورتين.
وأما ما يجئ من الحال التي ليست هي بفعل ولا اسم فاعل من الجمل الاسمية والظرفية كقوله: كلمته فوه إلى في، ولقيته عليه جبة وشيء.
(وأما قوله: أد إلي ألفا وأنت حر)، فصيغته للحال باعتبار أن قوله:"حر"صيغة نعت من الجزاء من حد علم بمعنى العتق، فكان قوله:"وأنت حر" بمعنى وأنت عتيق، وصار كأنه قال: أد إلي كونك حراً أو حال
أدائك على ما ذكرنا.
(وصدر الكلام غير مفيد) أي أول قوله: "أد إلي ألفا وأنت حر" غير مفيد شيئا إلا بآخره، فإنه يصير به تعليقا بأداء المال، وههنا أول الكلام إن صدر من الزوج بأن قال: أنت طالق وعليك ألف درهم كان إيقاعا مفيدا منه بدون آخره فل حاجة إلى أن يحمله على الحال، وإن صدر منها فهو التماس صحيح منها، فلهذا لا يحمل على واو الحال.
الضريبة: وظيفة يأخذها المالك من عبده. وقوله: أد إلي ألفا لا يصلح ضريبة؛ لأن الضريبة على أداء الألف من غير عقد واصطلاح بينهما لا يكون؛
لأن الضريبة لا تزيد في شهر على عشرين أو ثلاثين درهما، فكان ذكر ألف دلالة على الحال.
فإن قلت: ما جواب أبي حنيفة- رضي الله عنه عن قولهما: لا يستقيم هنا حمل الواو على العطف الذي هو حقيقته؛ لأنه لا يعطف أحد العوضين على الآخر وذلك معنى الباء، فكان مستعارا لها لا محالة؟
قلت: بل يستقيم إجراء الواو على حقيقته التي هي للعطف، فإن معنى قولها لزوجها: طلقني ولك ألف درهم، أي ولك ألف درهم في بيتك فلا حاجة لك إلي، بل لك سعة أن تتزوج غيري أو تشتري جارية، فكان عطف الجملة على الجملة، ففي عطف الجمل بعضها على بعض لا يطلب تمام المناسبة، أو بمعنى الابتداء فيكون وعدا منها إياه المال، والمواعيد لا تتعلق بها اللزوم، ولأن أكثر ما في الباب أن يكون حرف الواو محتملا لجميع ما ذكرنا، والمال لا يجب بالشك. إلى هذا أشار في "المبسوط".
[الفاء]
(إن وجوه العطف منقسمة على صلاته) يعني مطلق العطف كلي لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الخارج بأحد الأقسام الثلاثة، وهو: القران، والوصل مع التعقيب، والترتيب مع الفصل.
فمعنى قوله:"على صلاته" أي على حروفه وكلماته، وسماها صلات العطف؛ لأنه لا وجود للعطف بدون هذه الأوجه، كما لا وجود للموصول بدون الصلة كالذي وغيره. (فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن) لأن الفاء
للوصل والتعقيب، فكأنه قال: إن كفاني قميصا فاقطعه. بخلاف ما إذا قال: اقطعه، فقطعه فإذا هو لا يكفيه قميصا فإنه لا يكون ضامنا لوجود الإذن مطلقا. (حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فدل ذلك على كونه معتقا حكم للشراء بواسطة الملك)؛ لأن الإعتاق يستحيل أن يكون حكما للشراء بلا واسطة؛ لأن الشراء لإثبات الملك إزالة إلا أن الشراء حكمه الملك، والملك في القريب سبب للعتق فكان العتق حكم الشراء بواسطة الملك، والحكم كما يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة.
(وقد تدخل الفاء على العلل أيضا إذا كان ذلك مما يدوم) أي كان من حق الفاء أن تدخل على أحكام العلل لا على العكس؛ لأن الحكم مرتب على العلة وهو موضوع الفاء كما ذكر. إلا أن العلة لما كانت مما يدوم صارت بمعنى المتراخي من الحكم، فلذلك صح دخوله على العلل.
(فقد أتاك الغوث) فهذا على سبيل بيان العلة للخطاب بالبشارة، ولكن لما كان ذلك ممتد صح ذكر حرف الفاء مقرونا به.
وقوله: (لما قلنا) إشارة إلى قوله: "وقد تدخل الفاء على العلل فصار معنى كلامه ههنا: انزل لأنك آمن فالآمان ممتد (ولم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط). هذا جواب لسؤال سائل بأن قال: لم لا يضمر حرف الشرط حتى يكون هذا الذي دخل فيه جزاء للشرط كما في قول من قال لخياط بعد قوله: نعم، "فاقطعه" فحينئذ كان الآمان معلقا بالنزول لوا يثبت قبله، فأجاب عنه بقوله:(لأن الكلام صح بدون الإضمار) يعني أن الإضمار في الكلام إنما جاز باعتبار الحاجة، ولما لم يحتج إلى الإضمار في تصحيح الكلام لم يجز الإضمار بدون الحاجة والضرورة.
فإن قلت: ففي صورة العلة لا يصح الكلام أيضا بدون الإضمار.
ألا ترى أنه كيف ذكر تقديره بقوله: وتقديره أد إلي ألفا فإنك قد عتقت، ولما كان كذلك كان إضمار الشرط أولى؛ لأن ذلك طريق مسلوك في أفصح اللغات. قال الله تعالى:} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ {، أي إن لم تعرفه فذلك الذي يدع اليتيم.
قلت: نعم كذلك، إلا أن هذا الذي ذكره من التقدير ليس ببيان
للإضمار، بل هو بيان وإيضاح لعلية قوله: فأنت حر، ولهذا لا يجتمع معه، فصار هذا التقدير الذي ذكره هو أصل الكلام، وما هو المذكور قائما مقامه ونائبا منابه، فالنائب مع المنوب لا يجتمعان بخلاف إضمار الشرط، فكان إضمارا، وفيما نحن فيه يصح بدون الإضمار؛ لأنه قار على أصله إلا أنه غير واضح، فأوضح ذلك المبهم بهذا التقدير، فلا يكون إضمارا بل يكون تفسيرا للمبهم.
وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لقوله: (وإنما الإضمار ضروري في الأصل) يعني إنما يصار إلى الإضمار عند الضرورة لا عند عدمها.
(ولهذا قلنا فيمن قال: لفلان علي درهم فدرهم) بصحة الكلام بدون الإضمار لعدم احتياجه إليه، وقلنا: إنه يلزمه درهمان، فذلك لتحقيق معنى العطف؛ إذ المعطوف غير المعطوف عليه، واعتبار معنى الوصل والترتيب في الوجوب لا في الواجب وهو الدرهم كالقوم المجتمع في مكان لا يقال: هذا أول وهذا آخر بل يقال: دخل هذا أولا وذلك آخرا، فكذلك ها هنا لا يقال:
هذا الواجب أول وهذا آخر، ولكن يقال: وجب هذا أولا وذلك آخرا لما أن الترتيب إنما يكون في الأفعال لا في الأعيان، أو هو عبارة عن الواو مجازا؛ لأن معنى الترتيب لغو، فكان حرف الفاء صلة للتأكيد، فكأنه قال: درهم ودرهم، ولكن ما قلناه أحق؛ لأن الشافعي يضمر ليسقط به اعتبار حرف الفاء والإضمار لتصحيح ما وقع عليه لا لإلغاء به.
الإعراب: سخن بإعراب كفتن وبيان كردن يقال: أعرب كلامه إذا لم يلحن في الإعراب.
والإعجام خلاف الإعراب، فهو أن يلحن في إعراب كلامه. قيل الشعر لرؤبة، وقيل للخطيئة وترتيبه:
(والشعر لا يستطيعه من يظلمه) إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه (يريد أن يعربه فيعجمه).
أي فهو يعجمه- رفع يعجمه- لأنه استأنفه ولو نصب لفسد المعنى.
وفي "الصحاح" فيعجمه أي يأتي به عجميا أي يلحن فيه.
قال الفراء: رفعه على المخالفة يريد أن يعربه ولا يريد أن يعجمه.
وقال الأخفش: رفعه لوقوعه موقع المرفوع؛ لأنه أراد أن يقول: يريد أن يعربه فيقع موقع الإعجام، فلما وضع قوله: فيعجم موضع قوله: فيقع رفعه.
وقيل: يريد أن يعربه أي يظهره فيعجمه أي عين ذلك الإعراب إعجام له.
كقوله تعال:} لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ {أي عين ذلك البيان إضلال له كقوله تعالى:} وإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}
فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ {بين بهذه الآية أن القرآن وإن كانت آياته آية قاطعة في الحجة لكن إن كانت في موضع الإيمان يزداد منها الإيمان لمن آمن، وفي غير موضع الإيمان يزداد منها الكفر لمن كفر، فكذلك ها هنا إذا كان إعراب الشعر في موضعه تزداد فيه الفصاحة، وإذا كان في غير موضعه يزداد فيه الإبهام والإعجام.
(إلا أن هذا لا يصح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة، والحقيقة أحق ما أمكن).
فإن قيل: لو قال الخصم: وفيما قلتم أيضا ترك الحقيقة وهو أن يكون الفاء مستعارا للواو، وما الفرق بين التركين؟
قلنا: ما قلناه أولي؛ لأن في استعارة الفاء للواو تقريرا لحقيقة الكلام، وهي: أن المعطوف غير المعطوف عليه، والخصم أضمر لتغيير حقيقة الكلام وهي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، فيلزم على قوله شيئان:
أحدهما- ترك الحقيقة وهي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه،
والثاني- إلغاء حرف الفاء المذكور، وهو أقبح من ترك الحقيقة، وليس على قولنا إلا استعارة حرف لحرف عند وجود المناسبة بينهما، وهي سائغة شائعة.
[ثم]
(قولا بكمال التراخي)؛ لأن ثم وضع للتراخي، فلو كان معنى وجود التراخي في وجود الطلاق دون التكلم بالطلاق لكان معنى التراخي فيه موجودا من وجه دون وجه، فيظهر أثره في حكم التكلم أيضا قولا بكماله، واثر هذا الاختلاف ظهر في الفروع كما ذكر في الكتاب.
وحاصله إنه إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن كلمت فلانا، فعند أبي حنيفة- رضي الله عنه إن كانت مدخولا بها تقع في
الحال ثنتان والثالثة تتعلق بالكلام، وإن لم يكن دخل بها تقع واحدة في الحال ويلغو ما سوى ذلك، وإذا قدم الشرط فقال: إن كلمت فلانا فأنت طالق ثم طالق ثم طالق، فإن كان قد دخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية والثالثة في الحال، وإن كان لم يدخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية في الحال والثالثة لغو، وعند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- سواء قدم الشرط أو أخر تتعلق الثلاث بالشرط إلا أن عند وجود الشرط إن كانت مدخولا بها تطلق ثلاثا وإن كانت غير مدخول بها تطلق واحدة.
