المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث عشر: وفاته - الكشف المبدي

[محمد بن حسين الفقيه]

الفصل: ‌المبحث الثالث عشر: وفاته

‌المبحث الثاني عشر: مذهبه

المؤلف- رحمه الله كان يحارب التقليد الأعمي الذي يكون بدون دليل، وإنَما مجرد نُصْرة الأمام، ومن خلال قراءتي في كتابه لم يتبين لي مذهبه بوضوح. فقد كان رحمه الله يُبَجل العلماء ويُقَدرهم وإذا ذَكَر أبو حنيفة قال: قال إمامنا، وكذلك الشافعي، ومالك، وأحمد كلهم يقول عنهم: قال إمامنا. ولكن أميل إلى أنه مالكي المذهب، لأنه عندما ذكر ابن عبد البر قال عنه:(إنه من أجلّ أصحابنا) . قال أيضاً: (

وأما إمامنا مالك بن اْنس) .

‌المبحث الثالث عشر: وفاته

كان من عادة المؤلف- رحمه الله في بعض الأحيان يَطيب له الجلوس مع بعض أصدقائه في منزل الشيخ إبراهيم الصنيع. وبعد أن خرج من منزل الصنيع أحسَّ بشيء وألم في قلبه، فذهب إلى بيته وسقط- رحمه الله عند باب بيته، وقد أصابته نوبة قلبية رحمه الله وكان ذلك في صبيحة يوم الأربعاء الموافق للسابع من شهر صفر من سنة 1355 هـ. وقد كان يوماً مشهوداَ حضره الناس العامة والخاصة، وقال تلميذه باشميل: لم يَعْرِف الناسُ قدره إلا بعد أن دفنوه- عليه رحمة الله -. وقد صُليَ عليه فيِ مسجد الشافعي صلاة الظهر، وأم الناس في الصلاة الشيخ محمد صالح

شيخه، ودُفن- رحمه الله في مقبرة الأسد. فرحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة وأسكنه فسيح جناته، وتجاوز عنه بمنّه وكرمه- إنه جواد كريم.

ص: 38

بسم الله الرحمن الرحيم

{ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} ، {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} ، الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهدي فلا مضل له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، إله واحد، ورب شاهد، ونحن له مسلمون، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي كمَّل الله له الدين، وأتم عليه نعمته، وفرض عليه أن يُبين للناس ما نُزِّل إليهم، وأوجب عليهم طاعته، وشرطَ محبته باتباعه في هديه وقوله؛ فقال ـ تعالى ـ {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} ، وعلى آله وأصحابه الذين {صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا} .

أما بعد؛ فيقول أحقر العباد وأحوجهم إلى عفو ربه الكريم محمد بن حسين بن سليمان بن إبراهيم، عامله الله ووالديه والمسلمين باللطف العميم: إني لما من الله علي بالاطلاع على كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» الذي ألفه الإمام المحدث المفسر الناقد الخبير بصحيح السنة وسفيمها الحافظ الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي روح الله روحه ونوّر ضريحه؛ فوجدته كتابًا مفردًا في

ص: 55

بابه خطيبًا في محرابه، جمع من الفوائد مفردات الشوارد والأوابد ما لا يوجد في غيره من الكتب المصنفة في هذا الشأن.

وهذا الكتاب قد ألفه الحافظ ابن عبد الهادي في الرد على قاضي القضاة أبي الحسين تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الذي سماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ، زعم فيه أنه رد على شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني [الدمشقي] ؛ لأنه زعم أنه حرَّم الزيارة؛ فقام الإمام ابن عبد الهادي فردَّ عليه ردًّا وافيًا بين فيه حال الأحاديث التي استدل بها السبكي وبنى عليها كتابه، وانتصر لشيخ الإسلام وبيَّنَ أنه ما حرَّم الزيارة ولا كرهها بل أمر بها في مناسكه وغيرها.

وحيث إن الإمام ابن عبد الهادي قد اخترمته المنية قبل إكماله حين وصل إلى الباب الرابع من كتاب السبكي، وكتاب السبكي في عشرة أبواب، ولم أرَ من تصدَّى لإكماله، وقد طلبتُ من بعض أصحابي تكملته فاعتذر بأعذار؛ منها: أن طريقة الحافظ ابن عبد الهادي في هذا الكتاب لا يسلكها إلا مهرة الحديث العالمون بالصحيح

ص: 56

والمعلول والموضوع، وأين توجد هذه الكتب التي استحوذ عليها هذا الإمام واستفاد منها، فلما لم أرَ من يلبي طلبي؛ استخرت الله سبحانه وتعالى وتوكلت عليه وشمرت عن ساعد الجد والحزم، وقمت في هذا الميدان بأقوى جنان وأصدق عزم، علمًا مني بأن الصعب قد مضى في كتاب هذا الحافظ المذكور؛ فلم يبقَ إلا هذه الفروع التي فرَّعها السبكي من تلك الأصول الواهية، فإذا قد بطل الأصل بطل الفرع، وعلى أي شيء يُبنى والأساس ساقط، وخروجًا من عهدة الكتمان، فهذا ما أمكنني تحريره في هذه المسألة؛ فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريء، {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} . وسميته «الكشف المبدي لتمويه أبي الحسين السبكي في تكملة الصارم المنكي» ، واللهَ أسال أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم؛ إنه جواد كريم.

فأقول وبالله أصول وأجول، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:

فصل

الحافظ ابن عبد الهادي بلغ في كتابه إلى الكلام على الباب الرابع من كتاب السبكي الذي عقده في ذكر أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس على مشروعية شَدّ الرحال والسفر إلى الزيارة؛ فتكلم رحمه الله على الأصول الأربعة، وقد افتتحت من الموضوع الذي وقف عليه؛ فقلت وبالله التوفيق ومنه الإعانة والتأييد:

قال المعترض بعد كلام لا حاجة لنا فيه: «واعلم أن زيارة القبور على أربعة أقسام:

القسم الأول: أن تكون لمجرد تذكر الآخرة، وهذا يكفي فيه رؤية القبور من غير معرفة بأصحابها ولا قصد أمر آخر؛ من الاستغفار لهم ولا من التبرك بهم! ولا

ص: 57

من أداء حقهم. فهو مستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ؛ وذلك لأن الإنسان إذا شاهد القبر تذكَّر الموت وما بعده، وفي ذلك عظة واعتبار، وهذا المعنى ثابت في جميع القبور، ودلالة القبور على ذلك متساوية، كما أن المساجد غير الماسجد الثلاثة متساوية، ولا يتعتين شيء منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض.

القسم الثاني: زيارتها للدعاء لأهلها؛ كما ثبت من زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل البَقيع. وهذا مستحب في حق كل ميِّت من المسلمين.

القسم الثالث: [زيارتها] للتبرك بأهلها، إذا كانوا من أهل الصلاح والخير، وقد قال أبو محمد الشارِمساحي المالكيّ:«إنَّ قصدَ الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين» . [وهذا الذي استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين] صحيح، وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، ولا ضرورة بنا هنا إلى تحقيق الكلام فيه؛ لأن مقصودنا أن زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء للتبرك بهم مشروعة، وقد جزم به.

القسم الرابع: [زيارتهم] لأداء حقهم؛ فإنَّ من كان له حق على الشخص فينبغي له بِرّه في حياته وبعد موته، والزيارة من جملة البر؛ لما فيها من الإكرام، ويشبه أن تكون زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أُمِّه من هذا القبيل؛ كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وذكر حديث مسلم الصحيح في استئذانه صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أُمِّه فأذن له

إلى آخر ما قال» اهـ.

ص: 58

والجواب أن يقال: لا يخفى على كل منصف أن هذا التقسيم مشتمل على حق وباطل، ولكن حيث إن المعترض مراده بهذا التقسيم نصر ما ذهب إليه من الرأي الفاسد وخلط الحق بالباطل، ونحن ـ إن شاء الله تعالى ـ نُبَيِّن ما في ذلك من المقبول منه والمردود؛ فأقول:

إنَّ القسمين الأولين ـ وهمها: تذكر الموت والآخرة بزيارة القبور، والقسم الثاني: زيارتها للدّعاء لأهلها والترحّم عليهم ـ؛ هذا أمر مجمع عليه بين السلف والخلف، لا يختلف فيه اثنان، إلا شيء ورد عن بعض السلف، وهذا المورود لأدلة في ذلك؛ فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» ، وقوله:«زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»

وغير ذلك. فلعلَّ القائلين بعدم جواز زيارة القبور لم يبلغهم الناسخ للنهي الأول.

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا ينكر زيارة القبور، ولا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ولا وزيارة قبر غيره من الأنبياء والصّالحين، بل ولا زيارة قبور الكافرين؛

ص: 59

وحجته ظاهرة من حديث: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ؛ فإن العلة التي شُرعت لأجلها زيارة القبور موجودة في زيارة قبر المسلم والكافر، وأما الدعاء لأهلها فهو خاص بقبور المؤمنين.

وأيضًا: فزيارة القبور تكون شرعية وبدعية؛ فالشرعية: [هي] أن يقف الزائر عند قبر المَزُور ويُسلم عليه كما كان يسلم عليه في الدنيا ويدعو له؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل، وصفة زيارته صلى الله عليه وسلم للقبور مشهورة مستفيضة في كتب السُّنَّة، فمن زاد على ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله؛ فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله؛ {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} .

وأما الزيارة البدعية: فسنبينها ـ إن شاء الله تعالى ـ في القسم الثالث الذي ذكره المعترض، والله الموفّق.

وقد تبيَّن مما أسلفناه أن القسمين الأولين اللذين ذكرهما هذا المعترض؛ هما اللذان بيَّنهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله؛ حيث يقول: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ، وفعله الذي كان يفعله إذا أراد زيارة أهل البَقيع من الدعاء لهم والتّرحّم عليهم والسّلام. وفي هذا كله لا تعود فائدته إلا على المزور؛ لأن الميت ينتفع بالدعاء له والتّرحّم عليه. نعم؛ ينتفع الزائر إذا أراد بزيارته تذكّر الآخرة، وهذا يحصل بزيارة أي قبر، ولو قبر كافر، وينتفع أيضًا بثواب الدعاء الذي كان يدعوه للأموات، ولكن ليس للميت في هذا دخل؛ لأن المُثيبَ على الدعاء هو الله، وكل امرئٍ إذا دعا لإخوانه المسلمين بظهر الغيب يكون له مثل ما دعا به؛ كما ورد في حديث هذا معناه، وقد يدخل في القسم الثاني من الأقسام الأربعة التي ذكرها الخصم.

القسم الرابع: وهو أن تكون الزيارة لأداء حقهم من باب اللُّزوم؛ فإن الزائرَ إذا زار أيَّ قبر ودعا لصاحبه وترحَّم وسَلَّم عليه؛ فقد أدَّى حَقَّه، سواء كان

ص: 60

صديقه أو من آحاد المؤمنين؛ فإن للمؤمن حقوقًا، فقط يتأكد في جانب الوالد والشيخ والصديق؛ فإذا أتى الزائر المقبرة وسَلَّم وترحَّمَ على أهلها ودعا لهم؛ فقد أدَّى حق والده وشيخه إذا كانا مدفونين بها، وأيضًا فقد أدَّى حق جميع المؤمنين الذين في هذه الجُبَّانة؛ فجَعْلُ تأدية حق الميت قِسمًا مستقلًّا فيه تساهل وذهول كما بيَّناه.

وأما قوله: «القسم الثالث: زيارة القبورللتبرك بأهلها إن كانوا من أهل الخير والصلاح

» إلخ.

أقول: لا أدري ما الذي أراده هذا المعترض من هذا القسم؛ فإنه أتى بلفظ مُجْمَل يحتمل حقًّا وباطلًا، فإن أراد حصول المنفعة للزائر بتذكر الآخرة عند زيارته للقبر؛ فهذا لا يختص بقبور المؤمنين؛ بل تحصل العِظَة أيضًا بزيارة قبور الكافرين، وهذه المنفعة إنما حصلت للزائر من الله عز وجل لا من صاحب القبر؛ فإنَّ من لم يرد الله انتفاعه من زيارة القبور لم ينتفع بها ولو زار القبور في اليوم عشرين مرة.

وكم أُناس يزورون القبور ولا ينتفعون بزيارتها؛ بل تراهم مشتغلين باللهو واللعب وإتيان الفواحش في وسط المقبرة، وغير ذلك مما يعلمه من تتبع أحوالهم.

وإن أراد أن الزائرَ ينتفع بثواب الدعاء لهم والترحم والسلام عليهم؛ فهذا صحيح، ولكن أي مدخل لصاحب القبر فيه؛ لأنَّ المُثيب على الدعاء هو الله ـ

ص: 61

عز وجل ـ، وهذا لا يختص بالميت، حتى لو دعا الحي بظاهر الغيب حصل له الثواب كما قدَّمنا، وإن أراد التبرك بصاحب القبر بمعنى أنَّ الميَت يُعطيه خيرًا من حصول علم ورزق، وشفاء [مرض] ، وتفريج كرب، ومغفرة [ذنب] ، وغير ذلك مما لا يعطيه إلا الله، أو حاجة من حوائج الدنيا التي كان يقدر عليها وهو حي؛ فهذا ـ وايم الحق ـ لهو الشرك بعينه ومنشأ ضلال المُضِلِّين، وهو الذي كان السبب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر، كما كان [يعمله أهل] الجاهلية، فلما وقر الإيمان والتوحيد في قلوب أصحابه؛ أَذِنَ لهم، وهذه الزيارة التي يزورها بعض الناس اليوم لقبور الصّالحين لا يريدون بها إلا حصول جميع ما ذكرناه! الذي من شأنه أن لا يُطلب إلا من الله ـ وحده ـ لا من صاحب هذا القبر، يعرف ذلك من وقف عند قبور الصّالحين؛ فيسمع ويرى ما تقشعر منه جلود الموحدين؛ فيسمع الوائد يقول: يا سيدي! أنا في حَسبِك لا تَرُدني خائبًا، العارف لا يُعرَّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب! وترى الزائر يُمَرغ خده على عتبه القبر ويلثُمَه ويتمسح به ويطوف حوله، وغير ذلك من الأفعال والأقوال المنكرة، التي زادت بأضعاف على ما كان المشركون يفعلونه عند أصنامهم، ولا نطيل في هذا البحث؛ فإن الزيارة البدعية قد بيَّنها الرسول وأصحابه، والعلماء من بعدهم إلى يومنا هذا؛ فجزاهم الله عن المسلمين خيرًا.

فصل

وقد يتوهم من لم يعرف مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في زيارة القبور من إيراد السبكي هذا التقسيم في هذا الباب؛ أنه ينكر زيارة القبورل ويجعلها بدعة مطلقًا من غير تفصيل، وليس كذلك. وها أنا أنقل جملة من جوابه الذي أجاب به السائل عن بيان حكم زيارة القبور، وإن كان قد يُكْتَفى بما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب

ص: 62

«الصارم المنكي في الرد على السبكي» . فلطول المقام وزيادة الفائدة أقول: قال شيخ الإسلام وبركة الأنام المحدث المفسِّر المجتهد أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رَوَّح الله روحه ونَوَّرَ ضريحه ـ بعد كلام طويل ما نصه: «وأمَّا زيارة القبور المشروعة؛ فهو أن يسلم على الميت، ويدعو له، وهذا بمنزلة الصلاة على جنازته، كما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين مِنَّا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِن رجل يَمُرّ بقبر رجل كان يعرفه فيسلِّم عليه إلا رَدَّ الله عليه روحه حتى يَرُدَّ عليه السلام» . والله ـ تعالى ـ يُثيب الحي إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلَّى على جنازته؛ ولهذا نُهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين؛ فقال عَزَّ مِن قَائِلٍ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} .

فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحي إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله؛ بل فيها منفعة الحي للميت، كالصلاة عليه، واللهُ ـ تعالى ـ يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويثيب هذا على عمله؛ فإنه ثبت في الصحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا ماتَ ابنُ ادم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عِلْم ينتفعُ به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» .

فصل

ثم إنه بعد أن ذكر الزيارة السنية؛ أعقبها بذكر الزيارة البدعية، وأطال في ذلك بما فيه كفاية ومقْنَع لمن أراد الله هدايته.

فإن أردت الوقوف عليه فارجع إليه في رسالته المسماة: «زيارة القبور والاستنجاد

ص: 63

بالمقبور» ـ التي طبعت بمصر ـ؛ تجد فيها ما يثلج الصدر ويوضح الأمر؛ فإنه ـ رحمه الله تعالى ـ بسط فيها القول بسطًا وافيًا، مؤيدًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فقطع بها شُبَه المبتدعين، وأدحض حُجَج المعاندين، ولأجل أنها مطبوعة ومشهورة اكتفيت بالإشارة إليها والعزو إليها، وهكذا أفعل في كل كتاب يكون مطبوعًا ومشهورًا؛ فإني أكتفي في تأليفي هذا بالإشارة إليه، وربما أذكر منه جملة وأنبه على بقية ما فيه؛ روم الاختصار وتسهيلًا على من يريد الإرشاد؛ فإني لو ذهبت أذكر [كل ما] ورد من الرد على الزيارة البدعية وما قالته العلماء قديمًا وحديثًا في بيانها وكشف حالها؛ لاحتجت إلى سفر ضخم؛ فأكتفي بالإشارة إلى الكتب التي أُلفت في هذا الباب؛ ليقف الناظر عليها، ويرجع في ذلك إليها، وحيث أن أكثرها ـ ولله الحمد ـ قد طُبعَ وانتشرَ فلا حاجة بي إلى نقل جميع عباراتها، والله الهادي.

ولقد فتح هذا المعترض على المسلمين الموحدين بابًا عظيمًا من الشرك والضلال بهذا القسم الثالث ـ أعني: قوله: «زيارتها للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الخير والصلاح» ـ، وجاء بعده علماء سوء فزادوا في الطنبور نغمة وفي الطين بِلْة؛ فجوَّزوا للناس تقبيل القبور، ومسحها والطواف بها، والنذر والذبح لها، والاستغاثة بأهلها؛ فلا تكاد تسمع عند قبور الصّالحين ذكر الله أبدًا؛ بل تسمع الزائرين يهتفون بأسماء أهلها، ويطلبون منهم حوائج الدنيا والآخرة؛ فتراهم ركَّعًا سجَّدًا يبتغون فضلًا من صاحب القبر ورضوانًا، سيماهم السواد في وجوههم من أثر السجود لغير الله؛ فإنها ما عُفِّرت ولا مُرِّغَت لأجله، وتراهم متذللين خاشعين خاضعين ناكسي رؤوسهم، فوالله لو فعلوا ذلك لله عز وجل في صلاتهم وعبادتهم؛ لكانوا من الفائزين المفلحين.

وهذا الذي ذكرته بعض ما رأيته وسمعته. فنعوذ بالله من أن نعبد غيره أو نستعين بأحدٍ سواه. وقد أخبرني الثقة من أهل حضرموت أنهم في بلادهم يأتون إلى القبور الصّالحين من السادة وغيرهم، ومعهم العقائر من الإبل وغيرها؛ فيقفون عند صاحب القبر ويقولون: يا فلان! ـ يسمونه باسمه ـ هذه عقيرتك؛ فيضربون قوائمها

ص: 64

بالآلات الحديدية حتى تنخَذِل قوائمها وتبرك، ثم يذبحونها، وليتهم كما ذبحوا لغير الله أحسنوا الذبحة ـ القِتْلَة ـ كما قال عليه الصلاة والسلام:«إذا قَتلتم فأحسِنُوا القِتْلَة» ، وقد سألتُ كثيرًا من أهل حضرموت فاعترف به، والله المستعان!

فصل

فممن ألف في ذلك وبيَّن ما هنالك: شيخ الإسلام ابن تيمية، وله في ذلك رسائل عديدة، بعضها قد طبع بمصر والهند، وبعضها لم يطبع حتى الآن. ومنهم: تلميذه الإمام المجتهد الحافظ المتقن ناصر سنة سيد المرسلين وسيف الله على أعناق المبتدعين شمس الدين ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» ، وكتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين» ، وكتابه «زاد المعاد في هدي خير العباد» . ومنهم: الحافظ محمد بن عبد الهادي المقدسي في كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» . ومنهم: الإمام المتقن السيد محمود شكري الآلوسي في كتابه «غاية الأماني في الردِّ على النبهاني» . ومنهم: الإمام الكبير البركوي الحنفي

ص: 65

صاحب الطريقة المحمدية في رسالته «حكم زيارة القبور» ، وقد طبعت بمصر مع جملة رسائل؛ فقد أحسن فيها وأجاد وأرضى بها رب العباد. ومنهم: الإمام عبد اللطيف النجدي في كتابه «منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس» . ومنهم: الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في

ص: 66

تفسير القرآن. ومنهم: الأستاذ الحكيم السيد محمد رشيد رضا

ص: 67

في مجلة «المنار» . ومنهم: الأستاذ النحرير الشيخ أبو بكر خوقير المكي في كتابه «فصل المقال» الذي طُبعَ بمصر. ومنهم: العلامة السويدي في كتابه الذي ألفه في إخلاص التوحيد. ومنهم: الإمام المجتهد المطلق السيد صديق حسن خان في كتابه

ص: 68

«الدين الخالص» وغيره من كتبه. وغيرهم مما لم أطلع على مصنفاتهم؛ فكلٌّ منهم قد أجاد وأفاد؛ فلعل المسترشد إذا رجع إلى أي كتاب من هذه الكتب التي ذكرناها لم يبقَ عنده شبهة من الشُّبَه التي راجت على الجهَّال، وإن كانوا قد سمَّوا أنفسهم علماء؛ فإن العالم هو الذي يقف عند ما شرعه الله ورسوله ولم يتجاوزه إلى رأي أحد من الناس كائنًا من كان.

فصل

وهؤلاء الذين جاءوا من بعد السبكي وأضرابه لم يكتفوا بما ذكرناه عنهم من جواز تقبيل القبر ومسحه والتبرك بترابه؛ بل اعتقدوا في أهلها أنهم لهم قدرة على الإحياء والإماتة والعطاء والمنع، وإليك ما قاله كبيرهم ـ هو أحمد بن حجر المكي ـ في كتابه «الفتاوي الحديثية» ؛ فقد ذكر فيها عن الشيخ عبد القادر الكيلاني أنه أحيا دجاجة! فانظر ـ رحمك الله ـ إلى هذ الجاهل كيف أدَّاه جهله إلى مثل هذه السخافات والتُّرهات، وليت شعري! إذا كان الشيخ عبد القادر الكيلاني له قدرة على إحياء دجاجة؛ فلِمَ لم يُحْيي إمامًا من الأئمة الأربعة ـ مثل: مالك والشافعي وأحمد ـ؛ حتى ينتفع الناس بعلمه، ويُصلح الدين مما طرأ عليه من البدع والمفاسد التي لا يحصيها إلا الله عز وجل؟! وفي زمانه ـ رحمه الله تعالى ـ قد كثرت البدع

ص: 69

وعظمت؛ حتى طعن أهلها في أهل الحديث ورموهم بالحشو والتجسيم.

ارجع في ذلك إن شئت إلى كتاب «الغُنْيَة» ؛ تجد بها ما ذكرته لك. وليس عندهم مما ذهبوا إليه شيء يصلح للاستدلال من كتاب أو سنة حتى يُنظَر فيه؛ بل محض تقليد أعمى أو اتباع لآراء سلفهم من غير دليل كما وصفنا؛ فقد بنوا أقوالهم على قول السبكي: «تُزار القبور للتبرك بأهلها» ؛ فهو وإن كان لم يقل ما قالوا بل وافق أبا محمد المالكيّ في قوله: «إنَّ قصد الانتفاع بقبر الميت بدعة إلا قبور الأنبياء» ؛ أقره بقوله: «صحيح» ، ولكن رمى فيها كلمة هي كانت سبب ضلال المضلين وهلاك الهالكين؛ أعني قوله عقب ذلك:«وإن كان فيما قاله نظر» ؛ فالمتأخرون ذهبوا يبينون هذا النظر، وزادوا عليه ما بيناه سابقًا.

فهكذا شأن البدعة؛ تظهر صغيرة ثم تربو وتنمو حتى يُقَيض لها الله من يجتثها من أصولها؛ فهذا السبكي قد سَنَّ للناس سُنَّة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء ـ كما جاء في الحديث ـ.

