المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب حروف الجر - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٢

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌باب حروف الجر

‌باب حروف الجر

(ولهذا صحبت الباء الأثمان) إيضاح لقوله: "إن الباء للإلصاق".

ووجه الاستدلال به على أن الباء للإلصاق هو أن المبيع صل في البياعات والثمن تبع، وهو معروف بدليل صحة البيع عند عدم ملك الثمن وعدم صحته عند عدم ملك المبيع، وكذلك في الإقالة لا تحتاج صحتها إلى بقاء الثمن وتحتاج إلى بقاء المبيع، ولما كان كذلك لم يكن بد من استعمال الباء في إبدال المعاوضات ليستدل بها على أن هذا البدل بمقابلة ذلك البدل وهو معنى الإلصاق؛ لأنه يلصق هذا بذاك، وفي إلصاق الشيء بالشيء يعلم أن ما دخل فيه الباء تبع كالآلة، وما لم يدخل فيه أصل، كما يقال: كتبت بالقلم، وضربت بالسوط، وتكلمت باللسان، والآلة ليست بمقصودة فتعين دخول الباء في الثمن ليكون داخلا في الآلة في البيع كما في النظائر ليكون المبيع

ص: 967

ملصقاً بالثمن (فيمن قال: إن اشتريت منك هذا العبد بكر من حنطة)، ووصفها أن الكر ثمن) وإنما عين هذه الصورة؛ لأن ما ادعاه من دخول الباء في الأثمان لا يتأتى إلا في هذه الصورة. بيان ذلك مذكور في "النهاية" هو أن الأموال ثلاثة:

ثمن محض كالدراهم والدنانير، فإنها خلقت للثمنية سواء صحبها حرف الباء أو لا.

ومبيع محض وهو الأعيان التي ليست من ذوات الأمثال كالحيوانات، ومتردد بين كونه مبيعا وثمنا فهو المكيلات والموزونات، فإنها مبيعة باعتبار أنها منتفع بأعيانه ثمن باعتبار أنها مثلية كالدراهم والدنانير، فإن قابلها الدراهم والدنانير فهي مبيعة.

وأما إذا كان في مقابلتها عين فإن كانت المكيلاات والموزونات معينة فهي مبيعة وثمن سواء دخل فيها الباء أم لا؛ لأن البيع لا بد له من مبيع وثمن، وليس أحدهما بأن يجعل مبيعا بأولى من الآخر، فجعلنا كل واحد منهما مبيعا من وجه ثمناً من وجه.

ص: 968

وأما إذا كانت غير معينة فإن استعملت استعمال الثمن فهي ثمن بأن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة ويصف ذلك، وإن استعملت استعمال المبيع كانت مبيعة بأن قال: اشتريت منك كذا حنطة بهذا العبد فلا يصح العقد إلا بطريق السلم. كذا في "الذخيره" وغيرها.

" إن الكر ثمن يصح الاستبدال به" وإنما ذكر هذا لأن جواز الاستبدال من خاصية الأثمان (بخلاف ما إذا أضاف العقد إلى الكر فقال: اشتريت منك كر حنطة بهذا العبد فإنه يكون سلما)؛ لأنه لما أضاف إليه العقد جعله مبيعا لأن المبيع ما يضاف إليه البيع، والمبيع لا يثبت في الذمة إلا سلما، فلذلك جعل ها هن هذا سلما.

(فصار الكر شرطا) أي تبعا؛ لأن ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر؛ لأن ما صحبه الباء صار جارا ومجرورا وهو شاغل ومشغول، فلا يصلح أن يكون مشغول الغير.

ص: 969

ولا يقال يقولون: فلان شكر لفلان، وقوله: لفلان شاغل ومشغول ومع ذلك يصلح مفعولا؛ لأنا نقول: إن حرف الجار ها هنا صلة؛ لأنه يستعمل باللام وغير اللام، وشغله لم يكن أصليا بخلاف الباء، فإنه للإلصاق، وفي جعله مفعولا إبطال الإلصاق فلا يجوز، فأمكن أن يجعل شيئا آخر مفعولا وهو خبر في قوله:

(إن أخبرتني) خبرا ملصقا بقدومه، والتحقيق فيه أن يقال: إن الباء لما كانت للإلصاق اقتضى الاسم الذي دخل فيه الباء اسما آخر يلصق هو به

(ومفعول الخبر) أي ومفعول الثاني للإخبار إنما يجئ بغير حرف الجر كما في قوله: إن أخبرتني خبرا أو إن أخبرتني أن فلانا قد قدم، فلم يصلح لذلك أن يكون الاسم الذي دخل فيه الباء مفعول الخبر؛ لاقتضاء حرف الإلصاق إلصاق الاسم بالاسم الذي هو المفعول الثاني للإخبار في قولك: أن أخبرتني خبرا ملصقا بالقدوم، ومعنى حرف الإلصاق قولهم: مررت بزيد أي التصق مروري بموضع يقرب من زيد.

ص: 970

ولما كان كذلك (والقدوم اسم لفعل موجود) لم يقع لذلك يمينه على الكذب.

فإن قيل: يشكل هذا قول من قال لامرأته: إن كنت تحبيني بقلبك فأنت طالق، فقالت: أحب. طلقت وإن كانت كاذبة فيما أخبرت على قولهما خلافا لمحمد.

قلنا: إنما وقع ذلك على الإخبار فحسب؛ لأن الإطلاع على ما في القلب غير ممكن على العباد، فجعل اللسان خلفا عن القلب، فطلقت لوجود ما هو خلف عن القلب لا باعتبار أنه صادق أو كاذب، والأصل أن الشيء إذا قام مقام شيء آخر لتعذر الوقوف على ذلك الشيء الآخر، فالملتفت إليه هو الظاهر القائم مقام غيره لا معرفة حقيقة ذلك الغير، بخلاف القدوم فإنه أمر محسوس معاين ولم يتعذر الوقوف عليه، فلذلك اشترط الخبر الملصق بالقدوم الموجود وذلك بالصدق، ومفعول الخبر كلام لا فعل فصار كأنه قال: إن تكلمت بقدوم فلان، فصار المفعول التكلم بقدومه وقد وجد.

(وذلك دليل الوجود) أي الإخبار دليل الوجود (لا موجب له)؛ لأن الخبر دليل والمدلول غير ثابت به

ص: 971

وفي "التقويم" الخبر هو الكلام الدال على أمر كان أو سيكون غير مضاف كينونته إلى الخبر وهذا لأن قولهم: ضرب فلان فلانا يدل على وجود الضرب من فلان في الزمان الماضي، ويستحيل أن يثبت الضرب بقولهم: ضرب، فكذلك قوله:"قدم فلان" دليل على قدومه لا أن هذا القول يثبت قدومه بل الإخبار دليل على وجود الصانع، والعالم مثبت الله تعالى ومنشأه، فيستحيل أن يكون العالم مثبتا، فكن شرط الحنث قوله:"قدم فلان" وقد وجد ذلك فيحنث وجد القدوم أو لم يوجد.

وقوله: () ولهذا قالوا في قول الرجل: أنت طالق بمشيئة الله إنه بمعنى الشرط)، حتى لا يقع الطلاق كما لا يقع بقوله: أنت طالق إن شاء الله، إيضاح لقوله:"أما الباء فللإلصاق" لما أن بين الإلصاق والشرط مناسبة، فكان كون الباء بمعنى الشرط في قوله:"بمشيئة الله" إنما كان بسبب أن الباء للإلصاق، فوجه المناسبة بينهما أن بالإلصاق يتصل الملصق بالملصق به، ولا وجود للملصق بدون الملصق به، فكذلك المشروط يتصل بالشرط أيضا، ولا وجود للمشروط بدون الشرط فتناسبا فاستعير الإلصاق للشرط، (وكذلك أخواتهما) وهي الرضا والمحبة.

ص: 972

(حتى أوجب مسح بعض الرأس) وذلك أدنى ما يتناوله اسم الرأس ولو ثلاث شعرات، هكذا نص في "المبسوط".

ص: 973

(فيصير تقديره: وامسحوا رؤوسكم)، فيلزمه استيعاب جميع الرأس.

(وقد بينا أن التكرار والاشتراك لا يثبت في الكلام أصلا) أي لا يثبت بطريق الأصالة، و (لا يصار إلى إلغاء الحقيقة)، وهي أن الباء للإلصاق، فيلزم من قول الشافعي إلغاء حقيقة الإلصاق، ويلزم من قول مالك حمل الكلام على التوكيد من غير ضرورة، وإذا حمل على التوكيد تلغى حقيقة الإلصاق أيضا، فكان العمل بالحقيقة هو ما قاله أصحابنا- رحمهم الله: إن الباء للإلصاق، ولكن التبعيض والاستيعاب إنما ينشأ من شيء آخر وهو ما

ص: 974

قرره في الكتاب.