فأبو حنيفة- رضي الله عنه يقول: ثم للتعقيب مع التراخي، فإذا دخل بين الطلاقين كان معناه سكتة بينهما، وهما يقولان: ثم للعطف ولكن مقيدا بالتراخي، فلوجود معنى العطف يتعلق الكل بالشرط، ولمعنى التراخي يقع مرتبا عند وجود الشرط. كذا في "المبسوط".
فإن قيل: كلمة ثم إذا أدخلت بين الطلاقين لو كانت هي بمنزلة سكتة على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه كان ينبغي أن لا تقع الطلقة الثانية والثالثة سواء كانت المرأة مدخولا بها أو لم تكن؛ لأنه حينئذ يكون بمنزلة قول الرجل لامرأته: أنت طالق، ثم قال بعد سكتة: أنت طالق؛ هناك لا تقع إلا واحدة؛ لأن الثاني يقع لغوا لعدم المبتدأ.
قلت: يضمر المبتدأ بدلالة العطف لتصحيح كلامه؛ لأن قوله: "طالق""في المرة الثانية خبر، والخبر يفتقر إلى المبتدأ، فيصير كأنه قال: ثم أنت طالق، فتقع واحدة في الحال في غير المدخول بها.
فإن قيل فقوله: "طالق" كما هو محتاج إلى المبتدأ كذلك هو محتاج إلى الشرط أيضا، فيجب أن يضمر الشرط في الثاني لكي يتعلق هو أيضا بالأول.
قلنا: احتياجه إلى المبتدأ ليس كاحتياجه إلى الشرط؛ لأنه لو لم يضمر المبتدأ لكان كلامه في الثاني لغوا محضا ملحقا بنعيق الغراب، ولا كذلك الشرط؛ لأن لكلامه صحة بدونه والإضمار إنما كان للحاجة والحاجة اندفعت بإضمار المبتدأ حتى صح الكلام في الطلاق الثاني ووقعت الغنية عن إضمار الشرط.
فإن قلت: كيف احتيج إلى إضمار الشرط في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر مع استقلال قوله:" وعبدي حر" بفائدته حتى تعلقا جميعا بالشرط؟
قلت: ليس اتصال الجمل بالواو كاتصالها بثم، فلو كان مقصود الحالف تعليق كل الطلقات لذكرها بحرف الواو، فإن حرف ثم بمنزلة السكتة عند أبي حنيفة
-
رضي الله عنه- فكان أثرها في قطع التعليق عنده.
وقد يستعار ثم لمطلق العطف كما أن الرقبة وضعت لمطلق الرقبة التي هي عبارة عن البنية السليمة، والمطلق متعرض للذات دون الصفات، فيتناول فردا من الأفراد غير عين فلم يكن عاما؛ لأن العام ما له أفراد والمطلق يمكن العمل به من غير توقف واستفسار فلم يكن مجملا؛ لأن المجمل ما لا يمكن العمل له من غير استفسار من المجمل وبينه، بل كان مطلقا كرقبة ورجل وامرأة وغيرها.
فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه: موجبه الافتراق؛ يعني أن الواو للعطف، وإنما يتعلق الطلاق بالشرط كما علقه وهو علق الثانية بالشرط بواسطة الأولى، فإن من ضرورة العطف هذه الواسطة، فالأولى تتعلق بالشرط بلا واسطة والثانية بواسطة الأولى بمنزلة القنديل المعلق بالحبل بواسطة الحلق، ثم عند وجود الشرط ينزل ما تعلق فينزل كما تعلق، ولكن هما يقولان: هذا أن لو كان المتعلق بالشرط طلاقا، وليس كذلك بل المتعلق ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط إذا وصل إلى المحل، فإنه لا يكون طلاقا بدون الوصول إلى المحل كما إذا حصل التعليق بشروط يتخللها أزمنة كثيرة، يعني لو قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم بعد ذلك بيوم أو أيام قال: أنت طالق إن كلمت زيدا، ثم بعد ذلك بأزمنة قال: أنت طالق إن شتمت عمرا، فوجد الشروط تطلق ثلاثا، وإن وجد الترتيب عند التعليق،
وكذلك إن علق في كل مرة بدخول الدار، وكذلك إن قدم الشرط فلا يترك المقيد بالمطلق، فالمقيد كون موجب هذا الكلام الاجتماع والاتحاد، والمطلق هو كون الواو محتملا للوجوه المختلفة من الترتيب والجمع أي لا يترك موجب هذا الكلام الذي يوجب الاجتماع لما قررنا بالواو المطلق الذي لا يتعرض للتفرق والترتيب.
(وقد يستعار ثم لمعنى واو العطف مجازا للمجاورة التي بينهما) إذا تعذر العمل بحقيقة ثم، وبيان المجاورة بينهما أن الواو لمطلق العطف، فكان يحتمل معنى ثم؛ لأن المطلق إنما يكون وجوده في الخارج بحسب ما يحتمله من المقيدات، فتثبت المجاورة بينهما بسبب الاحتمال.
(قال الله تعالى:} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا {أي وكان، فإن أول الآية قوله تعالى:} فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ (11) ومَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ {إلى قوله} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا {).
فقد عد الأعمال الصالحة، ثم ذكر الإيمان بعده بكلمة ثم، فلو عمل بحقيقتها يلزم أن تكون الأعمال الصالحة المنجية من عذاب النار قبل الإيمان وليس كذلك؛ لأن عمل الكافر وإن كان صالحا من حيث الظاهر كتخليص الأسارى وإطعام الجائعين والصدقات فليس بمنج شيئا من العذاب؛ لأن كونه
مؤمناً شرط لصحة عمله وانعقاده منجيا من العذاب بفضل الله.
} ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ {أي والله شهيد لتعذر العمل بحقيقة ثم؛ لأنه للترتيب ولا ترتيب في صفات الله تعالى، لما أن الله تعالى قديم بجميع صفاته العلى، وأول الآية لقوله تعالى:} وإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ {.
(ولهذا قلنا في قول النبي عليه السلام "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه": إنه يحمل على حقيقته)؛ لأن الإتيان بالذي هو خير هو الحنث، فتجب الكفارة بعده لا محالة فكان ثم على حقيقته؛ لأن الكفارة واجبة بعد الحنث بالإجماع،
ويروى "فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" فحملنا ههنا كلمة ثم على واو العطف؛ لأن العمل بحقيقتها غير ممكن؛ لأن التكفير قبل الحنث غير واجب بالإجماع. فكان المجاز متعينا تحقيقا لما هو المقصود) وهو الوجوب؛ لأن البر في اليمين واجب.
وهو الأصل في الإيمان، والكفارة تجب خلفا عن البر، فلو أجريت على حقيقتها لم يحصل المقصود وهو الوجوب.
ألا ترى أنه لو كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز، وقوله:"فليكفر عن يمينه" شامل للكفارة بالمال والصوم، فتحمل كلمة ثم على المجاز ليبقى أمر التكفير موجبا، ولا يقال إن ثم إذا استعير للواو والواو لمطلق العطف فيقتضي الجواز كيف ما كان؛ لأنا نقول: ثم إنما استعير للواو ليكون العمل بالأمر واجبا على موجبه وهو الوجوب، فبسبب هذا المعنى قلنا: لا يجوز قبل الحنث إذ لو جاز لوجب تقرير ثم على الحقيقة إذ لا فائدة في الاستعارة لبقاء الحكم الثابت بالحقيقة بعد الاستعارة.
فإن قيل: إن كان في قول الشافعي ترك الحقيقة وهو ترك إجراء الأمر على حقيقته ففي قولكم أيضا ترك الحقيقة، وهو ترك العمل بحقيقة ثم، فمن أين ظهر رجحان قولكم على قوله؟
قلنا: فيما قاله الشافعي ترك الحقيقة في الموضعين وهو ترك العمل بموجب الأمر، وترك العمل بجواز التكفير قبل الحنث حيث أراد بهذا جواز التكفير قبل الحنث ولا يجوز الصوم، وفيما قلنا تحقيق المقصود وهو القول بوجوب الكفارة فيما هو مقتض للوجوب.
والأولى فيه أن يقال: إن فيما قاله الشافعي ترك الحقيقة في أمر الشارع وهو فعل بلا خلف، وفيما قلنا ترك الحقيقة في ثم، وهو حرف بخلف وأمر الحرف أسهل من أمر الفعل؛ لما أن الحروف هي الوصلات تنوب بعضها مناب البعض في الأغلب، والاعتبار لقوة الأثر في التعليل، وإنما قلنا هذا أولى؛ لأن على التقرير الأول لزوم الترجيح بكثرة العلل وذلك لا يجوز، والرجحان لا يثبت بكثرة العلل.
ألا ترى أن أربعة شهود تعارض الشاهدين في الدعوى ولا يترجح الأكثر على الأقل، والذي يؤيد ما قلنا ما قاله في "المبسوط" في المعنى وهو أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة؛ لأن أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الحكم طريقا له، واليمين مانعة من الحنث محرمة له، فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث؟
ألا ترى أن الصوم والإحرام لما كان مانعا أي لما كان كل واحد منهما مانعا
مما يجب به الكفارة وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة بخلاف الجرح فإنه طريق مفض إلى زهوق الروح.
فعلم بهذا أن الاعتبار في الأسباب للسبب الذي هو مفض إلى حكمه وضعا لا للسبب الذي ينعقد سببا للحكم بعد ارتفاع المانع، ولئن سلمنا أن اليمين سبب فالكفارة إنما تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ليصير عند أدائها كأنه تم على بره ولا معتبر بالخلف في حال بقاء الأصل، وقبل الحنث ما هو الأصل باق وهو البر، فلا تكون الكفارة خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء.
وذكر هذا السؤال والجواب بعبارة أخرى: وقيل: فإن قيل: إذا حملته على واو العطف يلزم المجاز في ثم، ولو عملت بحقيقة ثم يلزم المجاز في الأمر، فيتساوي في ترك الحقيقة والعمل بالمجاز، فلم حملتم ثم على الواو؟
قلنا: لأنا لو حملنا ثم على الواو يحصل منه الإيجاب، ويكون المجاز معمولا من كل وجه، وفيما قاله الخصم تترك الحقيقة ولا يحصل العمل بالمجاز من كل وجه؛ لأن التكفير بالصوم لا يجوز قبل الحنث عنده، فحملناه على هذا المجاز تحقيقا لما هو المقصود وهو إيجاب الكفارة؛ لأن المقصود بالحديث إيجاب الكفارة.