فصل

وهذه ليست بأول مصيبة أُصيب بها الإسلام والمسلمون بسبب تقليد الأحياء للميتين؛ فكم آية من القرآن بسبب التقليد قد تركت، وسنة لآراء الرجال قد رُدَّت وهُجرت! وقبور من دون الله قد عُبدت! وآراء على القرآن والسنة قد رُفعت! وممالك للمسلمين في يد العدو قد سقطت! ودماء بين المسلمين قد سُفكت! ورجال للعلم قد أُهينت وسجنت بل قتلت! فإلى الله المشتكى من هذه المصيبة التي كادت

ص: 70

أن تهدم أصول الدين، وتُوقع الناس في العذاب المهين؛ فكأن أسلاف هؤلاء المبتدعين قد تقاسموا بالله وتعاهدوا وتعاونوا على تخريب هذا الدِّين، ونقض عُراه عُروة عُروة، وقد انقسموا قسمين: قسم سمُّوا أنفسهم علماء التوحيد والأصول وقرروا قانونًا بينهم لا تجوز مخالفته؛ وهو: إذا تعارض دليل سمعي ودليل عقي جمع بينهما إن أمكن، فإن تعذر الجمع أُوِّل الدليل السمعي ولو بتكلف، فإن تعذَّر التأويل رُدَّ الدليل السمعي إن كان من السنَّة ولو صحيحًا من جهة الإسناد، ويقولون: هذا خبر آحاد لا يُقَدَّم على العقل؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والدليل العقلي يقين؛ فلا يترك اليقين للظنَّ! ولولا أن يخافوا من المسلمين لقالوا ذلك في الدليل القرآني! ولو قالوه فلا بدْع؛ لأن شيخهم جهم بن صفوان قال ذات يوم وهو يقرأ في المصحف

ص: 71

{الرحمن على العرش استوى} : لو أمكنني حكها من المصحف لحككتها! روى ذلك عنه البخاري في كتاب «خلق أفعال العباد» ؛ فارجع إليه.

فبسبب هذا القانون الذي ذكرناه عنهم؛ أوَّلوا أسماء الله وصفاته التي ذكرها في كتابه، ووصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنَّ اعتقاد ظواهر هذه النصوص كفر صريح! بل لا بُدَّ من تأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ ففسَّروها بآرائهم وما أدَّته إليه عقولهم؛ ففسَّرُوا اسمه (الرحمن الرحيم) : بلازم أثر ذلك من إثابة المؤمنين، ومنعوا أن تكون لها معاني تليق به سبحانه وتعالى، وفسَّرُوا (العرش) : بالملك، و (الاستواء) : بالاستيلاء، واليد: بالقدرة، والنفس: بالعقاب، والنزول: بنزول الملك، والمجيء: بمجيء أمره، وقالوا: لا يُوصف الله بأنه خلف أو أمام أو يمين أو شمال أو أسفل أو فوق، ولا يُقال في السماء ولا فوق العرش ولا تحته ولا داخل العالم ولا خارجًا عنه، ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل من عنده شيء، ولا يتولى حساب العباد بنفسه، ولا يكلم المؤمنين، ولا يضحك لهم، ولا يغضب ولا يرضى، وغير ذلك من الصفات الثابتة له عز وجل بالكتاب والسنة الصحيحة، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا، ولم يقتصروا على ما ذكروه؛ بل جعلوا طريقتهم هذه ـ أي: طريقة العدم والنفي والتعطيل ـ أعلم وأحكم من طريقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل الحديث أجمعين! فسبحانك هذا بهتان عظيم! فسبحان من أعمى بصائرهم وطبع على قلوبهم!

فهل يقول مسلم أو كافر: إن فروخ الأعاجم أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن والسنة؟! ولو أخذنا نردّ هذا الضلال المبين لطال بنا الكلام، وإن شئت الوقوف على

ص: 72

ذلك فارجع إلى كتاب البخاري ومسلم و «خلق أفعال العباد» وتفسير ابن جرير، وغيرها من كتب السلف التي ألَّفوها [لبيان السنة] وللرد على أهل البدع والشُّبَه الذين يريدون أن يُبدلوا كلام الله.

فصل

وأما القسم الثاني: فقد سمَّوا أنفسهم علماء الفقه والفروع، وقرَّرُوا قاعدة؛ وهي: إذا جاء النص مخالفًا لقول متبوعهم يؤول إن أمكن، وإلَّا حاولوا ردَّهُ إمَّا: بطعن في أحد رجال إسناده ولو بشيء لا يُعَدّ طعنًا وجرحًا في الحقيقة. وتراهم إذا كان الحقَّ هم يُعَدِّلون هذا الراوي وإنْ جرحه عدد كثير. فخلاصة قاعدتهم: أنَّ ما ذهبَ إليه أصحابه هو الأصل، والنصوص الشرعية هي الفرع، فإن وافق الفرع الأصل قُبِل وإلَّا فلا! هذا ما قاله أبو الحسن الكرخي الحنفي. وحيث إن جميعهم قد علموا أن ضلالهم هذا لا يخفى على من رزقه الله فهمًا في كتابه واطلاعًا على سنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ منعوا الناس بل حرَّموا عليهم الاهتداء بالكتاب والسُّنَّة، ولو بلغ في العلم أعلى درجات الغاية،

ص: 73

وقالوا: إنَّ باب الاجتهاد والأخذ بالدليل قدانسدَّ، وليس عليكم إلا أن تدينوا الله بما في هذه الكتب التي وضعناها لكم، ولا تقرؤوا القرآن إلا للأموات والتعبد! ولا كتب الحديث إلا لإنزال المطر ودفع الوباء والبلاء وكل شدَّة! ومن جاءكم يستدلّ بشيء في القرآن والسنة فارموه بالتبديع والتضليل والتشنيع وشهروه بين الناس بأنه رجل يبغض الأئمة الأربعة؛ لينفر الناس عنه ويجتنبوه، ولا يسمعو قوله ولو تلا عليهم القرآن العظيم من أوله إلى آخره، وأتاهم بألف دليل! فانظر ـ هداك الله ـ إلى هذا المنكر العظيم!

فوالله؛ لو أحيا الله أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد في هذا الزمان؛ لتبرؤوا إلى الله من المنتسبين إليهم، وحماهم الله من أن يجعلوا أقوالهم مُقَدَّمة على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن طالعَ كتب الأئمة المنسوبة إليهم؛ وجد فيها شِدَّتهم على تاركي السُّنَّة، والحث على اتباعها، والتبرؤ إلى الله من تقديم أقوالهم عليها، وكيف يُظَنُّ بهم ذلك وهم أئمة الهدة ومصابيح الدّجى؟! فرضي الله عنهم أجمعين! ونفعنا بعلومهم وحشرنا في زمرتهم، آمين.

ص: 74

وإذا أردتَ الوقوف على نهيهم عن التقليد وكراهتهم له، وحث الناس على الأخذ بالدليل، فإن وافق قولهم الدليل قُبِلَ وإلا فيُرَدُّ قولهم بحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فعليك بكتاب «جامع بيان العلم وفضله» للحافظ ابن عبد البر، وكتاب «إعلام الموقعين» للحافظ ابن القيم، و «محاورة المصلح والمقلد» للسيد رشيد رضا، وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا الباب.

فصل

واعلم أني لا أقصد بالذمِّ إلا من كان متصفًا بهذه الصفات التي ذكرتها، وهو مرادي دائمًا في هذا المجموع؛ إذا ذكرتُ أقوامًا وشنَّعت عليهم فلا أقصد إلا مَن خالفَ الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ولا أعمم سائرهم بالذمِّ والتشنيع؛ فإن ذلك خطأ عظيم؛ فمرادي بالرد على أهل هذين القسمين هو: ما حكيناه عنهم؛ وإلا فكثير من أتباع الأئمة الأربعة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ كانوا هادين مهديين، عاملين بأقوال الأئمة إذا كانت موافقة للكتاب والسنة، وإذا جاء الحديث مخالفًا لشيء من أقوالهم تركوا أقوالهم للسَّنة الصحيحة، فهؤلاء هم الذين اتبعوا الأئمة على الحقيقة؛ فرضي الله عنهم وشكر سعيهم. وأما من وصفنا حالهم في القسمين السابقين؛ فأولئك لا يقال لهم أتباع الأئمة؛ بل أناس اتبعوا أهواءهم وآراءهم من غير بيِّنة ولا توفيق من الشارع، ولا يَجْعَل أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم وحاشاهم أن يأمروا أحدًا أن يجعل أقوالهم هي الأصل والكتاب والسنة هما الفرع؛ فإن وافق

ص: 75

شيء منها أقوالهم فذاك؛ وإلا فليس له مخرج. وهذ االذي ذكرته إنما هو شيء يسير من المفاسد التي حصلت من أهل التقليد.

بل هناك مفاسد أخرى تزيد بأضعاف مضاعفة عمَّا وصفته؛ فكم أُخرجت رجال من العلماء من بلادهم ظلمًا وعدوانًا، وكم تركت رجال من العلماء في غيابات السجن؛ فمنهم من مات فيه، ومنهم من فرَّج الله عنه، وكم من دماء قد سفكت، وبلاد للمسلمين في يد العدو قد سقطت. وهذا كله إنَّما هو من شؤم التقليد والانتصار لغير الله ورسوله.

فلو أراد هؤلاء بفعلهم هذا الانتصار لله ورسوله؛ ما حصل من ذلك شيء؛ لأن الله يقول ـ وبقوله يهتدي المؤمنون ـ: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} ، وقال ـ تعالى ـ:{كتب الله لأغلبنَّ أنا ورُسلي} ، وقال جلَّ ثناؤه:{إن ينصركم الله فلا غالب لكم} ؛ فقوله حق ووعده صدق، فلما تغلب العدو على بلاد هؤلاء وغيرها من البلدان التي كانت عند المسلمين ـ وحيث أنه لم يكن ذاك كذلك ـ؛ علمنا قطعًا أن هرؤلاء ما أرادوا بفعلهم هذا وجه الله؛ بل أرادوا التقرب إلى الملوك والولاة وأرباب الدينا؛ فإذا وَلِيَ إمام حنفي قاموا لنصرة أبي حنيفة وأتباعه، وطعنوا [في] الشافعية؛ لأنهم إذ ذاك أهل شوكة، وإذا وَلِيَ إمام شافعي قامت الشافعية على الحنفية؛ فاقتصوا منهم بأضعاف ما فعلت الحنفية فيهم؛ جزاء وفاقًا، وهكذا كلَّما حُبِّبَ إلى أيّ إمام شيء من العلوم تراهم يهرعون إليه، يحسنون هذا العلم له، ويضعون فيه الكتب والرسائل؛ فأين هؤرء من علماء السلف الذين كانوا إذا طُلِبُوا هَربوا، وإذا دُعوا إلى أبواب الأمراء لم يُجِيبوا؛ فكم حُبِسَ بعضهم وضُرِبَ من أجل أنه لم يقبل القضاء! ورُوي عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه أنه لما طلبه الخليفة هارون الرشيد إلى بغداد ليسمع منه الموطأ؛ فأرسل له مالك بقوله: «يا بَني العباس

ص: 76

العلم عنكم أُخذ والعلم يُؤتَى ولا يَأتي» ؛ فلما بلغه كتاب مالك قال: صدق؛ وتوجه إلى المدينة؛ فسمع منه الموطأ، ثم أعطاه صلة عظيمة من الدنانير؛ فأخذها ووضعها في بيته ولم يتصرف فيها، ثم توجه أمير المؤمنين إلى مكة فحجَّ البيت ثم عاد إلى المدينة، وكلَّف الإمام بالذهاب معه إلى بغداد؛ فقال له مالك: «أما أنا فلا أخرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الدنانير التي أعطيتنيها فهي موجودة لم

أتصرف في شيء منها» .

وهذا الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه لمَّا طُلِبَ إلى القضاء فلم يقبل فحُبِسَ وضُرِبَ على ذلك. فهكذا تكون العلماء؛ كما قال بعض الصّالحين: «ما أحسن الأمير عند باب [العالم] ! وما أقبح العالم عند باب الأمير» .

فصل

وهذا الذي قلته إنَّما هو بعض ما قاله أهل العلم في وصف هؤلاء المفتونين المغرورين، وقد رأيت من الصواب أن أنقل بعض عبارات من كلام الإمام حجَّة الإسلام أبي حامد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ في كتابه «الإحياء»

ص: 77

قال ما نصه:

«الباب الرّابع: في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف، وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشرط إباحتها:

اعلم أنّ الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّاها الخلفاء الرّاشدون المهديّون، وكانوا أئمّة علماء بالله ـ تعالى ـ، فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلّين بالفتاوى في الأقضية؛ فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلَّا نادرًا في وقائع لا يُستغنى فيها عن المشاورة، فتفرّغ العلماء لعلم الآخرة، وتجرّدوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلّق بأحكام الخلق من الدُّنيا، وأقبلوا على الله ـ تعالى ـ[بكنه]

ص: 78

اجتهادهم ـ كما نُقل من سيرهم ـ، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام؛ اضُطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التّابعين مَن هو مستمرّ على الطّراز الأوّل، وملازم صفو الدِّين، ومواظب على سمت علماء السّلف؛ فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا؛ فاضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات؛ فرأى أهل تلك الأعصار عِزّ العلماء وإقبال الأئمّة الولاة عليهم، مع إعراضهم عنهم؛ فاشرأبّوا لطلب العلم؛ توصّلًا إلى نيل العِزّ ودرك الجاه من قبل الولاة؛ فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصّلات منهم؛ فمنهم مَن حُرم، ومنهم مَن أنجح، والمنجح لم يخل من ذلّ الطّلب ومهانة الابتذال؛ فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السّلاطين أذِلّة بالإقبال عليهم، إلَّا مَن وفّقه الله ـ تعالى ـ في كلّ عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأمصار على علم الفتاوى والأقضية؛ لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصّدور والأمراء مَن يستمع مقالات النّاس في قواعد العقائد، ومالت

نفسه إلى سماع الحُجج فيها؛ فعُلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام؛ فأكبّ النّاس على الكلام، وأكثروا فيه التّصانيف، ورتّبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين الله، والنّضال عن السُّنّة، وقمع المبتدعة، كما زعم مَن قبلهم: أنّ غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدّين وتقلّد أحكام المسلمين؛ إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم!

ثم ظهر بعد ذلك من الصّدور مَن لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولّد من فتح بابه من التّعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشّافعيّ وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص؛ فترك النّاس الكلام وفنون العلم، وأقبلوا على المسائل الخلافيّة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ

ص: 79

وغيرهم، وزعموا أنّ غرضهم استنباط دقائق الشّرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التّصانيف والاستنباطات، ورتّبوا فيها أنواع المجادلات والتّصنيفات، وهم مستمرّون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يُحدث الله فيما بعدنا من الأعصار! فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيّات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدُّنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمّة، أو إلى علم آخر من العلوم؛ لمالوا أيضًا معهم، ولم يسكنوا عن التعلّل بأنّ ما اشتغلوا به هو علم الدِّين، وأنّ لا مطلب لهم سوى التّقرّب إلى ربّ العالمين. والله سبحانه وتعالى أعلم» اهـ من إحياء علوم الدين.

قال شارحه السّيّد محمد مرتضى الزبيدي ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ عند قول المصنف: «وليس ندري ما الذي قدَّر الله فيما بعدنا من الأعصار» .

قلتُ: «ثم تعاظم الأمر في ذلك، وأوسعوا فيه الكلام ومالوا إليه مرة واحدة بحيث لا يعد العالم فيما بينهم إلا إذا استكمل الخلاف والجدل، وحصلت المناظرات بين الحنفية والشافعية، وترتب على ذلك تخريب بعض البلاد، وإجلاء بعض العلماء، ومن أعظمها ما حصل بمرو [أم] مدن خراسان بسبب ابن السمعاني وغيره، فهذا الذي ذكرته هو الباعث لهم على الإكباب والإقدام على الخلافيات والمناظرة

ص: 80

والجدل لا غير» ، إلى أن قال كلامًا حاصله: أن الملوك كلما مالوا إلى علم سواء كان من علم الشرع أو من علم الفلاسفة مالوا معهم، زاعمين أنهم قد أرضوا بفعلهم رب العالمين، وهم في ذلك من الخاطئين.

وكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا بِلَيْلَى

ولَيْلَى لَا تُقِرُّ لهم بِذَاكَا» انتهى.

قلتُ: ما ذكره الشارح من وقوع الفتن والقلاقل بين الشافعية والحنفية في مرو أم مدن خراسان بسبب ابن السمعاني له قصة غريبة تضحك الثكلى، ذكرها الشيخ تاج الدين عبد الوهاب السبكي بن علي السبكي الذي نحن بصدد الرد عليه، في «طبقات الشافعية الكبرى» له، وحاصلها: أن الإمام المظفر ابن السمعاني كان في بادئ أمره حنفيًّا تفقه على والده وغيره في الفقه الحنفي، وناظر وناضل، ثم رأى في منامه رب العزة جل جلاله؛ فقال له: أما آن لك أن ترجع إلينا يا أبا المظفر! فلما أصبح أوَّلَها

ص: 81

بأن الله سبحانه وتعالى يريد منه الانتقال من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ فقامت القيامة بين الحنفية والشافعية من أجل الإمام؛ فغلق المسجد القديم، ومُنِعَت الشافعية من إقامة الجمعة! فبالله عليك! تأمَّل منصفًا في هذه القصة؛ فهل يقول أحد من سفلة الناس فضلًا عن أهل العلم: أن مذهب أبي حنيفة خطأ وضلال واتباع غير دين المسلمين، حتى أن الله يقول لأبي المظفر: أما آن لك أن ترجع إلينا! بمعنى أن تترك مذهب أبي حنيفة وترجع إلى مذهب الشافعي، ليس لها تأويل إلا هذا؟! وكان من الممكن بل هو التحقيق إن صحَّت هذه الرؤيا لابن السمعاني؛ فتأويلها ـ والله أعلم ـ أن ابن السمعاني كان مشتغلًا بعلم الكلام المتضمن تأويل نصوص الصفات والمناظرة بالجدل انتصارًا لأبي حنيفة؛ فأراد الله هدايته وإنقاذه من المهلكات التي نهى الله عنها ورسوله؛ فأراه في نومه ما أراه. ومعنى «أن ترجع إلينا» بمعنى: أن ترجع إلى كتابنا وسنَّة نبينا؛ فتناظر وتناضل عنهما وتنتصر لهما، ولا تقدم قول أحد من الناس كائنًا من كان عليهما؛ فإن وافق قول متبوعك شيئًا منهما قُبِل، وإلا فيرد بكتابنا وسنة نبينا.

هذا هو التأويل اللائق برؤيا هذا الإمام؛ وقد أدرك ذلك وفهمه ـ رحمة الله تعالى عليه ـ فرجع إلى مذهب أهل الحديث، وتخرج فيه، ونبغ وبرع وصنَّف التصانيف النافعة. والحامل لنا على تأويل هذه الرؤيا أسبابٌ:

مِنها: أن المذاهب هذه لم تكن معروفة في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم؛ بل حدثت في أواخر المائة الثانية، هذا بالنسبة إلى وجود الأئمة الأربعة؛ وإلا فالتقليد لم يستفحل أمره إلافي المائة الرابعة؛ يُعْلَم ذلك من تتبع كتب الحديث وكتب الأئمة الذين كانوا قريبًا من عهد الأئمة الأربعة؛ كمختصر المزني

ص: 82

والمدونة، وغيرهما. فكيف يظنّ أحد أن الله ـ تعالى ـ يأمر أحدًا من خلقه باتباع غير كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ليس بعضها بأولى من بعض؛ إذ ما من مذهب من المذاهب إلا وفيه حق موافق للقرآن والسنة، وفيه من الرأي والاستحسان ما هو مخالف للنصوص الشرعية، ولكن يقال: بعضها أكثر صوابًا من بعض، ولكن خطأهم مغفور لهم خاصة دون غيرهم؛ لأنهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لم يألوا جهدًا في تمحيص الحق وتوضيحه، وقد أفرغوا وسعهم في ذلك، و {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} ، وقد فعلوا ذلك لأنفسهم؛ خروجًا من التقليد المنهي عنه؛ إذ كان قبلهم من هم أعلم منهم، ولكن لما علموا علمًا ضروريًّا أن الله عز وجل لم يوجب على الناس إلا اتباع الكتاب العزيز وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المعصوم عن الخطإ، بخلاف غيره من الناس؛ فإنه يجوز عليه الخطأ مهما عَظُمَ قدره؛ إذ لا عصمة لغير الأنبياء ـ صلوات الله تعالى عليهم ـ، وأما من أتى بعد الأئمة الأربعة أو غيرهم فلا يغفر خطأه بتقليده لهم، ما لم يتبع طريقتهم في استنباط الأحكام، ويدأب في تحصيل ذلك كما دأبوا، ويتجشم الصعب لذلك كما تجشَّمُوا، ومن لم يكن عنده قدرة على ذلك فلا يجوز له أن ينتصر لأحد منهم بغير علم ولا سلطان بيِّن؛ بل عليه أن يسأل أهل العلم الموصوفين بهذه الصفات، والأمة لم تُعدَم ـ ولله الحمد ـ في كل زمان من هو موصوف بهذه الصفات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يَضُرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة مَن يُجَدِّد للناس أمرَ دينها» ؛ فلا تخلو الأرض في كل زمان ـ ولله الحمد ـ من

ص: 83

قائم لله بحجة.

وأما أهل الحديث ـ كَثَّرهم الله تعالى ـ في كل مكان في القديم والحديث؛ فهم أولى الناس بالله ـ تعالى ـ وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبالصحابة وبالتابعين وبالأئمة المجتهدين؛ لأنهم لم يقدموا قولًا على قول الله ـ تعالى ـ ورسوله، وجعلوا ذلك هو الأصل، وأقوال الناس هي الفرع؛ فإن وافقت هذا الأصل قُبَلَت وإلَّا رُدَّت؛ فإنها أحقر من أن تكون مساوية لقول الله ورسوله، فضلًا عن أن تُقَدَّم عليه؛ فهذا هو الذي نَدِين الله به وندعو الناس إليه.

فصل

وقد ذكر الإمام الغزالي للمناظرة آفات عشر، وهي أم الرذائل والفواحش؛ منها: النفاق، والحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء

إلى غير ذلك، إلى أن قال: «وهذه غير ما يقع بين المتناظرين من الشتم والضرب وتمزيق الثياب وجر اللحا

» إلى آخره.

[وأنا أقول] : هذا كله صحيح مشاهد لنا بالعيان، ولكن أقول: لا تُترك المناظرة والمناضلة عن الحق إذا حُسنت النية، وكان القصد نُصْرَة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا تغضب لترك الآية القرآنية والسنة الصحيحة النبوية، والله يقول:{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} ، وقال ـ تعالى ـ:{وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} ؟!

ومن المعلوم أن نصر الله ورسوله هو نصر كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خشية أن تقضي عليهما آراء الرجال، وهذ االاختلاف والتنازع لا يرتفعان أبدًا [إلا بالتحاكم إلى الكتاب والسنة] ؛ لقوله ـ تعالى ـ:{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، وقوله ـ تعالى ـ:{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} ؛ فقد أخبر الله سبحانه وتعالى بوقوع التنازع والاختلاف، ولكن هذا التنازع والاختلاف لا يضر؛ لوجود

ص: 84

القرآن والسنة الصحيحة بين أظهرنا؛ فالرد إليهما يسيرٌ سهلٌ جدًّا على من أراد الله هدايته.

وأما التنازع والاختلاف المضران؛ فهما: الرد إلى آراء الرجال واستحساناتهم؛ فهذا هو المضر؛ لأن الآراء والأفهام لا تنحصر ولا تنضبط؛ ولذلك كان يقول أبو حنيفة رضي الله عنه: «هذا رأي رأيناه فمن جاءنا بأحسنَ منه قبلناه» .

وهنا أسباب توجب الاختلافَ تَفاوتَ الناسُ في فهمها؛ وهي أسباب ثمانية ذكرها الإمام ابن رشد والإمام المرتضي شارح «الإحياء» ، وهذا نصه؛ قال في الشرح المذكور:«ثم إن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر سبب الإقبال على علم الخلاف والانكباب عليه، ولم يذكر الأسباب الموجبة للخلاف في هذه الملة؛ وهي ثمانية: الأول: اشتراكم الألفاظ والمعاني، الثاني: الحقيقة والمجاز، الثالث: الإفراد والتركيب، الرابع: الخصوص والعموم، الخامس: الرواية والنقل، السادس: الاجتهاد فيما لا نقل فيه، السابع: الناسخ والمنسوخ، الثامن: الإباحة والتوسيع» .

قلتُ: هذه الأسباب الثمانية هي التي يدور عليها قطب رحى علم أصول الفقه، ويا حبذا لو قصروا الكلام عليها كما فعل الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته التي وضعها في الأصول؛ بل ضموا إلى ذلك أقوال المعتزلة والفلاسفة وأهل

ص: 85

الكلام؛ حتى كأنه علم كلام محض! كما أفاد ذلك السيد بدر الدين النعساني في كتابه «الإرشاد والتعليم» ، وهذه الأسباب كلها موجودة في الكتاب العزيز والسنة النبوية؛ فلا محيص عنها، ولكن قد قَلَّ الخلاف فيها بين المُحَدِّثين؛ لأنهم لم يدخلوا في شيء من الرأي والاستحسان؛ فأحكام القرآن متفقون عليها فيما أعلم، وأما أحكام السنَّة فالخلاف بينهم بين حديث صحيح وحسن، وضعيف وموضوع، وناسخ ومنسوخ، وبعضهم يرى هذا حديثًا صحيحًا، وبعضهم يراه حسنًا فقط. وبعضهم يقول: هذا حديث ضعيف لا تقوم به حجة، ولو كثرت طرقه، وبعضهم يقول: إذا تعددت طرقه قوَّى بعضها بعضًا وصلح للاحتجاج. وبعضهم يقول: يعمل بالضعيف في فضائل الأعمال، وبعضهم يقول: لا يعمل به مطلقًا. وبعضهم يقول: هذا حديث موضوع، وبعضهم يقول: ليس هذا بموضوع؛ وله شواهد ومتابعات ترفعه عن درجة الوضع. فهذا الخلاف قريب الاتفاق؛

ص: 86

لأنهم قد وضعوا علمًا لذلك سمَّوه (علم مصطلح الحديث) ، يدخل فيه علم الجرح والتعديل؛ فمن رجع إلى هذا الفن رَدَّ الخلاف إليه؛ فلم يبقَ بعد ذلك عنده شك في أن هذا الحديث إما صحيح أو حسن، أو ضعيف أو موضوع. والله الموفّق.