وقوله: (وأما الاستيعاب في التيمم) إلى آخره جواب لما ورد شبهة على الدعوى الأولى وهي أن الباء للإلصاق، لكن إذا دخل في محل المسح لم يقتض استيعابه.

والجواب: أما على رواية الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- فلا يشكل؛ لأنه لا يشترط الاستيعاب لهذا المعنى، وأما على ظاهر الرواية فهو ما ذكره في الكتاب.

(وعلى هذا قول الرجل) أي وعلى أن الباء للإلصاق؛

ص: 975

(لأن الاستثناء يناسب الغاية)؛ لأن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها، فكذا في الاستثناء يخالف ما بعده لما قبله، ولأن الغاية تكون متصلة بالمغيا، فكذلك الاستثناء يكون متصلا بالمستثنى منه.

[على]

(فإن دخلت في المعاوضات المحضة كانت بمعنى الباء)؛ لأن تقريره على ما وضع له فيها متعذر؛ لأن فيها معنى الشرط، والمعاوضات المحضة لا تليق بالشرط لما فيه من الإيجاب بالخطر وهو قمار وذلك لا يجوز، فلذلك استعيرت للباء؛ لأنها مخصوصة لمصاحبة الأعواض وإلصاق بعضها ببعض فاستعير له، (لأن اللزوم يناسب الإلصاق) بل هو أثر الإلصاق، فكان بمنزلة المطاوع للمتعدي؛ لأن اللزوم في اللغة هو اللصوق، واللصوق مطاوع

ص: 976

الإلصاق، والملصق يلزم الملصق به، فكان بينهما تناسب.

(وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة- رضي الله عنه حتى) إن الزوج إذا طلقها واحدة عقيب قولها: طلقني ثلاثا على ألف درهم لم يجب شيء، ولكن يقع الطلاق الرجعي؛ لأن كلمة (على) للزوم على ما قلنا، والألف لازم على المرأة بقضية كلمة على.

(وليس بين الواقع وهو الطلاق وبين ما لزمها من المال مقابلة)؛ لأن المقابلة من الإضافيات، فيثبت المقابل مع ما يقابله معا معا، وفي المعاوضات يثبت العقد 977، ومع المعوض معا معا تحقيقا للمقابلة، ومن ضرورته يلزم توزع أجزاء العوض على أجزاء المعوض، وما نحن فيه ليس بمعاوضة محضة، فلا يتحقق فيه ما يتحقق في المعاوضة المحضة.

(بل بينهما معاقبة) أي يثبت أحدهما وهو المشروط عقيب الآخر وهو الشرط، فإن جعل ثلاث تطليقات شرطا لوجوب الألف يتقدم على وجوب

ص: 977

الألف؛ لأن وجوب الألف مشروط، وإن جعل الألف شرطا وهو الظاهر لدخول كلمة "علي" عليها فوجوب المال يتقدم وقوع الطلاق، وهذ معنى الشرط والجزاء وهو بمنزلة حقيقة كلمة "على" للزوم، وبين الشرط والمشروط ملازمة، وقد أمكن العمل بحقيقة هذه الكلمة فيما نحن فيه فيعمل بها.

ومعنى الحقيقة بينهما باعتبار المعاقبة؛ لأن حقيقة هذه الكلمة التعلي وفيه التعاقب؛ لأن الصاعد على الشيء فوق ذلك الشيء، وكذلك بين الشرط والمشروط معاقبة، أو معنى الحقيقة بينهما باعتبار الملازمة وفيهما ذلك، فكان العمل بمعنى الشرط عملا بحقيقة كلمة "على" بهذا الطريق؛ لأن الطلاق وإن دخله العوض يصلح تعليقه بالشروط، حتى إن الزوج إذا قال: أنت طالق على ألف أنه يمين لا يملك الرجوع عنه قبل قبول المرأة، ولما كان كذلك لم يتوزع أجزاء المشروط على أجزاء الشرط بل المشروط يثبت عقيب جملة الشرط.

والفقه فيه أنه لو توزع أجزار المشروط على أجزاء الشرط يتقدم المشروط على الشرط وهو محال.

(وفي المعاوضات المحضة لا يستقيم معنى الشرط) لما فيه من تعليق المال

ص: 978

بالخطر وهو لا يجوز بخلاف تعليق المال بالطلاق؛ لأن المال وقع في ضمن ما يصح فيه التعليق، وما ثبت الشيء في ضمن شيء لا يعطى له حكم نفسه بل يعطى له حكم المتضمن، ثم في مسألتنا جاز أن يقال: تعلق ثلاث تطليقات بألف، تطليقة بثلث الألف، وجاز أن يقال: تعلق الألف بثلاث تطليقات؛ لأن معنى هذا الكلام: إن طلقتني ثلاث تطليقات فعلي ألف درهم.

وقول المصنف في الكتاب: "فصار هذا منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلاث يقرر الأخير، إلا أنه بقي إشكال وهو أن كلمة "على" دخلت على الألف فكان هو شرط، ووقوع الثلاث مشروطا غير أن الكلام لما كان شيئا واحدا كان دخول كلمة "على" على الألف دخولا في ذاك.

والدليل على صحة هذا التقرير الذي ذكرت صريح ما ذكره المصنف- رحمه الله في "شرح الجامع الكبير" في هذه المسألة بقوله: ولأبي حنيفة- رحمه الله أن كلمة "على" بمعنى الشرط؛ لأن أصلها اللزوم، واستعير للشرط؛ لأنه يلازم الجزاء فصارت طالبة للثلاث بألف كلمة هي للشرط، فصار كل واحد منهما- أي المال والطلاق- شرطا لصاحبه فصار بحكم الاتحاد دخولها على المال مثل دخولها على الطلاق، وهذا بعينه لفظه- رحمه الله.

وما ذكره في "المبسوط" يدل على هذا أيضا فقال: والطلاق مما يحتمل التعليق بالشرط وهذا يدل على أن وجوب المال على المرأة شرط، والطلاق

ص: 979

مشروط - ثم قال بعده: وإنما شرطت لوجوب المال عليها إيقاع الثلاث، وهذا يدل على أن الإيقاع الثلاث شرط ووجوب المال مشروط.

فإن قلت: ما جواب أبي حنيفة- رحمه الله عن قولهما بأن الألف يتوزع على التطليقات الثلاث في كلمة"على" أيضا كما يتوزع إذا ذكرت بالباء.

ألا ترى أنها لو قالت: طلقني وفلانة على ألف درهم فطلقها وحدها كان عليها حصتها من المال بمنزلة ما لو التمست بحرف الباء، فكذلك ها هنا يجب أن يكون كذلك؟

قلت: إن جوابه أن للمرأة في طلب ثلاث تطليقات بمقابلة العوض غرضا صحيحا، وهو حصول البينونة الغليظة حتى لا تصير في وثاق

ص: 980

نكاحه، وإن أكرهها على ذلك فاعتبرنا معنى الشرط في ذلك لتحصيل مقصودها.

وأما في قولها: طلقني وفلانة على كذا فليس لها غرض صحيح؛ لأنه لا غرض لها في طلاق فلانه ليجعل ذلك كالشرط منها. بخلاف ما نحن فيه فإن لها فيها غرضا صحيحا على ما ذكرنا. كذا في "المبسوط"، فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة.

وقد ذكر في " المبسوط" وأبو حنيفة رحمه الله يقول: حرف "على" للشرط حقيقة؛ لأنه حرف الالتزام ولا مقابلة بين الواقع وبين ما التزم، بل بينهما معاقبة كما يكون بين الشرط والجزاء، فكان معنى الشرط فيه حقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز.

قال الله تعالى:} حَقِيقٌ عَلَى أَن لَاّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَاّ الحَقَّ {وما قبله:} وقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لَاّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَاّ الحَقَّ {؛ أي بشرط أن لا أقول على الله إلا الحق.

ص: 981

[من]

(وأما (من) فللتبعيض هو أصلها) قال في "الجامع" لو قال: إن كان في يدي من الدراهم إلا ثلاثة فجميع ما في يدي صدقة، فإذ في يده أربعة فهو حانث؛ لأن الدرهم الرابع بعض الدراهم، وكلمة (من) للتبعيض، ولو قالت المرأة لزوجها: اخلعني على ما في يدي الدراهم فإذ في يدها درهم أو درهمان تلزمه ثلاثة دراهم؛ لأن (من) هنا صلة لتصحيح الكلام، فإن الكلام لا يصح إلا بها حتى إذ قالت: اخلعني على ما في يدي دراهم كان الكلام مختلا، وفي الأول لو قال: إن كان في يدي دراهم كان الكلام صحيحاً.