(وإذا صح أن يستعار ثم للواو فالفاء به أولى) أي لما جاز استعاره ثم للواو مع بعد ثم عن الواو فلأن تستعار الفاء للواو أولى من استعارة ثم للواو؛
لأن الفاء أقرب إلى الواو بالنسبة إلى ثم، فالقرب والمجاورة من أسباب الاستعارة مع اتحاد كلها في معنى العطف.
والدليل على أن جواز الفاء بالواو أقرب من جواز الواو بثم شيئان:
أحدهما- أن المشايخ اختلفوا في موجب الفاء كما اختلفوا في موجب الواو لقرب معناهما، ولم يختلفوا في ثم لبعد معناها عن معنى الواو.
والثاني- أن الواو لمطلق الجمع، والفاء للوصل والتعقيب، وفي الجمع معنى الوصل موجود.
وأما ثم فللتراخي، فالجمع أو الوصل مع التراخي ضدان، فعلم أن جواز الفاء بالواو أقرب من جواز ثم بالواو. (ولهذا قال بعض مشايخنا فيمن قال لامرأته) إلى آخره. هذا لإيضاح استعارة الفاء للواو، فإن الفاء في هذه المسألة بمعنى الواو على قول بعض المشايخ (والمراد به الطحاوي رحمه الله.
وقال في "المبسوط": ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق. ذكر الطحاوي أن هذا أيضا على الاختلاف، فإن حرف الفاء للعطف كحرف الواو فتطلق ثلاثا عندهما، والأصح أنها تطلق واحدة عند وجود الشرط- يعني بالاتفاق- لأن الفاء للتعقيب في أصل الوضع لا لعطف مطلق، فإن كل حرف موضوع لمعنى خاص، وإذا كان للتعقيب ففي كلامه تنصيص
على أن الثانية تعقب الأولى، فتبين بالأولى لا إلى عدة بخلاف الواو (إلا أن الحقيقة أولى، فلذلك اخترنا الاتفاق) يعني تطلق واحدة بالاتفاق في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق. (وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فعلى هذا أيضا) أي لا تقع إلى واحدة على الأصح، يعني إذا قال: أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار هو بمنزلة الواو عند الطحاوي. إذا دخلت الدار طلقت ثلاثا كما في التعليق بالواو.
[بل]
(على سبيل التدارك) أي على سبيل تدارك الغلط بإقامة الثاني مقام الأول، وإظهار أن الأول كان غلطا كما لو قال لامرأته: أنت طالق واحدة بل
ثنتين إنها تطلق ثلاثا أي لو قال لامرأته التي دخل بها، وأما إذا قاله لغير المدخول بها فإنها تطلق واحدة على ما ذكر في الكتاب بعيد هذا.
(وقلنا نحن) أي عندنا: يجب ألفان.
وقعت ثنتان لما قلنا إشارة إلى قوله: "ويراد بالجملة الثانية كمالها بالأولى، وهذا في الأخبار ممكن" لأن الغلط في الأخبار ممكن.
(ويتصل بهذا أن العطف متى تعارض له شبهان اعتبر أقواهما) أي متى تعارض للعطف معطوف عليهما اثنان.
(مثاله: ما قال) محمد- رحمه الله (في "الجامع) أي في الباب الثامن عشر من أيمان "الجامع الكبير" بقوله: (أنت طالق إن دخلت الدار، لا بل هذه لامرأة أخرى؛ أنه جعل عطفا على الجزاء دون الشرط) حتى إذا دخلت الأولى الدار طلقتا، ولو دخلت الثانية لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه تعارض للعطف شبهان:
أحدهما- أنت طالق، ومعناه لا بل هذه طالق،
والشبه الآخر- (التاء في قوله: "دخلت") ومعناه لا بل هذه إن دخلت فأنت طالق، وحكمه لو كان كذلك إن دخلت الثانية طلقت الأولى.
وقال المصنف- رحمه الله هذا الذي ذكره محمد- رحمه الله يحتمل وجوها ثلاثة:
أحدها- أن يكون تقديره: لا بل هذه طالق إن دخلت أنت، وهو الذي اختاره محمد- رحمه الله
والثاني- لا يل هذه إن دخلت هذه المرأة الدار فأنت طالق، ولم يحمل على هذا إلا بالنية.
والثالث- أنت طالق إن دخلت هذه الدار لا بل هذه المرأة الأخرى. إن دخلت فهي طالق، ولم يحمل على هذا أصلا أي لا بالنية ولا بغيرها.
وقال الإمام قاضي خان- رحمه الله في "شرح الجامع": وإذا جعلنا هذا رجوعا عن الجزاء، والرجوع عن الأول لم يصح، وإقامة الثانية مقام الأولى صحيح، فيتعلق طلاق الثانية بدخول الأولى حسب تعلق طلاقها بدخولها، فإذا دخلت الأولى الدار يقع الطلاق عليهما، وإن نوى به الرجوع عن الشرط صحت نيته لأنه نوى ما يحتمله لفظه، وأيتهما دخلت وقع الطلاق على الأولى قضاء وديانة؛ لأن طلاق الأولى كان متعلقا بدخولها، وهو قصد الرجوع عن دخول الأولى بإقامة دخول الثانية مقام دخول الأولى، فيتعلق
طلاق الأولى بدخول الثانية، والرجوع عن الأول لم يصح، وإقامة الثاني مقام الأول صحيح، فيتعلق طلاق الأولى بدخول الثانية حسب تعلق طلاقها بدخولها، فأيتهما دخلت وقع الطلاق على الأولى وتطلق الثانية أيضا بدخول الأولى؛ لأن كلامه كان رجوعا عن الجزاء ظاهرا، وطلاق الثانية كان متعلقا بدخول الأولى، والرجوع عنه لم يصح، فبقي معلقا كما كان.
وقوله: (وذلك قبيح) أي العطف على الضمير المرفوع المتصل الذي هو غير مؤكد بالضمير المرفوع المنفصل كما في قوله تعالى:} اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ {.
فإن قلت: كيف حصر جواز العطف على الضمير المتصل المرفوع بما أكد
هو بالضمير المرفوع المنفصل وهو حسن أيضا عند وجود الفاصل، وإن لم يؤكد هو بالضمير المرفوع المنفصل كما في قوله تعالى:} فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ومَن تَابَ مَعَكَ {، وقوله:} ومَن تَابَ {معطوف على الضمير المستكن في} فَاسْتَقِمْ {أي فاستقم أنت وليستقم من تاب، وكذلك قوله تعالى} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وامْرَأَتُهُ {، وقوله} وامْرَأَتُهُ {معطوفة على الضمير المرفوع في} سَيَصْلَى {أي سيصلى هو وامرأته. هكذا صرح فيهما صاحب "الكشاف".
قلت: ذلك عند النحويين، وأما عند الفقهاء وبعض أهل التفسير فقوله:} ومَن تَابَ {مرفوع؛ لأنه أدرج وليستقم بدلالة قوله:} فَاسْتَقِمْ {فكان هو حينئذ عطف الجملة على الجملة، ورفعية قوله:} ومَن تَابَ مَعَكَ {بعامل مضمر
كرفعية رجال في قوله تعالى} يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا {على قراءة من قرأ على بناء المفعول لا أن يكون معطوفا على الضمير المتصل المرفوع.
وذكر المصنف- رحمه الله وأما قوله تعالى:} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا {، ولم يؤكده بالضمير المنفصل وهو نحن، واختار اللغة الأخرى، وكتاب الله منزه عما يقبح فإنما حسن ذلك لإعادة حرف النفي، وهو قوله:} ولا آبَاؤُنَا {تقول: ما فعلت كذا ولا فلان فيحسن، وتقول: ما فعلت كذا وفلان فيقبح حتى تقول: أنا وفلان.
وحاصله إنا عطفنا ها هنا على الجزاء فقط؛ لأنا إن عطفناه على الشرط كان جائزا لكنه قبيح، فيصار إليه عند تعذر العطف على الجزاء، كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار لا بل فلان. أنه جعل عطفا على الشرط وإن كان قبيحا؛ لأنه تعذر العطف على الجزاء؛ لأن فلانا يستحيل أن يكون طلاقا فيصار إليه وإن لم يكن مستحسنا عند الفقهاء للضرورة، وإنما قبح ذلك؛ لأن الضمير المرفوع لما لم يقم بنفسه وهو التاء في قوله:"دخلت"كان موجودا له شبه العدم، فمن حيث إنه موجود جاز العطف، ومن حيث إن له شبها بالعدم قبح العطف، فإذا تعارضا عطف على ما هو جائز مستحسن، ولم يعطف على ما هو قبيح؛ لأن الجائز المستحسن أقوى من الجائز القبيح إلا إذا مست
الضرورة حينئذ يصار إليه، ولا يلغى لأن إلغاء تصرفه أقبح بخلاف ضمير المفعول، فإن العطف عليه جائز وإن كان متصلا كما في قوله تعالى:} فَأَخَذْنَاهُ وجُنُودَهُ {لما عرف أنه في حكم الانفصال بسبب أنه فضلة في الكلام.
وقوله: (وذلك أن الفاعل مع الفعل كشيء واحد) وقد قيل في اتحاد الفاعل مع الفعل عشرة أوجه: وأوردنا أربعة أوجه منها في "الموصل" والأشهر منها مسألة يضربان وضربنا- بسكون الباء- وقد ذكرنا وجههما في "الموصل".
(فإذا استويا) أي إذا استويا في حسن العطف بأن يحسن العطف على كل واحد منهما اعتبر أقربهما كما في قوله: (إن لفلان علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينارا)، فإن لعطف الدينار تعارض الشبهين؛ لأنه يحسن
العطف على عشرة وهو المستثنى، ويحسن العطف على ألف درهم وهو المستثنى منه، فيعطف على عشرة دراهم حتى صارا مستثتيين عن الألف، فيلزم عليه ألف درهم ناقصا بعشرة دراهم وقيمة دينار؛ لأن المستثنى وهو عشرة دراهم أقرب من الدينار إلى الألف، فيترجح بالقرب كما هو الأصل في التعارض.
فإن قيل: يجب أن يعطف الدينار على الألف وإن كان أبعد، فإن استثناء الدينار من الدراهم مختلف فيه فيعطف على الألف ليكون استثناء الدراهم من الدراهم.
قلنا: لا انفصال عما احترز بهذا الطريق فإنه حينئذ يصير استثناء الدراهم من الدينار وهو أيضا مختلف فيه، وذلك لأنه لو عطف على الألف صار المستثنى منه ألفا ودينارا، فيكون استثناء عشرة من الألف والدينار، وإذا كان كذلك كان عطف الدينار على العشرة أولى لكونها أقرب.