هذا خلاف المحدثين في فروع الفقه، وأما في العقائد فلم يختلفوا قط؛ بل كلهم مجمعون على إثبات الصفات لله ـ تعالى ـ التي جاء بها القرآن وصحَّت بها الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير تأويل ولا تمثيل؛ فرحم الله الإمام السفاريني الحنبلي حيث يقول في عقيدته التي سمَّاها «الدرة المضية» :

ألم ترَ اختلاف أهل النظرِ

وحُسْن ما نحاه أهلُ الأثرِ

فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى

نبيهم فاقنع بهذا وكفى

فصل

ولعلَّ قائلًا يقولُ: قد ذكرتَ فيما مضى أنّه لا بُدّ من وقوع التنازع والاختلاف في الأحكام الشرعية كما أخبر الله، وكيف يستقيم هذا والله سبحانه وتعالى نهانا عن التفرق في الدين بقوله:{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} ، وقوله: {ولا تكونوا

ص: 87

كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} ، وقوله:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء}

إلى غير ذلك من الآيات الصريحات في النهي عن التفرق والاختلاف؟!

فالجواب: قد قدَّمْنَا أنَّ التنازعَ والاختلافَ الذي أخبر الله بوقوعه معناه: إذا اختلفنا في شيء ن الأحكام بعضنا يقول فيه: هذا حلال، وبعضنا يقول فيه: هذا حرام، والبعض يقول: هذا مكروه؛ فأمرنا ـ تعالى ـ أن نَرُدَّ هذا الاختلاف إلى الكتاب والسنة؛ فإذا وجدنا دليلًا يدلُّ على التحريم أو الحلّ أو الكراهة قلنا به، وهذا لا حرج فيه ولا ضرر؛ لأن الكتاب والسنة الصحيحة لها أول وآخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات

» الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ما أحلَّ اللهُ في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو؛ فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن ينسى شيئًا» ، وتلا:{وما كان ربُّك نسيًّا} [مريم: 64] .

فإن قلتَ: إذا كان الحلال بيِّنًا والحرام بيِّنًا من الكتاب والسنة؛ فما وجه التنازع والاضطراب والاختلاف؟!

فالجواب: أن أدلة الأحكام الشرعية على قسمين: جليٌّ وخفيٌّ؛ فالجلي: ما يفهمه كل أحد، والخفي هو:[ما] انفرد بفهمه العلماء المتبحرون الماهرون في علم الكتاب والسنة؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ، و (أولو الأمر) : هم العلماء، والاستنباط لا يكون إلا في الشّيء الذي خَفِيَ دليله.

فصل

وأما التفرق والاختلاف اللذان ذمَّهما الله ـ تعالى ـ ونهى عنهما؛ فهو الاختلاف في الآراء التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة؛ فإن الآراء لا نهاية لها، والعقول تتفاوت

ص: 88

وكذا الأفهام؛ كما قال مالك الإمام: «أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما أنزل الله ـ تعالى ـ على محمد صلى الله عليه وسلم لجَدله؟!» ، ومعلوم أن هذا الاختلاف هو الذي يوجب الشقاق وتفريق كلمة المسلمين وينشئ العداوة والشحناء والحقد والبغضاء؛ لأنَّ كل أحد يرغب أن يكون رأيه أحسن من رأي غيره.

فإن قلتَ: إنَّ الذين كانوا يناظرون ويناظرون عن أهل المذاهب ما فعلوا ذلك إلا لنصرة الكتاب والسنة؛ فكيف ذمَّهم الإمام حُجّة الإسلام الغزاليّ؟!

فالجواب: ليس ذلك كذلك؛ إنَّما كان قصد كل واحد منهم نصرة إمام مخصوص؛ ولذلك تراهم يردُّون ويتكلفون التآويل البعيدة للنصوص من أجل أنها خالفت قول متبوعهم، وأما لو كان مقصودهم نصرة الحق لما نتصروا لإمام معين؛ بل يدورون مع الدليل حيث دار؛ فإن كان النص وافق أبا حنيفة أو مالكًا أو الشافعي قالوا به ورَدُّوا قول الإمام بالحديث.

فإن قلتَ: إنَّ الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم ما خرجوا عن الكتاب والسنة، فالانتصار لهم انتصار للكتاب والسنة.

فالجواب: هذا كلام صحيح، ولكن الإحاطة بأدلة الأحكام لا تثبت لأحد منهم؛ وإنَّما يقال: إنَّ مجموعهم قد أحاط بأدلة الشرع إلا أشياء قليلة جدًّا، وتأمَّل قول مالك ـ رحمه الله تعالى ـ لهارون الرشيد لما أراد أن يحمل الناس على ما في «الموطأ» :«دع الناس وما اختاروا لأنفسهم؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرَّقُوا في الأمصار، وعند كل أحدٍ من العلم ما لا يوجد عند الآخر» ؛ فعُلِمَ بهذا أن كل إمام عنده [علم] في السنة، وقد يوجد عند غيره أكثر منه، وقد يتفاوتون في علم السنة؛ كما يعلمه من تتبع مصنفاتهم؛ فمالك أكثر سنة من أبي حنيفة، والشافعي أكثر من مالك، وأحمد أكثر من الشافعي؛ علمنا ذلك من مسند الإمام أبي حنيفة وموطأ مالك، وكتاب الأم وغيره للشافعي، ومسند الإمام أحمد؛ فإنه أجمع وأعظم من كتب الأئمة المذكورين رضي الله عنهم. والسبب في ذلك أن علم السنة لم يكن مدونًا في عصر الصحابة ولا

ص: 89

التابعين؛ لاشتغالهم بالحروب والفتوحات الإسلامية؛ بل كان محفوظًا في صدور الرجال، فلما كتب الناس في زمن عمر بن عبد العزيز فصار كل يكتب ما وصل إليه من علم، وحيث أن الإمام أبا حنيفة هو أول الأئمة الأربعة وكان علم السنة في زمانه قليلًا؛ فلذلك قَلَّت روايته للحديث، ثم لا زال الناس يكتبون ويتوسعون في علم السنَّة حتى نما هذا العلم وكَثُر أهله؛ فكان مالك أكثر رواية من أبي حنيفة، ثم الشافعي أكثر رواية من مالك، ثم أحمد أكثر رواية من الشافعي، ثم كان علم السنَّة في عصر البخاري ومسلم وأهل السنن أكثر مما كان في عصر الأئمة الأربعة، فلم تمَّ نمو هذا العلم وبلغ أشده واستوى في القوة؛ أخذ يضمحل شيئًا فشيئًا؛ حتى صرنا لا نكاد نرى رجلًا من أهل الحديث! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إذا تقرر هذا؛ علمنا أن الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين ـ لا لوم عليهم في شيء ما؛ لأن كل واحدٍ تكلَّم في الدين بما وصل إليه علمه؛ فقد يكون الحديث لم يبلغه بالكلية، أو بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، وأما أتباعهم الذين جاءوا من بعدهم فاللوم كل اللوم عليهم إذا قَدَّموا قول متبوعهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نما وكَثُرَ هذا العلم وصُنِّفَت الكتب المختلفة في أنواعه؛ فكان الواجب عليهم أن ينصروا علم الكتاب والسنَّة ويجعلوا قول إمامهم تبعًا لهما؛ فإن وافقها قُبِل وإلا فلا.

فإن قلتَ: هذه طريقة أتباع الأئمة سواء بسواء.

فالجواب: نعم؛ هذه طريقة بعض

أتباع الأئمة، لا كلهم؛ كالإمام المزني

ص: 90

والبيهقي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف والحافظ ابن عبد البر، وغيرهم، والبعض الآخر كان على خلاف ذلك؛ كما وصفنا حالهم فيما مضى.

فصل

فإن قال قائل: هل يمكن أن تذكر لنا شيئًا مما قدَّم فيه هذا البعض الآخر قول الإمام على الحديث الصحيح؟

فالجواب: هذا ممكن لنا أن نذكر لك شيئًا منه، وأما استقصاؤه فلا يمكنني، وحسبي أن أذكر لك أمثلة من هذا أثبت بها ما قلته.

فمن ذلك: ما ذكرَتْهُ الحنفية في مسألة المياه: إن الماء إذا لم يكن عشرًا في عشر فإنه يستعمل.

وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسه شيءٌ إلا ما غلبَ على لونِه أو طعمه أو ريحه» ،

ص: 91

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا بلغَ الماء قُلَّتين فلا يحمل الخَبَث» .

ومثلَ قولهم فيمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح فقد بطلت صلاتُه.

وهذا مخالف للحديث الصحيح: «مَن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومَن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» .

وما أبردَ ما أوَّل به الطحاوي هذا الحديث حيث قال: «من أدرك» يعني: من الإدراك؛ وهو البلوغ، لا من الإدراك الذي هو من إدراك الشّيء! يعني: تحصَّل عليه. وما أبعدَ ما عَلَّل به صدر الشريعة في كتاب «الوقاية» له؛ فإن ذلك تعليل في مقابلة النص، ومتى وُجِدَ النصّ فلا قياس ولا تعليل، ولِمَ لم يفرق بين الصبح والعصر وكلّه أمرٌ واحدٌ؟!

ومثل قولهم: إذا اشترى المُصَرَّاة ثم أراد ردَّها فلا يلزمه شيء. مع قوله صلى الله عليه وسلم: «يردّ معها صاعًا من تمر» . إلى غير ذلك.

ومثل

ص: 92

قول المالكيّة بكراهة البسملة في الفرض، مع الأحاديث الكثيرة الواردة في قراءة البسملة، التي أقلّ مراتبها أن تكون سنَّة.

ومثل قولهم في إرسال اليدين في الصلاة، مع ورود ثمانية عشر حديثًا في قبضها، بعضها في الصحيح، وبعضها في السنن والجوامع والمسانيد. إلى غير ذلك.

ومثل قول الشافعية في المياه بنية الاغتراف، وهذه لفظة لم تنقل لنا في حديث ولا عن صحابي؛ بل الأحاديث الصحيحة تَرُدُّها؛ منها: حديث ميمونة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كنتُ أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من جفنة واحدة تختلف أيدينا فيه فأقول: دع لي» ، وتوضأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من فضل بعض نسائه، ولم يذكر أنه نوى الاغتراف.

ومثل قولهم: ينتقض الوضوء من مَسّ النساء باليد، مع

ص: 93

ورود الأحاديث الصحيحة بخلافه؛ منها: ما رواه البخاري في صحيحه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يصلي بالليل وعائشة رضي الله عنها معترضة بين يديه، فإذا سجد غمز رجلها لتقبضها» . وما أبعدَ تأويلَ من أوَّله بقوله: «لعله كان بحائل» ! ويَرد هذا التأويل ما جاء في الحديث الصحيح: «أن عائشة فقدت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فالتمسته حتى وضعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد» ؛ فمضى في صلاته ولم يتوضأ، وحديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم «كان يُقَبِّل بعض نسائه ثم يُصلي ولا يتوضأ» . ومَن قال: إنَّ هذا خصوصية له صلى الله عليه وسلم لا تجوز لغيره؛ قلنا له: إنَّ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، وأين هو؟!

ومثل قولهم: إنَّ التسمية على الذبيحة سنَّة لا واجبة، مع قوله ـ تعالى ـ:{فكلوا مما ذُكِرَ اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} ، وفي الأخرى:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} ، مع الأحاديث الصحيحة الدَّالَّة على اشتراط التسمية.

ومثل قولهم: العبرة بالألفاظ لا بالمقاصد، مع قوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّما الأعمال بالنيات وإنَّما لكل امرئ ما نوى»

إلى غير ذلك.

وبالجملة: ففي كل مذهب ما هو موافق وما هو مخالف؛ فعلى العاقل المنصف الذي يعلم قدر عظمة الله ـ تعالى ـ وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يُقَدِّمَ قول أحد من الناس كائنًا مَن كان على قول الله ـ تعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو اتِّباع الأئمة لا غير؛ فإنهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ قد أمَرُوا بذلك، ونَهوا عن تقليدهم بالوصف الذي ذكرنا سابقًا؛ يعلم ذلك كل مَن قرأ كتبهم وتأمَّلها.

ولنا ـ إن شاء الله تعالى ـ عودة ثم عودة إلى هذه المباحث؛ لأنَّها هي المقصودة بالذات، وأما الزيارة فلا يخالف في مشروعيتها أحدٌ فيما علمنا.

ص: 94

وهذه المباحث هي التي كان يُنَاظِر عليها شيخ الإسلام، فلما عَلِمَت أعداؤه أنَّ ذلك حقٌّ يلزمهم القول به؛ عَمدُوا إلى كلمة مشتبهة من كلامه ـ وهي مسألة الزيارة ـ، وأخذوا يشنِّعُون عليه بسببها؛ ليشينوه ويُنفِّرُوا الناس منه، وهي في الحقيقة لا تُعَدُّ طَعنًا فيه؛ بما سنبينه. والله الموفّق.

فصل

وإذا تقرر لك أن أهل القسمين قد اتفقوا على ترك النصوص الشرعية إذا خالفت عقولهم وآراء متبوعيهم؛ فأقول: لا شكّ عندي أنّ الله سبحانه وتعالى قد عاقبهم على ترك كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهم شيعًا وأحزابًا متفرقة؛ فانقسم أهل القسم الأول ـ أعني: الذين سمَّوا أنفسهم علماء التوحيد والأصول ـ إلى فِرَق كثيرة؛ كالأشعرية والماتريدية والمرجئة والقدريّة

ص: 95

والجبريّة والأزارقة والمعتزلة

وإلى غير ذلك من الفرق. وأخذت كل فرقة تؤيد ما ذهبت إليه بما أدَّاه إليها عقلها؛ لأنَّ العقول تتفاوت في الدرجات والمراتب، وكل فرقة تزعم أن العقل يشهد بما ذهبت إليه وتطعن في مخالفيها، حتى كفَّر بعضها بعضًا، ولعن بعضهم بعضًا، وخطَّأ وضلَّل بعضها بعضًا. وتباينهم في العقائد والآراء معلوم لمن رجع إلى كتب المقالات والنِّحَل؛ مثل: كتاب «الفَرْق بين الفِرَق» للجرجاني، وكتاب «الفِصَل في المِلَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ» للإمام ابن حزم، وكتاب «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني؛ فإذا رجع الناظر إلى هذه الكتب يجد بها من العقائد والأقوال ما يضحك الثكلى والصبيان؛ فبعضهم يقول: إنَّ هذا القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا مخلوق! وبعضهم يقول: بل هو عبارة عن كلام الله. وبعضهم يقول: تسميته بكلام الله مجاز لا حقيقة، والتوراة والإنجيل

ص: 96

والزبور وجميع الكتب المنزَّلة بهذا المعنى؛ فأنكروا أن يكون لله كلام بيننا يُتلى. وبعضهم يقول: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وجبريل وميكائيل، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وغير ذلك من المقالات الفظيعة الشنيعة، المناقضة لكلام الله ـ تعالى ـ وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم. وحيث أن هذه المقالات العاطلة والآراء الكاسدة مبسوطة في الكتب التي أشرنا إليها؛ فلا نطيل بذكرها اكتفاءً بها.

والله الموفّق.

فصل

وأما أهل القسم الثاني ـ وهم الذين سمَّوا أنفسهم علماء الفقه والفروع ـ؛ قد عاقبهم الله ـ تعالى ـ أيضًا على سوء صنيعهم؛ بأن فرَّقهم على أحزاب من نحوما تقدَّم؛ فاختلفوا على مذاهب شتى: إلى حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وظاهرية وزيدية وجريرية

وغير ذلك من المذاهب التي يعلمها من اطلع على كتب القوم الذين جمعوا فيها اختلاف المذاهب؛ مثل كتاب: «التذكار في اختلاف مذاهب الأمصار» ، وكتاب «الإشراف على مذاهب الأشراف» ، وغيرها مما يطول ذكرها

ص: 97

وتعدادها. وأخذَ أهل كل مذهب يناضلون وينافحون عن مذهبهم؛ فوقع لهم قريب مما وقع لأهل القسم الأول من الطعن والسبّ والتضليل والتخطئة ما لا يحصيه إلا الله ـ تعالى ـ، وتغالى بعض الحنفية حتى طعن في نسب الشافعي، وتغالى بعضهم فقال: إن الحنفي لا يكون كفؤًا لبنت الشافعي وبالعكس! وترك بعضهم الصلاة خلف بعض! وقام بعضهم على بعض بالسيوف لأجل الجهر بالبسملة والقنوت

ص: 98

وغير ذلك من مسائل الخلاف! فهذا جزاء من ترك الكتاب والسنَّة، وطفق ينتصر لآراء الرجال التي ما عليها أثارة من علم؛ فنسأله ـ تعالى ـ أن يعافينا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه، آمين.

ولم يعلم هؤلاء الجهال أن الأئمة ـ رضوان الله عليهم ـ كان يصلي بعضهم خلف بعض، ويثني بعضهم على بعض، وإن كان يعلم أنه يخالفه في بعض المسائل؛ فإنه معذور في المخالفة؛ لأنه ما خالف صاحبه إلا بدليل، وإن كان مخالفه لا يراه دليلًا؛ فالكل منهم مأجور معذور، وخطؤه مغفور؛ لأنَّه لم يأل جهدًا في طلب الحقّ؛ فالذي أصاب فيه له أجران، والذي أخطأ فيه له أجر ـ كما جاء في الحديث ـ. هذا في حدِّ نفسه، وأما غيره فلا يشاركه في هذا؛ لأنَّه مُقصِّر في طلب الحق، ولم يأخذ من حيث أخذ. فإن قال هذا المقصِّر: أنا لم أبلغ درجته حتى آخذ من حيث أخذ؛

ص: 99

فيقال له: كيف انتصرت له وقدمته على غيره من غير علم ولا سلطان بيِّن، وشنَّعت على مخالفك؟! والكلام في هذا يطول جدًّا.

وليس غرضنا الردّ على هؤلاء ـ فإنَّ ذلك يحتاج إلى أسفار ـ؛ وإنَّما غرضنا من إيرادنا هذا هنا الإشارة إلى المفاسد التي حدثت في الإسلام بسبب التقليد وسدّ باب الاجتهاد والأخذ بالدليل. والله المستعان.

فصل

ثم جاء من بعدهم أقوام أعياهم طلب علم الكتاب والسنة وما يحتاج لهما من علوم الآلات، وأَلِفُوا البطالة والكسل وقلَّة العمل في أمر المعاش؛ فعمدوا إلى شيء سموه علم التصوف؛ وهو عبارة عن: لبس الصوف والخشن من الثياب، والزهد في

ص: 100

الدنيا مطلقًا، وتعليق السبح في العنق، ولبس الخرقة، والجلوس في الخلوة، ويذكر الله بالذكر الذي لم يرد به الشرع؛ مثل أن يذكره ـ تعالى ـ بالاسم المفرد كقول: الله الله، أو: هو هو، وزعموا أن المريد إذا تَجَرَّدَ إلى الله ـ تعالى ـ بهذه الصفة التي ذكرناها عنهم وجلس يذكر الله؛ فإنه يرتفع عنه الحجاب، ويسمع الله ـ تعالى ـ يقول:{يا أيها المدثر * قم فأنذر} ، وتأتيه العلوم من غير واسطة! ولذلك يقول بعضهم:

ص: 101

حدثني قلبي عن ربي! وغير ذلك من الأحوال والأفعال التي ورد بها الشرع؛ بل جاء بضدها، ولما علموا أن الشرع لا يوافقهم على ذلك أخذوا يقسمون العلوم إلى قسمين: ظاهر وباطن؛ فعلم الشرع عندهم من علم الظاهر، وعِلْمهم من علم الباطن، وسمّوا علماء الشرع علماء الرسوم، وأخذوا يفسرون القرآن والسنة تفسيرًا يلائم حالهم، زاعمين أن لكل حرف من القرآن ظاهرًا وباطنًا؛ فأهل الشرع عرفوا الظاهر منه وهم عرفوا الباطن! فمن راج عليه صنيعهم هذا ـ بسبب قصوره في علم الشريعة الحقَّة ـ؛ سلَّم لهم جميع ما يقولونه ويفعلونه، ولو تكلم بالألفاظ الكفرية، وأتى الفواحش علنًا، وترك الصلاة والصيام وغير ذلك من الأمور التي جاء الشرع بها! فتجده يلتمس له الأعذار الباردة؛ مثل قوله: هذا من علماء الباطن فلا يعترض عليه في جميع ما يقول ويفعل! ومثل: أن يلتمس لأقواله الكفرية تأويلات كاسدة، ومثل قوله إذا رآه يفعل الفواحش: هذه فاحشة في الظاهر وفي الباطن هي طاعة وعبادة! ومثل قوله إذا رآه يترك الصلاة: هذا رجل من أهل الخطوة فيخطو

الدنيا بخطوة واحدة؛ فلا يبعد أن يصلي الصلوات الخمس في الحرم المكي أو المدني! ومثل قوله: هذا رجل له أربعون جسمًا؛ [فهذا الذي رأيته يترك الصلاة جسمًا واحدًا] ، وتسعة وثلاثون جسمًا يصلُّون في أماكن متعددة. وغير ذلك مما سوَّد وجه الدين، وألجأ اليهود والنصارى والمشركين على الطعن فيه، وصدَّهم عن الدخول فيه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإذا أردتَ بسطَ ذلك؛ فعليك بكتاب «تلبيس إبليس»

ص: 102

لأبي الفرج ابن الجوزي، وشرح «منازل السائرين» لابن القيم، وغيرهما من كتب العلماء.

فصل

ثم جاء من بعدهم: أقوام عريقون في الجهل؛ فأخذوا ينتصرون لهم ويشيدون بطريقتهم، وتبعهم على ذلك أناس لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وصنَّفُوا لهم في ذلك التصانيف الكثيرة المحشوَّة بالأحاديث المكذوبة والحكايات الملفقة المخترعة، وسمّوها كتب التصوف، وضموا إليها شيئًا من الجبر والاحتجاج بالقدر؛ حتى قال بعضهم:«طلبك منه اتهام له» ! وقال أيضًا: «اشتغالك بما ضمن لك دليل على انطماس البصيرة منك» ! وغير ذلك مما يورث الناس الكسل وترك العمل. وألَّفوا أيضًا لأسلافهم كتبًا جمعوا فيها كراماتهم وأحوالهم وما أُفيض عليهم، وسمّوها كتب المناقب، ونسبوا لهم أشياء لا تجوز نسبتها إلَّا لله عز وجل، لا يشاركه فيها أحد ـ كالإحياء والإماتة والعطاء والمنع والهداية والإضلال وإغاثة الملهوف وإجابة المضطر، وغير ذلك مما لم يقدر عليه أحد إلا الله وحده ـ! وكقول بعضهم:«كان للشيخ سبعون ألفًا من الملائكة إذا أراد أن يرسل أحدًا من تلامذته لقضاء حاجته يوكلهم بحفظه حتى يرجع» !

وغير ذلك مما هو مسطر في كتب المناقب التي تقرأ في محافل الناس. وطفقوا يبنون المساجد والقباب على قبور مشايخهم، ويوقدون عليها السُّرُج،

ص: 103

ويقدمون لها الذبائح والنذور، وغير ذلك مما وصفناه سابقًا؛ فعُبدت من دون الله في سائر الأقطار؛ حتى كاد لا يخلو قطر من أقطار المسلمين من مثل هذا، ولم ينكر عليهم أحد؛ إمَّا لقلة العلم، أو خوفه من العامة؛ فإن الأكثرين قد ولعوا بهذه البدع المضلّة.

فصل

ثم رأى فريق من الناس أن هذه الكتب ـ أعني: كتب الفقه ـ المؤلفة في المذاهب الأربعة وغيرها لا تفي بحال الناس، ولا تلائم حالهم في كل زمان ومكان، وقالوا: إنَّ الشريعة ليست كفيلة بمصالح الناس! وذلك نشأ عن جهلهم بالشرع ومعناه لغة واصطلاحًا، وفهموا أن الشرع محصور في هذه الكتب المؤلفة في الفقه، وأن علوم القرآن والسنَّة قد أحاطت هذه الكتب بها، واحتوت عليها. كلَّا ثم كلَّا؛ بل هذه الكتب مشتملة على ما هو حق وَرَدَ به الشرع، وعلى ما هو باطل مناقض للشرع أعظم تناقض، فلما لم يفهم هذا الفريق ما وصفناه؛ نسب القصور إلى الشرع، وتركوه جملة، وابتدعوا للناس قوانين ملفقة من آراء النصارى والمسلمين، وأوجبوا على الناس التعامل بها والحكم بما فيها، ومن خالفَ أو نازع في شيء منها؛ فإنه يُهَدَّد بالجزاء والحبس والقتل. وهذا القسم لا نطيل البحث فيه؛ لأنَّ [ما] كل ما يعلم يُقال.