ص: 982

وكلمة (من) للتبعيض في أصل الوضع فحمل عليه، وقد تكون لابتداء الغاية وللتمييز كما في باب من مديد، وبمعنى الباء قال الله تعالى:} يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ {وقد تكون للصلة كما في قوله تعالى:} يَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ}، إلا أن أصلها للتبعيض، وجعل في كتب النحو كونها لابتداء الغاية أصلها وسائر المعاني راجعا إليه كما عرف في "المفصل"

] إلى [

(وأما (إلى) فلانتهاء الغاية)، وإنما قال هكذا ولم يقل للغاية؛ لأن الغاية نوعان، كما يقال في "من" إنها لابتداء الغاية و (إلى) لانتهاء الغاية.

ص: 983

أي الغاية التي بها ينتهي صدر الكلام، (ولذلك استعملت في آجال الديون) لأن الدين إذا كان مؤجلا يصير حالا عند الأجل، فينتهي التأجيل به.

(وإن لم يكن له نية يقع للحال عند زفر).

وأما عندنا فلا يقع إلا بعد مضي شهر، فعند زفر لما وقع في الحال كان ذكر التأجيل بقوله:"إلى شهر" لغوا لما أن الواقع من الطلاق لا يحتمل التأجيل، وقلنا نحن: إن الواقع لا يحتمل الأجل، ولكن الإيقاع يحتمل ذلك؛ لأن علمه في التأخير، والإيقاع يحتمل التأخير، وكلام العاقل مهما أمكن تصحيحه لا يجوز إلغاؤه، وها هنا ممكن بإدخال حرف (إلى) على أصل الإيقاع لا على الحكم فقلنا به. كذا في "المبسوط".

(والتأجيل لا يمنع الوقوع) كما في الدين، فإن الدين واقع ثم يتأجل، والطلاق إذا وقع لا يمكن تأجيله، فلذلك يقع في الحال.

(وقلنا: إن التأجيل لتأخير ما يدخل عليه، وها هنا دخل على أصل الطلاق)، وأصله يحتمل التأخير بالتعليق بمضي شهر أو بالإضافة إلى ما بعد

ص: 984

الشهر فكان مؤخرا أصله لذلك.

وأما أصل الثمن لا يحتمل التأخير بالتعليق والإضافة؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال، ولو تأخر وجوب الثمن لم تتحقق مبادلة المال بالمال، فلا يتحقق البيع، فإذا تعذر تأخير وجوب أصل الثمن حملنا الكلام هناك على تأخير المطالبة.

وأما ها هنا فيحتمل التأخير بهذين الوجهين، فلذلك قلنا: لا يقع في الحال عملا بكلمة (إلى) احترازا عن إلغاء ذكر الغاية فيقع الطلاق بعد مضي الشهر.

(والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم)، وهذا احتراز عن قوله تعالى:} إلَى المَرَافِقِ {، فإن معنى القيان بنفسه أنه في وجوده لا يفتقر إلى غيره. أي إلى محل آخر مثل ما قلنا في المرافق؛ لأن صدر الكلام تناولها، فلا يكون ذكر الغاية لمد الحكم إليه، فيكون لإسقاط ما وراءها، ونظير هذا أيضا قوله: والله لا أكلم فلانا شهرا. صدر الكلام يتناول الشهر فما فوقه، فيكون ذكر الشهر لإخراج ما وراءه عن صدر الكلام لا لمد

ص: 985

الحكم إليه بخلاف الصوم، فإن مطلقه يتناول ساعة، فكان ذكر الغاية لمد الحكم إليها فلا يدخل في الحكم.

(ولهذا قال أبو حنيفة- رحمه الله هذا لإيضاح قوله: إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة، فكانت الغاية لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم فكذلك ها هنا.

فبيان هذه المسألة مذكور في باب الخيار في البيع من بيوع "المبسوط" فقال: إذا اشترى الرجل شيئا على أنه بالخيار إلى الغد أو إلى الليل أو إلى الظهر، فله الغد كله والليل كله ووقت الظهر كله في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه، وقال ألو يوسف ومحمد- رحمهما الله: الخيار إلى طلوع الفجر وإلى أن تغيب الشمس، ولا تدخل الغاية في الخيار عندهما؛ لأن الغاية حد والحد لا يدخل في المحدود. كما لو قال: بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل الحائطان في البيع، وكذلك لو حلف لا يكلم فلانا إلى رمضان لا يدخل الحد، ولأبي حنيفة- رحمه الله في المسألة حرفان:

أحدهما- إن البدل الذي في جانب من له الخيار باق على ملكه سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، والملك الثابت له بيقين لا يزال بالشك.

والثاني- إن الغاية في كل موضع تكون لمد الحكم إلى موضع الغاية لا يدخل الغاية كما في الصوم لما عرف، وفي كل موضع ذكر الغاية لإخراج ما

ص: 986

وراءها فيبقى موضع الغاية داخلا، وها هنا لو شرط الخيار مطلقا ثبت الخيار مؤبدا ولهذا فسد العقد، فكان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها، فيبقى موضع الغاية داخلا، ولكن يشكل على هذه الطريقة فصل اليمين.

وروى الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- أن الغاية تدخل في اليمين، فنأخذ في اليمين على هذه الطريق بتلك الرواية.

وقوله: (وكذلك في الآجال في الأيمان) وهي جمع يمين بمعنى الحلف. لا الأثمان في البياعات على ما وقع في بعض النسخ؛ بدليل ما ذكرنا من رواية الحسن في اليمين من رواية "المبسوط".

وكذلك ذكر شمس الأئمة- رحمه الله في "أصول الفقه" في هذا الموضع وقال: وفي اليمين إذا حلف لا يكلم فلانا إلى وقت كذا تدخل الغاية في رواية الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- لأن مطلقه يقتضي التأبيد، فذكر الغاية لإخراج ما وراءها، ولا تدخل في ظاهر الرواية؛ لأن في حرمة الكلام ووجوب الكفارة بالكلام في موضع الغاية شكا، ولأن ما ذكره من إيضاح الأصل الذي ذكره بقوله:"إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة، فتكون الغاية لإخراج ما وراءها، فيبقى داخلا بمطلق الاسم" إنما يصح في اليمين لا في الثمن.

ص: 987

وقال في (قوله: لفلان علي من درهم) إلى آخره. أي وقال أبو حنيفة- رحمه الله لم يدخل؛ (لأن مطلق الاسم لا يتناوله) أي لأن مطلق اسم الدرهم لا يتناول العاشر فلا يدخل العاشر، وفي مثل هذا لا يدخل الحد في المحدود. كما في مسألة بيع الأرض من هذا الحائط إلى هذا الحائط، ولأن الأصل هو ما قاله زفر: إن الحد لا يدخل في المحدود، وما لا يقوم بنفسه حد ذكرا وإن لم يكن واجبا إلا أن الغاية الأولى لا بد من إدخالها؛ لأن الدرهم الثاني والثالث واجب، ولا يتحقق الثاني بدون الأول، فلأجل هذه الضرورة أدخلنا الغاية الأولى، ولا ضرورة في إدخال الغاية الثانية، فأخذنا فيها بالقياس.

(وقالا: يدخل) أي يدخل العاشر؛ لأنه ليس بقائم بنفسه، وهذا لأنا ذكرنا أن معنى القائم بنفسه هو أن لا يكون مفتقرا في وجوده إلى غيره، والعاشر مفتقر في وجوده إلى غيره وهو التسعة، فكان غير قائم بنفسه، فيدخل كما في قوله تعالى:} إلَى المَرَافِقِ {، وهذا لأن العاشر في الإقرار والثالث في الطلاق لما كانا غايتين لم يكن بد من وجودهما ليصلح غاية، ووجود العاشر بوجوبه ووجود الثالث من الطلاق بوقوعه، فلذلك دخلا.

ص: 988

(وكذلك هذا في الطلاق) يعني لو قال الرجل لامرأته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لا تخل الغاية الثانية؛ لان مطلق الكلام وهو مطلق الطلاق لا يتناوله وفي ثبوته شك، ولكن الغاية الأولى تدخل للضرورة، وعندهما تدخل الغايتان؛ لان هذه الغاية لا تقوم بنفسها فلا تكون غاية ما لم تكن ثابتة.

وقوله: (وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة). إنما ال هذا لدفع شبهة، وهي أن يقال: إذا لم يكن صدر الكلام متناولا للجملة ينبغي أن لا تدخل الغاية الأولى أيضا كما لو قال: بعت من هذا الحائط إلى هذا الحائط فقال في جوابها: إنما دخلت الغاية الأولى للضرورة؛ لأن الطلقة الثانية داخلة في الكلام بالاتفاق، وهي لا تكون ثابتة قبل ثبوت الأولى.

] في]

(وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- هما سواء) أي حكم في غد

ص: 989

كحكم غدا، لأن الظرف هو غد في الحقيقة فلا يختلف حكمه بحذف حرفه وإثباته.