وفي "المبسوط" ما يدل على أن هذا التقرير فيما إذا كان المقر له اثنين.
أما إذا كان واحدا فالاستثناء من الجنس جواب الاستحسان، وإن كان أبعد فقال: ولو قال لفلان علي ألف درهم ولفلان علي مائة دينار إلا درهما جعل ذلك استثناء من الدينار؛ لأن المستثنى موصول بالإقرار بالدنيانير، وحقيقة الاستثناء ما يكون موصولا بالمستثنى منه، وهذا على أصل أبي حنيفة
وأبي يوسف- رحمهما الله- ظاهر؛ لأن عندهما سواء جعلته مستثنى من الأول أو من الآخر كان الاستثناء صحيحا، فلما استويا تترجح الدنانير لاتصال المستثنى بها، ولو قال: لرجل واحد علي ألف درهم ومائة دينار إلا درهما، في القياس هذا الاستثناء من الدنانير أيضا؛ لأنه متصل بالدينار، ولكنه استحسن فقال: إذا كان المقر له واحدا فالاستثناء من الدراهم؛ لأنا إن جعلنا المستثنى من الدينار صح باعتبار المعنى، وإن جعلناه من الدراهم صح باعتبار الصورة والمعنى، وضرر النقصان في الوجهين يدخل على واحد، فكان جعله من الدراهم أولى.
[لكن]
(وأما لكن فقد وضع للاستدراك بعد النفي). الاستدراك: دريافتن جيزي.
(فأما نفي الأول فيثبت بدليله) أي بدليل النفي وهو حرف النفي كما في قوله تعالى:} فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمَى {(بخلاف كلمة بل)، فإن موجبيها جميعا- وهما نفي الأول وإثبات الثاني- يثبتان بنفي استعمال كلمة بل.
(الاتساق): الانتظام، والمراد من الاتساق ها هنا إمكان التوفيق بين المتنافيين (فإذا اتسق الكلام تعلق النفي بالإثبات الذي وصل به) يعني يثبت النفي والإثبات جميعا كما في قولنا: ما جاءني زيد لكن عمرو، وهذا
الاستدراك إنما يصح أن لو توهم متوهم عدم مجئ عمرو، وعند سماع نفي مجئ زيد لدوام ملازمة كل واحد منهما بالآخر، فأزال ذلك الوهم بهذا الاستدراك، فكان كل واحد من النفي والإثبات في محزه فيصح.
وكذلك (لو أقر رجل بعبد هو في يده أنه لفلان)، وقال فلان: ما كان لي قط لكنه لفلان آخر ووصل، فهو للمقر له الثاني)، ولا يكون هذا ردا لإقرار المقر؛ لأن من الجائز أن يكون هذا معروفا بكونه له، ثم وقع في يد المقر بسبب من الأسباب فأقر أنه له، فقوله:"ما كان لي قط" لا يكون تكذيبا له؛ لأن عنده أنه ليس له لكنه لفلان، فالكلام الأول مع الثاني ليس بمتنافيين، فإذا وصل به قوله:"لكنه لفلان" كان بيانا أنه نفي ملكه إلى الثاني بإثبات الملك له بقوله: "لكن" وإن قطع كلامه كان محمولا على نفي ملكه أصلا كما هو الظاهر وهو رد للإقرار، ثم قوله:"ولكن لفلان" شهادة بالملك للثاني على المقر، وبشهادة الفرد لا يثبت الملك.
(وقالوا في المقضي له بدار بالبينة- إلى أن قال- إن الدار للمقر له وعلى المقضي له القيمة).
فإن قيل: هذا إنما يستقيم فيما إذا قدم الإقرار، ثم قال:"لم يكن لي قط" فقبلنا في حق البعض دون البعض، أما إذا قال:" ما كانت لي قط ولكنها لفلان" فقد أكذب شهوده أولا، فلا يصح إقراره بعد إكذاب الشهود؛ لأن الإقرار لا يصح إلا في الملك.
قلنا: الكلام صدر جملة واحدة فلا يفصل البعض عن البعض في حق الحكم؛ لأن الكلام يتم بآخره؛ لأن أول الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير أوله، وها هنا أيضا النفي معلق بالإثبات، فصار بمنزلة قوله: أنت طالق إن دخلت الدار، وذكر صورة هذه المسألة في "شروح الجامع" بقوله: رجل ادعى دارا في يد رجل أنها داره، والذي في يده يجحد ذلك، فأقام المدعي البينة أنها داره، فقضى القاضي له بها، ثم أقر المقضي له أنها لفلان لا حق لي فيها، وصدقه المقر له، وقال المقضي عليه: إن المقضي له قد أكذب شاهديه فأنا أحق بها، فلا شيء للمقضي عليه وهي للمقر له؛ لأن قوله:"هي لفلان لا حق له فيها" يحتمل أنها صارت له بسبب تمليكها إياه بعد
الحكم بالبيع منه، وإذا احتمل ذلك والأصل في الإقرار القصر على أدنى ما يمكن فلم يبطل القضاء بالشك.
فإن قيل: هذا التقرير إنما يصح أن لو احتمل الوقت التمليك.
أما إذا لم يكن بين القضاء والإقرار زمان يحتمل التمليك فيه فكيف يمكن التوفيق بين الدعوى لنفسه وبين الإقرار لغيره أنها له بسبب تمليكي إياها له بعد القضاء؟
قلنا: يحمل ذلك على إمكان التوفيق، وإن كان نادرا بأن باعها قبل القضاء وبقي خصما؛ لأنه لم يسلمها إلى المقر له، وبقيت النسبة إليه باعتبار حق الحبس يعني يقول المدعي: إن الدار كانت لي من الأصل وقد كنت بعتها قبل القضاء من المقر له على أني بالخيار ثلاثة أيام حتى بقيت الدار على ملكي في مدة الخيار، فصحت النسبة إلي بهذا الطريق، ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها مني، ثم لما قضى القاضي بالدار انقضت مدة الخيار عقيبه بلا فصل، فأمكن الجمع بين هذا الإقرار والدعوى الأولى والشهادة بهذا الوجه، ولما احتمل هذا لم يبطل الحكم بالشك، ولا شيء للمقضي عليه على أحد لهذا الاحتمال.
فإن قال المقضي له: هي دار فلان ولم تكن لي قط أو بدأ، فقال: ما كانت لي قط ولكنها لفلان، فإن صدقه المقر له في ذلك كله فقد تصادقا أن الدعوى والبينة والحكم كل ذلك كان باطلا، فوجب رد الدار على المقضي
عليه، وإن قال المقر له: كانت الدار للمقر ولكنه وهبها لي بعد القضاء وقبضتها وهي لي بالهبة، فإنه يدفع الدار إلى المقر له ويضمن المقر قيمة الدار للمقضي عليه؛ لأنه أقر ببطلان القضاء، وإنه يبطل الإقرار، والإقرار حق عليه، والقضاء حق له، فإذا كذبه المقر له أي في قوله:"لم يكن لي قط" بطل ما له دون ما عليه، وإذا لم يبطل إقراره بقي الدار للمقر له ويضمن قيمة الدار للمقضي عليه؛ لأنه لما أقر ببطلان القضاء قد أقر على نفسه بوجوب رد الدار على المقضي عليه، وبالإقرار للغير صار متلفا للدار، والدار تضمن بالإتلاف عند الكل كما تضمن بالشهادة الباطلة.
وهذا الجواب ظاهر فيما إذا بدأ بالإقرار وثني بالنفي، وإن بدأ بالنفي وثني بالإقرار، فكذلك الجواب وينبغي أن لا يصح إقراره ويرد الدار على المقضي عليه؛ لأنه لما قال:"ما كانت لي قط" بطل القضاء، فإذا قال:"ولكنها لفلان" فقد أقر بعد بطلان القضاء ووجوب الرد على المقضي عليه فلا يصح إقراره، إلا أنا نقول: بأن الإقرار وإن كان مؤخرا فهو مقدم؛ لأنه قصد صحة الإقرار، ولا صحة له إلا بالتقديم، والكلام يحتمل التقديم والتأخير دون الإلغاء، ويقدم بشرط أن يكون موصولا ويضمن قيمة الدار للمقضي عليه.
(إلا أنه بالإسناد صار شاهدا على المقر له) أي إلا أن المقضي له بإسناد
الملك لنفسه بالنفي بقوله: "ما كانت لي قط" صار شاهدا على المقر له لما ذكرنا أن قوله: "ما كانت لي قط" يتضمن بطلان الإقرار؛ لأنه يتضمن بطلان القضاء للتناقض، وإقراره للمقر له إنما يصح على تقدير بقاء الملك له ببقاء القضاء له، فلما تضمن هذا بطلان القضاء له وبطلان الملك لنفسه لزم منه بطلان الإقرار له، وهو ضرر للمقر له، فلذلك كان بقوله:" ما كانت لي قط شاهدا" على المقر له، ومعنى قوله: إلا أنه بالإسناد صار شاهدا للمقر له هو أنه لما قال: "لكنها لفلان" أقر ببطلان القضاء أيضا للتناقض بدعواه لنفسه، ثم إقراره بها للغير وفي بطلان القضاء بطلان الإقرار له فكان شاهدا على المقر له إلا أن أول الكلام يتوقف على آخره، فصار هذا تمليكا مطلقا للمقر له بقوله:"لكنها لفلان" ونفيه الملك عن نفسه أولا لم يعمل في إبطال الإقرار لما ذكرنا أن النفي يؤخر والإقرار بها له يقدم؛ لأن مقصوده من ذلك صحة الإقرار للمقر له فيصح.
(وجعل لكن مبتدأ) وإنما تعرض بقوله: "لكن" لأن كون قوله: "لا أجيز النكاح" للفسخ إنما نشأ من ذكر قوله: "لكن"عقيبه. إلى هذا أشار في "شروح الجامع".
ألا ترى أنه لو قال: لا أجيز النكاح إلا بزيادة الخمسين أو حتى تزيدني خمسين درهما لا ينفسخ العقد بل يتوقف؛ لأن قوله: لا أجيز إلا بزيادة" استثناء بعد النفي فيكون إجازة لشرط الزيادة، ويصير قوله: "لا أجيز" عبارة عن الكف عن الإجازة لا عن الفسخ؛ لأن الكف عن الإجازة هو الذي
يحتمل الاستثناء وهو الذي يحتمل الغاية أيضا في قوله: "حتى تزيدني فأما الفسخ فلا يحتمل الاستثناء ولا الغاية، فإذا كان كذلك لم يصر إجازة ولا فسخا.