فهذا الذي ذكرناه بعض ما طرأ على الإسلام والمسلمين من الأسباب التي أخَّرت المسلمين عن الترقي في العلم والعمل أمام الغربيين، وأوقعت بين أنفسهم العداوة والبغضاء والشحناء، واجتثت عروق المحبة والمودة بينهم؛ فتراهم لا يرحم بعضهم بعضًا،

ص: 104

ولا يألف بعضهم بعضًا إلا لعِلَّة أو غرض، ولا يتحابون في الله ولا يتباغضون لله. فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزق الإسلام والمسلمين بمن يرشدهم ويبصرهم بعيوبهم وينبههم، آمين.

وإذا أردتَ معرفة الأسباب التي أضعفت الإسلام مستوفاة؛ فعليك بكتاب «سِجِل أمِّ القُرَى» وكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ، وكلاهما للفاضل السّيد عبد الرحمن الكواكبي.

فصل

وقد عاقبَ الله ـ تعالى ـ هذا الفريق ـ أعني: الذين سمّوا أنفسهم علماء التصوف ـ بأن فرقهم أحزابًا وشيعًا؛ فتفرَّقُوا على فِرَق كثيرة: إلى أحمدية نسبة إلى الشيخ أحمد البدوي، وقادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، ودسوقية نسبة إلى السيد إبراهيم الدسوقي، ورفاعية نسبة إلى السيد أحمد الرفاعي، وشاذِلية،

ص: 105

وخَلْوَتِية، ونقشبندية، ورشيدية، وبيومية، وتيجانية، وغير ذلك من الفِرَق التي يكثر تعدادها. وأَخَذَت كل فرقة تدَّعي أنها أفضل من أختها، وأن شيخها أفضل من غيره من الشيوخ؛ فطعن بعضها على بعض؛ فهذه تقول: إن شيخها يأخذ عن الله بلا واسطة! وأخرى تقول: إن شيخها يطلع على اللوح المحفوظ ويأخذ منه! وأخرى تقول: إن شيخها يأخذ عن الخضر عليه السلام! وأخرى تقول: إن شيخها يأخذ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مشافهة! والكل لا يعتمدون في مسائل الدين إلا على كتب مشايخهم؛ حتى قال لي بعض من يدَّعي علم التصوف: إن طريقة الصوفية في مسائل الدين أعظم وأفضل من طريقة المُحَدِّثين؛ لأن الصوفية ما تكلموا في الدين إلا عن مكاشفة ومشاهدة، وأما المُحَدِّثون إنَّما يتكلمون من جهة الاستدلال، والدليل قد يكون صحيحًا وخطأ [في نفس الأمر] ؛ فغاية أمره أن يَغْلِبَ عليه جانب الصحة بقرائن

ص: 106

قامت عندهم!

وحيث أن الناس قد ولعوا كثيرًا بأهل هذا الفريق؛ فإن شاء الله ـ تعالى ـ لنا عودة نبين فيها حالهم وما هم عليه من ترك الكتاب والسنَّة. والله الموفّق.

فصل

وحيث أن الله سبحانه وتعالى قد تكفَّل لدينه بالحفظ، وقضى بأنه لا يخلي الأرض من قائم له بحجة؛ كما جاء في الحديث:«إنَّ اللهَ يبعث على رأس كل قرن أو مائة سنة من يجدد للناس أمر دينهم» ؛ قَيَّضَ لهذا الدين رجالًا هم صفوة خلقه وخيرته من عباده؛ ألا وهم علماء الحديث، كثَّرهم الله ـ تعالى ـ في القديم والحديث؛ فقاموا في وجوه المبتدعين، وذبُّوا عن كتاب الله ـ تعالى ـ وسنَّة نبيه تحريف الجاهلين، وتأويل المبطلين؛ فمن قام [بالرد] على المتكلمين في التوحيد والأصول قديمًا إلا مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ويزيد بن هارون وعبد العزيز بن يحيى الكناني والإمام الحجَّة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري والدارمي وغيرهم. ومن بعدهم بقليل مثل: الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر والإمام أبي محمد علي ابن حزم

ص: 107

وابن بطّة وأضرابهم. ثم جاء بعدهم شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية؛ فقام لله قيامًا مُخْلِصًا في قوله وعمله؛ فمزق شملهم وفرَّق جمعهم. وجاء بعده الإمام الحافظ ابن القيم؛ فنحا نحوه وقام قيامه، ومثله الإمام ابن الوزير اليماني، وغيرهما. وجاء بعدهم الإمام شيخ الإسلام أبو الفضل شهاب الدين أحمد ابن حجر العسقلاني ثم المصري؛ فنَصَرَ الله به السنَّة وخذَّل البدعة. وقريبًا منه الإمام المتقن سعد الدين التفتازاني، وغيرهما. ثم جاء بعدهم الإمام المتقن جلال الدين عبد

ص: 108

الرحمن بن أبي بكر السيوطي وابن المقري الشافعي اليماني، وغيرهما. ثم جاء بعدهم الإمام المحدث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني والإمام محمد بن علي الشوكاني، وغيرهما.

ثم جاء بعدهم في زماننا الإمام المجتهد المطلق أبو الطيب السيد صديق حسن خان، والعلامة المحدِّث شمس الحق الدهلوي، والفاضل الأستاذ الشيخ محمد عبده ـ مفتي الديار المصرية ـ، والأستاذ المصلح السيد محمد رشيد رضا ـ صاحب مجلة المنار ـ، والأستاذ الجامع بين النسبين السيد محمود شكري الألوسي، والسيد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي، وغيرهم مما يطول ذكرهم.

وحيث أن المشارب والمذاهب مختلفة؛ اختلف الرادُّون على أهل هذه

ص: 109

الفرق ممن ذكرنا؛ فمنهم من تصدَّى للرد على المتكلمين، ومنهم من ردَّ على المقلِّدين، ومنهم من ردَّ عليهم جميعًا، ومنهم من ردَّ على المتصوفة، ومنهم من ردَّ على الذين قالوا: إن باب الاجتهاد قد انسد وأنكروا أن يكون الاجتهاد في كل زمان فرض. وهم ـ وإن كانوا قليلين في كل زمان ومكان ـ فهم الأكثرون الفائزون؛ {أولئك حزب الله ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون} ، وإليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء» . وأهل الفِرَق التي ذكرناها فهم ـ وإن كانوا أكثرين في العدد ـ؛ فهم الأقلُّون في العلم والعمل، وتراهم إذا ناظرهم المُحدِّثون نكسوا رؤوسهم وأمالوا ذقونهم، وأخذوا يشنِّعون عليهم، ويقولون فيهم ما يشهد الله ـ تعالى ـ وملائكته وأولوا العلم أنهم منه براء، وطفقوا يغرون بهم الجهَّال من الملوك والحكَّام؛ فهددوهم بالنفي والسجن والقتل، وما صدهم ذلك عن القيام بالحق؛ علمًا منهم بأن فتنة الناس ليست كعذاب الله، وهؤلاء الجهَّال الذين آذوا أهل الله وأولياءه وحزبه وأنصار نبيه سيلقون من الرذائل ما يعجز عن وصفه الواصفون؛ لأن الله قد أخبر عن نفسه بأن من آذى له وليًّا فقد بارزه بالمحاربة؛ فهؤلاء الجهال الذين عادوا أهل الحديث إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله لا يقبِضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعه؛ ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناسُ رؤساء جهَّالًا؛ فسئلوا فأَفْتَوا بغير علم؛ فضَلُّوا وأضَلُّوا» ؛ فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.

ص: 110

فصل

فإن قلتَ: قد أطلتَ الكلام في التشنيع على المتكلمين والمقلدين والمتصوفة؛ فهل كا ما أودعوه بكتبهم ضلال وخطأ؟

فالجواب: لا أقول ذلك؛ ولكن أقول في المقلدين والمتكلمين: قد اشتملت كتبهم على ما هو حق مقبول، وما هو باطل مردود، وليس كل المتصوفة والمقلدين والمتكلمين بالوصف الذي ذكرناه عنهم؛ بل فيهم رجال عالمون بالكتاب والسنَّة قائمون بهما، ورَادُّون على مخالفهما، ولكن نحن ما عنينا بردِّنا هذا إلا الذين وصفنا حالهم. والله الهادي.

فإن قال قائلٌ: أنا كيف أعرف ما هو الحق في هذه الكتب فأتبعه، وما الباطل فأجتنبه وأطرحه؟!

فالجواب: معرفة هذا سهل على من أراد الله ـ تعالى ـ هدايته، ومعرفة ذلك أيسر من معرفة أي مذهب من أهل المذاهب الذي تستفرغ فيه جميع عمرك!

وإن قال قائلٌ: أي طريقة تختارها لي من هذه الطرق التي ذكرتَها؟

فأقول: عليك بطريقة المُحَدِّثين؛ حَمَلَتْ علم الرسول في التوحيد وغيره من الأصول والفروع والتصوف؛ فإنهم ـ والله ـ أعلم بكتاب الله وسنة نبيه من غيرهم بأضعاف مضاعفة، وهم أتقى الناس لربهم وأخوفهم منه من غيرهم، وقد حفظهم الله ـ تعالى ـ من التفرق والتحزب والتشيع الذي وقع لغيرهم، ولله در من قال:

ألم ترَ اختلاف أهل النظرِ

وحُسْن ما نحاه أهلُ الأثرِ

فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى

نبيهم فاقنع بهذا وكفى

إذا تبين لك أيها المسترشد حالهم؛ فعليك أن تتيع وتسلك طريقتهم، وتشد عليها يديك، وتعض عليها بالنواجذ. وإياك والآراء لا تلعب بك الرجال، ولا يُمِيلُكَ الهوى عن سبيلهم فتهلك مع الهالكين!

وإن قال قائل: أي كتاب من كتب التفسير والتوحيد والحديث والتصوف أعتمد عليه في معرفة الحق؛ فإن الكتب في هذه الفنون

ص: 111

قد كثرت حتى خرجت عن العدد والإحصاء؟

فأقول ـ وبالله التوفيق ـ: إذا أردتَ معرفة السبيل في تمييز الحق من الباطل والصحيح من السقيم؛ فاعلم أن كتب التفسير أعظمها وأحسنها ما رويت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة؛ مثل ما أودعه المُحَدِّثون في كتبهم، ثم ما رويت عن الصحابة والتابعين من بعدهم ـ رضوان الله عليهم ـ بالطرق المتعددة. فمن الكتب التي جمعت ما ذكرنا: تفسير الإمام البخاري، وتفسير عبد الرزاق، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وتفسير الإمام الكبير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ـ المتوفى سنة ثلاث مائة وإحدى عشر ـ؛ وهو أحسنها وضعًا وأكثرها جمعًا وأعظمها نفعًا؛ كما قال غير واحد من السلف. ثم جاء بعده الإمام المُحدِّث المتقن

ص: 112

الحافظ العماد ابن كثير؛ فجمع كتابه من هذه التفاسير؛ فهو عندي أكثر فائدة وأجدى نفعًا من غيره؛ لأنه تكلم فيه على علل الحديث وبين المقبول منها والمردود.

وأما كتب الحديث: فأعلاها قدرًا وأقواها صحة وأغزرها علمًا: الصحيحان؛ لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج؛ فإن الأكثرين من علماء هذا الشأن قد قدعوا بصحة ما في هذين الكتابين ما عدا بعض أحاديث فيهما قليلة متنازع فيها، وقد جمعها الحفظ أبو الفضل ابن حجر في مقدمة «فتح الباري» ، وأجاب عنها حديثًا حديثًا. وبعدهما في الرتبة: موطأ الإمام مالك بن أنس، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، والمختارة للضياء، والمنتقى لابن الجارود، ومستدرك الحاكم

ص: 113

بشرط أن يكون قد أقرَّه الذهبيّ؛ وإلا ففيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة. وبعد هذه الطبعة كتب السنن والمسانيد، وأعظمها وأصحها: مسند الإمام أحمد بن حنبل. وهذه الكتب ـ أعني: كتب السنن والمسانيد ـ لم يلتزم أهلها إخراج الصحيح فقط؛ بل يوجد فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع؛ يعرف هذا من اعتنى بها ودأب في تحصيلها كما يدأب في تحصيل كتب المذاهب.

وأما كتب التوحيد: فأحسنها كتب السلف التي ردُّوا بها على المبتدعين؛ مثل: «خلق أفعال العباد» للبخاري، وكتاب «الإبانة عن أصول الديانة» لأبي الحسن الأشعري، وكتاب «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة، و «إيثار الحق على الخلق» للسيد مرتضى اليماني، و «العَلَم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ» للشيخ صالح المقبلي، و «الفِصَل لابن حزم، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الإمام ابن القيم؛ فإذا رجعتَ إليهما تعرف حقيقة ما كان عليه المُحَدِّثونَ من صحة الاعتقاد، وأنهم ما خرجوا عن نهج نبيهم، لا في المسائل الاعتقاديات ولا في العمليات.

وأما كتب التصوف: فأحسنها رسالة أبي القاسم القشيري، و «غنية الطالب» للجيلاني، و «إحياء علوم الدين» للغزالي، إلا

ص: 114

في بعض المسائل يعرفها من تبحَّر في علم الكتاب والسنَّة، وكتاب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي، وكتب ابن القيم التي ألَّفها في التصوف؛ كشرحه لـ «منازل السائرين» للهروي، و «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» ، وكتاب «الهجرتين» ، وغيرها من الكتب التي هي قريبة من زمان السلف؛ فكلما كانت لزمان السلف أقرب؛ فهي للصواب أقرب. والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.

وقد أطلنا الكلام في هذه المباحث لشدة حاجة الناس إليها؛ ولتكون كالمقدمة إلى ما سيتلوها بعد؛ فإني قد أحيل

ص: 115

عليها.

ولنرجع إلى المقصود من ردِّ شُبه هذا المعترض؛ فنقول ـ وبالله نتأيد ـ:

فصل

وقد تبيَّن مما أسلفنا أن حكمة مشروعية زيارة القبور إنَّما [هي] لتذكر الآخرة والاستغفار والدعاء لأهلها ليس إلا، وهذان القسمان هما اللذان جاء الشرع بهما. وأما القسم الثالث الذي ذكره الخصم ـ وهو: زيارتها للتبرك بأهلها إن كانوا من أهل الخيرو الصلاح ـ فهذا القسم لم يرد به كتاب ولا سنَّة؛ بل هو مناقض لشرع الله ورسوله، وما ذكرناه فيه من أنه لفظ مجمل يحتمل حقًّا وباطلًا إنَّما هو من باب تحسين الظن بهذا المعترض، ومن باب دفع التأويلات البعيدة التي لا يحتملها اللفظ. وإليك ما ذكره أهل اللغة في معنى (تبرك به) .

قال صاحب «القاموس» وشارحه مرتضى وصاحب كتاب «البحر المورود» : تبرك به: تيمن، وتبرك به: فاز منه بالبركة، تبارك بالشّيء: تفاءل به. فإذا عرفت هذا تبين لك أن المعترض لم يرد بهذا القسم إلا المعنى الذي ذكرناه عن أهل اللغة.

وكيف يطلب الزائر تحصيل البركة والفوز بها من صاحب القبر، وقد انقطع عمله بموته؟! فما هذا إلا فتح باب شر على المسلمين لما وصفنا، وقد نقل هذا المعترض نفسه عن الإمام أبي محمد الشارمساحي المالكيّ:«أن قصد الانتفاع بقبر الميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين» ، وهذا الذي

ص: 116

استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين صحيح، وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، ولا ضرورة بنا هنا إلى تحقيق الكلام فيه؛ لأنَّ مقصودنا أن زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة وقد صرَّح به» . فانظر؛ كيف وافق هذا المعترض أبا محمد الشارمساحي المالكيّ على قوله هذا، فلِمَ لم يوافقه مقلدوه على الاقتصار في التبرك بقبور الأنبياء والمرسلين بل أجازوا ذلك وزادوا عليه الذي ذكرناه عنهم سابقًا في قبور غيرهم؛ [فلعلهم تمسكوا بقول السبكي عقب كلام أبي محمد:«وأما حكمه في قبور غيرهم] ففيه نظر» . وهذا صحيح لو سلم له صحة ما ادَّعاه: من أن قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين يُزار للتبرك به، وأن زيارته لهذا الغرض مشروعة، وأنى يسلم له ذلك، ونحن نعلم أنه ليس لأحد بعد الله ورسوله أن يشرع في الدين ما ليس فيه؛ لقوله ـ تعالى ـ:{اليوم أكملتُ لكم دينكم} ، وقوله ـ تعالى ـ:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«من أحدث في أمرنا هذا ـ وفي رواية: في ديننا ـ ما ليس منه فهو ردٌّ» .

وقد تتبعنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة؛ فلم نجد فيها أن القبور تُزارُ لطلب الخير من أهلها؛ بل وجدنا في القرآن والسنة ما يناقضه ويباينه أشد مناقضة ومباينة، وأنه من جنس أفعال المشركين التي كانوا يفعلونها بقبور صالحيهم؛ ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك، وسأل ربه ـ تعالى ـ «أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد» .

ص: 117

وإذا كان ما ذكره السبكي جائزًا مشروعًا؛ فكيف يُسَلَّم له ما ادَّعاه مع نهيه عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ القبور مساجد، وطلبه من ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد؟! وإذا سلمنا للسبكي ما قاله؛ فقد عارضنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحكمنا عليه بأن الله لم يستجب له دعاءه! فأي عبادة للقبر أعظم من طلب حوائج الدنيا والآخرة من صاحبه، والاستغاثة والالتجاء له في جلب المنافع ودفع المضرات، فما هذا إلا من محض الرأي الفاسد؛ فنعوذ بالله من اتباع الهوى.

وقوله: «مشروعة» استنادًا إلى ما قاله الشارمساحي في غاية البعد؛ لأنه لا يليق بالشارمساحي ولا غيره من الناس كائنًا من كان أن يكون مُشَرِّعًا ومحدثًا في دين الله ما ليس منه، بل نهى الله ورسوله عنه. وأما زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من النبيين والمرسلين [فهي تُزار] كغيرها من قبور سائر المؤمنين [للدعاء] وطلب الرحمة لهم والسلام عليهم؛ فهي مشروعة، وشيخ الإسلام لم ينكر هذا؛ وإنَّما أنكر شد الرحل لمجرد الزيارة، وقد سبقه إلى ذلك أئمة السلف؛ كما ببَّنَه الحافظ النووي في شرحه لمسلم، والغزالي في «الإحياء» ، والحافظ ابن عبد الهادي في كتاب «الصارم

ص: 118

المنكي في الرد على السبكي» ، فجاء شيخ الإسلام وانتصر لأهل هذ القول، واحتجَّ له بالأحاديث الصحيحة الثابتة المروية في الصحيحين وغيرها؛ كما ستقف عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ. فإذا ثبت لديك أن شيخ الإسلام لم ينكر زيارة قبور المرسلين ولا غيرهم من المسلمين، بل ولا قبور الكافرين؛ بل ذكر بيان الزيارة الشرعية والبدعية بما نقلناه عنه؛ تبين لك أن نسبة إنكاره زيارة القبور [إليه] وجعلها بدعة من السبكي ظلم وميل عن الحق، وما قصد بنسبة ذلك إلى الشيخ إلا التشنيع عليه والوقوع في عِرْضه من غير علم ولا سلطان بيِّن.

فصل

فإن قال قائل: إنّ السبكي لم يحكم بمشروعية التبرك بقبر النّبيّ عليه الصلاة والسلام وقبور غيره من الأنبياء والمرسلين بمجرد قول أبي محمد الشارمساحي المالكيّ فقط؛ وإنَّما حكم به للآيات والأحاديث التي أوردها في الأبواب السابقة.

فالجواب: أنّ هذه المسألة خارجة عن محل النزاع؛ وإنَّما المسألة المتنازع فيها بينه وبين شيخ الإسلام ابن تيمية هي: هل شد الرحل لمجرد زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبور غيره من الأنبياء والصّالحين مشروع أم لا؟ فهذا المعترض يقول: إنَّ شد الرحل لجميع ما ذكر مشروع، وشيخ الإسلام ومن تقدمه يخالفونه، وحُجَّة هذا المعترض الآية القرآنية ـ أَعني: قوله ـ تعالى ـ: {ولو أنَّهم إذ ظلموا أنفسهم} إلى قوله: {رحيمًا} ـ، والأحاديث التي أوردوها سابقًا. وأجاب مخالفوه بقولهم: إن الآية لا تدلُّ على ما ذهب إليه هذا المعترض؛ لأنها خاصة به صلى الله عليه وسلم في حال حياته؛ كما نقل ذلك عن جميع المفسرين من السلف.

ص: 119

وأما الأحاديث المتقدم ذكرها؛ فالصحيح منها لا يدلُّ على مقصوده؛ فغاية ما يُستفاد منها أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وغيره مشروعة، ونحن لا نخالف في هذا، والذي يدلُّ منها على ما ذهب إليه هذا المعترض ضعيف أو موضوع لا تقوم به حُجَّة ولا يصح للاستدلال في مورد النزاع؛ يعلم ذلك من رجع إلى كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» . وأمَّا المسألة التي ذكرها هذا المعترض هنا ـ وهي: أن التبرك بقبور الأنبياء والمرسلين أمر مشروع ـ؛ فهذا ما تقدم له دليل يُستفاد منه ذلك.

فقد تبيَّن أنه لم يستند في مشروعية ذلك إلا إلى قول أبي محمد المالكيّ ـ كما وصفنا ـ، وأنت تعلم أن الأصول التي تدور عليها أحكام الشرع أربعة: اثنان متفق عليها بين كافة المسلمين، واثنان مختلف فيهما بينهم؛ فالاثنان المتفق عليها بين كافة المسلمين: الكتاب والسنة، والاثنان المختلف فيها: الإجماع والقياس، وقد نظرنا في هذه الأصول الأربعة فلم نجد فيها دليلًا يسوغ للسبكي أن التبرك بالقبور أمرٌ مشروع محبوب لله ورسوله؛ بل وجدنا فيها ما يناقض ذلك ويأباه. وهذا الذي ذهب إليه السبكي ـ وهو مشروعية التبرك بقبر النّبيّ عليه الصلاة والسلام وغيره ـ هو الذي أنكره شيخ الإسلام وغيره من أئمة المسلمين، وحججهم ظاهرة مستفيضة في

ص: 120

الكتاب والسنة والإجماع. وهذا المخالف لم يأتِ بشيء يصلح للاستدلال على ما قاله؛ فبطل ما ادَّعاه، وبالله نتأيد.

ثم أطال هذا المعترض في هذا الباب بأشياء خارجة عن الغرض؛ كالاستدلال على استحباب زيارة القبور والخلاف فيه، والتعريفات الفقهية. وهذا القدر لا يحتاج إلى مناقشة؛ لأنَّ شيخ الإسلام لم ينكر ذلك؛ وإنَّما أنكر شد الرحل لمجرد الزيارة، وأنكر أيضًا التبرك والانتفاع بالمقبور، وهذا المعترض لم يأتِ بدليل شرعي يجوز له ذلك ـ كما قدمنا ـ، وإطالته في هذا الباب بالوصف الذي ذكرناه مغالطة وخروج عن المقصود؛ لأنَّ الشيخ لم ينكر زيارة القبور ولا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره من الأنبياء والمرسلين؛ يعرف هذا من نظر في كتبه؛ وإنَّما أنكر الزيارة البدعية؛ وهي قصد الانتفاع بالميت وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه، وهذا الذي أنكره هو الذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة الصحيحة والإجماع، وقد أجاز السبكي جميع ما أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ندب إليه ورغَّبَ فيه من غير دليل شرعي ولا فعل صحابي من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم معروف بالعلم والفُتيا، فمن كان هذه صفته فلا يحتاج إلى ردٍّ ولا نضيع فيه وقتًا؛ لأنَّنا لسنا متعبدين إلا بما جاء في كتاب الله وصحَّ عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسناد الصحيح العاري عن العلة والشذوذ، وما عدا ذلك فهو محل نظر واجتهاد، والله الموفّق.