كقولهم: دخلت الدار وفي الدار.

ولأبي حنيفة- رحمه الله (إن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة) فيكون جميع الغد مفعولا، وإذا قال: في غد جعل المفعول جزءا من الغد، كذا ذكر في "بديع الإعراب" وجزء من الغد مبهم، فإليه تعينه؛ لأن الإبهام جاء منه.

(فيصدقه القاضي) إلا أنه إذا لم يكن له نية يقع في الجزء الأول من الغد لعدم المزاحمة بخلاف قوله: غدا. حيث لا يصدق فيه في نية آخر النهار.

وقيل: المعنى فيه هو أن قوله: "غدا" يصير ظرفا بطريق الضرورة؛ لأن الظرفية ثبتت فيه لا بلفظ الظرف الذي يدل عليها، والثابت بالضرورة يثبت

ص: 990

بقدر الضرورة، فلا يكون عاما حتى تصح نية آخر النهار.

وأما في قوله: "في غد" تثبت الظرفية بلفظ ظرف يدل عليها، والثابت باللفظ يحتمل النية؛ لأن النية لتعيين ما احتمله اللفظ فصحت نيته، ولكن لما كان لفظ "في" حقيقة في الظرفية، وحقيقة الظرف لا تستوعب المظروف كان محل المظروف وهو الطلاق في الظرف، وهو في غد بمنزلة المجمل في جزء من الغد غير معين، فلذلك صدقه القاضي في نيته آخر النهار.

(وإن صمت الدهر فعلى كذا أنه يقع على الأبد) إلى آخره، يعني أنه لو قال: إن صمت الدهر فعبدي حر، فإنه يقع على صوم الأبد، ولو قال: إن صمت في الدهر فعبدي حر؛ إنه يقع على صوم ساعة. كذا ذكره المصنف في "شرح الجامع الصغير".

(أنت طالق في مكان كذا) كقوله: في مكة يقع الطلاق في الحال؛ لأن الطلاق فعل ولا اتصال للفعل بالمكان؛ لأن الطلاق إذا كان واقعا في مكان

ص: 991

يكون واقعاً في الأماكن كلها.

فعلم بهذا أن المكان لا يصلح ظرفا للطلاق، فإن الظرف الحقيقي إنما يكون أن لو وجد المظروف في ظرف لا يوجد في ظرف آخر حال وجوده في الظرف الأول كالحنطة في الجوالق لا يكون تلك الحنطة في جوالق أخر حال كونها موجودة في الجوالق الأول، وليس ها هنا كذلك، ولما لغى معنى الظرفية ها هنا بقي قوله" أنت طالق" مطلقا فوقع في الحاال، وهذا لأن المكان الذي أضيف إليه الطلاق موجود في الحال، فكان هذا بمنزلة تعليق الطلاق بأمر كائن، فيكون تنجيزا بخلاف ما إذا أضيف إلى زمان، فإن الفعل يتصل بالزمان؛ لأنه إذا جعل وقته غدا لا يكون واقعا قبل ذلك، فإن الزمان إذا كان معدوما كان الطلاق المضاف إليه معدوما لا محالة.

وإذا قال: أنت طالق في دخولك الدار يتعلق بدخول الدار كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار؛ لأن الدخول لا يصلح ظرفا لكونه فعلا، والفعل لا يصلح ظرفا لشيء، وبين الظرف والمظروف مقارنة، كما أن بين الشرط والمشروط مقارنة من حيث إنه لا يتحلل بينهما زمان؛ بل متصل بالمشروط، وإن كان يعقبه فيستعر للشرط تصحيحاً لكلامه.

ص: 992

(وعلى هذا مسائل "الزيادات" أنت طالق في مشيئة الله تعالى) إلى آخره.

هاهنا عشرة ألفاظ: المشيئة، والإرادة، والمحبة، والرضى، والأمر، والحكم، والإذن، والقضاء، والقدرة، والعلم. لو قال لامرأته: أنت طالق بمشيئة الله تعالى أو بإرادة الله أو بمحبته أو برضاه لا يقع الطلاق أصلا، ولو قال: أنت طالق بمشيئة فلان، أو بإرادته، أو بمحبته، أو برضاه لا يقع الطلاق حتى يشاء فلان في المجلس، ولو قال: أنت طالق بأمر الله، أو بإذن الله، أو بحكمه، أو بقضائه، أو بقدرته، أو بعلمه يقع الطلاق في الحال.

وكذلك إن أضاف إلى العبد فقال: أنت طالق بأمر فلان إلى آخره يقع في الحال، ولو ذكر بحرف اللام وقال: أنت طالق لمشيئة الله أو لمشيئة فلان أو غيرها من الألفاظ يقع الطلاق في الحال سواء أضافها إلى الله أو أضافها إلى العبد؛ لأن حرف اللام للتعليل والإخبار عن السبب، قال عليه السلام:

ص: 993

"صوموا لرؤيته" فكان هذا إيقاع الطلاق والإخبار عن العلة، ولا يلتفت إلى وجود العلة فصار كأنه قال: أنت طالق؛ لأن فلانا شاء وأراد وأحب، ولو ذكر بكلمة (في) فإن أضافها إلى الله بأن قال: أنت طالق في مشيئة الله أو في إرادة الله أو في محبته أو غيرها من الألفاظ لا يقع الطلاق في الألفاظ كلها أصلا إلى في العلم، فإنه يقع الطلاق فيه في الحال؛ لأن كلمة (في) للظرف حقيقة.

وإذا تعذر حمله على الظرفية بأن صحب الأفعال يحمل على التعليق لما بينهما من المناسبة من حيث الاتصال والمقارنة غير أنه إنما يصح حمله على التعليق إذا كان الفعل مما يصح وصفه بالوجود وبضده ليصير في معنى الشرط، فيكون تعليقا، والمشيئة والإرادة والرضا والمحبة مما يصح وصف الله تعالى به وبضده، فإنه يصح أن يقال: شاء الله كذا أو لم يشأ كذا، وأراد ولم يرد، وأحب ولم يحب، وكذلك الأمر والرضا والحكم والقضاء والتعليق بمشيئة الله تعالى إبطال بخلاف العلم، فإنه لا يصح وصف الله بضده لأن علمه محيط بجميع الأشياء، وأنه كائن في الأزل، والتعليق به تحقيق وتنجيز

ص: 994

فيقع الطلاق في الحال ويشكل على هذا القدرة، فإنه لا يصح وصفه بضدها، ومع ذلك لا يقع الطلاق في القدرة، والأصح من الجواب: إن القدرة تذكر ويراد بها التقدير، وقرئ قوله تعالى:} فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ {بالتشديد والتخفيف، والتقدير مما يصح وصف الله تعالى به وبضده؛ لأنه يصح أن يقال: قدر الله كذا ولم يقدر كذا، فكان بمنزلة المشيئة والإرادة.

فلا يقع الطلاق بخلاف العلم لما ذكرنا، ولو أضافها إلى العبد بأن قال: أنت طالق في مشيئة فلان، ففي المشيئة والإرادة والمحبة والرضى والهوى يتعلق الطلاق بوجود الفعل في الحال حتى يقتصر على المجلس؛ لأن هذه الألفاظ للتمليك، وفي غيرها من الألفاظ يتعلق بوجود مطلق الفعل ولا يقتصر على المجلس؛ لأن الشرط مطلق لانعدام معنى التمليك فيها. كذا في "الزيادات البرهانية".

وقوله: (إلا في علم الله) أي فإن الطلق فيه يقع بأن قال: أنت طالق في علم الله يقع الطلاق، وفي أخواته لا يقع البتة؛ لأن علم الله يستعمل في المعلوم وقد أضاف الطلاق إلى معلوم الله، وإنما يكون الطلاق في معلوم الله إذا كان الطلاق واقع؛ لأنه إذا لم يكن واقعا لم يكن الطلاق في معلوم الله بل عدمه في معلوم الله، لهذا يقع الطلاق لاستحالة جعل معلومه شرطا؛ لأن الشرط أمر معدوم على خطر الوجود، وهذا فيما نحن فيه محال بخلاف

ص: 995

أخواته، فإنه يصح أن يقال: إن شاء الله وإن حكم الله وإن قدر، ولا يقال إن علم الله؛ لأن جميع المذكورات معلومة، ولأن تقدير قوله: أنت طالق في معلوم الله أنت طالق في هذا المحل؛ لأن هذا المحل في معلوم الله فيقع الطلاق في الحال كما في قوله: (أنت طالق في الدار) وأنت طالق في مكة على ما ذكرنا.