وأما في قوله: "لا أجيز النكاح ولكن أجيزه بمئة وخمسين" فيبطل النكاح رضي الزوج بالزيادة أو لم يرض؛ لأن قوله: "لا أجيز" مطلقه للفسخ؛ لأن النفي حصل مطلقا إلا أن يدخل عليه ما يدل على أن المراد به الإمساك عن الإجازة لا الفسخ، وهذا لأن قوله:"ولكن أجيزه بمئة وخمسين" كلام مبتدأ مستقل بنفسه بخلاف الاستثناء والشرط.
قال الله تعالى:} ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا {فرق بين هذا وبين ما لو قال لغيره: لك علي ألف درهم من ثمن بيع ولكن من قرض أو غصب لزم المقر ألف درهم، ولو جعل ابتداء كلام غير موصول بالأول لا يلزمه، كما لو قال المقر له: ليست من ثمن بيع وسكت، ثم قال بعد ذلك: ولكن من قرض أو غصب لا يلزمه شيء. ووجه الفرق بينهما أن قوله: "ليست من ثمن بيع نفي للجهة والسبب، فانتفى السبب وبقي الوجوب على حاله حتى لو نفي أصل الوجوب بأن قال: "ليس لي عليك شيء" ثم قال: "ولكن من غصب أو قرض" لا يلزمه شيء.
أما قوله: "هلا أجيز النكاح" رد للنكاح فيبطل النكاح، حتى لو قال:"لا أجيز النكاح بمئة ولكن أجيزه بمئة وخمسين" لا يبطل النكاح.
وقوله: (الكلام متسق) أي كلام المقر له مع كلم المقر متوافقان لا متنافيان؛ لأنهما توافقا في أصل الواجب وإن اختلف في السبب.
وقال شمس الأئمة- رحمه الله ولو قال: لفلان علي ألف درهم قرض، فقال فلان: لا ولكنه غصب فإنه يلزمه المال؛ لأن الكلام متسق فيتبين آخره أنه نفي للسبب لا أصل المال، وأنه قد صدقه في الإقرار بأصل المال ولا تفاوت في الحكم بين السببين، والأسباب مطلوبة للأحكام فعند انعدام التفاوت يتم تصديقه له فيما أقر به فيلزمه المال.
] أو [
(وأما أو فإنها تدخل بين اسمين) كقوله تعالى:} فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن {(أو فعلين) كقوله تعالى:} ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن
دِيَارِكُم}.
(ولم يوضع للشك، وليس الشك بأمر مقصود يقصد بالكلام وضعا).
في هذا نفي لقول الإمام القاضي أبي زيد- رحمه الله فإنه يجعلها للشك، وكذلك أهل النحو يجعلونها للشك، فقال: ليس كذلك؛ لأن الشك إنما يجئ لأمر عارض وهو ليس بمقصود من الكلام حتى يوضع له لفظ؛ لأن وضع الألفاظ للإفهام في الأصل، وبالشك يختل الإفهام فل يجوز أن يكون للاختلال الذي يجئ من الشك لفظ موضوع وإنما جاء الشك من قبل محل الكلام وهو الخبر، فإنها إذا استعملت في الخبر تناولت أحد
المخبر بهما وذلك غير عين فأفضى إلى الشك وهذا هو الصحيح؛ لأن الخبر دليل على ثبوت المخبر ولا يثبت لمخبر به بالخبر لما عرف أن الخبر لفظ دل على أمر كان أو سيكون غير مضاف كينونته إلى الخبر، فإذا تساوى الدليلان على التعارض من غير رجحان لأحدهما على الآخر جاء الشك، فعلم أن الشك إنما جاء من محل الكلام لا من نفس كلمة "أو"، ولهذا إذا استعملت في الإنشاء لا تحتمل الشك وهي حقيقة فيه لا مجاز.
(ولو استعملت في الابتداء) كما في قوله: إيت زيدا أو عمرا، (والإنشاء) كقول الرجل: هذا حر أو هذا، فعلى هذا كان ما ذكره بعدها نظيرا لهما على طريق اللف والنشر.
(حتى جعل البيان إنشاء من وجه وإظهارا من وجه) أي جعل تعيين العتق المبهم في أحدهما إنشاء من وجه وإظهارا من وجه، وكذلك في الطلاق، حتى لو قال لعبديه: هذا حر أو هذا، فمات أحدهما فقال المولى:
كنت أردت بذلك الميت لا يصدق ويعتق الحي عملا بجهة الإنشاء؛ لأن قيام المحل بالحياة شرط إنشاء من كل وجه لما أجبر، وكذلك لو كان هذا في الطلاق المبهم بين المرأتين لو ماتت إحداهما قبل التعيين طلقت الباقية؛ لأنه إنما كان لا يتعين قبل الموت في إحداهما لمزاحمة الأخرى معها وقد زالت بالموت، فإذا خرجت إحداهما من أن تكون محلا للطلاق تعينت الأخرى، وإن قال: عينت الميتة حين تكلمت صدق في حق نفسه حتى بطل ميراثه عنها ولا يصدق في إبطال الطلاق على الحية؛ لأن الطلاق يعين فيها شرع فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله، وكذلك لو كانت تحته حرة وأمه فقال في مرض موته: هذه طالق ثنتين أو هذه، ثم أعتق المولى الأمة فقال الزوج: أردت بذلك الأمة؛ تحرم عليه الأمة حرمة غليظة عملا بكونه بيانا، وجعل الزوج فارا وترث المرأة التي كانت أمة عملا بكونها إنشاء.
(ويبيع أيهما شاء) يعني لا يشترط اجتماعهما على البيع بخلاف ما لو قال: وفلانا حيث يشترط هناك اجتماعهما؛ لأن "أو" في موضع الابتداء
تخيير، فينظر إن كان هو منفردا بذلك الفعل فالاختيار له، وإن كان تمام ذلك الفعل موقوفا على الآخر كان الآخر كالتوكيل المبهم؛ لأن تمام ذلك الفعل بالاختيار، فيكون الاختيار لمن إليه تمام الفعل، والوكالة لا تتم إلا بالقبول، والتوكيل صح استحسانا.
قال في وكالة "المبسوط": وإذا كان لرجل عدل زطي فقال لرجلين: أيكما باعه فهو جائز، وكذلك لو قال: وكلت هذا أو هذا ببيعه فباعه أحدهما في القياس لا يجوز لجهالة من وكله ببيعه وفي الاستحسان يجوز؛ لأن هذه جهالة مستدركة فتحملت فيما هو مبني على التوسع، ثم قال: قد نص على القياس والاستحسان ها هنا ولم ينص في توكيل الواحد ببيع أحد العبدين حتى تكلف بعضهم للفرق فقال: الجهالة فيما تناولته الوكالة بالبيع دون الجهالة فيمن هو وكيل بالبيع لما بينا في الإقرار أن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وجهة المقر له تمنع من ذلك، ولكن الأصح أن القياس والاستحسان في الفصلين، والتخيير لا يمنع الامتثال كما في كفارة اليمين.
(إلا أن يكون من له الخيار معلوما) أي خيار التعيين (في اثنين أو ثلاثة فيصح استحسانا).
وقال في "الأسرار": إذا اشترى ثوبين بعشرة على أنه بالخيار يأخذ أيهما
شاء ويرد الآخر، وكذلك أحد الأثواب الثلاثة، فهذا الشرط جائز استحسانا عندنا، وعند زفر لا يجوز قياسا، كما لو اشترى أحد الأثواب الأربعة على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر.
ووجه الاستحسان أن فساد البيع بالجهالة مثل الفساد بالشرط، فلما احتملت الجهالة الشرط في مدة الثلاث نفيا للغبن فلأن تحتمل الجهالة من الثلاث نفيا للغبن أولى، فوجه الأولوية باعتبار أن الأعيان الثلاثة تحتمل الأوصاف الثلاثة، وهي: الجيد، والوسط، والردئ بخلاف الأيام، ثم هناك لم يتحمل أكثر من ثلاثة أيام فكذا ها هنا (لكنه يوجب خطرا)؛ لأنه يحتمل أن يختار هذا فيكون هو المبيع ويحتمل أن يختار ذلك فيكون هو المبيع، فهذا يشبه القمار، وشبهة الحرمة ملحقة بحقيقة الحرمة، فالقياس أن لا يجوز لما ذكرنا من شبهه بالقمار إلا أنه صح في الثلاث استحسانا بدلالة
النص وهي أن النبي عليه السلام شرع شرط الخيار، بخلاف القياس ونبهنا على العلة وهي دفع الغبن والخسران، فكأنه قال للمشتري: لك ولاية دفع الغبن وهذا في معناه؛ لأن دفع الغبن كما يحصل بالتأمل في عين واحد يحصل باختيار عين واحد من الأعيان، بل ها هنا أقوى فكان في معناه، وإنما قلنا في الثلاث دون ما فوقه؛ لأن الأعيان لا تخلو عن جيد ووسط وردئ، فاندفعت الحاجة بالثلاثة فيبقى ما وراءها على قضية القياس.
(لزمه الأقل) أي عينا؛ لأنه لا فائدة في التخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد بل يثبت الأقل لكونه متعينا في اليسر، والتخيير لليسر.
(وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه يصار إلى مهر المثل) أي يحكم مهر المثل في الوجوه كلها حتى أنه لو تزوجها على ألف حالة أو ألفين إلى سنة فعند أبي حنيفة- رضي الله عنه ينظر على مهر مثلها، فإن كان ألفين أو أكثر فالخيار لها عن شاءت أخذت الألفين إلى سنة وإن شاءت أخذت الألف حالا، وإن
كان مهر مثلها أقل فالخيار إليه إن شاء أعطاها الألف الحالة وإن شاء أعطاها الألفين إلى سنة؛ لأن كل واحد من المالين أنقص من صاحبه من وجه وأزيد من وجه، وإن كان مهر مثلها فيما بين ذلك فلها مهر مثلها وعندهما الخيار للزوج لتشككنا في وجود الأكثر إلا أن يرضى هو بالأكثر، فإن طلقها قبل الدخول فلها نصف ما يختار الزوج بالإجماع؛ لأنه الأقل. كذا ذكره الإمام التمرتاشي- رحمه الله
وقال في "المبسوط" وغن تزوجها على ألف درهم أو ألفي درهم فعلى قول أبي حنيفة- رحمه الله يحكم مهر المثل، فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فلها الأقل، وإن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان، وإن كان أكثر من ألف وأقل
من ألفين فلها مهر مثلها، وعند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- لها الألف في الوجوه كلها، (يتعين باختياره من طريق الفعل). قيد به لئلا يظن تعيينه بالاختيار من طريق القول، فإنه لو عين أحد الأشياء الثلاثة بالقول لا يتعين، بل يتعين في ضمن الفعل كما في أجزاء وقت الصلاة للصلاة، حيث يتعين الجزء الواحد من الأجزاء سببا للصلاة من حيث الفعل لا من حيث القول، ثم إذا تعين أحد هذه الأشياء الثلاثة بالفعل لا يبقى غيره محتملا للواجب ولكن يبقى مباحا، فأوجب التخيير على احتمال الإباحة حتى إذا فعل الكل جاز.