فإذا تأمَّلت بعين الإنصاف في الكتاب العزيز والسنَّة الصحيحة وأفعال الصحابة؛ علمتَ أن زيارة القبور المشروعة [هي:] الدعاء والترحم والسلام على الأموات وتذكُّر الآخرة وذكر الموت برؤية القبور، ليس إلا. وأما زيارتها للتبرك بأهلها وطلب حوائج الدنيا والآخرة من أهلها فأمرٌ محدَث في الدين؛ ما ورد به كتاب ولا سنَّة، ولا دلَّ عليه أثر عن صحابي معروف بالعلم والفُتيا، بل جاء في القرآن العظيم وسنَّة النّبيّ

ص: 121

الكريم وقول الصحابة ما يناقض ذلك، وكيف يكون هذا الأمر مشروعًا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما هو أقل من ذلك؛ كاتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، وتحريم تجصيصها، والحلف بغير الله، والنذر لمخلوق؛ فصلى الله على مَن بُعِثَ لمحو الشرك جليله ودقيقه، وقطع شجرته من أصولها، ولأجل أن يكون الدين كله لله. فإن كنتَ يا هذا تدَّعِي محبَّة الله ورسوله؛ فلا تقدِّم على قولهما رأي أد من الناس كائنًا من كان، وإن كنتَ ممن لا يعرف الدليل ولا يفهم معاني القرآن الحكيم، ولا يعلم ما جاء في السنَّة من صحيح وسقيم؛ فالأولى بك أن تبكي على نفسك على ما فاتك من هذا الخير الجسيم؛ فإنك مهما كنت عالمًا بآراء الرجال فإنَّك لا تعد من أهل العلم عند المحققين؛ بل أنت عندهم كحاطب ليل وجارف سيل، تحسب القربة حطبة، والحصا مرجانًا، والنور ظلامًا، والظلامُ نورًا، فإن صواب الرأي وخطأه لا يعرفان إلا بمعرفة الدليل. وإياك ـ متى كنتَ بهذا الوصف ـ أن تخوض في أعراض العلماء أئمة الدين، وحُماتِه من آراء الغالطين؛ فإنَّك بهذا تكون مرتكبًا إثمين: إثم الجهل، وإثم الخوض في أعراض العلماء العاملين. فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا

ص: 122

وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

فصل

ثم قال المعترض: «الباب السادس: في كون السفر إليها قُربة. وذلك من وجوه:

أحدها: الكتاب العزيز: في قوله ـ تعالى ـ {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية. وقد تقدَّم تقريرها في الباب الخامس. والمجيء صادق على المجيء من قرب ومن بعد، بسفر وبغير سفر، ولا يُقال: إنَّ (جاءوك) مطلق، والمطلق لا دلالة له على كل فرد وإن كان صالحًا؛ لأنَّا نقول: هو في سياق الشرط فيعم ممن حصل منه الوصف المذكور وجد الله توابًا رحيمًا.

الثاني: السنَّة. من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري» ؛ فإنه يشمل القريب والبعيد، والزائر عن سفر وعن غير سفر، كلهم يدخلون تحت هذا العموم، لا سيّما قوله في الحديث الذي صححه ابن السكن:«من جاءني زائرًا لا تحمله حاجة إلا زيارتي» ؛ فإن هذا ظاهر في السفر، بل في تمحيص القصد إليه وتجريده عما سواه، وقد تقدَّم [أن حالة الموت] مراده منه، إما بالعموم وإما هي المقصود. فإ'ذا كانت كل زيارة قربة؛ فالسفر إليها قربة. وأيضًا فقد ثبت خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة لزيارة القبور، وإذا جاز الخروج إلى القريب جاز إلى البعيد. فمما ورد في ذلك: خروجه إلى البَقيع ـ كما هو ثابت في الصحيح ـ، وإذا ثبت مشروعية [الانتقال] إلى قبر غيره [فقبره] صلى الله عليه وسلم

ص: 123

أولى.

الرابع: الإجماع. لإطباق السلف والخلف؛ فإن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجَّهون إلى زيارته عليه الصلاة والسلام، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ـ كما ذكرنا في الباب الثالث ـ.

فإن قلتَ: إنَّ هذا ليس مما يسلمه الخصم؛ لجواز أن يكون سفرهم ضم فيه قصد عبادة أخرى إلى الزيارة، بل هوا الظاهر؛ كما ذكر كثير من المصنفين في المناسك: أنه ينبغي أن ينوي مع زيارته التقرُّب بالتوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه. والخصم ما أنكر أصل الزيارة؛ إنَّما أراد أن يبين كيفية الزيارة المستحبة؛ وهي: أن يضم إليها قصد المسجد؛ كما قاله غيره.

قلتُ: أما المنازعة فيما يقصد الناس؛ فمن أنصف من نفسه وعرف ما الناس عليه؛ عَلِمَ أنهم إنَّما يقصدون بسفرهم الزيارة من حيث يعرّجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلا ببال قليل منهم، ثم مع ذلك هو مغمور بالنسبة إلى الزيارة في حق هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزيارة حتى لو لم يكن ربما لم يسافروا، ولهذا قلَّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل

» ، وأخذ يتكلم في إيضاح ذلك إلى أن قال: «وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل [كل] من توجَّه إلى المدينة ما قصد بذلك

» ، وأطال الكلام في هذا الباب جدًّا، ومعظمه قد تقدَّم في الباب الثالث والرابع والخامس؛ فليس في إعادته هنا فائدة، ولكن هذا المعترض أراد بذلك تكبير حجم كتابه.

وليس من غرضنا الرد على جميع ما ذكره ـ فإن ذلك يجرنا إلى الملل ـ؛ ولكن نتكلم على المهم منها؛ وهي الأصول الخمسة التي ذكرها هنا، ونترك له الكلام على ما عدا ذلك، إلا إذا رأينا محل شبهة له فنتكلم عليها، وهو ما بنى هذه الفروع الفقهية والأصولية إلا على هذه الأصول التي ذكرها هنا، ونحن ـ إن شاء الله تعالى ـ نتكلم

ص: 124

عليها جميعًا، وننقضها واحد ة واحدة؛ لنستغني بذلك عن إبطال الفرع؛ لأنه متى بطل الأصل بطل الفرع؛ فهو وإن كان الإمام الحافظ ابن عبد الهادي أبطل هذه الأصول في أول الباب الخامس؛ فكان يحسن بنا أن نكتفي بما قاله، ولكن رأينا من الصواب أن نخوض مع هذا الخصم الذي تارة يجعل نفسه مجتهدًا، وتارة يجعل نفسه مقلدًا، وإذا تأملتَ في هذه الجمل التي نقلناها عنه في هذا الباب؛ رأيتَ فيها من الخلل والتناقض والتحامل واتباع الهوى ما يعلمه كل منصف، ولو صح له من هذه الأصول شيء؛ لما أحوجنا إلى ذكر شيء معه، ولكن أنى يسلم له ذلك؛ ومبانيها كلها مختلَّة ـ كما ستراه إن شاء الله تعالى ـ، ومن الله التوفيق.

فصل

في الكلام على الأصل الأول؛ وهو: الآية الكريمة ـ أعني: قوله ـ تعالى ـ: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية ـ

قبل الخوض في تفسير هذه الآية: نسأل هذا الخصم: هل هو من المجتهدين أو من المقلدين؟ فإن كان من الأول؛ فقد خالف ما عليه أصحابه؛ فإنهم قد أجمعوا على سدِّ باب الاجتهاد، واختلفوا: متى سدّ؟ فقال بعضهم: ليس لأحدٍ بعد الأئمة الأربعة أن يستدلَّ على أي حكم من الأحكام بالكتابو السنة، وبعضهم قال: إنَّ باب الاجتهاد قد انسدَّ بعد المائة الخامسة، ولهم في ذلك عبارات مختلفة. ومعلوم أن الخصم كان في المائة الثامنة؛ فعلى كل قول ما أدرك زمان فتح باب الاجتهاد!

وإن كان يقول: أنا لا أسلم أنَّ باب الاجتهاد قد انسدَّ؛ بل هو باقٍ إلى يقوم القيامة؛ فنقول له: هذا مسلَّم، ولكنكم قد شرطتم للمجتهد شروطًا؛ منها: أن يكون عالمًا بمسائل الإجماع لئلا يخرقه، وكيف أنت خرقت هذا الإجماع بتفسيرك للآية بهذا التفسير الذي ما سبقك إليه أحد، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم؟! فهذه التفاسير التي جمعت أقوال السلف وغيرهم ليس فيها هذا الذي فهمته من الآية.

وإن كان من الثاني؛ فنقول له: أوجِد لنا هذا الذي قلَّدته في فهم الآية، ولِمَ لَم

ص: 125

يكن يفهم الإمام الشافعي من الآية هذا الفهم الذي فهمته؟ فهل أنتَ أعلم بمعاني القرآن منه؟ بل من ابن عباس، وأُبَيّ، وعلي، وابن مسعود، ومجاهد، وعلي بن طلحة، والضحاك بن مزاحم، والسدي، وابن أبي نُجيح،

ص: 126

وابن [أبي] مليكة، وابن أبي حاتم، والبخاري، وابن جرير، والرازي، وغيرهم ممن لهم قدم في التفسير؟! فإنَّ هؤلاء كلهم ما فسَّروها هذا التفسير الذي فسرتها به؛ فهل يُقال: هؤلاء كلهم جهلوا معنى الآية وعلمه السبكي؟!!! فسبحانك هذا بهتان عظيم!

فهل يقول عاقل أو مسلم أن السبكي وأضرابه أعلم بمعاني كتاب الله ـ تعالى ـ من ابن عباس الذي ضمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدره ودعا له بقوله: «اللهم علِّمه الفقه والتأويل» ؟! أو أعلم من ابن مسعود الذي كان يقول: «والذي لا إله غيره؛ ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيتُه» ؟! وغيرهما ممن يطول ذكرهم.

والحاصل: أن من يجعل نفسه أعلم بمعاني القرآن من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد نادى بفضيحته وكشف عورته أمام الناس؛ فإن ذلك ضرب من الهوس، ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

وإن قال: ليس من شرط المجتهد أن يوافق غيره؛ بل كل أحد أداه اجتهاده إلى استنباط حكم من القرآن والسنَّة فله ذلك.

فنقول له: ولِمَ لَم تسلم هذا لمخالفك ـ وهو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ، وقد شهد له بالاجتهاد المطلق

ص: 127

سبعون مجتهدًا في زمانه؟! وأما أنتَ لا نعلم أحدًا شهد لك بالاجتهاد المقيد فضلًا عن المطلق، إلا ولدك في «طبقات الشافعية» !

وإليك ما قاله أهل التفسير في هذه الآية الشريفة:

قال العلامة المحقق خاتمة المحدثين ومجدد القرن الثالث عشر، أبو الطيب، السيد صديق خان، في تفسيره المسمى بـ «فتح البيان» ، المطبوع في المطبعة الأميرية بمصر، ما نصّه: « {وما أرسلنا من رسول} : (مِن) زائدة للتوكيد، قاله الزجاج. والمعنى: ما أرسلنا رسولًا إلا ليطاع فيما أمر به ونهى عنه، وهذه لام كي، والاستثناء مفرغ؛ أي: ما أرسلنا لشيء من الأشياء إلا للطاعة، (بإذن الله) : بعلمه، وقيل: بأمره، وقيل: بتوفيقه. وفيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا بحكم الطاغوت.

{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} : بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك من الطاغوت وغيره. {جاءوك} : متوسلين إليك، تائبين من النفاق متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم؛ {فاستغفروا الله} : لذنوبهم بالتوبة والإخلاص، وتضرعوا إليك حتى قمتَ شفيعًا لهم فاستغفرت لهم؛ وإنَّما قال:{واستغفر لهم الرسول} على طريقة الالتفات لقصد التفخيم بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا لاستغفاره وإجلاله لا للمجيء إليه؛ {لوجدوا الله توابًا رحيمًا} ؛ أي: كثير التوبة والرحمة لهم. وهذا المجيء يختص بزمان حياته صلى الله عليه وسلم. وليس المجيء إليه بمعنى مرقده المنور بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مما تدلُّ عليه هذه الآية؛ كما قرره في «الصارم المنكي» ؛ ولهذا لم يذهب إلى هذا الاحتمال البعيد أحد من سلف الأمة وأئمتها، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تبعهم بالإحسان» انتهى.

وقد أحببنا إيراده بحروفه ليعلم [المنصف] أنه لم يستدلّ أحد من السلف ولا من الخلف على استحباب السفر إلى زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمجرد الزيارة ولا لقبر غيره من الأنياء والصاحين لهذه الآية، اللهم إلا أن يكون أناس قد قلَّدُوا السبكي في هذا

ص: 128

الاستدلال من غير نظر، علمًا منهم بأن السبكي قد قلَّد غيره. وقد علمتَ بما سلف أنه لم يفهم هذا أحد من المفسرين؛ فعلم قطعًأ أن هذا الرجل قد فسَّر الآية برأيه وهواه؛ فقد دخل في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود في «سننه» :«من فسَّر القرآن برأيه ـ وفي رواية: بغير علم ـ؛ فليتبوأ مقعده من النار» ؛ فهذا الحديث ـ وإن كان في سنده مقال ـ فلم يحكم عليه أحد من أهل الحديث بالوضع؛ ولكن أوَّلُوه بمن فسَّر القرآن بالآراء الفاسدة التي لا يشهد لها كتاب ولا سنَّة ولا قول صحابي ـ كما فسَّر به المعترض الآية ـ! ولَيْتَهُ كان فسرها بما هو أقرب إلى الآية من هذا؛ كأن يقول: لما شرط الله ـ تعالى ـ في قبول توبة الظالم لنفسه من المنافقين في حياته صلى الله عليه وسلم المجيء والاستغفار عنده واستغفار الرسول له عليه الصلاة والسلام؛ اعتبر هذا أيضًا بعد موته؛ بأن من ظلم نفسه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بتقديم آراء الرجال على الكتاب والسنَّة وجعلهما تبعًا وآراء متبوعه أصلًا؛ استغفر الله ـ تعالى ـ من هذا الذنب العظيم، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم؛ بمعنى: جاء إلى سنته، وعمل بها، وقدمها على قول كل أحد؛ كما قال ـ تعالى ـ:{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} . قال أهل التفسير: الرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرجوع إلى سنته. فاستقام بهذا التفسير.

{واستغفر لهم الرسول} بمعنى: رضي فعلهم هذا ودعا لهم وقرَّبهم وأدناهم منه يوم اليامة؛ فإنه قد ورد في الحديث أن أقوامًا يردون عليه الحوض؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «هلموا أصحابي» ؛ فيُقال له: «أما تدري ما أحدثوا بعدك؛ بدَّلُوا وغيَّرُوا» ؛ فيُقال لهم: «سحقًا سحقًا» . ويكون حكم هذه الآية

ص: 129

مستمرًا في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته؛ فإنه ـ تعالى ـ ما ذمَّ المنافقين إلا على ميلهم عن حكمه، ورجوعهم إلى التحاكم بالطاغوت، وتخلفهم عن المجيء إليه صلى الله عليه وسلم. ويقال حينئذ: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ وهو الحق ـ، والعلة الموجودة في المنافقين الذين كانوا في زمانه صلى الله عليه وسلم [هي مخادعتهم] للناس باللسان [و] التي ذمَّهم الله ـ تعالى ـ بسببها؛ موجودة في الذين أظهروا حبه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وأبطنوا حب متبوعهم؛ ولذلك تراهم يقدمون آراءهم على الكتاب والسنَّة، وإذا نقم عليهم أحد يقولون: نحن ما تركنا الكتاب والسنّة؛ ولكن قدَّمنا آراء مشايخنا؛ لأنَّهم أحاطوا علمًا بالكتاب والسنَّة! وقد أودعوا علم ذلك في كتبهم. فهذه دعوة منهم مجردة عن الدليل، وتظهر بادي الرأي أنها أوهى من بيت العنكبوت، والكلام في ردِّها يطول جدًّا، وقد رد عليها كثير من العلماء قديمًا وحديثًا، وبيَّنوا ما فيها من التزوير والتلبيس، وأنها لا تجديهم نفعًا ولا تقيم لهم عذرًا؛ بل الحجة لله ولرسوله قائمة عليهم.

والغرض من هذا: أنَّ السبكي لو فسَّر الآية بالتفسير الذي ذكرناه لكان أقرب للصواب، ولكن تغافل عن حمله على ما ذهب إليه حب الهوى والتعصب على أئمة المسلمين؛ فأي حجة له في هذه بعد هذا البيان يقيمها على شيخ الإسلام ومَن وافقه؟! ونعوذ بالله من الخذلان واتباع الهوى؛ فكأنّ هؤلاء الذين فسَّروا القرآن بآرائهم وبما يوافق أهواءهم؛ جعلوا القرآن موافقًا لطبق مرادهم؛ فالذي لهم فيه هوى ورغبة يقولون القاعدة المشهورة؛ وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذي يصادم آراءهم وأهواءهم يقولون فيه: هذا خاص بالكافرين والمنافقين؛ ولذلك جرى السبكي في تفسير الآية على القاعدة التي ذكرناها. وأما مثل قوله ـ تعالى ـ: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم

ص: 130

الكافرون} ، وفي الآية الثانية:{الظالمون} ، وفي الآية الثالثة:{الفاسقون} ، وفي مثل قوله ـ تعالى ـ حكاية عن الذين اتخذوا له الوسائط والشفعاء:{والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} ، وقوله ـ تعالى ـ:{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وأمثال ذلك مما يطول ذكره؛ هذا خاص بالكفار قاصر على ما ورد فيه، ويمنعون أن يكون هذا متناولًا لكل من اتصف بهذه الصفات ومن قال قولهم، واتخذوا له الوسائط والشفعاء زعمًا أن هذا ليس بعبادة؛ وإنما يسألون الله له حوائجه؛ لأنهم مقبولون عنده، ولا يردُّ سؤالهم.

ويقولون في مثل ما ورد في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرضوا بحكمه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلموا تسليمًا} : هذا خاص بالمنافقين الذين نزلت فيهم هذه الآية، ومنعوا أن تكون متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله وبما جاء في السنة، ولم يقدم ذلك على آراء الرجال وأهوائهم، ويقابلوه بالتسليم وانشراح الصدر له، والتبرؤ إلى الله مما يخالفه. فقد دخلوا بفعلهم في الذين قال الله فيهم:{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ، وفي الذين قال الله فيهم:{وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} . جعلنا الله ـ تعالى ـ بكرمه من الذين قال الله فيهم: {إنما كان قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} .

واعلم أن كلمة (لو) من جملة معانيها: أنها حرف امتناع لامتناع، ومعناها على تفسير السلف ظاهر؛ فإن قبول الله ـ تعالى ـ توبتهم متوقفة

ص: 131

على مجيئهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارهم الله ـ تعالى ـ واستغفار الرسول لهم؛ فإن لم يحصل منهم ذلك لم تحصل توبة الله عليهم، وهذا صحيح؛ كما تقول ممثلًا لذلك:«لو جاءني لأكرمته» ؛ فامتنع إكرامك له لامتناع مجيئك إليك. وعلى تفسير السبكي ومن وافقه من أن الآية حكمها مستمر؛ فكما أن مجيء من ظلم نفسه إليه صلى الله عليه وسلم في حياته واستغفاره عنده واستغفار الرسول له شرط لقبول توبته؛ فهو شرط أيضًا في قبول توبة من ظلم نفسه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد من مجيئه إلى قبره صلى الله عليه وسلم واستغفاره عنده واستغفار الرسول له. ولا يخفى ما في هذا من المناقضة لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنَّة نبيه وما عليه المسلمون:

فأما وجه مناقضته للقرآن العزيز؛ فإن الله يقول: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} ، وقوله ـ تعالى ـ:{وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} ، وغير ذلك من الآيات المتضمنة لحصول توبة الله ـ تعالى ـ على عبده إذا استغفره وأناب إليه وأقلع عن ذنبه، ولم يشترط لقبول ذلك مجيئه عند قبره صلى الله عليه وسلم وتوبته عنده، ولو كان قبول التوبة متوقفًا على هذا؛ لكان فيه من العسر والشدَّة ما لا يحتمله إلا القليل من الناس، ولكان مخالفًا لما جاءت به الشريعة السمحة السهلة، العارية عن الإصر والعسر والشدة، وإذا لم يكن ذلك كذلك؛ وجب حمل الآية على ما فسَّر به السلف ـ كما مرَّ ـ، وعدم الالتفات إلى ما قاله السبكي وأضرابه، وأنهم لا دليل لهم في الآية على استحباب السفر وشد الرحل لمجرد زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير قصد الصلاة في مسجده كما ذهبوا إليه. وبالله التوفيق.

ص: 132

فصل

وجماع القول في هذه الآية الكريمة: هو أن الله سبحانه وتعالى قد شرط لِوَجْدِه توابًا رحيمًا للمنافقين، الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أُنزل على رسوله ويريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ويصدون صدودًا عن حكم الله ورسوله؛ ثلاثة شروط: بمجيئهم إليه صلى الله عليه وسلم، واستغفارهم عنده، واستغفار الرسول لهم؛ فلو أخلُّوا بشرط من هذه الشروط الثلاثة لم يقبل الله توبتهم.

ومعلوم أن هذا الحكم قد انقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين؛ فلم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف أنه قال: من شروط التوبة المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم ولو من الأماكن النائية، والاستغفار عنده، واستغفار الرسول لهم، ولو قال أحد هذا لكان مناقضًا لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين؛ لأنَّ الله يقول:{ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} ، والأحاديث الواردة في فضل التوبة مشهورة، وليس فيها اشتراط المجيء إلى قبر أحد؛ فعلم بهذا أن قول السبكي قول ساقط ليس عليه أثارة من علم ولا سبقه إلى مثله أحد من أهل التفسير، ولو كان معنى الآية كما زعم هذا المعترض؛ لكان المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم والسفر إليه فرضًا كالصلاة والحج، ومن تخلف عنه يموت عاصيًا؛ إذ هو لم يتب من ذنبه ولو تاب في اليوم مائة مرة؛ لأنَّ ذلك لم تتوفر فيه هذه الشروط الثلاثة المتقدمة، وهذا السبكي لا يقول بهذا؛ فكيف يجعل هذا مستحبًّا فقط.

وقوله: «لأن المجيء يصدق على المجيء من بعد ومن قرب ومن سفر» .

فجوابه: نعم؛ هذه المعاني كلها يحتملها لفظ (المجيء)، ولكن لما كان هذا ليس شرطًا مستمرًا لقبول توبة كل من تاب؛ فتعين حمل (المجيء) بهذه المعاني على: المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم كما بينّا ـ.

وقوله: «لأنَّ العلة وجد أن الله ـ تعالى ـ توابًا رحيمًا» .

فجوابه أن يُقال: ليس هذا مختصًّا بزمان دون زمان ومكان دون مكان؛ بل متى أقبل العبد على ربه، وجاءه مستغفرًا، مقلعًا عن ذنبه، صادقًا من قلبه، خاشعًا

ص: 133

بجوارحه، مقدِّمًا أمام الله ذلك حمد الله ـ تعالى ـ والصلاة والسلام على نبيه، وختمها بمثل ذلك؛ فهذه باتفاق المسلمين توبة نصوح؛ لا يردّ الله ـ تعالى ـ من أتى بها، ويجده توابًا رحيمًا، سواء كان هذا التائب بهذه الصفة إلى ربه في مصر أو في الشام أو في اليمن. فهل يستحب هذا السبكي السفر من جميع هذه الأماكن التي سميناها لكل من أراد أن يتوب ليجد الله توابًا رحيمًا؟! أو يقول: أنه متى تاب العبد إلى ربه وأقبل عليه في أي مكان وفي أي زمان؛ وجدَ الله توابًا رحيمًا؟ فإن قال هذا؛ فقد رجع عن قوله باستحباب السفر إلى مجرد الزيارة، وإن قال: بل لا بُدَّ من سفره إلى القبر المعظم لأجل أن يتوب هناك؛ فقد خالف بقوله هذا ما عليه عامة المسلمين، وتبين أنه لا حجَّة [له] في هذه الآية على ما ذهب إليه، وأنَّ شيخ الإسلام مُحِقٌّ في قوله. وبالله نتأيد.

واعلم أننا غير مرة ذكرنا طريقة شيخ الإسلام في الزيارة؛ وبيَّنَّا أنه لا ينكرها؛ بل يستحبها كغيره من العلماء؛ وإنَّما أنكر السفر وإعمال المطي إلى مجرد الزيارة من غير قصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ عملًأ بالحديث الصحيح المروي في الصحيحين وغيرهما، ولم ينفرد هذا الإمام بهذا القول؛ بل سبقه إليه أبو هريرة، وبصرة الغفاري، وابن سيرين، والشعبي،

ص: 134

والنخعي، ومالك بن أنس، وابن الجويني، والقاضي حسين، وطائفة. فأي ملامة على هذا الشيخ إذا ذهب إلى هذا القول، سيّما وقد علمتَ من سبقه إليه من الأئمة؟! فإن كان مقلدًا في ذلك فكفاه هؤلاء الأئمة، وهم يجوزون تقليد إمام واحد ولو خالف بقوله سائر الأئمة؛ فكيف بمن قلد أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم؟؟! وإن كان مجتهدًا؛ فدليله ظاهر من حديث الصحيحين؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، ولم يأتِ مخالفوه بشيء يصلح للاستدلال، وقد بيَّنَّا أن الآية الكريمة لا حجة لهم فيها. والله وليّ التوفيق.

فصل

الأصل الثاني: السنَّة.

قوله: «وأما السنَّة: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري» ، والزيارة اسم جامع يصدق على الزائر من بعد ومن قرب ومن سفر

» إلخ.

فالجواب: أنّ هذه الأحاديث ليس فيها شيء يعتمد عليه؛ بل هي أحاديث ملفقة مختلقة الأسانيد، والسند ما بين ضعيف شديد الضعف وموضوع؛ فكيف يستدلّ بأحاديث هذا حالها على حكم شرعي من أحكام الله ـ تعالى ـ؟!

فإن قال قائلٌ: قد ذكر بعض الناس: أن الحديث الضعيف إذا كثرت طرقه يرتقي من درجة الضعف إلى درجة الحسن، ويكون من باب الحسن

ص: 135

لغيره.