(لفالن علي عشرة دراهم في عشرة دراهم يلزمه عشرة)؛ لأن الدراهم لا تصلح ظرفا فيلغو، ولا يقال ينبغي أن يحمل على معنى الواو على معنى (مع) كيلا يلغو؛ لأنا نقول: المجاز خلاف الأصل؛ لأن الأصل هو الحقيقة، وشغل الذمة خلاف الأصل، وبراءة الذمة عن الدين أصل، فاجتمع أمران حينئذ كل منهما خلاف الأصل، ولكلامه بدون المصير إلى المجاز وجه،

ص: 996

وهو أن يراد به تكثير أجزاء العشرة فلا ضرورة إلى المصير إلى ما هو خلاف الأصل.

ص: 997

[حروف القسم]

وقوله (وكذلك في سائر الأسماء والصفات) غاير بينهما بالعطف، وجعل بعضها أسماء وبعضها صفات وليس كذلك، بل كلها صفات غير اسم الله تعال، فكان ذكره أسماء باعتبار السمع، وذكره صفات باعتبار الأصل.

أما السمع فقد جاء في الحديث، قال النبي عليه السلام:"إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"، وكذلك جاء في القرآن أيضا بتسمية الأسماء،

ص: 998

قال الله تعالى:} قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى {.

وأما الأصل فنقول: إن كلها صفات في أصل الوضع سوى اسم الله تعالى. إلى هذا أشار في "الكشاف" حيث قال:

فإن قلت: اسم هو- يعني اسم الله تعالى- أم صفة؟

قلت: بل اسم غير صفة ألا تراك تصفه ولا تصف به، وفي قوله:"ألا تراك تصفه ولا تصف به" إشارة إلى أن الاسم الذي تصف به كان صفة، وجميع أسماء الله تعالى سوى اسم الله بهذه المثابة كما في} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وفي قوله تعالى} هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ {الآية، فكانت صفات، ولأنه صرح بتسمية اسم الصفة على الرحمن الرحيم بعد هذا بقوله: وهو من الصفات الغالبة كالدبران.

وقال بعده: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه؟

ص: 999

فعلم بهذا أن تسمية الأسماء لغير اسم الله تعالى من صفاته باعتبار ورود السمعيات من الكتاب والسنة وإلا فهي كلها صفات في الأصل مع أن بعضهم قال بوقوع اسم الله صفة أيضا استدلالا بقوله تعالى:} صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ {} اللَّهِ الَّذِي {بطريق النعت للأولـ، وعند الأكثرين هو بدل وليس بنعت. إلى هذا أشار المصنف- رحمه الله في "الجامع".

(فلم يكن لها اختصاص) أي فلم يكن للباء اختصاص بالدخول في المظهر بل تدخل في المضمر أيضا على ما ذكر، أو لم يكن له اختصاص بالدخول في القسم بل كما تدخل في القسم تدخل في المعاوضات أيضا حيث يقال: اشتريت هذا بكذا واحمل هذا الطعام بدرهم. إلا أنه لا يحسن إظهار الفعل ها هنا بخلاف الباء حيث يحسن إظهار الفعل بها قال الله تعالى:} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}.

ص: 1000

[الواو]

(لصار مستعارًا بمعنى الإلصاق) أي لصار مجرى كمجرى الباء في جميع الوجوه ولا ضرورة فيه، ولأنه لو صار مستعارًا لمعنى الإلصاق من كل وجه لجاز أن يستعمل الواو في موضع كان الباء فيه لمحض الإلصاق، ويقال: إن أخبرتني وقدوم فلان مكان قوله: إن أخبرتني بقدوم فلا، ولجاز أن يقال: مررت وزيد مكان قوله: مررت بزيد ولم يقل به أحد.

(فتصير الاستعارة عامة في بابها) أي في باب الاستعارة.

وقوله: (ويشبه قسمين) معطوف على قوله: "فتصير" أي لو أظهر فعل القسم مع واو القسم، ويقول: أحلف أو أقسم والله لكان مشابهًا لقسمين وهو يريد الواحد، فكان المذكور خلاف ما أراد فلا يجوز، ولا يرد هذا الكلام في استعمال الباء القسمية مع فعل القسم؛ لأن الباء في حقيقته للإلصاق، فيقتضي الملصق والملصق به، فيظهر الفعل لضرورة تحقيق معنى الإلصاق، حتى لو لم يظهر فهو مقدر فيه، فلا يلزم عند الإظهار مشابهة قسمين. إذ إظهار الفعل من ضرورات مقتضى الباء.

ص: 1001

(فإنهما من حروف الزوائد). معنى هذا أن الزيادة أينما وقعت وقعت من هذه الحروف، وليس معناه أين ما وقعت هذه الحروف وقعت زوائد؛ لأن قولك: اليوم تنساه أو سألتمونيها كل من هذه الحروف أصول هاهنا ومجموعها من حروف الزوائد.

(وقد ذكر في "الجامع" ما يتصل بهذا الأصل في قول الرجل: والله الله والله الرحمن الرحيم) أي قال: والله الرحيم، والذي في "الجامع" رجل قال: والله والرحمن لا أكلمك، فكلمه لزمته كفارتان؛ لأن قوله: والله مقسم به، وقوله: والرحمن معطوف عليه، فكان غيره في تسمية الحالف فتعدد الاستشهاد فتعدد الهتك يعني عند الحنث، فتعددت الكفارة؛ لأنها جزاء الهتك، ولو قال: والله والله لا أكلمك ثم كلمه فعليه كفارة

ص: 1002

واحدة، وكذلك لو قال: والله الرحمن وعند تكرار الواو لو نوى رد الكلام كان يمينًا واحدًا، يعني إذا نوى بالواو في والرحمن واو القسم فقطع كلامه قبله كأنه سكت ثم استأنف، وقال: والرحمن لا أكلمك، ولم يحمل عليه بغيرنية. كذا في "جامع المصحف"رحمه الله.

وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله في "الجامع": ولو أن رجلا قال والله والرحمن لا أكلمه، فكلمه وجب عليه كفارتان؛ لأنه عطف أحد الاسمين على الآخر بحرف العطف وهو الواو إلا أن يكون نوى فيكون يمينًا واحدةً؛ لأن هذا اللفظ قد يذكر للتأكيد عادة، ويكون مراده من إعادة حرف الواو الصلة، فكان نظير قوله: والله الرحمن لا أكلمك وهو يمين واحدة، ولو قال: والله الله لا أكلمك، أو قال والله والله لا أكلمك، فهذه يمين واحدة، إلا في رواية شاذة عن محمد- رحمه الله يقول: إنه يمينان؛ لأنه لا يمكن جعل الكلمة الثانية صفة للأولى، فكانتا يمينين، وفي ظاهر الرواية يقول: كرر الكلمة الواحدة فلا يقصد بتكرار الكلمة الواحدة إلا معنى التأكيد، فكانت يمينًا واحدة بخلاف قوله: والله الرحمن، فإن الكلمة الثانية فيها معنى غير معنى الكلمة الأولى، فلم تكن تكرارًا إلا أن ينويه.

قلت: فحصل من هذا كله إن ذكر الاسمين بدون الواو لا يوجب يمينين،

ص: 1003

وذكرهما بالواو يوجب يمينين إلا عند النية على اليمين الواحدة كان يمينا واحدة،

وأما في الاسم الواحد كاسم الله فإن فيه بتكرار الاسم بالواو يكون يمينًا واحدة في ظاهر الرواية بدون نية الاتحاد.

(إن ذلك صلة وضعت للقسم) أي كلمة بنفسها وضعت للقسم حيث يوصف بها المقسم به، فكانت هي بمنزلة الباء في بالله لا أن يكون جمعًا ليمين بدليل وصل همزتها، فلو كانت جمعًا لكانت همزتها للقطع كما في أكلب وأرجل في جمعي كلب ورجل.

وقال في "الصحاح": وألفه ألف الوصل عند أكثر النحويين، ولم تجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها.

(وأما لعمر الله) وقد ذكرنا في "الموصل" أنه لا يكتب الواو بعده

ص: 1004

لاختصاصه بالقسم ارتفع اللبس بينه وبين عمر، وهو في الأصل مصدر عمر الرجل من باب علم بقي، يقال: عمر يعمر عمرًا وعمرًا على غير قياس؛ لأن قياس مصدره التحريك، واستعمل في القسم أحدهما وهو المفتوح دون الآخر، وإذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء.

قلت: لعمر الله واللام لتوكيد الابتداء، والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي، ولعمر الله ما أقسم به، فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر وهو للقسم أيضًا، وقلت: عمر الله ما فعلت كذا، وعمرك الله ما فعلت، ومعنى لعمر الله وعمر الله أحلف ببقاء الله ودوامه.

وإذا قلت: عمرك الله فكأنك قلت: بتعميرك الله أي بإقرارك له بالبقاء. كذا في "الصحاح"، ولما كان معنى لعمر الله قائمًا مقام لبقاء الله أقسم به في الاستعمال الغالب صار صريحًا في ذلك المعنى فبعد ذلك لا يحتاج إلى قولهم أقسم بالله لتأدى ذلك المعنى بهذا الاستعمال الصريح في معناه فلذلك لم يجمع بينهما.