فإن قيل: إذا فعل الكل بأن وكل بكل نوع إنسانا ففعلوه معا ينبغي أن لا يجوز؛ لأنه لم يثبت التخيير فلم تثبت الإباحة؛ لأن الإباحة تثبت في ضمن التخيير.
قلنا: قد أثبت الله تعالى التخيير بقوله:} إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ {الآية، فتثبت الإباحة في ضمنه فيبقى ما لم يقم الدليل المزيل. بخلاف ما لو قال: بع هذا أو هذا، فإن هناك ثبوت الاختيار بدون الإباحة على ما يجئ لقيام الدليل على عدم الإباحة فيهما جميعا؛ لأنه لا يرضي ببيع كليهما.
(فأما أن يكون الكل واجبا فلا) أي هذه الأنواع الثلاثة جائزة إذا فعلها، ولكن الواجب أحدها بخلاف ما زعم بعض الفقهاء إن الكل واجب؛ لأن كل واحد منها يحتمل أن يكون واجبا على سبيل البدل، فإذا فعل الكل وليس أحدها بأولى مما سواه فيقع الكل واجبا.
(وكذلك قولنا في كفارة الحلق) هو قوله تعالى:} فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ {وجزاء الصيد وهو قوله تعالى:} فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ {.
فأما قوله تعالى} إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ {(فقد جعله بعض الفقهاء للتخيير)، وهو مالك عملا بحقيقة كلمة (أو) فإنها للتخيير، وقد ورد بيانه على هذا المثال بالسنة في حديث جبريل عليه السلام.
وهي ما روى محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس- رضي الله عنهم أنه قال: "وادع رسول الله عليه السلام أبا بردة- هلال بن عويمر الأسلمي- فجاءه أناس يريدون الإسلام
فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق، فنزل جبريل على رسول الله عليهما السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك- وفي رواية عطية عنه: ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي". وفي هذا الخبر دليل على أن "أو" ليست للتخيير إنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجناية كما يقال لمن يسأل عن حدود الكبائر هي: الجلد، أو الرجم، أو القطع لا يراد به التخيير.
ذكر إمام الهدى- رحمه الله في هذه الآية: إن الأصل فيه أن كلمة "أو"
متى ذكرت بين الأجزية المختلفة الأسباب يراد بها الترتيب كما في هذه الآية، وإلا فهي للتخيير كما في قوله تعالى:} فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ {الآية.
وقوله: (فاستغنى عن بيانها) أي عن بيان أنواع المحاربة، فصارت أنواع الجزاء مقابلة بأنواع المحاربة؛ لأن جزاء الشيء يقابل سببه، كما يقال: الرجم يقابل زنا المحصن، والجلد يقابل زنا غير المحصن، وجناية المحاربة معلومة وهي مختلفة، فتنقسم الأجزية على حسب أنواع الجناية وهو معنى قوله:(فأوجبت التفصيل والتقسيم على حسب أحوال الجناية) لما أن الجزاء يناسب الجناية، فيقابل الخفيف الخفيف، والغليظ الغليظ إذ الغليظ في
مقابلة الخفيف والخفيف في مقابلة الغليظ لايحسن ولا يناسب.
(ثم قتله أو صلبه) أي مع القطع؛ لأن الجناية تحتمل الاتحاد يقال: قطع الطريق والتعدد وهو أخذ المال وقتل النفس، فإن كل واحد منهما على الانفراد يوجب الجزاء، فإذا اجتمعا كان موجبهما أيضا يتعدد، فكان متعددا بنفسه متحدا بأثره وهو قطع الطريق وانقطاع المارة، والشيء قد يعلم بأثره كما يعلم بمؤثره، وكذلك من الجائز أن المقصود هو القتل بأن كان القطاع مواترين للمارة، وأخذ المال وقع تبعا لا قصدا، ومن الجائز أن أخذ المال هو الأصل وقتل النفس وقع تبع حتى لا يقوم أحد من يطلبهم، فلذلك خير أبو حنيفة- رحمه الله الإمام بين إقامة حد أخذ المال والقتل عملا بالتعدد، وبين إقامة حد القتل عملا بالاتحاد.
وقوله: (ولهذا قال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- فيمن قال لعبده) يتعلق بكلام قبل هذا بورق وهو قوله: فإن استعملت في الخبر تناولت
أحدهما غير عين إلى أن قال هذا حر أو هذا، ولهذا ذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله هذه المسألة متصلا بذلك الأصل المذكور بتلك المسألة.
(وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه نعم هو كذلك، لكن على احتمال التعيين) يعني أن أصل هذا الإيجاب يتناول أحدهما بغير عينه على احتمال التعيين.
ألا ترى أنهما لو كانا عبدين تناول أحدهما على احتمال التعيين إما ببيانه أو بانعدام المزاحمة بموت أحدهما، فيصح الإيجاب هنا باعتبار هذا المجاز كما هو أصل أبي حنيفة- رحمه الله في العمل بالمجاز، وإن تعذر العمل بالحقيقة لعدم صلاحية المحل له، يعني لما كان هذا الإيجاب صالحا لإثبات العتق في حقيقة هذا الكلام في حق العبدين كان صالحا أيضا لإثبات العتق في محل المجاز أيضا، وهذا هو المحل بجامع وجود العينين الذي كان هو محلا صالحا
لدخول كلمة "أو" وله مجاز متعين وهو إيجاب العتق. غير أن هذا الإيجاب في محل الحقيقة يوجب العتق المبهم، وفي محل المجاز يوجب العتق المعين، فكان منزلة موت أحد العبدين قبل البيان في محل الحقيقة.
(فتصير شبيها بواو العطف لا عينه)، فشبهه بواو العطف من حيث إنهما متعينان كما في واو العطف وليس هو بعينه من حيث إن كل واحد منهما مراد بالنفي خلاف الواو.
(حتى إذا كلم أحدهما يحنث) بخلاف واو العطف، (ولو كلمهما لا يحنث إلا مرة واحدة)؛ لأنه لما حنث بكلام أحدهما لم تبق اليمين فلم يحنث إلا مرة واحدة ولا خيار له في ذلك، ولو كان على حقيقة لكان له الخيار، وهذا لأنه لما كان كلاهما مرادا لم يبق له الخيار، وثبوت الخيار إنما يلزم من كون أحدهما مرادا وليس كذلك (حتى لو استعمل هذا في الإيلاء) بأن قال: والله لا أقرب هذه أو هذه (بانتا جميعا) كما في واو العطف.
فلذلك صار عاما أي لما وقعت النكرة في موضع النفي صار عاماً ولا
يمكن إثبات التعميم إلا أن يجعل بمعنى واو العطف؛ لأن الإباحة دليل العموم؛ لأن الإباحة رفع القيد، وعند ارتفاع لقيد تثبت الإباحة على سبيل العموم، فاعتبر هذا برفع القيد الحسي، وكذلك في الشرعيات إذا حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج إلى جنازة وفعل أفعالا أخر لم يحنث؛ لأنه موضع الإباحة، وكذلك إذا أذن لعبده في نوع من الأنواع يصير مأذونا في الأنواع كلها لما أنه في موضع الإباحة؛ لأن العبد كان ممنوعا عن التصرفات فيكون الإذن فك الحجر، وبالفك تثبت الإباحة، (وفرق ما بين الإباحة والتخيير) أن الجمع بين الأمرين في التخيير يجعل المأمور مخالفا وفي الإباحة موافقا؛ لأنه إذ جمع بينهما في التخيير يقع الامتثال في أحدهما
ولا يقع في الآخر، وفي الإباحة يقع الامتثال بهما؛ لأن موضع الإباحة موضع التعميم على ما ذكرنا.
(وإنما تعرف الإباحة من التخيير بحال تدل عليه) وهي:
أن تكون هذا بعد سبق الخطر قبله كما في قوله: (لا يكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا/ فإن له أن يكلمهما جميعا)، أو أن يعرف الصفة المرغوبة في كل واحد منهما فكان له رضا في الجمع بينهما كما في قوله: جالس الفقهاء أو المحدثين، أو استعملها في موضع إظهار السماحة والجود كما في قوله: خذ من مالي هذا أو هذا، وهذه دلالات الإباحة وإلا فهي للتخيير، ولا فرق بينهما من حيث الصيغة في نفسها إذ في كل منهما استعمال كلمة "أو" بين الشيئين عند إصدار صيغة الأمر من المتكلم.
(قد برئ فلان من كل حق لي قبله إلا دراهم أو دنانير أن له أن يدعي المالين جميعا)؛ لأن صدر الكلام للتحريم معنى؛ لأنه يحرم على نفسه الدعوى فكان الاستثناء في موضع الإباحة.
(وقال محمد- رحمه الله بكل قليل أو كثير على معنى الإباحة) يعني لو باع الدار لا يدخل الطريق والشرب في البيع، ولو قال بكل قليل أو كثير يدخل على معنى الإباحة، ومعنى الإباحة فيه أن المشتري كان ممنوعا عن الانتفاع بالطريق والشرب.
قيل: قوله: "بكل قليل أو كثير" فكان هذا بعد الحظر فكان موضع إباحة، ولكن فيه نوع إشكال وهو أنه لو ثبت الملك للمشتري في الطريق والشرب بطريق الإباحة لأمكن البائع من الرجوع فيهما ومع ذلك لا يمكن.
والجواب عنه: إن الملك هنا للمشتري وإن كان ثابتا في موضع الإباحة لكن ثبت ذلك في ضمن عقد لازم وهو البيع فأعطي له حكم المتضمن في اللزوم فلم يملك البائع الرجوع فيهما لذلك.
وقوله: (أوجبت التخيير. مثل قول الرجل: والله لأدخلن هذه الدار أو لأدخلن هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار أن له الخيار).
اعلم أن في هذه المسألة نوع تخليط فلا بد من حفظه، فإن قوله: "إن له
الخيار راجع إلى المسألة الأولى دون الثانية قطعا وبتاتا بدليل روايات الكتب المعتمد عليها.
منها: ما ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله في "أصول الفقه" على وفق ما ذكرته حيث قال: وعلى هذا قال في "الجامع": لو قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار، فأي الدارين دخل بر في يمينه لأنه ذكر الكلمة في موضع الإثبات فتقتضي التخيير في شرط البر، ولو قال: لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار، فأي الدارين دخل حنث في يمينه؛ لأنه ذكرها في موضع النفي فكانت بمعنى ولا، وهكذا أيضا في "شروح الجامع الكبير" في الباب الآخر من أيمانه.