فالجواب أن يقال: هذا القول ليس ما اتفق عليه؛ بل للعلماء في الحديث الضعيف ثلاثة أقوال:

الأول: أنه لا يقبل مطلقًا، ولو بلغت طرقه في الكثرة ما بلغت. فممن قال ذلك: مالك، والبخاري، ومسلم، وابن حزم، وداود. وهذا يعرفه من رجع إلى مصنفاتهم؛ فإنَّهم لم يدخلوا فيها إلا ما صحَّ عندهم. وحجتهم على هذا القول ظاهرة واضحة؛ وهو أن الله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا إلا بما صح عندنا، وتبيَّن صحة مأخذه، وأما المشكوك في صحته فنحن مأمورون بتركه؛ لقوله ـ تعالى ـ:{ولا تقف ما ليس لك به علم} ؛ فهذا الحديث الضعيف لا علم لنا بصحته؛ فكيف نثبت به حكمًا شرعيًّا في دين الله، وهو يقول:{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} ، وفي القراءة الأخرى:(فتثبتوا)، وحيث أننا لم نتمكن من التثبت ولم يتبيَّن لنا صحته؛ فوجب علينا تركه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلا ما لا يريبك» .

القول الثاني: أنه يقبل إذا تعددت طرقه واختلف مخرجه بحيث إذا اجتمعت يتحصل منها أن للحديث أصلًا. وهو قول الحافظ ابن حجر العسقلاني.

القول الثالث: أنه يعمل به في فضائل الأعمال من ترغيب وترهيب.

ومحل هذا الخلاف ما لم يكن في إسناده كذابون أو متهمون بالتدليس والوضع.

فإذا عرفتَ هذا؛ فهذه الأحاديث لا تقوم بها حجة عند المحققين من العلماء، وقد بيَّن حالها الحافظ ابن عبد الهادي في أول كتابه «الصارم المنكي في الرد على السبكي» ؛ فلا حاجة بنا هنا

ص: 136

للكلام عليها، ويكفينا عن بيان حالها عدم تصريح أحد من أهل السنن الذين أخرجوا الصحيح والحسن والضعيف؛ فدلَّ ذلك على أن هذه الأحاديث لم يكن لها أصل عندهم؛ وإلا لو كان لها أصل ما وسعهم تركها وهي مستقلة بإثبات حكم شرعي، وهل يقول عاقل: إن البخاري ومسلمًا ومالكًا والنسائي وأبا داود والترمذي وابن ماجه وابن الجارود وابن خزيمة وغيرهم ممن صنفوا في جمع الأحاديث قد أخلُوا كتبهم من هذه المسألة؟! سيّما وهم يعلمون أنها ذات خلاف بين السلف ـ كما بيَّنَّاه سابقًا ـ؛ فلما لم يعرّج أحد منهم عليها علمنا أنها لا تصلح للاستدلال، وذكر مثل الدارقطني والبيهقي لها لا يفيدها قوة؛ لأنَّ الدارقطني

ص: 137

ما قصد في سننه إلا جمع الغرائب؛ ولذلك تراه يذكر الصحيح والسقيم والموضوع؛ فتارة يبين حال الرواية وقد لا يبين حالها؛ اتكالًا على ظهوره عنده، وقد كتب عليها في زماننا العلامة شمس الحق العظيم آبادي الدهلوي حاشية سمَّاها:«التعليق المغني على سنن الدارقطني» ؛ أجاد فيها وأحسن. وأما البيهقي فقد جمع في سننه مثل الدارقطني؛ ولذلك احتوت سننه على الغث والسمين، وقد اختصرها الحافظ شمس الدين الذهبي؛ فجردها من الأحاديث الواهية، وللإمام علاء الدين المارديني التركماني ردّ عليها في سفرين سمَّاه:«الجوهر النقي في الرد على البيهقي» .

فقد تبيَّن لك حال هذه الأحاديث التي ذكرها السبكي. وعلى تسليم ثبوتها؛ فهي لا تفيد إلا مشروعية الزيارة فقط، وشيخ الإسلام لا ينكر مشروعية الزيارة ـ كما شهد له بذلك هذا المعترض نفسه ـ؛ وإنَّما النزاع في مسألة: استحباب شدّ الرحل إلى مجرد الزيارة من غير قصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وهذه الأحاديث لا تفيد بمنطوقها إلا الزيارة، وقول السبكي:«إنّ لفظ (الزّيارة) يتناول شدّ الرحل وغيره من المعاني» ؛ فمردود بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ما ثبت عنه في حديث صحيح ولا ضعيف ولا مكذوب أنه شد رحله إلى زيارة قبرٍ من قبور الأنبياء ولا غيرهم من قبور المؤمنين، ومعلوم أن قبور الأنبياء وغيرهم كانت موجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم وفي زمان أصحابه؛ فما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يزور قبور أهل البَقيع وغيرهم، من غير شد رحل ولا سفر؛ فهل يقول مسلم: إنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا أمرًا مشروعًا محبوبًا لله سبحانه وتعالى واهتدى إليه السبكي وأضرابه؟؟! فسبحانك هذا بهتان عظيم. وكيف ينطبق هذا على قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له» ، وعلى قوله ـ تعالى ـ: {اليوم أكملت لكم

ص: 138

دينكم} ؟! فلو كان شدّ الرحل إلى زيارة القبور أمرًا مستحبًّا في الشرع ولم يفعله الرسول ولم يبينه لأمته؛ لكان هذا الدين لم يكمل إلا من بعد مجيء السبكي! فنبرأ إلى الله من هذا! وكيف يكون مستحبًّا وقد نهى عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ؟؟! فلما لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر أمته به بل نهاهم عنه؛ تبيَّن أن شد الرحل لمجرد الزيارة أمر غير مشروع؛ بل هو محدَث في الدين، ولم يعرف في زمان سلفنا الصّالحين.

وأما قوله: «ومنها: الحديث الذي رواه الطبراني وصححه ابن السكن» ؛ يشير إلى الحديث الثالث الذي ذكره في الباب الأول؛ وهو: «من أتاني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي؛ كان حقًّا عليَّ أن أكون له شفيعًا يوم القيامة» .

فالجواب: هذا الحديث لو سلمت له صحته؛ لكان نصًّا في المسألة، ولارتفع النزاع، ولم يحتج معه إلى ذكر شيء يريد به ما ذهب إليه. وأنَّى يسلم له ذلك وقد بيَّن هو نفسه حاله في أول الكتاب؛ وذكر أنه حديث مختلف في متنه وسنده، ولكن لما كان هذا الحديث حجة له؛ لم يتكلم عليه من كل وجه؛ بل ذكر شيئًا وسكت عن أشياء، وناقشه فيه الحافظ ابن عبد الهادي. وحيث أن الحافظ ابن عبد الهادي لم يتكلم على بيان حال مَن يدور عليه إسناد هذا الحديث؛ وهو مسلم بن سالم الجهني، إمام مسجد بني حرام ومؤذنهم، ولم يزد على قوله:«هو رجل مجهول الحال» ؛ أردت أن أبيِّن لك حاله وما

ص: 139

قاله أهل العلم فيه؛ فأقول ـ وبالله التوفيق ـ:

مسلم بن سالم الجهني: قال في «تهذيب التهذيب» : بصري، كان يكون بمكة، روى عن عبد الله بن عمر العمري، وعن أخيه عبيد الله بن عمر، وغيرهما. وعنه: عبد الله بن محمد العباداني، ومسلم بن حاتم الأنصاري، وغيرهما. قال أبو داود: ليس بثقة. ويقال فيه: مسلمة أيضًا؛ بزيادة هاء في آخره.

وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال في نقد أسماء الرجال» ما نصه: مسلم بن سالم الجهني، كان يكون بمكة، قال أبو داود السجستاني: ليس بثقة. قلتُ: ما أبعد أن يكون مسلمة بن سالم الجهني البصري إمام مسجد بني حرام، الذي أخرج له الدارقطني في سننه ما أخبرنا علي بن الفقيه وإسماعيل بن عبد الرحمن قالا: حدثنا ابن الصباح، أخبرنا ابن رفاعة،

ص: 140

أخبرنا الخلعي، أخبرنا أبو النعمان تراب ابن عمر، حدثنا أبو الحسن الدارقطني، حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا عبد الله بن محمد العبادي سنة خمسين ومائتين بالبصرة، حدثنا مسلمة بن سالم إمام مسجد بني حرام، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه مرفوعًا:«من جاءني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقًّا عليَّ أن أكون له شفيعًا يوم القيامة» ، رواه أبو الشيخ عن محمد بن أحمد بن سليمان الهروي، حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري، حدثنا مسلمة بهذا. فانظر

ص: 141

ـ رحمك الله ـ إن كنتَ ممن يتثبت في دينه: هل مثل هذا الحديث المضطرب المتن والسند الذي مداره على رجل حاله كما بيَّنَّا تقوم به حجة في محل النزاع؟؟ اللهم إلا أن يكون هذا وأمثاله يروج على رجل لم يعرف الاستدلال وليست له خبرة بأحوال الرجال. فإن راج هذا على السبكي وأضرابه؛ فلا يروج على شيخ الإسلام ابن تيمية حامل لواء هذا الفن وإمامه؛ حتى قيل فيه: إنَّ الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية ليس بحديث! وعلى تسليم ثبوته؛ فهو معارض بحديث الصحيحين وغيرها ـ وهو: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرِّحال

» الحديث ـ، وما قلنا هذا إلا على سبيل التنزُّل؛ وإلا فغاية الأمر أنا لو أحسسنا الظنّ بمسلم الجهني فيكون الحديث ضعيفًا، ولا تعارض بين ضعيف وصحيح، بل ولا بين حسن وصحيح؛ وإنَّما لا يُقال: حديثان متعارضان إلا إذا استويا في الرتبة؛ فحينئذ يذهب إلى الترجيح بأمور خارجة عن الصحة ـ ذكرها أهل الأصول ـ، وأما هنا؛ فلا يُقال: تعارض الحديثان؛ لما علمتَ. والله الهادي.

فقد علمتَ مما تقدّم أنَّ العلماء لم يتفقوا على العمل بالحديث الضعيف؛ بل لهم فيه ثلاثة أقوال ـ كما مرَّ ـ.

والذي يظهر لي: أنّ أولاها بالصواب قول مَن قال: لا يُعمل بالحديث الضعيف مطلقًا ـ وقد بينَّا حجتهم ـ. وإن كان قول مَن قال: يُعمل به إذا تعددت طرقه حتى بلغت في الكثرة مبلغًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب؛ ليس بعيدًا عن الصواب، ولكن أهل القول الأول أسعد بالحّجة. وأما قول مَن قال: يُعمل به في فضائل الأعمال من ترغيب وترهيب ـ ويدلّ عليه قول الإمام أحمد؛ حيث يقول: «إذا روينا في الحرام والحلال شدّدنا، وإذا روينا في غير ذلك تساهلنا» ـ؛ فهذا القول في النفس منه حزازة؛ لأنّ

ص: 142

الترغيب في فعل شيء يفيد مشروعيّته، ومتى كان مشروعًا كان من الدِّين، والترهيب عن ترك شيء يفيد أنّ هذا الشّيء ليس مشروعًا فعله وليس هو من الدِّين، ولا يجوز لأحد البتة كائنًا مَن كان أن يُدخل في الدِّين ما ليس منه أو يُخرِج من الدِّين ما هو منه، وهذا لا يكون إلا بشيء صحيح تقوم به الحُجّة؛ فهو مثل الحرام والحلال؛ فيجب التثبت فيه كما يجب في الحرام والحلال؛ فكم وقع الناس في أشياء بسبب التساهل في الأحاديث الضعيفة والموضوعة في العبادات ـ كالصلاة وتلاوة بعض السُّوَر من القرآن والذِّكر والزُّهد والإنفاق والصيام

وغير ذلك ـ؛ فاشتغلوا بهم حتى أدَّاهم ذلك إلى ترك المطلوب منهم، وبسبب الأحاديث الواهية الواردة في فضل صلاة الرغائب؛ ترك الناس صلاة الصبح؛ فإنَّهم يشتغلون بها أكثر الليل ثم يغلب عليهم النّوم فينامون عن صلاة الصبح! وبسببها اشتغل النّاس بالمحافظة على تلاوة بعض السُّوَر حتى أنساهم بقيّة القرآن، وبسببها بالغ النّاس في الزُّهد حتى تركوا العمل وصاروا عالة على الأغنياء، علمًا منهم بأنّ هذا هو المطلوب من العباد، ونسوا الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة في فضل الكسب وذمّ المسألة، وبسببها بالغ النّاس في الإنفاق؛ فأنفقوا جميع ما عندهم! فالحاصل أن مساوئ هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة لا تُحصى، وقد كان في الزمان الأوّل لا تنفق على أحد؛ لأنّ دولة الحديث

ص: 143

كانت قائمة، فلما تقادم الزّمان وطال الأمد ومات رجال الحديث؛ اختلط الضّعيف بالصّحيح والطّيب بالخبيث والغثّ بالسّمين؛ فقلّ المميز لهذا من هذا؛ فلا تكاد تجد رجلًا يميز بين صحيح وسقيم، اللهم إلا أفرادًا قليلين يعدون على الأصابع؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وترى كثيرًا من الناس مشهورًا بالعلم ويشحن مؤلفاته بالأحاديث الواهية والموضوعة، من غير أن ينبّه عليها ويبيّن حالها؛ فهذا ذنب عظيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار» ، وفي رواية:«متعمّدًا» ـ وهذه اللفظة أنكرها الزّبير بين العوام؛ وقال: إنكم تزيدون متعمّدًا؛ وإنِّي والله ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «متعمِّدًا» ـ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَن حدَّث عني حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ؛ فإذا كان الأمر كما وصفتُ؛ فيجب على كلّ أحد يريد أن يروي حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون عالمًا بصحته حتى يسلم من هذا الوعيد الشديد.

وحيث أن الهمم في هذا الزّمان قد قصرت عن معرفة الصّحيح من السّقيم، وتمييز الطّيب من الخبيث؛ أردتُ أن أذكر لك أنموذجًا لتعرف به طبقات الكتب المصنّفة في الحديث ـ وإن كنتُ أشرتُ إليها فيما سبق ـ؛ لتكون على بصيرة في دينك؛ فأقول ـ وبالله التوفيق ـ:

اعلم ـ رحمك اللهُ تعالى ـ أنّ الكتب المصنّفة في الحديث كثيرة جدًّا، لا تكاد تُحصى عددًا، ولكن أصحّها وأنقاها: الصحيحان للبخاري ومسلم، وموطأ مالك بن أنس، وصحيح أبي

ص: 144

عوانة، والمستخرجات على الصحيحين، وصحيح ابن خزيمة، والمنتقى لابن الجارود، والمختارة للضياء المقدسي، وهذه الكتب يفضل بعضها بعضًا. ويلي هذه الطّبقة: كتب السنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، والدارمي، وابن حبّان، وهذه الطّبقة لم تلتزم إخراج الصحيح فقط؛ بل فيها غيره كالحسن والضعيف والمنكر والموضوع، لكنه قليل جدًّا. ومنها: مستدرك الحاكم على الصحيحين، وفيه تساهل كثير؛ حتى قال الإمام الذهبيّ: «إنّ نصفه

ص: 145

يسلم له صحته، وربعه مختلف فيه، وربعه موضوع» ، وقد اختصره هذا الإمام الجليل، وبيّن ما فيه من هذه الأنواع. وما عدا هذه الطّبقة ففيها الغثّ والسّمين؛ مثل: الحلية لأبي نُعَيم، ومصنف ابن مندة، وابن أبي الدُّنيا، والدَّارَقُطنيّ، والبيهقيّ، والطبرانيّ، وبقية المسانيد والأجزاء والمغازي والتّفسير والملاحم والوعظ والتّصوّف، يعرف هذا مَن مهر في هذا الفنّ الشّريف.

ثم جاء قوم من المتأخّرين؛ فجمعوا بين هذا وهذا، تارة يبيّن حال الحديث وقد لا يبيّن؛ فقلّدهم النّاس مِن غير علم ولا سلطان بيِّن؛ فخبطوا خبط عشواء، وركّبوا متن عمياء، ضمن الجامعين المكثرين في المتأخّرين: جلال الدين السيوطيّ؛ فصنّف: «الجامع الكبير» ؛ الذي التزم أنّه يذكر فيه الأحاديث النّبويّة بأسرها، واختصر منه «الجامع الصّغير» ،

ص: 146

وله مصنّفات في الحديث والتفسير كثيرة، ولكن لم يتحاش فيها من إخراج الصّحيح والضّعيف والموضوع؛ فتارة يُنَبِّه على حال الحديث، وفي الكثير لا ينبِّه اتِّكالًا على الكتب التي عزا إليها، وكثير ما يوجد فيها الموضوع، خصوصًا في «الجامع الكبير» و «الصّغير» ، وفي تفسيره المسمّى بـ «الدُّرّ المنثور في التّفسير بالمأثور» ، والحال أنّه قال في ديباجة «الجامع الصّغير» :«لا أذكر فيه إلا الصّحيح والحسن» ، والحال أنّه قد ذكر منه أحاديث في كتاب «اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» ! ونبّه على وضعها، وبالجملة: إنّك ـ يا أخي ـ لا تغترّ بكل حديث رأيتَه في كتاب ـ ما عدا الصحيحين؛ فإنّ جميع ما فيها مقطوع بصحّته عند المحققين، إلا أحاديث قليلة؛ ذكرها الحافظ ابن حجر في مقدّمة «فتح الباري» ـ، أو سمعتَه من عالم؛ خصوصًا في زماننا هذا؛ فإنّ العالِمين بالحديث قليلون جدًّا؛ بل من قرون عديدة، وليس كلّ مَن مهر في فنّ يكون ماهرًا في سائر الفنون؛ بل كلّ فنّ له رجال مشهورون به؛ فهذا حُجّة الإسلام الغزاليّ ـ مع جلالة قدره ـ كانت بضاعته في الحديث مُزجاة؛ كما شهد به هو على نفسه! وهذا الزمخشريّ ـ مع كثرة تفنّنه ـ كان قليل البضاعة في الحديث؛ يدلّك على ما قلنا في هذين الإمامَين: كتاب «الإحياء» للغزاليّ، وسائر مصنفاته؛ فإنّها

ص: 147

مشحونة بالأحاديث الضّعيفة والموضوعة؛ يعلم هذا مَن رجع إلى تخريج أحاديث

«الإحياء» للحافظ العراقيّ، وإلى شرحه للسيد مرتضى الزبيديّ، وكتاب «الكشاف» للزمخشريّ؛ فإنّه ذكر فيه أحاديث موضوعة باتّفاق أهل الصّناعة الشريفة، وتبعه فيها القاضي البيضاويّ في «تفسيره» ، وقد خرّج جميع ما فيه من أحاديث الحافظ جمال الدين الزّيلعيّ ـ صاحب كتاب «نصب الرّاية» ـ، واختصره الحافظ

ص: 148

ابن حجر في مجلّد ـ رأيتُه أنا بمكتبة دمشق ـ، وهذا الرَّازي ـ مع سعة علومه ـ قد ذكر في «تفسيره» أحاديث موضوعة، وهذا السُّبكي ـ الذي نحن بصدد الرّدّ عليه ـ قد شحن كتابه هذا مع صغر حجمه بالأحاديث الواهية والموضوعة.

فإذا عرفتَ هذا؛ فأقول لك: إنّ هذه الأحاديث التي أوردها السُّبكي مستدّلًا بها على أنّ السّفر لمجرد الزيارة الخالية عن الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم قُربة من أعظم القُربات؛ في غاية البُعد والسُّقوط، وإنّ تصحيح ابن السكت هذا الحديث لا يُلتفت إليه؛ لمخالفته أهل الفنّ، وكيف يكون هذا الحديث صحيحًا وفيه ثلاث عِلَل: الكلام في مسلم بن سالم الجهني الذي يدور عليه إسناده، والاضطراب في متنه وسنده ـ وكلها قادحة ـ، وأيضًا ليس هذا الحديث من مرويات الصحيحين، ولا من مرويات أحد من أهل الطّبقة العُليا ولا التي تليها؛ فإذا انضمّ ما قلناه إلى الذي قاله صاحب «الصّارم المُنكي في الرّد على السُّبكي» ؛ [تبيّن] ردّ كل هذه الأحاديث التي ما عليها أثارة من الصّحّة.

فإن قلتَ: قد احتجّ مَن يرى استحباب زيارة القبر الشّريف وقبور سائر المسلمين بهذه الأحاديث.

فالجواب: أنّهم لم يحتجّوا بها؛ بل احتجّوا على ذلك بالأحاديث الصّحيحة المرويّة من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم؛ فمنها: قوله عليه الصلاة والسلام: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القُبور؛ فزوروها» ، وقوله:«زوروا القبور؛ فإنّها تذكّركم الآخرة» ، وفعله صلى الله عليه وسلم من زيارة أهل البَقيع وغيرهم، وقبره صلى الله عليه وسلم داخل في مسمّى القبور؛ لأنّه اسم جنس

ص: 149

يشمل كلّ قبر، وإنّما منعنا من السّفر وشدّ الرّحل لمجرد زيارتها من غير قصد شيء آخر معها؛ للحديث الصّحيح الوارد في النّهي عن ذلك، وتَتَبّعنا ما ورد في زيارته صلى الله عليه وسلم لقبور المسلمين الذين كانوا في زمانه، وزيارة أصحابه من بعده لقبور إخوانهم من المؤمنين؛ فما وجدنا فيها شيئًا يدلّ على أنّه صلى الله عليه وسلم سافر أو شدّ رحلًا لزيارة قبر أحد من الأنبياء ولا غيرهم، ولا فعل هذا أحد من أصحابه؛ فعلمنا قطعًا أنّ السّفر لمجرد زيارة القبور ليس مشروعًا؛ بل هو منهيّ عنه، ومعاذ الله أن يكون أمرًا مشروعًا في الدِّين محبوبًا لله ولا يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه ـ الذين هم صفوة هذه الأمّة وخيرة الله من خلقه بعد المرسَلين ـ، ويفعله هذا السُّبكيّ وأضرابه!

فخلاصة القول: أنّ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبور غيره مشروعة من غير سفر ولا شدّ رحل؛ بل يقصد المسافر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فإن شاء ضمّ لنيّته هذه نيّة الزّيارة وقت السّفر، وإن شاء أخَّرها؛ حتى إذا وصل إلى المسجد الشّريف وصلَّى فيه؛ زار قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر وقبور أهل البَقيع، وغيرهم من قبور المسلمين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة، وعليه تدلّ الأحاديث الصّحيحة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وفعل أصحابه من بعده. وأما قبور سائر المسلمين ما عدا ذلك؛ فلا يُسافر إليها بقصدها؛ بل إذا قصد بلدة لحاجة من حوائج الدُّنيا أو الدِّين؛ فإنّه يُستحب له أن يزور القبور التي فيها سواء كانت قبور صالحين أو غيرهم. فهذا الذي نقوله ونديه الله به؛ فلا نزيد على ما ورد في الشَّرع ولا ننقص منه شيئًا. وأما التّبرّك بالقبور؛ فهذا شيء لا نقول به ولا ندين الله به؛ بل نزور القبور لتذكّر الآخرة، والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها والاستغفار لهم ـ كما جاءت به السُّنَّة المطّهرة ـ. والله أعلم.

وقوله: «فإنّ لفظ (الزّيارة) يتناول الزّائر من بُعد ومن قُرب وسَفر» .

فالجواب: هذا صحيح، ولكننا لما نظرنا في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وأفعال أصحابه؛ فلم نجد فيها شيئًا يُستدلّ به على استحباب السّفر لمجرد الزّيارة؛ علمنا يقينًا أنّ السّفر لمجرد الزّيارة

ص: 150

ليس مشروعًا؛ إذ لو كان مشروعًا لم يتركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم أحرص النّاس على فعل الواجب والمندوب وكيف يكون هذا مستحبًّا ولم يثبت عن أحد منهم أنّه شدّ رحله وسافر لزيارة قبر من القبور، لا قبر نبيّ ولا غيره، ومعلوم أنّ القبور موجودة كثيرة في كلّ زمان ومكان، وهذا لو فُرِضَ أنّه لم يأتِ نهيٌ في ذلك؛ فكيف وقد جاء النهي مصرّحًا به في الصحيحين وغيرهما؛ وهو حديث: «لا تُشَدّ

» ـ بصيغة الفعل المضارع المبني للمجهول للمؤنثة الغائبة، لا بصيغة الأمر [للجمع من الذُّكور]ـ «

الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ؛ فعُلِمَ بهذا تخصيص عموم لفظ (الزّيارة) لو سلم عمومه، وأما الزّيادة التي جاءت من طريق مسلم بن سالم الجهنيّ؛ فقد علمتَ ما فيه من كلام العلماء، ومقلها لا يثبت به حكم شرعيّ، ولو صحّت هذه الزّيادة؛ لكانت نصًّا في الرّسالة لم يحتج معه إلى قيل وقال، ولكن حيث أنها موافقة لرأي السُّبكيّ وسكت عما لها وما عليها، ونحن قد بيّنّا ـ فيما مضى ـ سقوطها؛ فلم يبقَ إلا عموم لفظ الزّيارة، وقد تقرّر في الأصول: أنّ اللفظ إذا كان محتملًا لعدّة معان؛ حُمِلَ على معنى منها بقرينة؛ لأنّ استعمال اللفظ في جميع معانيه لا يسوغ، وحيث أنّنا بيّنّا كيفية زيارته صلى الله عليه وسلم وأصحابه للقبور، وليس فيها شدّ رحل ولا سفر؛ تعيّن حمل اللفظ على معنى واحد؛ وهو الزّيارة من غير سفر ولا شدّ رحل ـ كما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ، وهذا كافٍ في التّخصيص؛ فكيف وقد جاء المخصّص لهذا العموم ـ وهو حديث الصحيحين (كما مرّ ذكره) ـ؟!