[أسماء الظروف]

(ومن هذا الجنس أسماء الظروف) أي ومن جنس الكلمات أو الألفاظ

ص: 1005

التي تجر الأسماء أسماء الظروف، والجنسية هاهنا باعتبار عمل الجر لا غير لما أن الأسماء لم تكن من جنس الحروف.

[مع]

(أنه يقع ثنتان معًا قبل الدخول) أي مع أنه قال ذلك لغير المدخول بها، وكذلك في المدخول بها؛ لأنه لما وقع في غير المدخول بها فأولى أن يقع في المدخول بها.

[قبل]

(وقبل للتقديم) إلى آخره، وحاصله إن كلمة (قبل) بالضمير مثل كلمة (بعد) بدون الضمير في أنه تقع الثنتان فيهما، وفي العكس ينعكس الحكم لانعكاس العلة، فلذلك انعكس حكمهما بحسب وجود الضمير وعدمه، فإنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق واحدة قبل واحدة تقع واحدة؛ لأن معناه أنت طالق واحدة قبل واحدة أخرى تقع عليك، فبانت

ص: 1006

بالأولى ولم يبق محلًا للثانية، وهذا المعنى إنما يحصل في بعد إذا كان بالكناية بأن يقول: أنت طالق واحدة بعدها واحدة أي بعدها واحدة أخرى تقع عليك.

وأما إذا قال: قبلها واحدة صار كأنه قال: قبلها أخرى وقعت عليك، فكان وقوع الواحدة بالإنشاء، ووقوع الأخرى بالإقرار فتكون اثنتين، ولا يحتاج في صحة الإقرار إلى بقاء العدة.

[بعد]

وقوله: (هذا الحرف) إشارة إلى قوله: "إن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده، وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله" وتقريره في قوله: جاءني زيد قبله عمرو، وقوله: جاءني زيد بعد عمرو سواء في المعنى؛ لأن القبلية إذا كانت صفة لعمرو تكون البعدية صفة لزيد لا محالة، والبعدية إذا كانت صفة

ص: 1007

لزيد تكون القبلية صفة لعمرو لا محالة، فلهذا استويا في المعنى، وفي قوله: جاءني زيد قبل عمرو تكون القبلية صفة لزيد، وكذلك في قوله: بعده عمرو تكون القبلية صفة لزيد أيضًا ضمنًا، لكون البعدية صفة لعمرو قصدًا، فلذلك استويا.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين مسألة الإقرار في عين هذه الصورة حيث خالف حكم مسألة بعد، فإنه لو قال: لفلان علي درهم بعد درهم أو بعده درهم يلزمه درهمان.

أما لو قال: درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد، ولو قال: قبله، فعليه درهمان كما ذكرها هنا.

قلت: لأن الطلاق بعد الطلاق هنا لا يقع، وأما الدرهم بعد الدرهم، فيجب دينًا في الذمة لبقاء المحل. كذا في "المبسوط" في باب من الإقرار بألفاظ مختلفة.

[عند]

(و (عند) للحضرة) وقد يراد به الحكم. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} أي في حكم الله.

ص: 1008

(حتى إذا قال: لفلان عندي ألف درهم كان وديعة) إلا أن يقول: دين، (وعلى هذا) أي على تخريج المسائل على كلمات الظروف. (قلنا: إذا قال: أنت طالق كل يوم طلقت واحدة) ولو قال أنت طالق في كل يوم تطلق ثلاثًا في ثلاثة أيام؛ هاتان المسألتان بلا خلاف بين أصحابنا الثلاثة فكان ثبوت حكم هاتين المسألتين على هذا الطريق شاهدا عدل لأبي حنيفة- رضي الله عنه في مسألة الغد في الفرق بين حذف حرف الظرف وإثباته، وذكر في "المبسوط" قبيل باب طلاق الأخرس: ولو قال لامرأته- وقد دخل بها-: أنت طالق كل يوم، فإن لم يكن له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا، وعن زفر- رحمه الله تطلق ثلاثًا في ثلاثة أيام؛ لأن قوله: أنت طالق إيقاع، وكلمة

ص: 1009

"كل" تجمع الأسماء، فقد جعل نفسه موقعًا للطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع حتى تطلق ثلاثًا.

ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق في كل يوم طلقت ثلاثًا في كل يوم واحدة، ولكنا نقول: صيغة كلامه وصف قد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة، تتصف في الأيام كلها، وإنما جعلنا كلامه إيقاعًا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة.

ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق أبدًا لم تطلق إلا واحدة بخلاف قوله: في كل يوم؛ لأن حرف "في" للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفًا له لا يصلح الغد ظرفًا له، فيتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف "في" وفي قوله: كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى، وتطلق ثلاثًا في ثلاثة أيام؛ لأنه أضمر حرف "في".

وذكر شمس الأئمة- رحمه الله في "أصول الفقه" بعد ذكر حكم كلمات الظروف كما ذكر في الكتاب: لأنه إذا لم يثبت في كلامه شيئًا من الظروف يكون الكل ظرفًا واحدًا، فلا تقع إلا واحدة وإن تكررت الأيام، وإذا ذكر شيئًا من أسماء الظروف يتفرد كل يوم بكونه ظرفًا على حدة، وإنما يتحقق ذلك إذا وقعت تطليقة في كل يوم.

ص: 1010

[حروف الاستثناء]

(يلزمه درهم إلا دانقًا)، فالدرهم أربعة عشر قيراطًا، ويكون العشرة منه على وزن سبعة مثاقيل، والدانق- بفتح النون وكسرها- سدس الردهم، وقيل: الدانق قيراطان، والقيراط نصف الدانق، وأصله قراط- بالتشديد- لأن جمعه قراريط، وأبدل الياء من إحدى حرفي التضعيف. كذا

ص: 1011

في "الصحاح" و"المغرب".

(وكذلك لو قال: علي دينار غير عشرة بالرفع) إلى قوله: (وما يقع من الفصل بين المعارضة والبيان) نذكره في باب البيان معناه أن عند محمد- رحمه الله لا يصح استثناء الدراهم من الدنانير؛ لأن صدر الكلام لا يتناول المستثنى لغة فاستثناؤها من الدنانير كاستثناء الثوب من الدينار، ولا معارضة بين ثبوت الدينار عليه وبين انتفاء الدراهم عنه كما في الثوب عندهما هذا الاستثناء صحيح بطريق بيان التغيير، وهو أنه تكلم بالباقي

ص: 1012

بعد الثنيا وهو من جنس البيان لا من قبيل المعارضة، والفرق بين البيان والمعارضة يذكر في باب البيان إن شاء الله تعالى، واستثناء الدراهم من الدنانير أمكن أن يجعل بيانًا بخلاف استثناء الثوب، فتعين للمعارضة ولا معارضة، يجب الدينار كله إلى آخره.

[سوى]

(وسوى وغير مثل إلا في قوله: إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة) فهي صدقة على المساكين، والجواب في الكل واحد، فإن كان في يده أربعة دراهم أو خمسة دراهم لا يجب عليه التصدق؛ لأن الشرط كون الدراهم في يده سوى ثلاثة ولم يوجد. بخلاف ما لو قال: إن كان في يدي من الدراهم سوى ثلاثة فإنه يجب التصدق بما زاد على الثلاث،

ص: 1013

لا يتوقف على وجود الثلاث؛ لأن شرط الحنث هاهنا أن يكون من الدراهم في يده، فدرهم ودرهمان من الدراهم.

[حروف الشرط]

[حرف إن]

(وأما حرف إن وهو الأصل في باب الشرط)؛ لأنه حرف موضوع للشرط في أصله بخلاف سائر كلمات الشرط، ولأن غيرها إنما تعمل عمل الشرط إذا تضمن معنى إن، فلذلك كانت هي الأصل في الباب، (وأثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلًا) أي أثر الشرط أن يمنع العلة عن انعقادها علة للحكم بل تبقى معدومة كما كانت (حتى يبطل التعليق) أي إلى أن يبطل التعليق. يعني إذا وجد الشرط وهو دخول الدار مثلًا في تعليق الحكم بدخول الدار لم يبق تعليقًا، فحينئذ يصير ما ليس بعلة علة، وعند الشافعي أثره أن يمنع الحكم عن العلة لا العلة عن انعقادها علة، بل العلة علة موجبة للحكم في الحال، ويمتنع الحكم بوجود إن، وأثر هذا الخلاف بيننا وبينه إنما يظهر في

ص: 1014

قوله للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، على ما يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.