وقال المصنف- رحمه الله في "شرح الجامع الكبير": رجل قال: والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار، فأيهما دخل حنث؛ لأنه التزم أحد الأمرين، فلو لم يحنث بأحدهما لصارت اليمين واقعة عليهم جميعا معا وذلك باطل.
ألا ترى أنه لو عطف بالواو مع إعادة حرف النفي لكان الجواب ما قلنا، فكان هذا أولى.
والفصل الثاني: ولله لأدخلن هذه الدار اليوم، أو لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار، فأيهما دخل بر، وإن مضى اليوم قبل أن يدخلهما حنث؛ لأنه التزم دخول إحداهما، فلو لم يبر بدخول إحداهما
لصار ملتزما دخولهما وليس كذلك، وهكذا أيضا في غيره من "شروح الجامع الكبير" ثم لا يمكن أن يقال: إن معناه أن له الخيار أي في المسألة الثانية أيضا بأن يكون مختارا بين الدخول في إحدى هاتين الدارين مع الحنث؛ لأنه لا يطلق في مثله اسم الخير.
ألا ترى أنه كيف نفى الخيار قبل هذا في الكتاب في مثل ذلك في قوله في رجل قال: "والله لا أكلم فلانا أو فلانا- إلى قوله- ولا خيار له في ذلك"، ثم يحتمل أن تكون فائدة إعادة ذكر هذه المسألة الثانية مع ذكر نظيرها قبلها هي إعلام أنه لا يتفاوت ذكر كلمة "أو" في موضع النفي بين أن يكون هي في اسمين كما في المسألة الأولى أو بين فعلين كما في هذه المسألة، ففي كل منهما يقتضي التعميم.
(ولها وجه آخر ها هنا) أي في الأفعال.
(ويحتمل ضرب الغاية) أي ويحتمل صدر الكلام ضرب الغاية لكونه التحريم للفعل.
وهو} يَتُوبَ {على الاسم وهو {شَيْء} .
(وللمستقبل) وهو} يَتُوبَ {(على الماضي) وهو} لَيْسَ {يعني لو كان قوله:} أَوْ يَتُوبَ {معطوفا على ما قبله لكان لا يخلو إما إن كان معطوفا على} شَيْءٌ {أو معطوفا على} لَيْسَ {، وليس كل واحد منهما صالحا لكونه معطوفا عليه له لما ذكر، فلذلك سقطت ها هنا حقيقة العطف من "أو" فكان أو ها هنا على هذا التقدير بمعنى "إلا أن" على معنى} لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ {فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم.
كذا في "الكشاف" جعل هذا الوجه آخر الوجوه، وذكر فيه قبل هذا إنه معطوف على ما قبله وهو قوله:} لِيَقْطَعَ طَرَفًا {وقوله:} لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ {اعتراض، والمعنى إن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء.
وقيل: إن} يَتُوبَ {منصوب بإضمار أن، وإن} يَتُوبَ {في حكم اسم معطوف ب} أو {على الأمر، أو على} شَيْءٌ {أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم إلى آخره.
(واستعير) أي حرف "أو" استعير (لما يحتمله) وهو يحتمل الامتداد أي والتحريم يحتمل الامتداد ويكون الامتداد في غير التحريم أيضا كما في قولك:
لألزمنك أو تعطيني حقي،، وعلى هذا قراءة من قرأ:} تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ {بالنصب كما في قول الشاعر.
لا أستطيع نزوعا عن مؤدتكم
…
أو يصنع البين غير الذي صنعا
أي حتى يصنع.
وعلى هذا كان قوله: أو أدخل هذه الدار الأخرى بالنصب في قوله: والله لا أدخل هذه الدار، (أو أدخل هذه الدار الأخرى)، والله أعلم.
باب حتى
(لا يسقط ذلك عنه) أي لا يسقط معنى الغاية عن هذا الحرف إلا مجازا ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه أي يخص الحرف ذلك المعنى حتى ينتفي الاشتراك، أو المعنى يخص ذلك الحرف لينتفي الترادف، هذا هو الأصل، وقوله:"إلا مجازا" يعني أينما وجد هذا الحرف وجد فيه معنى الغاية إلا إذا استعمل هذا الحرف بمعنى حرف آخر مجازا، حينئذ يسقط عنه معنى الغاية كما في قوله: عبده حر إن لم آتك حتى أتغد عندك، كان هذا هنا للعطف المحض.
(فعلمنا أنها وضعت له) أي إن كلمة (حتى) وضعت لمعنى الغاية،
فأصلها كمال معنى الغاية وخلوصها لذلك بمعنى إلى، ولكن الفرق بينهما من وجوه:
أحدها- وهو أيسرها مأخذا- أن كلمة (حتى) تدخل في الغاية الوضعية لا في الجعلية، ونعني بالوضعية أن ينتهي بها الغيا أو ينتهي عندها، وعن هذا لا يقال: نمت البارحة حتى نصف الليل؛ لأن الليل لا ينتهي به ولا عنده، وكلمة إلى تدخل فيهما جميع كقوله تعالى:} ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ {وقوله:} وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ {فالأيدي لا تنتهي بالمرافق ولا عندها، وكذا صح فيها أن يقال: نمت البارحة إلى نصف الليل، وباقي الفروق مذكور في "الموصل" بعبارة تليق به.
وتقول: (أكلت السمكة حتى رأسها أو إلى رأسها، فإنه بقي)، اعلم أن المصنف- رحمه الله بهذا التفسير بين خلوص معنى الغاية في حتى؛ لأن كلمة إلى خاصة في الغاية لا كلام فيها، فإنها لو ذكرت في هذا المقام بأن قيل: أكلت السمكة إلى رأسها كان معناها هكذا، وهو أن يقال: إن رأسها بقي، فلما جاءت حتى هاهنا في معنى إلى في حق بقاء الرأس علم أن حتى جاءت للغاية الخالصة، فإن حتى لو لم تكن خالصة للغاية ها هنا لجاءت على ما يقوله
أهل النحو، وهو: أن يدخل ما بعدها فيما قبلها، وبه تفارق كلمة إلى أيضا هو فرق آخر بينهما على ما ذكر في كتب النحو بقوله: ومن حق حتى ن تدخل ما بعدها فيما قبلها.
ففي مسألتي السمكة والبارحة قد أكل الرأس. ونيم الصباح، بخلاف كلمة إلى.
(وهذا على مثال سائر الحقائق) أي الكمال هو الأصل في سائر الحقائق فكذا هنا، فعلى هذا الطريق جعل ها هنا ورود حتى لخلوص معنى الغاية حقيقتها الأصلية، ولكن الاستعمال فيها على وفق ما ذكر في كتب النحو وهو: أن يدخل ما بعدها فيما قبلها.
(ثم قد يستعمل للعطف لما بين الغاية والعطف من المناسبة) لما فيهما من التعاقب، فإن المعطوف يعقب المعطوف عليه ويجتمع معه، فكذلك الغاية تذكر بعد لمغيا وتجتمعان، فاستعيرت للعطف.
لهذا (جاءني القوم حتى زيد) فيه معنى العطف؛ لأن زيدا جائي فكان للعطف من هذا الوجه، ومن حيث إن مجئ القوم ينتهي بمجيئه فيه معنى الغاية، وذلك إنما يكون إذا كان (زيد أفضلهم) لا يتوقع مجيئه عادة، فينتهي مجئ القوم بمجيئه، (أو أرذلهم)؛ لأن في العادة إنما يعتبر مجئ الأكابر لا الأراذل، فلما أراد ذكر تعميم مجئ القوم ذكر بهذا الطريق ليعلم به مجئ جميعهم، فكان مجئ الأراذل غاية لانقطاع مجئ القوم.
ألا ترى إلى وصل (قولهم: استنت الفصال حتى القرعى) بهذا القول علم بهذا أنه أراد به الأرذل وهذا مثل يضرب لمن يتكلم مع من لا ينبغي أن يتكلم بين يديه لجلالة قدره. يقال: استن الفرس إذا رفع يديه ويطرحهما معا ويضرب برجليه كذلك في العدو، والقريع: الفصيل الذي به قرع- بالتحريك- هو بثر أبيض يخرج بالفصال ودواؤه الملح، فإذا لم يجدوا
ملحاً نتفوا أوباره ونضحوا جلده بالماء ثم جروه على السبخة وجمعه القرعى كمريض ومرضى، ثم ها هنا الاستنان أي العدو لا يتوقع من القريع لضعفه لما اتصل به من القرع، فينتهي استنان سائر الفصال باستنانها.
وحاصله أن في حتى لم يكن بد من اعتبار معنى الغاية إما في الأعلى أو في الأدنى، وهو معنى ما ذكر في "المفصل" بقوله: وحتى للغاية والدلالة على أحد طرفي الشيء.
(فكانت حقيقة قاصرة)؛ لأن كمال الغاية هو أن لا تدخل الغاية تحت المغيا على ما أشار إليه قبل هذا بقوله: فأصلها كمال معنى الغاية فيها وخلوصها لذلك بمعنى إلى.
وهناك لم تدخل الغاية تحت المغيا، ولما دخلت الغاية هنا تحت المغيا باعتبار وجود معنى العطف فيها حتى دخل زيد تحت الجائين في قوله: جاءني القوم حتى زيد مع وجود معنى الغاية كانت الغاية فيها قاصرة بالنسبة إلى ما ذكر قبله من كمال معنى الغاية فيها، تقول:(ضربت القوم حتى زيد غضبان) يعني ضربت القوم حتى صار زيد غضبان، فصار غضب زيد غاية الضرب.
(ومواضعها في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى) كقوله تعالى:} حَتَّى تَغْتَسِلُوا {.
(أو غاية هي جملة مبتدأة) كقول الله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُول}
في قراءة من قرأ بالرفع.
(وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد) كقوله تعالى:} فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ {(وأن يصلح الآخر دليلا على الانتهاء)؛ لأن الغاية هي التي ينتهي إليها الشيء، فلا بد من الامتداد في الأول والانتهاء في الآخر.
(فإن لم يستقم فللمجازاة) وعدم الاستقامة، إما بعدمهما أو عدم أحدهما، فيحمل على المجازاة إذا كان صدر الكلام سببا لما بعده وما بعده يصلح حكما له، فحينئذ يحمل على المجازاة؛ لأن جزاء السبب غاية لسببه، فيكون المجازاة مع قيام معنى الغاية نظير قسم العطف من الأسماء كما قلنا: جاءني القوم حتى زيد، وأكلت السمكة حتى رأسها أنه للعطف مع قيام معنى الغاية، فكذلك ها هنا إنه للمجازاة مع معنى الغاية.
قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ {وما قبله:} قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ {إلى قوله:} حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ {فالمقاتلة ها هنا تصلح دليلا للامتداد؛ لأنه يقال: قتل شهرا وقاتل سنة، والآخر يصلح للانتهاء؛ لأن نفس الكفر غير مبيح للقتل إذا لم يكن من أهل صلاحية القتال؛ لأن قتل رهابين الكفار وشيوخهم ونسائهم غير مشروع، بل المبيح للقتل كفر المحارب أو صلاحيته، والجزية خلف عن الإسلام وقبول ما هو خلف عن الإسلام يصلح دليل لانتهاء القتال، فلذلك كانت كلمة (حتى) هنا للغاية.
(} وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ {) أي كيلا تكون فتنة؛ لأن آخر الكلام لا يصلح لانتهاء صدر الكلام؛ لأن القتال واجب مع عدم الفتنة، فإن القتال واجب وإن لم يبدأ الكفار لقوله تعالى:} قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ {
الكُفَّار} وقوله تعالى:} ولْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً {. ولكن صدر الكلام يصلح سببا لانتفاء الفتنة فلذلك حمل على لام كي. هذا على تقدير تفسير الفتنة بالخراب والقتال.
وأما على تقدير تفسيرها بالشرك والكفر كان غاية للقتال؛ لأن القتال ينتهي بانعدام الشرك، وتفسيرها بالشرك أولى بدلالة ما بعدها، وهو قوله تعالى:} ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ {
وقوله: (على ما هو موضوع الغايات أنها أعلام الانتهاء من غير أثر) معناه أن الغاية علامة على انتهاء صدر الكلام من غير أن يكون للغاية أثر في انتهاء صدر الكلام، على ما عرف أن علامة الشيء أن تعرف ذلك الشيء ولا توجبه، ولا يضاف ذلك الشيء إليه لا وجودا ولا وجوباً كالإحصان
مع الرجم، فإن الإحصان علامة على وجوب الرجم إذا وجد الزنا من المحصن من غير أن يكون الرجم مضافا إليه لا وجوبا ولا وجودا.
ثم معنى قوله:} وزُلْزِلُوا {حركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع،} حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ {أي إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها} مَتَى نَصْرُ اللَّهِ {أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم؛ لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها، وقرئ} حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ {بالرفع على أنه في معنى الحال
كقوله: شريت الإبل حتى يجئ البعير يجر بطنه. إلا أنه حال ماض محكية، فلا يكون فعلهم سببا لمقالة الرسول.
فإن قيل: فليس لهم الفعل في زلزلوا، بل وقع الزلزال عليهم، فكيف جعل ذلك فعلهم؟
قلنا: فإنهم لما زلزلوا كان التزلزل موجودا منهم؛ لأنهم إذا حركوا كان التحرك موجودا منهم خصوصا على اصطلاح أهل النحو، فإنهم هم الفاعلون بسبب أنهم أسند إليهم الزلزال على بناء المفعول.
(والكف عنه محتملة في حكم الحنث لا محالة) يعني أن الضرب لما كان ممتدا بطريق التكرار فالكف عنه الذي حكم الحنث يحتمل الامتداد بالطريق الأولى؛ لأن الكف عن الضرب امتناع، والامتناع عن الشيء أكثر امتدادا من ذلك الشيء، وإنما قال:"والكف منه محتمله لا محالة" لأن صدر الكلام إن لم أضرب فلا بد من كونه ممتدا.
أو نقول: "والكف عنه أي عن الضرب محتمله" أي الكف عن الضرب محتمل الضرب أي الامتناع عنه محتمل؛ لأنه يشترط أن يكون فعل الحنق مقدورا حتى يتحقق الحنث.
ألا ترى أن من قال: إن لم أقتل فلانا فعبده حر، وفلان ميت وهو لا يعلم بموته لم يحنث؛ لأن شرط الحنث عدم القتل وهو غير ممكن.
(وهذه الأمور دلالات الإقلاع عن الضرب) أي الامتناع عنه؛ لأن الصياح يصلح دليلا على انتهاء الضرب، وكذلك إخواته، وصدر الكلام يحتمل الامتداد؛ لأن الضرب بطريق التكرار يحتمل الامتداد يعني بتجدد أمثاله يمتد كالجلوس وغيره، فيكون الضرب إلى هذه الأمور ممتدا في حكم البر. يعني إذا ضربه إلى هذه الغاية بر في يمينه، فإذا أمسك عن الضرب قبل وجود هذه الأمور حنث لفوات البر فوجب العمل بحقيقتها إذا لم يغلب على الحقيقة عرف هو راجح حينئذ، وفيما نحن فيه لم يغلب فوجب العمل بالحقيقة حتى لو غلب على الحقيقة عرف هو راجح تترك الحقيقة وتحمل على العرف في قولهم: إن لم أضربك حتى أقتلك أو حتى تموت، فإنه يحمل على الضرب الشديد حتى إذا ضربه ضربا شديدا ثم أمسك عن الضرب قبل أن يقتله أو يموت فقد بر، ولو قال: إن لم أضربك حتى يغشى عليك فأميك عن الضرب قبل أن يصير مغشيا عليه حنث؛ لأنه لم يغلب على الحقيقة عرف راجح، فإن الضرب إلى أن يغشى عليه كالضرب إلى أن يشفع فلان وغير ذلك.
(لأن هذا الفعل إحسان) أي فعل التغدي إحسان من المتعدي لصاحب الطعام.
فإن قلت: كيف يكون أكل طعام الغير إحسانا لذلك الغير بل هو إحسان لنفسه وهو الأكل؟
قلت: نعم هو أحسان لنفسه وهو ظاهر لكن مع ذلك هو إحسان لصاحب الطعام أيضا.
ألا ترى إلى قصة ضيف إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:} هل أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ (24) إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا {إلى قوله:} فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَاكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً {فلما خاف إبراهيم عليه السلام بسبب تركهم الأكل علم أن أكل طعامه إحسان له منهم؛ لأنهم يزيلون به خوفه، فإزالة الخوف من الغير إحسان له.
(ولا يصلح إتيانه سببا لفعله)؛ لأنه موقوف على اختيار مختار وفعل بإرادة، والحكم ما يحصل عقيب السبب كالملك عقيب الشراء والحل عقيب النكاح، وفي هذا موقوف على اختيار مختار، فلذلك لم يصلح إتيانه سببا لفعله بخلاف ما إذا كان بين اثنين بأن قال: إن لم آتك حتى تغذيني حيث صار الأول سببا للثاني، والثاني حكما للأول، وإن توقف على فعل مختار؛
لأن الثاني يجعل كأنه فعل من غير اختيار فرارا من اللوم وشين التغيب، فإنه في العرف يعد لوما ويعير على ذلك بأن يأتيه إنسان وهو لا يقدم إليه الطعام، ولا كذلك في مسألتنا فإنه لا يعد من اللوم فافترقا من هذا الوجه.
(ولا فعله جزاء لإتيان نفسه)؛ لأنه لا يصلح مكافيا لنفسه؛ لأن المكافئ غير المكافي، ولهذا لأن الجزاء الخير بطريق المكافأة إنما يفعل لكي يكون ذلك داعيا ومحرضا إلى ذلك الفعل الذي صار ذلك الفعل سببا لوجود مثل هذا الجزاء الحسن الذي يحصل من الغير بطريق الشكر لفعله والمكافأة، وذلك إنما يصح له من الغير لا من نفسه لنفسه؛ لأن ذلك مطلق العنان كامل الاختيار فيتمكن من الإقدام على إحراز المحاسن التي يتيسر من غير أن يجازي الجزاء الحسن نفسه لنفسه.
فلذلك حمل على العطف المحض لا على المجازاة، ثم بحمل الجزاء المذكور في الكتاب على الجزاء الحسن الذي يحصل من الغير بطريق الشكر يخرج الجواب عن شبهة يقولونها بأن فعل الإنسان يصلح جزاء لفعل نفسه.
ألا ترى أن أداء المثل فعل نفسه في كفارة الحج في قتل الصيد الذي هو فعل نفسه أيضا، وكذلك سجدة السهو في صلاته، وكذلك ضمان إتلاف مال الغير كل ذلك فعل منه صلح جزاء لفعل نفسه.
قلنا: قد أوجب الله تعالى تلك الأفعال عليه إما زجر عليه كما في كفارة الصيد أو لجبر النقصان كما في سجدة السهو، وضمان الإتلاف فلا يرد علينا نقضا لما أن الجزاء المذكور هو الذي يجازي به بطريق الشكر، وذلك لا يتصور من نفسه لنفسه.
وقوله: (فصار كنه قال إن لم لآتك فأتغد عندك) متصل بقوله: ولو قال: "عبدي حر إن لم آتك حتى أتغدى عندك" لأن قوله: "حتى أتغدى" لا يصلح أن يكون تفسيرا لقوله: " إن لم آتك حتى أغذيك" وقوله: حتى إذا آتاه فلم يتغد ثم تغدى من غير تراخ).
فإن قيل: في هذا اللفظ تناقض؛ لأنه لما لم يتغذ حين آتاه ثم تغذى بعده لا بد أن يقع تغذيه متراخيا عن الإتيان فكيف قال بعد ذلك: ثم تغذى من بعد غير متراخ؟
قلنا: المراد من قوله: "لم يتغذ" أي لم يتغذ مقارنا بالإتيان، ولكن تغذى بعد الوصول إليه من غير تراخ، أو معناه من غير تراخ أي من غير تبدل المجلس، فإن الفعل إذ أوتي به من غير تبدل المجلس لا يسمى متراخيا.
(وهذه الاستعارة) أي الاستعارة للعطف المحض (اقترحها أصحابنا)
أي قالها، وفي المصادر الاقتراح: جيزي رادر وقت كفتن.
(وهذا على مثال استعارات أصحابنا في غير هذا الباب) كما في استعارة البيع والهبة للنكاح، واستعارة العتاق للطلاق، ثم حاصل هذا المجموع هو ما ذكر في خزيادات صاحب الهداية بقوله:"إنه إذا كان للغاية لا يبر في يمينه إذا أقلع عن الفعل قبل وجود الغاية، وفي المجازاة لا يتوقف البر على وجود الفعل الثاني، وفي العطف يتوقف البر على وجودهما، وفي قوله: "إن لم آتك حتى أتغذى" صر كأنه قال: إن لم آتك فأتغذى فما لم يوجد الفعلان لا يبر في يمينه، ولو أتاه في اليوم وتغذى عنده بر في يمينه إلا إذا غني به الفور؛ لأن شرط البر وجود الفعلين بوصف التعقيب، والتعقيب قد يكون بوصف الاتصال، وقد يكون بوصف التراخي، فإذا وجد الفعلان فقد وجد شرط البر، والله أعلم.