وقوله: «فإن كانت كل زيارة قُربة؛ كان كلّ سفر إليها قربة» : صحيحٌ لو سلمت هذه الزّيادة من التّخصيص المتقدّم ذكره ـ وهو: نهيه صلى الله عليه وسلم عن إعمال المطي إلى غير المساجد الثّلاثة ـ؛ فعليه؛ لا يكون السّفر لمجرد الزّيارة قُربة، وكيف يكون قُربة وينهى عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يفعله ولو في العمر مرّة، ولا يفعله أحد من أصحابه؟! وهل يقول

ص: 151

عاقل هذا القول؟! فعُلِمَ بها عقم هذه النتيجة. والله المستعان.

وقوله: «إذا جاز الخروج إلى القريب؛ جاز إلى البعيد» : فانظر إلى تخليط هذا الرّجل وتغافله واتّباع هواه! كيف يجوّز ويمنع برأيه من غير نصّ ولا استناد إلى فعل أحد من الصحابة الذين هم أعلم النّاس بمقاصد نبيّهم؟! فإذا كان السّفر وشدّ الرّحل إلى القبور جائزًا؛ فلِمَ لم يفعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بعده؟! فهل كانوا لا يعلمون جواز ذلك؛ فقصّروا في فعل أمر هو قُربة من القرب، وفعله السُّبكيّ وأضرابه؟! فنبرأ إلى الله من الاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فهذا هو التنقيص لهم بعينه، لا الذي يتمسّك في جميع الأمور الدينيّة بالكتاب والسُّنّة وأفعال الصّحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ؛ فقد عسكوا الأمر بجعلهم المتمسّك بنصوص الشّريعة المطهّرة، المقدّم لها على رأي كلّ أحد من النّاس؛ ضالًّا بدعيًّا! والذي يجعل نصوص الشّريعة تابعة لرأيه وآراء متبوعه؛ هاديًا مهديًّا، معظّمًا لله ـ تعالى ـ ونبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم! سبحانك هذا بُهتانٌ عظيمٌ!

والآثار التي ذكرها عقب هذا، الدّالّة على خروجه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لزيارة قبور الشّهداء؛ صحيحة، ولكن ليس فيها سفر ولا شدّ رحل؛ فكيف يستدلّ بها على جواز شدّ الرّحل والسّفر المتنازَع فيه؟!

فقد علمتَ ـ بما سلفَ ـ أنّ هذا المعترض لا حُجَّة له في السُّنَّة الصّحيحة على ما ذهب إليه، كما أنّه لا حُجَّة له في الآية الشّريفة التي استدلّ بها على مقصوده، بل القرآن والسُّنَّة الصّحيحة يصادمان ويناقضان مقصوده أشدّ تصادُم.

فصل

وأما الأصل الثالث (وهو: القياس) ـ وكان حقّه أن يؤخّر عن (الإجماع) ؛ لأنه يليه في الرُّتبة، ولكن حيث أنّه قدّمه هو فوجب أن نتكلّم عليه ـ؛ وهو قوله:«وإذا ثبت مشروعيّة الانتقال إلى قبر غيره؛ فقبره صلى الله عليه وسلم أولى» .

وجوابه أن يُقال: هذه مُغالطة بيّنة؛ لأنّا نقول: الذي ثبت مشروعيته إنَّما

ص: 152

هو زيارة القبور لتذكّر الآخرة، والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها والاستغفار، من غير سفر ولا شدّ رحل؛ فإن جعلنا هذا الأصل وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم مقاسة على هذا الأصل؛ فلا يُشرع لها السّفر ولا شدّ رحل، كما أنّه لا يشرع ذلك للأصل والفرع تبعًا للأصل؛ فلا يكون الفرع مختصًّا بأشياء على أصله؛ وإلا لاختلّ القياس، والزيارة المُجرّدة عن شدّ الرّحل والسّفر، سواء كان زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره لا ينكرها شيخ الإسلام ابن تيمية؛ بل يستحبّها ويندب إليها ـ كما ذكر ذلك في غير كتاب من كتبه ـ، ولكن منع شدّ الرّحل والسّفر إليها إذا كانت مجرّدة من غير قصد شيء آخر؛ اتباعًا لظاهر الحديث الصحيح المتقدّم، وموافقته لأئمة السلف، وعند التأمّل تجد الخلاف بينه وبين مخالفه يسيرًا جدًّا لا يحتاج إلى تأليف كتاب؛ لأنه يقول هو ومَن تقدّمه بهذا القول: ينبغي لمن شدّ رحله وسافر إلى المدينة المنوّرة ـ على ساكنها أفضل صلاة وأزكى تحيّة ـ أن يقصد بسفره وشدّ رحله الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أتى إلى المسجد الشّريف صلَّى فيه، ثم انثنى لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه وقبور أهل البقيع وغيرهم، والمسافر لهذا القصد مخيَّر إمّا أن ينوي الزيارة مع الصلاة في المسجد الشريف حال شدّ الرّحل، أو يؤخّرها حتى إذا وصل نواها وفعلها ـ عملًا بالحديث الصحيح الوارد في ذلك، وخروجًا من خلاف العلماء ـ؛ فأي ملامة تلحق هذا الإمام على قوله هذا؟! بل كلّ منصف يعلم أنّ هذا القول هو الأحوط، ولكن هذا السّبكيّ وأضرابه أرادوا أن يوسّعوا الخرق بكثرة القلاقل، ويعظّموا هذا الأمر بشيء لا طائل تحته ولا فائدة فيه إلا التّفرّق

والاختلاف بين المسلمين، حتى أدّى ذلك إلى معاداة وتباغض، وغير ذلك من المفاسد التي لا يحصيها إلا الله عز وجل، وشنّعوا على هذا الإمام بغير حقّ ـ كما علمتَ ـ. وفي الحقيقة ما شنّعوا عليه فقط؛ بل على أبي هريرة، وبصرة الغفاريّ، والشعبيّ، وابن سيرين،

ص: 153

وإبراهيم النخعيّ، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة ـ الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:«تُضرب أكباد الإبل فلا يجدون عالمًا سوى عالم المدينة» ؛ فحمل هذا الحديثَ أهلُ العلم على هذا الإمام؛ وذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وابن الجوينيّ، والقاضي حسين، وطائفة غيرهم. فلو فَقِهَ هذا المعترض وأضرابه ما قلناه؛ لم يتسرّع إلى الطعن في عرض الإمام محيي السُّنّة الذي شهد بفضله واجتهاده سبعون مجتهدًا في زمانه، لم يشهد منهم أحد بهذا للسبكيّ ـ الذي تصدّى للرّد عليه ـ؛ بل قام في وجهه كثير؛ مثل: الإمام الصرصريّ، والإمام اليافعيّ الشافعيّ، وغيرهما؛ يعلم هذا مَن رجع إلى كتاب «الرّد الوافر» لناصر الدّين الدمشقيّ، وكتاب «الكواكب

ص: 154

الدّريّة» للشيخ مرعي.

والذي يظهر لي: أنّه ما حمل السبكيّ على الرّدّ على هذا الإمام ـ الذي علمتَ فضله بشهادة أهل العلم النّبويّ ـ إنّما هو محضّ التّعصّب والحسد؛ لأنّه لم يفعل ذلك مع الذين تكلّموا في الدّين بالكلمات الكفريّة؛ بل جعلوهم أولياء لله، وأوّلوا كلامهم بما يوافق أهواءهم تأويلًا كاسدًا يخالف ما عليه المسلمون؛ فهذا الغزاليّ الذي قال:«ليس في الإمكان أبدع مما كان» ، وهو القائل أيضًا:«مَن لا منطق له لا ثقة بعلمه» ، ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما كانوا يعلمون المنطق؛ بل صحّ النّهي عنه عن الشافعيّ ومالك؛ فهل يقول مسلم: لا ثقة بعلم مالك والشافعيّ؟! وهذا ابن عربيّ القائل: «والعبد رب والرب عبد؛ ليت شعري مَن المكلّف؟» ، وهذا ابن عطاء الله السكندريّ القائل في حكمه:«طلبك منه اتهام له» ، وقوله فيها أيضًا:

ص: 155

«اشتغالك بما ضمن لك دليل على انطماس البصيرة منك» ، ومعلوم لدى كلّ أحد أنّ الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ وغيرهم من صالحي هذه الأمّة أنّهم كانوا يطلبون من الله ـ تعالى ـ ويسألونه حوائجهم، ويطلبون المعيشة والكسب والعمل؛ فهل يقول مسلم: إنّ هؤلاء اتهموا الله ـ تعالى ـ بطلبهم منه حوائجهم، وانطمست بصائرهم بالاشتغال في أمر معيشتهم؟!

فيا لله العجب! هؤلاء يُعَدُّون من الأولياء، ويُؤوّل كلامهم هذا، وشيخ الإسلام لا يُعذر في كلامه! لو فرضنا أنّه أخطأ في مسألة من المسائل، والحال قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه مأجور؛ حيث يقول:«إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد وأصاب فله أجران» . ومعلوم ـ عند المخالف والموافق ـ أنّ هذا الإمام ما تكلّم في مسألة ما إلا بالدليل الشّرعيّ؛ فلا ملامة عليه إن أخطأ؛ لأنّه من أهل الاجتهاد، ولكن كما قال الشاعر:

الرّضا عن كلّ عيب كليلة

كما أنّ عين السّخط تُبدي المساويا

وكما قال الآخر:

إذا كان المحبّ قليل حظّ

فما حسناته إلا ذنوب

فيجب على كلّ أحد ألَّا ينتصر لأحد غير الله ورسوله بمجرّد اتباع الهوى والعصبيّة الجنسيّة أو المذهبيّة، ويكون قيامه بنصر الحقّ بالحقّ حتى يكون محبوبًا لله ورسوله وللمؤمنين؛ فنسأله ـ تعالى ـ أن يتضمنا في سلك عباده المتّقين.

ص: 156

فخلاصة القول في هذا الأصل الثالث (وهو: القياس) أَن يُقال: إذا جعلنا الأصل مشروعيّة زيارة القبور بالنّصوص الشرعيّة الصحيحة، وزيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقاس عليها؛ فلا يُشرع في المقاس زيادة على أصله؛ لأنّ الأصل لم يشرع فيه شدّ رحل ولا سفر؛ وإنّما شُرع فيه الزيارة المُجرّدة عنهما؛ فالمقاس عليه مثله. وعند التّحقيق يظهر أنّه لا قياس؛ لأنّا نقول: لفظ «زوروا القبور» لفظ عام يشمل كلّ قبر حتى قبره صلى الله عليه وسلم وقبر غيره من الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ، ولكن لم يرد دليل في الشّرع على استحباب شدّ الرّحل والسّفر لمجرد زيارة القبور من غير قصد شيء آخر؛ فلم نقل به، وإن كان لفظ الأمر يشمل السّفر وشدّ الرّحل للزّيارة، والزّيارة من قرب ومن بعد ـ كما قال السّبكيّ ـ، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور يخصّص هذا العموم، ويصيره قاصرًا على الزّيارة من غير سفر ولا شدّ رحل؛ إذ لو كان هذا مستحبًّا لم يتركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من بعده مع وجود القبور البعيدة في زمانهم، وهذا لو فرض عدم مجيء النهي في ذلك؛ كيف وقد جاء النّهي مصرّحًا ـ كما تقدّم ـ؟! والله الموفّق.

فقد تبيّن بما قلناه أنّ السّبكيّ لا دليل له من القرآن، ولا من السُّنّة الصّحيحة، ولا من القياس المعتبر؛ على استحباب شدّ الرّحل والسّفر للزّيارة المُجرّدة عن كلّ قصد سواها ـ كما علمتَ ـ.

فصل

الأصل الرّابع (الإجماع) ـ وإليه الإشارة بقوله: «وأمّا الإجماع: لإطباق السّلف والخلف؛ فإنّ النّاس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجّ يتوجّهون إلى زيارته صلى الله عليه وسلم

إلى آخره» ـ.

فجوابه من وجوه:

الأول: هذا الإجماع لا حُجّة فيه؛ لأنّه محتمل أنّهم يتوجّهون عقب الحجّ إلى الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وبعدها يزورون قبره صلى الله عليه وسلم، وقصدوا مع السّفر للصّلاة في المسجد الشّريف الزّيارة، ونحن لا ننازع في هذا، ويحتمل على سبيل التّنزّل مع السّبكيّ أنّهم قصدوا بسفرهم الزّيارة المُجرّدة عن الصّلاة في المسجد وغيرها من

ص: 157

أنواع القرب، فإذا كان هذا السّفر محتمل لجميع هذه المعاني كلها؛ فليس حمله على معنى منها بأولى من حمله على غيره، وقد تقرّر عند أهل الأصول: أنّ «الدّليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال» ؛ فلا حُجّة له حينئذ في هذا الإجماع، وهذا لو سلمنا للسّبكيّ أنّ هذا إجماع، وكيف يسمّى إجماعًا وقد شرط أهل الأصول للإجماع شروطًا، وبيّنوا ما يسمى إجماعًا وما لم يُسَمّ، وقد اختلف المسلمون في الاستدلال بالإجماع؛ فقال بعضهم: لا حُجّة فيه إذا كان مخالفًا للكتاب والسُّنّة، وبعضهم قال: معرفته ليست ممكنة، ولهم في هذا تفاصيل كثيرة، وإليك بعض ما قالوه:

(مبحث الإجماع) :

يتُكَلَّم في الإجماع من وجوه: كبيان معناه شرعًا، وبيان جواز وقوعه، وإمكان العلم به ونقله، وبيان ركنه وشروطه، وحجّيته، ومستنده، ومراتبه.

الإجماع شرعًا: اتفاق مجتهدي أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر على حكم شرعيّ، وليس هو ولا العلم به ولا نقله إلينا مستحيلًا؛ فإنَّا قاطعونت بإجماع أهل كلّ عصر على تقديم القاطع على المظنون، حتى صار ذلك من ضروريّات الدّين، ولا اعتبار بخلاف النّظَّام وبعض الشيعة في ذلك ـ مستندين لأمور واهية ـ.

ركن الإجماع: تكلُّم المجتهدين على الحكم في العصر الذي حصل الإجماع فيه أو فعلهم كما أجمعوا عليه كذلك، كشروعهم في المزارعة والمساقاة، أو تكلُّم البعض أو فعلُه وسكوت الباقي بعد علمه، ومُضِيّ مدّة التّأمّل التي أقلّها ثلاثة أيام. انتهى من كتاب «أقرب طرق الوصول إلى قواعد علم الأصول» .

والحاصل: أنّ للأمّة كلامًا كثيرًا في الإجماع، ونحن نقول بجواز وقوعه وحُجّيته، ولكن أي دليل لهذا المعترض فيما ادّعى فيه أنّه إجماع، والحال قد نقضه هو بنفسه ـ كما سنبيّنه ـ.

وقبل المناقشة معه نذكر لك أمورًا تعلم منها أنّ هذا ليس إجماعًا؛ وهي: أنّهم قد عرَّفوا الإجماع بأنّه: «اجتماع مجتهدي هذه الأمّة على حكم شرعيّ، لا يُعلم لهم مخالف في هذا الحكم» ، ومعلوم أنّ مسألتنا هذه ليس لها نصيب من هذا التّعريف؛ لأنّ الخلاف فيها مشهور

ص: 158

معروف بين السّلف والخلف، وقد بيّنّا ـ فيما مضى ـ نقل الخلاف بينهم؛ فممّن لم يجوّز شدّ الرّحل والسّفر إلى غير المساجد الثّلاثة من الصّحابة: أبو هريرة وبصرة الغفاريّ، وممّن كره زيارة القبور من التّابعين ومَن بعدهم: محمد بن سيرين، وإبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، ومالك بن أنس ـ إلَّا أنّه نُقِلَ عنه الرّخصة في زيارتها ـ.

فإن قلتَ: إنّ التّابعين الذين كرهوا زيارة القبور لم يكرهوا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

فالجواب: الذين نقلوا عنهم كراهة ذلك لم يذكروا استثناء؛ فعُلِمَ أن ترك الاستثناء يفيد كراهة العموم. وأما إمامنا مالك بن أنس؛ فقد نقل عنه صاحب «المبسوط» كراهة الزيارة مطلقًا ـ كما بيّنه الحافظ ابن عبد الهادي ـ. وممّن نُقل عنه كراهة شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور من غير استثناء من المتأخّرين: ابن الجوينيّ، والقاضي حسين، وطائفة ـ كما ذكره الغزاليّ في «الإحياء» ، والنّوويّ في «شرح مسلم» ، وشيخ الإسلام ومَن وافقه من أهل زمانه ـ. فإذا تبيّن لك هذا؛ علمتَ أنّ المسألة ذات خلاف قديمًا وحديثًا، وأنّها ليست من الإجماع في شيء، ودعوى السّبكيّ أنّها من المسائل المجمع عليها في غاية السّقوط والبعد بما بيّنّاه، ولا أدري: هل هذا المعترض كان يجهل معنى الإجماع أو يتجاهل؟!

والذي يظهر لي: أنّه كان يتجاهل؛ لأنّ معنى الإجماع لا يخفى على مثله، ولكن حمله على ترك بيانه تعصّبه على شيخ الإسلام، وكيف يجعل معناه وهو نفسه قد نقل الخلاف في زيارة القبور، وقبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم داخل بالعموم، وقد

ص: 159

صرّح به مالك ـ كما تقدّم ـ، ولكن اتّباع الهوى يحمل الإنسان على إنكار الحقّ! فنعوذ بالله من اتّباع الهوى.

فقد علمتَ بما تقدّم من تعريف الإجماع ـ وأنّه: «اتّفاق مجتهدي هذه الأمّة في عصر على حكم شرعيّ» ـ؛ فعُلِمَ بهذا التّعريف: أنّه لو خالف واحد لا يُسمّى إجماعًا؛ فكيف وقد خالف عدد كبير، وقد ذكرنا أسمائهم فيما مضى؟! والذي يظهر ويتّجه: أنّ شيخ الإسلام هو السعيد بدعوى الإجماع لو ادّعاه، وإليه يرشد قول مالك في «المبسوط» حيث يقول:«أكره أن يقول الرجل: زرنا قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم» .

ومن المعلوم أنّ مالكًا من أجلَّاء علماء المدينة، وقبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ فلو كانت هذه التّسمية سائغة ذائعة عند السّلف؛ ما أنكرها مالك؛ فدلّ قول مالك أنّ أهل المدينة لم يعرفوا لفظة زيارة القبر الشّريف؛ وإلَّا لو كانوةا يعرفونها لما جاز لمالك كراهتها.

فإن قلتَ: إنّما كره مالك لفظة: «زرنا قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم» لما فيها من التّحقير؛ فالأولى أن يقولوا: حججنا وقصدنا قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أوَّل [ما قاله] مالك بهذا التأويل خلقٌ من أتباعه.

فالجواب: أنّ مالكًا أجلّ وأعظم قدرًا من أن يتنزّل إلى مثل هذا؛ لأنّ مثل هذا القول لا يصدر إلّا عن رجل جاهل بالكتاب والسُّنّة ولغة العرب، وحاشا أن يكون مالك جاهلًا بلغة قومه؛ فإنّ لفظة (الزّيارة) استُعْمِلَت بكثرة في القرآن والسُّنّة ولغة العرب؛ [فمما] ورد في السُّنّة:«زيارة المؤمنين ربّهم في الجنّة» ؛ فهل يقول أحد في مثل هذا: لا يُقال ذلك لأنّه يُشعر بالتّحقير، وأنّ الزّائر أفضل من المزور؟! اللهمّ إلَّا أن يكون هذا القائل مُتَفَيقهًا أو مُتَمَعْلِمًا؛ فإنّ العالم بالفقه هو الذي يعرض ما يقوله على الكتاب والسُّنّة ولغة العرب، ومالك أجلّ قدرًا من أن يقصد بقوله هذا المعنى، وكيف يقصد هذا التّأويل المخالف لما عليه عامّة أهل اللّسان العربيّ، وينُكر لفظًا

ص: 160

وردت به السُّنّة المطهّرة في زيارة المؤمنين لربّهم ـ كما تقدّم ـ، ووردت في الأحاديث الضّعيفة التي أوردها السّبكيّ للاستدلال على مشروعيّة الزّيارة؟! فهل يكون مالك أعلم بلغة العرب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد نطق بها ورواها عنه أصحابه من غير تأويل كما أوَّلها هؤلاء المتشدّدون؟! فما هذا إلَّا جناية على الله ورسوله وأئمّة الدّين، ولو كان ما أوَّلُوا به مقالة مالك صحيحًا؛ لجاء ذلك في القرآن والسُّنّة؛ لأنّ لفظة (الحجّ) ما جاءت في القرآن والسُّنّة إلَّا للبيت الحرام؛ فانظر ـ رحمك الله ـ كيف أدّى الجهل بالمسلمين إلى مثل هذا حتى صنّفوا كتابًا سمّوها «حجّ المشاهد» ـ يريدون بذلك: زيارة قبور الصّالحين ـ؛ فترفَّعُوا عن قولهم: زرنا قبر فلان ـ علمًا منهم أنّ هذا تحقيرًا له ـ؛ فعدلوا به إلى قول: حججنا! فمَن وصل به الجهل إلى مثل هذه ـ كما علمتَ ـ.

بل هي من المسائل المتنازَع فيها قديمًا وحديثًا، وشيخ الإسلام لم ينكرها؛ بل هو مسبوق بها؛ وإنّما اختار منها القول الذي ذكرناه عنه، وانتصر له بالدليل الشّرعيّ والنظّريّ، ولا مَلامة تلحقه في ذلك؛ لأنّه مجتهد، وليس من شرط المجتهد أن يوافق فيما اجتهد فيه أحدًا من النّاس؛ بل له أن يجتهد في الحكم الشّرعيّ ـ وإن خالف غيره من المجتهدين ـ؛ فهذا أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد وغيرهم من أئمّة الدّين؛ كلّ منهم قد خالبف مسائل لا يوافقه عليها أحد غيره؛ فهل قال أحد: لا يُقبل اجتهاده فيما خالف فيه غيره؛ فكلٌّ منهم مأجور ومعذور فيما أخطأ فيه، وقد قدّمنا أنّ هذا الإمام قد شَهِدَ له بالاجتهاد المطلق سبعون مجتهدًا في زمانه؛ فلا بدع إن خالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل؛ كيف وقد علمتَ مَن وافقه عليها من السّلف والخلف، ومَن تتبّع كتب المتقدّمين؛ وجد فيها ما قلناه، وأنّهم كانوا يستعملون بعد أداء النُّسُك لفظ:(قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ـ كما حكاه السّبكيّ وغيره ـ؛ فلم يستعمل لفظ (الزّيارة) بعد الحجّ إلا المتأخّرون وقليل من المتقدّمين من أهل الحديث، لم يذكروا منها لفظًا واحدًا في كتبهم؛ بل اقتصروا فيها على ذكر فضل المساجد الثّلاثة، والنّهي عن شدّ الرّحل [لغيرها]ـ بعد كتاب المناسك ـ؛ فهذا الإجماع لو ادّعاه أحد؛ لكانت له شبهة قويّة؛ فممّن لم يذكر لفظة (الزّيارة) في كتابه ـ بل اقتصر على ما قلناه ـ: البخاريّ، ومسلم، ومالك، والنّسائيّ، والتّرمذيّ، وابن ماجه، وخلق سواهم، وأمّا أبو داود فقد ذكرها، ولكنّه لم يستدلّ

ص: 161

بشيء من هذه الأحاديث؛ بل استدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سَلَّم عليَّ أحد عند قبري؛ ردَّ الله عليّ روحي حتّى أرُدَّ عليه السلام» ـ أو كما قال ـ، وقوله: «فإنّ

النّسا لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجّ يتوجّهون إلى زيارته صلى الله عليه وسلم» .

أقول: هذا الذي ذكره مَن توجّه النّاس في كلّ عام بعد قضاء الحجّ صحيح، ولكن مِن أين لهم علم سرائرهم وأنّهم ما يتوجّهون إلَّا للزّيارة المُجرّدة عن كلّ قصد سواها ـ كالصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؟! فإن قال: إنّ النّاس يقصدون بتوجّههم هذا الزيارة مع الصّلاة في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد وافق شيخ الإسلام ولا نزاع حينئذ؛ فإنّ شيخ الإسلام قائل بذلك. وإن قال: لا يتوجّهون إلَّا لقصد الزّيارة ليس إلَّا؛ فقد خالف بقوله هذا ما عليه المسلمون، وجنى عليهم جنابة عظيمة بتحكّمه على مقاصدم ونيّاتهم التي لا يعلمها إلَّا خالقهم، والحال أنّ أفعالهم في المدينة تبيّن لكلّ أحد مقاصدهم؛ فإنّهم إذا شدُّوا الرّحل وسافروا إلى المدينة المنوّرة أتوا مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصلُّوا فيه، ثم انثنوا بعد ذلك إلى زيارة القبر المعظم، وكذا قبر أبي بكر وعمر، وهذا الذي يقوله شيخ الإسلام وعامّة المسلمين، ومَن تأمّل حال النّاس اليوم وقبل اليوم؛ عَلِمَ يقينًا أنّهم لا يفعلون غير ما وصفنا، سواء في ذلك العالم منهم والجاهل من غير فرق.