إذا قال (إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثًا)، فإنه ما دام حيًا يتصور البر وهو الطلاق، فإذا قرب موته أو موتها على وجه لا يسع فيه قوله: أنت طالق بل يسع فيه أنت أو أقل حينئذ فات البر وهو التطليق، فوجد الشرط وهو عدم التطليق فتقع ثلاث تطليقات، فإن قيل: المعلق بالشرط كالملفوظ عند وجود الشرط فكيف تقع ثلاث تطليقات ولا يسع فيه أنت طالق ثلاثًا؟

قلنا: هو أمر حكمي فلا يشترط فيه ما يشترط في حقيقة الإرسال والتطليق؛ لأن شرط هذا وأهلية هذا إنما يشترط عند التعليق لا عند وجود الشرط.

ألا ترى أن المعلق إذا علق طلاق امرأته ثم جن فوجد الشرط وهو مجنون يقع الطلاق، وإن لم يتصور منه حقيقة الطلاق شرعًا.

وقوله: (فتطلق في آخر حياته)، وفائدة الطلاق في ذلك الوقت إنها

ص: 1015

تبين بالطلاق عن زوجها لا بالموت، حتى إنها لو كانت غير مدخولة لا ترث؛ لأنها بانت لا إلى عدة، ويجب لها نصف المهر لا كله، ولما بانت بالطلاق قبل الموت من غير عدة الطلاق لم تجب عليها عدة الوفاة أيضًا.

[حرف إذا]

(فيجازى بها مرة ولا يجازى بها أخرى) أي تستعمل للشرط مرة ولا تستعمل له أخرى، وإنما قال: يجازي مكان قوله: تستعمل للشرط؛ لأن الجزاء لازم للشرط، فكان ذكر الجزاء ذكرًا للشرط، ولأن فيه إشارة إلى أن المقصود من ذكر الشرط والجزاء هو الجزاء، ووجود الشرط وسيلة له بطريق الانقلاب، والمجازاة بها لازمة.

ص: 1016

(في غير موضع الاستفهام). أما في موضع الاستفهام فإنها لا تستعمل استعمال الشرط، فلذلك لا يجزم بها فيقال: متى يخرج زيد- برفع يخرج- لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل، فلا يليق هناك إضمار حرف إن، واستعمالها للشرط لا يكون بدون إضمار إن.

وأما إذا لم يكن الاستفهام فيه مقصودًا فيصح إضمار حرف الشرط فيها فنقول: متى تخرج أخرج، فإنه يصح أن يقول في معناه: إن تخرج أخرج يجزم الشرط والجزاء.

(وإذا تدخل للوقت على أمر كائن) أي يستعمل كلمة (إذا) في الوقت الواقع في الحال كقول الشاعر:

ص: 1017

وإذا تكون كريهة أدعى لها.

وتستعمل أيضًا في حق الوقت المستقبل الذي هو آت لا محالة كما في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، وكذلك استعملت مقام جزاء الشرط الذي هو مقام الفاء، والجزاء إنما يكون عند وجود الشرط وهو في ذلك الوقت كائن لا محالة كما في قوله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي فهم يقطنون، وإذا كان كذلك كان استعمال إذا في الأوقات المعلومة لا محالة، والمعلومية منافية لمعنى الشرط إذ الشرط إنما يكون في الوقت المبهم أيكون أم لا؟ على ما ذكر قبل هذا إن كلمة إن هي الأصل في باب الشرط، وهي تدخل على كل أمر معدوم على خطر الوجود، وما كان معلومًا كان منافيًا لكلمة هي أصل في الشرط، ولئن كان شرطًا على الطريق الاستعارة للشرط ينبغي أن لا يسقط عنه معنى الوقت لأن الوقت معناه الأصلي، فكان مثل متى إذا استعمل للشرط، فإنه لا يسقط عنه معنى الوقت مع لزومه للشرط في غير موضع الاستفهام فأولى أن لا يسقط معنى الوقت

ص: 1018

من إذا؛ لأنه غير لازم للشرط على ما ذكرنا من استعماله في الأوقات المعلومة، وهذا معنى قوله:(وإذا كان كذلك كان مفسرًا من وجه ولم يكن مبهمًا فلم يكن شرطًا) أي لما استعمل إذا في الأمر الواقع في الحال وفي الأمر المستقبل الذي هو كائن لا محالة، وفي المفاجأة التي هي جزاء الشرط كان ما دخل هو عليه مفسرًا لا مبهمًا، فلا يليق حينئذ لمعنى الشرط؛ لأن الشرط أمر مبهم وجوده.

وقوله: (وقد يستعمل فيه) أي وقد يستعمل إذا في الشرط.

فإن قيل ففي قوله: (إلا أنه قد يستعمل فيه مستعارًا مع قيام معنى الوقت) جمعًا بين الحقيقة والمجاز؛ لأن حقيقة إذا للوقت على ما ذكرنا، ثم لو استعير هو للشرط مع قيام معنى الوقت كان جمعًا بينهما، وهو لا يجوز على ما مر.

قلنا: عدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز كان للمنافاة كما في لفظ الأسد لو أريد الهيكل المخصوص به مع إرادة الرجل الشجاع.

أما هاهنا فلا منافاة بين الوقت المعدوم وبين الشرط. إذ الشرط أمر معدوم على خطر الوجود، فيجوز أن يكون الفعل الذي يوجد في الوقت شرطًا لشروط معدوم؛ لأن كلا منهما معدوم فيجوز أن يجتمعا لعدم المنافاة،

ص: 1019

وهذا لأن الوقت ظرف لجميع الأفعال، والامتناع عن الظرف الذي هو شرط وقوع الطلاق الثلاث فعل من الأفعال، فكان الوقت ظرفًا له كما في سائر شروط الطلاق في التعليق غير أن الوقت في حق وجود شرط سائر التعليقات مقدر وهنا مصرح، فإن تقدير قولك: إن دخلت الدار فأنت طالق أي في الوقت الذي دخلت فيه الدار أنت طالق؛ لأن الدخول لا يوجد إلا في وقت من الأوقات، غير أن ذلك الوقت المقدر في قوله: إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثًا لم يعمل به؛ لأن الوقت إنما يعمل به بالتصريح أو بكلمة هي موضوعة للوقت، وتصريح ما قدر من الوقت في سائر التعليقات لا يكون منافيًا للشرط.

والدليل على أن الجمع بين الحقيقة والجاز جائز عند عدم المنافاة مسألة (حتى) في قولهم: جاءني القوم حتى زيد، فإن (حتى) في حقيقتها للغاية ثم استعيرت هي للعطف. قلنا: بقاء معنى الغاية التي هي حقيقتها لعدم المنافاة بينهما فكذلك استعارة كلمة (أو) لمعنى الواو في موضع النفي مع بقاء معناها الأصلي كما عرف في قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} وهو كثير النظير.

(فصار الطلاق مضافًا إلى زمان خال عن إيقاع الطلاق) أي لما لم يسقط معنى الوقت من إذا حينئذ كان الطلاق مضافًا إلى وقت خال عن إيقاع

ص: 1020

الطلاق، فيقع الطلاق لوجود شرط الحنث وهو وجود الوقت الخالي عن إيقاع الطلاق.

(ووقع الشك في انقطاع المشيئة فلا تبطل بالشك). يعني لما كان في إذا معنى الشرط الخالص كإن ومعنى الوقت كمتى على التعارض خرج الأمر من يدها بالقيام عن مجلسها لو جعلناها بمعنى إن؛ لأنها للتمليك والتمليكات تقتصر على المجلس، ولو جعلناها بمعنى متى لا يخرج بل هي عامة في الأوقات كلها فصار كأنه قال: أنت طالق في أي وقت شيءت فلا يقتصر على المجلس، وكان المر في يدها فلا تبطل، وعمل أبو حنيفة- رضي الله عنه-

ص: 1021

في المشيئة في إذا بمعنى الوقت، وفي إذا لم أطلقك بمعنى الشرط، ومعنى كليهما راجع إلى الأصل الذي ذكر، وهو أن الأصل الثابت قبل الشك لا يزول بالشك، وفي الطلاق لم تكن طالقًا قبل هذا فلا تطلق بهذا نظرًا إلى جانب الشرط، وفي المشيئة كان الأمر في يدها فلا يخرج عن يدها بالقيام عن المجلس نظرًا إلى جانب الوقت، وهذا أصل مطرد لأبي حنيفة- رحمه الله.

في غاية المسائل كما في خروج وقت الظهر وبقائه، وكون دار الإسلام دار الحرب وبقائها، وكون العصير خمرًا وبقائه عصيرًا، وبطلان السكنى وبقائها فيمن حلف لا يسكن هذه الدار وغيرها.

[متى]

(فاسم للوقت المبهم بلا اختصاص) سواءً كان لمحض الاستفهام عن الوقت أو الاستفهام مع الشرط، فإنك تقول في الشرط: متى تأتني

ص: 1022

أكرمك؛ أي إن تأتيني يوم الجمعة أكرمك؛ وإن تأتني يوم السبت أكرمك إلى حد فيه من الإطالة، فأتى بمتى للإيجاز مشتملًا للأزمنة كلها، كما في أين مشتملًا للأمكنة كلها، ثم لما كان متى لا تخص وقتًا دون وقت كان مشاركًا لإن في تردد ما دخل فيه بين أن يوجد وبين أن لا يوجد كما في إن.

(فيلزم في باب المجازاة) أي المجازاة لازمة في متى في غير موضع الاستفهام على ما ذكرنا كما أن إن لازمة للشرطية، والتفاوت بينهما في ثبوت الوقت وانتفائه.

ص: 1023

(أنت طالق لولا صحبتك) أي لا يقع الطلاق لما فيه من معنى الشرط؛ لأن لولا لامتناع الشيء لوجود غيره، كما في قوله تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} ، فامتناع انتفاء الزكاء لوجود فضل الله، فصار كأن الطلاق معلق بعدم صحبتها، وإذا كانت الصحبة موجودة لم يوجد الشرط، فلا يقع الطلاق.

وقوله: (وما أشبه ذلك) قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: قال- محمد رحمه الله في قوله: أنت طالق لولا دخولك الدار: أنها لا تطلق ويجعل هذه الكلمة بمعنى الاستثناء.

(آمنوني على عشرة من أهل الحصن) أي من أهل الحرب (ففعلنا) أي أجاب أهل الإسلام لالتماس أهل الحرب، (والخيار إليه) أي إلى رأس الحصن؛ لأنه شرط ذلك لنفسه بكلمة على، وهو مبني على ما ذكر من حكم كلمة على، فإنها في أصلها للزوم، ثم تستعار هي لمعنى الشرط في غير

ص: 1024

المعاوضات المحضة؛ لما أن بين العالي والمعلو معاقبة كما بين الشرط والمشروط، وتلك الاستعارة التي تستعار لمعنى الشرط بمنزلة الحقيقة عند أبي حنيفة- رحمه الله على ما مر، ولما كان كذلك كان رأس الحصن في قوله: آمنوني على عشرة شارطًا الأمان لنفسه، فكان الخيار إليه بخلاف ما لو قال:(آمنوني وعشرة) أو فعشرة أو ثم عشرة، فالخيار في تعيين العشرة إلى من آمنهم؛ لأن المتكلم عطف آمانهم على آمان نفسه من غير أن شرط لنفسه في آمانهم شيئًا.

(ولو قال: بعشرة فمثل قوله: وعشرة) في أن الأمان وقع له ولعشرة سواه، (والخيار إلى إمام المسلمين) لما أن البلاء للإلصاق، فلابد له من ملصق وملصق به، وهو يقتضي المغايرة، فلابد أن يكون هو غير العشرة، ثم رأس الحصن لم يشترط لنفسه شيئًا، فلا يكون الخيار له كما لو ذكره بالواو.

(ولو قال: في عشرة وقع على تسعة سواه، والخيار إلى الإمام) إما هو أحد العشرة، فلأن معنى الظرف في العدد بهذا يتحقق؛ لأن معنى الظرف في العدد بأن يكون معدودًا منهم، ولن يكون كذلك إلا بأن يكون واحدًا من

ص: 1025

العشرة.

ألا ترى أنه إذا قيل في الفارسية فلان درين ده أست يفهم منه أنه من العشرة وغيره تسعة وأما الخيار في التسعة إلى الذين آمنهم لا إلى رأس الحصن؛ لأنه ما شرط لنفسه شيئًا في أمان من ضمهم إلى نفسه ليكونوا عشرة.

(ولو قال: آمنوني إلى عشرة وقع على عشرة لا غير، ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم، والخيار فيهم إليه).

أما وقوع الأمان على العشرة لا غير، لأن الأمان وقع عليها، فلو قلنا بعشرة سواه كان وقوع الأمان حينئذ على أحد عشر، والإمام لم يوقعه على ذلك.

وأما ولاية إدخال نفسه فيهم فلدلالة؛ لأنه لما آمن تسعة غيره فلن يؤمن نفسه أولى، وكذلك ثبوت الخيار إليه لثبوت هذه الدلالة؛ لأن إمام المسلمين لما ثبت لرأس الحصن هذه الدلالة لأجله كان الخيار إليه.

(وذلك يخرج على هذا الأصل) أي على هذا الأصل الذي ذكرنا قبل هذا من حروف المعاني التي تتعلق بمسائل الأمان لا أن يكون ذلك إشارة إلى ما اتصل بهذا من كلمة إذا، ومتى، وأو، ولولا.

ص: 1026

ولهذا ذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله مسائل الآمان التي تختص بحروف المعاني في مواضع تلك الحروف.

[حرف كيف]

(فإن استقام وإلا بطل) أي إن كان المسئول عنه ذا أحوال يستقيم السؤال عنه بهذه الكلمة، وإن لم يستقم فيبطل معنى كيف، فصار ذكر كيف وعدم ذكره بمنزلة، حتى لو قال لعبده:(أنت حر كيف شيءت أنه إيقاع) في الحال عند أبي حنيف- رحمه الله ولا يتعلق بمشيئته؛ لأن كيف للاستيصاف ولا أوصاف للحرية فلا يتعلق بمشيئته.

(وفي الطلاق تقع الواحدة) في الحال؛ لأن للطلاق أوصافًا من البينونة الخفيفة والغليظة والرجعة، (ويبقى الفضل في الوصف) وهو البينونة (والقدر) وهو الثنتان والثلاث (وهو الحال مفوضًا) إشارة إلى الفضل (بشرط نية الزوج).

ص: 1027

فإن قيل: ينبغي أن لا تشترط نية الزوج؛ لأن الزوج فوض الطلاق إليها على أي صفة شاءت.

قلنا: كلمة كيف وضعت للسؤال عن الحال، والحال في الطلاق نوعان: صفة وعدد، فصارت الكلمة بمنزلة الاسم المشترك، فتشترط نية الزوج لتعيين جهة المفوض إليها. كذا في "مبسوط" المصنف.

(وقالا: ما لا يقبل الإشارة فحاله) أي كونه بائنًا ورجعيًا، (ووصفه) أي كونه سنيًا وبدعيًا بمنزلة أصله وهو نفس الطلاق، وهذا لأن ما لا يتأتى الإشارة إليه حاله ووصفه بمنزلة ذاته من حيث إن كل واحد منهما مما لا يشار إليه، فإذا تعلق الوصف بمشيئتها تعلق الأصل لا محالة، فإن الزوج إذا أوقع الواحدة ليس له أن يثلثها عندهما، فكذلك من قام مقامه فلهذا يتعلق أصل الطلاق ووصفه بمشيئتها. (فتعلق الأصل بتعلقه) أي يتعلق الوصف يعني أجمعنا على أن وصف الطلاق متعلق بمشيئتها، فيجب أن يكون أصله أيضًا متعلقًا بمشيئتها.

ص: 1028

[حرف كم]

(وأما كم فاسد للعدد الذي هو الواقع) أي الثابت فيما استعمل هو فيه حتى إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق كم شيءت كان الطلاق بعدده ثابتًا ومفوضًا إليها، فلا تطلق ما لم تشأ، وتتوقت المشيئة بالمجلس؛ لأنه ليس فيها ما تنبئ عن الوقت، فتطلق نفسها على أي عدد شاءت، فإن ردت الأمر كان ردًا؛ لأن هذا خطاب في الحال فيقتضي الجواب في الحال.

[حرف حيث]

(وحيث اسم لمكان مبهم). وكذلك أين، ولهذا لو قال: أنت طالق حيث شيءت أو أين شيءت أنه لا يقع ما لم تشأ، وتتوقف مشيئتها بالمجلس؛ لأنه ليس فيها معنى الوقت حتى يقتضي عموم الأوقات بخلاف قوله: إذا شيءت ومتى شيءت، حيث لا يقتصر فيهما على المجلس لتعلق الطلاق بالزمان، ولأن حيث وأين لما كانا من أسماء المكان ولا تعلق للطلاق بالمكان لغا ذكر المكان، فعلى هذا كان ينبغي أن يلغي المشيئة أيضًا؛ لأن عند إلغاء

ص: 1029

المكان بقي قوله: أنت طالق شيءت فلا يتعلق هناك بالمشيئة فكذا هنا، إلا أن قوله: حيث شيءت يفيد ضربًا من التأخير، وحرف الشرط أيضًا يفيد ضربًا من التأخير فيشتركان في تحقيق معنى التأخير، فيجعل مجازًا عن حرف الشرط، فلذلك لا يقع بدون المشيئة، وكذلك في أين. والله أعلم.

* * *

ص: 1030