وقوله: «معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة» :

أقول: نعم ـ وبه يقول شيخ الإسلام ـ إذا كان شدّ الرّحل والسّفر إلى ما وصفنا، وهو ـ ولله الحمد ـ لا يفعل غيره؛ فإنّ العالم من النّاس لا يتوجّه إلَّا لقصد الزّيارة والصّلاة في المسجد ـ كما علمتَ ـ،

ص: 162

والجاهل ـ وإن قصد بسفره غير ذلك ـ فهو ـ ولله الحمد ـ لا يفعل إلَّا ما يرى العلماء يفعلونه من الصّلاة والزّيارة وغير ذلك، ومعلوم لدى كلّ منصف أنّ العبرة بفعل العلماء ومقاصدهم، وأمّا الجاهل فلا التفات لفعله ولا لقصده؛ فإنّ العوام تبعٌ للعلماء، وقد نظرنا في كتب العلماء قديمًا وحديثًا فلم نجد فيها غير ما وصفنا، ولم نجد فيها أحد يقول: لا يقصد بالسّفر وشدّ الرّحل إلَّا للزّيارة من غير قصد إتيان المسجد والصّلاة فيه، ولو قاله أحد لكان بقوله هذا معلنًا بين العلماء لما يلزم على قوله هذا من مخالفة الحديث الصّحيح المتّفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تُشَدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» . فعلى قوله هذا: لا يلزم أحد أن يأتي مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يُصَلِّي فيه، فإن عمَّم المسجدين الآخرين؛ فقد تغالى في مخالفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وإن قال: بل يُشدّ الرّحل إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأما مسجده صلى الله عليه وسلم لا يُقصَد بشدّ الرّحل ولا بالسّفر؛ بل يُقصد بالزّيارة للقبر الشّريف فقط؛ فقد شَهِدَ بجهله وفضيحته أمام العلماء، وكلّ أحد له أدنى فهم يعلم بطلان هذا القول. وإن قال: أنا لا أقول ذلك؛ وإنّما أقول: يقصد بسفره المسجد والزّيارة، فإذا وصل يُصَلِّي في المسجد الشّريف، ثم يزور قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد رجع عن قوله ووافق شيخ الإسلام وغيره.

فقط يبقى بينه وبينهم خلاف قليل في النّيّة، لا تأثير له إذا كان الفعل مُطابقًا على فعل مَن نوى بسفره الزّيارة والصّلاة في المسجد ـ كما علمتَ ـ؛ فتأمّل.

وقوله: «وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرق ومغاربها على مرّ السّنين، وفيهم العلماء والصُّلحاء وغيرهم؛ يستحيل أن يكون خطأ» :

أقول: [ما] ذكره إن

ص: 163

أراد به إطباقهم على ما وصفنا؛ فهو صحيح، وعليه يدلّ ما ذكروه في مصنفاتهم قديمًا وحديثًا ـ كما سبق ـ، ورأيناه في فعلهم، لا فرق في ذلك بين عالم وجاهل، وهذا هو الذي يستحبّه شيخ الإسلام ابن تيميّة وغيره. وإن أراد بهذا الإطباق أمرًا آخر غير ما ذكرنا؛ بأنّهم أطبقوا على شدّ الرّحل والسّفر إلى الزّيارة المُجرّدة من غير أن يُصَلِّي في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فهذا ـ وايم الحقّ ـ قول لا يقول به أحد من العلماء، ولا يفعله أحد، ولو كان من أجهل الجاهلين؛ بل رأينا ـ ولله الحمد ـ كلّ أحد يفعل ما قاله شيخ الإسلام وغيره من إتيان المسجد الشّريف ويُصَلِّي فيه، ثم يزور قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وإن عجز عن تعبير ما في ضميره؛ فعُلِمَ بهذا أنّ السّلف والخلف متّفقون ومجمعون على ما ذهب إليه شيخ الإسلام قولًا وفعلًا؛ فأمّا القول: فما ذكروه في كتبهم من صفة الزّيارة، وإن اختلفت عباراتهم، وأمّا الفعل: فكما رأيناه وسمعناه نحن ومَن قبلنا، ولا تكاد ترى أحدًا يفعل سوى ما ذُكِرَ في كتب العلماء من صفة الزّيارة، وهذا الذي وصفناه وذكرناه هو الإجماع الذي يستحيل معه الخطأ، وشيخ الإسلام أسعد به من مخالفه. والله الموفّق.

والذي يتحصّل من هذ االكلام الطويل؛ أنّ في المسألة ثلاثة أقوال:

الأول: شدّ الرّحل والسّفر يُقصد به الزّيارة والصّلاة في المسجد.

الثاني: شدّ الرّحل والسّفر بنيّة الزّيارة فقط، وإذا وصل هذا المسافر المدينة أتى المسجد وصلّى فيه، وزار قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

الثالث: شدّ الرّحل والسّفر إلى الزيارة المُجرّدة، من غير قصد الصّلاة في المسجد، والتّمادي على هذه النّيّة حتى يزور، من غير أن يُصَلِّي في المسجد، ثم ينصرف.

ص: 164

فالقول الأول: هو الأحوط والأولى، وعليه يدلّ كلام أهل العلم قديمًا وحديثًا، ولا تكاد ترى في كتب العلماء غيره، وإليه أشار السّبكيّ فيما يأتي، وعليه يدلّ الحديث الصحيح ـ وهو: «لا تُشَدُّ الرِّحال

» الحديث ـ.

وأما القول الثاني: فهو ـ وإن خالف القول الأول بتركه نيّة الصّلاة مع الزّيارة حال شدّ الرّحل ـ؛ لكنّه وافق في فعل ما هو المطلوب؛ فهذا أرجو أن لا بأس به؛ لأنّ المقصود من شدّ الرّحل والسّفر قد حصل ـ وهو الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشّريف ـ، وإن لم ينوِ الصّلاة حال شدّ الرّحل.

وأما القول الثالث: فهذا مخالف لما عليه عامّة المسلمين، وأظنّ لا أحد يقوله، اللهمّ إلَّا مَن غلا في العِناد وترك السُّنّة.

فأمّا القولان الأولان فيقول بهما شيخ الإسلام ابن تيميّة، وعليهما يدلّ كلامه، ويرى أنّ السّفر وشدّ الرّحل على هذين القولَين قُربة.

فإن قلتَ: قد نقل النّاس عنه أنّه كان يفتي بتحريم شدّ الرّحل والسّفر للزّيارة المُجرّدة عن الصّلاة في المسجد الشّريف.

فالجواب: نعم؛ أفتى بذلك، ومقصوده بالتّحريم إذا تمادى المسافر على هذه النّيّة حتى وصل المدينة، وزار قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وانصرف من غير أن يُصَلِّي في مسجده الشّريف ـ كما أشرنا إليه في القول الثالث ـ.

وأمّا لو نوى الزّيارة حال شدّ الرّحل فقط، ولكنّه لما وصل المدينة فعل ما هو المطلوب من الصّلاة في المسجد والزّيارة؛ فهذا لا يحرم السّفر لمثله؛ فهو ـ وإن كان السّفر بهذه النّيّة غير مشروع؛ لأنّ زيارة القبور المُجرّدة عن كلّ قصد سواها لا يشرع؛

ص: 165

بل يكون معصية مخالفة لنصّ الحديث الصحيح ـ، ولكن حيث إنّه لما فعل ما هو المطلوب والمقصود من شدّ الرّحل والسّفر كالصّلاة والزّيارة ـ كما تقدّم ـ؛ قلنا بأنّ هذا السّفر قربة من القُرب.

فإن قلتَ: هذا مشكل جدًّا؛ كيف يكون السّفر بقصد الزّيارة المُجرّدة عن كلّ شيء سواها معصية، ثم إذا أتبعها بقصد شيء آخر يكون قُربة؟!

أقول: لا إشكال هنا؛ فإنّ هذا له أمثلة جاء الشّرع بها:

فمنه: قوله ـ تعالى ـ في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلَّا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا * إلَّا مَن تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} .

فانظر؛ كيف بدَّل الله لمن تاب عن الأعمال السّيئة وعمل عملًا صالحًا السّيئة حسنة!

ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن هَمَّ بحسنة فعملها كُتِبَت له عشر حسنات، ومَن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كُتِبَت له حسنة» .

فانظر؛ كيف كتب الله له همّه بالسّيئة ـ وهو معصية ـ حسنة؛ حيث إنه تركها ولم يعملها.

ومسألتنا هذه ـ وإن كانت ليس من هذا الباب من كلّ وجه ـ؛ ولكن لما كان السّفر لمجرد زيارة القبور غير مشروع؛ بل هو معصية لمخالفة الحديث الصّحيح، ولكن فعل ما هو المراد والمقصود من شدّ الرّحل والسّفر ـ وهو الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ ذلك مشروع ومطلوب.

وأمّا الزّيارة فهي مشروعة أيضًا، ولكن لم يشرع لها شدّ رحل ولا سفر، بخلاف الصّلاة في المساجد الثّلاثة، فلما فعل هذا ما ليس مشروعًا ثم أتبعه بفعل ما هو المشروع والمرغّب فيه؛ انقلب سفره هذا طاعة بعد أن كان معصية؛ لأنّه صار حينئذ وسيلة إلى ما هو مشروع؛ إذ الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم مشروع لها السّفر، وحيث إنّ هذا لم يقصده بالسّفر، ولكن فعل ما هو المراد من السّفر، وزار القبر الشّريف وغيره من القبور ـ وزيارتها

ص: 166

مشروعة له إذا وصل ـ؛ فلا شكّ أن يكون فعله هذا كله طاعة وتقرُّبًا إلى الله عز وجل؛ فتفطّن، والله يؤيّدك.

فصل

واعلم أنه لم يكن من غرض شيخ الإسلام الكلام في هذه المسألة؛ ولكن اضطرّ للكلام فيها لما سُئِلَ عن حكم شدّ الرّحل والسّفر إلى قبور الأنبياء والصّالحين؛ فأفتى بعدم جوازه؛ محُتجًّا على ذلك بحديث الصحيحين المتقدّم؛ فجادله خصماؤه؛ مُحتَجّين عليه بالأحاديث المتقدّمة المتضمّنة لاستحباب شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ومشروعية زيارته؛ وقالوا له: إذا كان هذا مشروعًا في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم؛ فقبور غيره من الأنبياء والصّالحين مُقاسة عليه؛ فانجبر على الكلام في هذه المسألة، وتكلّم على الأحاديث التي أوردوها، وبيَّن ما فيها من صحيح وضعيف وموضوع، وأنّ الصّحيح منها لا يُفيد مشروعيّة شدّ الرّحل والسّفر بقصد الزّيارة، والضّعيف منها لا يفيد إلَّا مشروعيّة الزّيارة المُجرّدة عن شدّ رحل وسفر، وذلك بعد جمع طرقه ـ جريًا على القول بأنّ الحديث الضّعيف يُعمل به إذا كثرت طرقه وتعددت ـ، وأنتَ خبير بأنّ قبور غيره لا تُقاس عليه؛ لأنّا نقول: المسافر إلى المدينة إمّا بنيّة الزّيارة وحدها فقط، وإمّا بنيّة الزّيارة والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وعلى كلٍّ؛ فلا بُدّ أن يأتي المسجد الشّريف ويُصَلِّي فيه، ثم يزوروها؛ فالمقصود من شدّ الرّحل والسّفر إلى المدينة قد حصل، نوى ذلك أم لم ينوِه.

وأمّا المسافر إلى قبور الأنبياء والصّالحين فلا قصد له إلَّا الزّيارة، ولا شيء هناك يقصد سواها، فلما علمنا ذلك؛ نظرنا في قوله وفعله صلى الله عليه وسلم؛ ولم نجد إلَّا قوله صلى الله عليه وسلم:«كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» ، وقوله:«زوروا القبور؛ فإنّها تُذَكِّر الآخرة» ، وهذا لا يفيد إلَّا العِظَة وتذكّر الآخرة، ولا يختصّ به قبر دون قبر؛ بل أي قبر زاره ورآه حصل له ذلك، وأي بلد من بلدان المسلمين حتّى الكافرين خالية من المقابر؛ فليس في السّفر إلى زيارة القبور فائدة؛ لأنّ المقصود من زيارة القبور يحصل من القريبة كما يحصل من البعيدة؛ إذًا العِلّة واحدة. وتتبّعنا فعله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور؛ فلم نجد فيه أنّه صلى الله عليه وسلم شدّ رحله وسافر إلى زيارة قبر أحد الأنبياء والصّالحين؛ بل اقتصر على زيارة أهل البقيع

ص: 167

والشّهداء ممن كانت قبورهم بالمدينة، وكذا تتبّعنا آثار أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ فلم نجد فيها أحدًا منهم فعل ذلك؛ فعلمنا قطعًا أنّ شدّ الرّحل والسّفر لزيارة القبور غير مشروع أصلًا؛ إذ لو كان مشروعًا لما تركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، [ولفعله ولو] مرة واحدة في عمره، وكذا أصحابه من بعده ـ كما تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق ـ. والله الهادي.

وأمّا قوله: «فإن قلتَ: إنّ هذا ليس مما يُسَلِّمه الخصم؛ لجواز أن يكون سفرهم ضُمَّ فيد قَصد عبادة أخرى إلى الزّيارة، بل هو الظّاهر؛ كما ذكر كثير من المُصَنّفين في المناسك: أنّه ينبغي أن ينوي مع زيارته التّقرّب بالتّوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصّلاة فيه، والخصم ما أنكر أصل الزّيارة؛ إنّما أراد أن يبيّن كيفية الزّيارة المستحبّة؛ وهي أن يضُمّ إليها قَصد المسجد ـ كما قاله غيره ـ» :

أقول: هذا الذي ذكره العلّامة السّبكيّ هو الذي ذكره عامّة المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في صفة الزّيارة، حتى المتعصّبون على شيخ الإسلام ـ كابن حجر المكيّ؛ في شرحه لـ «مناسك النّوويّ» ، وكتابه «الجوهر المنظم» ـ، وهو الذي قال به شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فأيّ إجماع أعظم من هذا؟! وقد شهد به السّبكيّ نفسه؛ فلا خلاف ـ حينئذ ـ بين شيخ الإسلام وبين غيره من سائر العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين؛ ومنه تعلم أنّ تشنيع السّبكيّ وابن حجر عليه في غير محلّه؛ فانظر ـ رحمك الله ـ بعين الإنصاف إلى السّبكيّ؛ كيف أنكر الحقّ ومال عنه، بعد أن شَهِدَ به وعزاه إلى أكثر المُصَنّفين في المناسك، ثم أخذ يُبطل هذا بقوله:«قلتُ: أمّا المنازعة فيما يقصده النّاس؛ فمَن أنضف نفسه وعرف ما النّاس عليه؛ علم أنّهم إنّما يقصدون بسفرهم الزّيارة من حين يُعرِّجون إلى طريقة المدينة، ولا يخطر غير الزّيارة من القربات إلَّا ببال قليل منهم، ثم مع ذلك هو مغمور بالنّسبة إلى الزّيارة في حقّ هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزّيارة، حتّى لو لم يكن ربما لم يسافروا؛ ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس» انتهى!

ص: 168

والجواب أن يُقال له: ما أردتَ بالنّاس؟ فإن أردتَ بالنّاس العلماء؛ فهم قد ذكروا ما قاله شيخ الإسلام في كتبهم؛ من استحباب السّفر للزّيارة والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم كما ذكرتَه أنتَ في الجملة الأولى ـ، وما كانوا ليذكروا شيئًا في كتبهم ويخالفونه بأفعالهم؛ فإنّ هذا ليس من شأن العلماء؛ فلأنّ العالم هو الذييوافق فعله قوله، وحاشاهم أن يقولوا شيئًا ويخالفونه بفعلهم ضدّه. وإن أردتَ بالنّاس العوام الذين لا علم لهم؛ فهؤلاء لا عبرة بخلافهم؛ فإنّا مأمورون بالاقتداء بأهل العلم، لا بأهل الجهل! وقد تتبّعنا مُصَنّفات العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة؛ فلم نجد فيها غير الذي نقلتَه أنتَ عنهم.

وأمّا كونهم قصدوا غير ذلك؛ فهذا لا يعلمه إلَّا الله عز وجل؛ فإنّنا لسنا مُكَلّفين إلَّا بما ظهر لنا من أقوال العلماء، وأمّا قصدهم ونيّتهم؛ فمفوّض إلى الله ـ تعالى ـ.

قوله: «ولا يخطر غير الزّيارة من القربات إلَّا ببال قليل منهم» :

أقول: القليل منهم الذي ذكرتَه هم العلماء، والعبرة بأقوالهم، وقد ذكروها في كتبهم ـ كما علمتَ ـ، وما عداهم من النّاس فلا التفات إليهم.

وقوله: «وغرضهم الأعظم هو الزّيارة

» إلى آخره:

أقول: هذا تحكّم محض على مقاصد العلماء ونيّاتهم التي لا يعلمها إلَّا خالقهم.

فإن قال: لم أذكر هذا إلَّا أخذًا من أقوالهم:

فالجواب أن يقال: إنّك نقلتَ عنهم قريبًا أنّهم لم يذكروا في كتبهم إلَّا استحباب السّفر والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وعزوتَه للكثير من العلماء الذين صَنّفوا في المناسك؛ فمن أين لك أنّ مقصودهم الأعظم هو الزّيارة فقط، حتّى إذا لم يكن هناك قبره صلى الله عليه وسلم؛ فلم يُسافر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم للصّلاة فيه أحد؟! فهل يقول هذا أحد، وينسب كافة المسلمين إلى مخالفة السُّنّة الصّحيحة، وترك العمل بها وتفويت فضلها، وهم يروون عنه صلى الله عليه وسلم قوله:«صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه» ؟! فحاشاهم من ذلك؛ وإنّما الذين يُظَنُّ بهم: أنّهم قصدوا بالسّفر زيارته صلى الله عليه وسلم والصّلاة في مسجده ـ كما ذكروا ذلك في كتبهم، ونقله عنهم السّبكيّ وغيره، ورأينا في مصنفاتهم في المناسك ـ، والله أعلم بما هناك.

ثم أخذ يقرّر هذا بكلام لا يُجاوَب عليه؛ لأنّه حُكْمٌ على ما في ضمائر النّاس، وهذا لا يعلمه أحد إلَّا الله ـ تعالى ـ.

وأمّا قوله: «وأمّا ما ذكره المُصَنّفون في المناسك؛

ص: 169

فإنّهم لم يريدوا به أنّه شرط في كون السّفر للزّيارة قُربة، ما قال هذا أحد منهم، ولا يتوهّمه، ولا اقتضاه كلامه» :

فالجواب أن يقال: ما هذا التغافل والتّعامي من هذا الشّيخ؟! كيف نقل عنهم فيما مرّ أنّهم ذكروا في كتبهم استحباب السّفر للصّلاة والزيارة، ثم نفاه عنهم، وحكم عليهم هنا أنّه ما قاله منهم أحد ولا توهّمه ولا اقتضاه كلامه؟! فما هذا التّناقض، وهل مثل هذا يحتاج إلى ردّ ومناقشة؟! كلَّا؛ ولكن أقول له: إنّ كتب المتقدّمين من أهل الحديث وغيرهم لم يذكر فيها مُصَنّفوها بعد المناسك إلَّا فضل مسجده صلى الله عليه وسلم وفضل الصّلاة فيه، من غير أن يذكروا لفظة (الزّيارة)، وأمّا كتب المتأخّرين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم؛ لم يذكروا في صفة الزّيارة إلَّا ما نقلتَه أنتَ عنهم ورأيناه؛ فكيف يليق بك أن تقول: ما ذكره أحد ولا توهّمه ولا اقتضاه كلامه؟! تقول شيئًا ثم تنقضه في ورقة واحدة! فما هذا إلَّا تعصّب وميل عن سبيل الجادة؛ فالله يحفظنا! وكلّ مَن رجع إلى كتب المُحَدّثين الذين صَنّفوا في الصّحيح والحسن وغيرهما ـ مثل: البخاريّ، ومسلم، وأهل السُّنَن، وغيرهم ـ؛ لم يجد فيها إلَّا ذكر المدينة وفضلها، وفضل الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وذكر شدّ الرّحل إليه، من غير لفظ (الزّيارة) ؛ فهذا يدلّ على أنّهم ما أرادوا إلَّا شدّ الرّحل والسّفر للصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، من غير قصد شيء آخر؛ وإلّا لو أرادوا شيئًا غير الصّلاة لذكروه، سيّما وأنتَ تقول: إنّ شدّ الرّحل والسّفر للزّيارة المُجرّدة هو الأصل، وهو المراد بالسّفر، والصّلاة في مسجده الشريف تابع لها! فكيف يُظَنُّ بأهل الكتب السّتّة وغيرهم أنّهم تركوا الأصل ولم يُعَرِّجوا عليه، وذكروا ما هو تابع له؟! فلا يُكتفى بذكر المتبوع عن التّابع!

وقد سمعتُ شيخنا الأستاذ محمد جمال الدين القاسميّ بدمشق يقول: «ما

ص: 170

ترك البخاريّ ومسلم حديثًا إلَّا وله علّة قادحة منعتهما عن إخراجه» ؛ فقلتُ له: يا سيدي! قد رُوي عن البخاريّ أنّه قال: «ما تركتُ من الصّحيح أكثر» ، ورُوي عنه أنّه قال:«ألّفتُ كتابي هذا من مائتي ألف حديث صحيح» ، ومعلوم لكلّ من سبر كتابه؛ يعلم أنّه ما يبلغ مِعْشار عُشر هذا. فقال لي: مراده ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله: «ما تركتُ من الصّحيح أكثر» ؛ يعني بذلك: ما إذا كان في الباب عشرة أحاديث ـ مثلًا ـ؛ فإنّه يكتفي بذكر حديث أو حديثين منها، وأمّا أنّه يترك حديثًا صحيحًا هو أصل في الباب ونصّ على حكم شرعيّ، لم يتقدّم له نظير؛ فبعيد جدًّا، ومن تأمّل صنيعَه في «صحيحه» ؛ علم ما قلناه؛ لأنّه كثيرًا ما يذكر الحديث مستدلًّا به على المسألة الثانية، لم يحتج إلى تكرار. فعُلِمَ بذلك أنّ البخاريّ ما ترك حديثًا صحيحًا في كتابه هو أصل إلَّا وذكره؛ فكيف إذا انضمّ له مسلم ومالك وأهل السُّنَن وغيرهم؟! فهل يقول قائل: إنّ هؤلاء كلهم قد أجمعوا على ترك حديث هو أصل في بابه، لم يتقدّم له نظير، حتّى يكتفي به عن ذكر ما تركوه، ويذكروا حديثًا هو تابع لهذا الأصل الذي تركوه؟! كلَّا؛ فوالله ثم والله؛ لو صَحَّ عندهم حديث نصّ في الزّيارة؛ لذكروه عند ذكرهم فضل المدينة وفضل الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يقول السّبكيّ: ما قاله أحد ولا توهّمه ولا اقتضاه كلامه؟!

وهذا الإمام الشّافعيّ في كتاب «الأمّ» لم يذكر بعد الحجّ (الزّيارة) ـ كغيره من المتأخّرين ـ، ومثله سحنون في «المدونة» ؛ فلو كان لفظ (الزّيارة) شائعًا، وأنّه يُقصَد بشدّ الرّحل والسّفر في مسجده صلى الله عليه وسلم إلَّا ناس بعد هذه الطبقة ـ أعني: طبقة البخاريّ ومسلم والشّافعيّ وسحنون وابن القاسم وأهل السُّنَن ـ؛ وذلك لما ظهرت هذه

ص: 171

الأحاديث الواهية والموضوعة التي أوردها السّبكيّ في كتابه هذا، وقلدّهم النّاس في ذلك، حتّى إذا عمّت مصيبة التّقليد؛ تركوا ما هو الأصل والمراد من شدّ الرّحل والسّفر، وذكروا الذي لم يُشرَع له ذلك، حتّى قال السّبكيّ ما قال!

وأمّا قوله «وما قاله منهم أحد» :

أقول: [هل] لم يطّلع السّبكيّ على ما قاله الغزالي في كتبه عن ابن الجوينيّ والقاضي حسين وطائفة ـ وكذا ذكره عنهم النّوويّ في «شرحه لصحيح مسلم» ـ، وأنّهم حرّموا شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، من غير استثناء في ذلك؟! وما ظننتُ أنّ التّعصّب يفضي بصاحبه إلى هذا، سيّما ابن الجوينيّ والقاضي حسين [وكذا الغزاليّ] من أئمّة الشافعيّة!

وأمّا قوله: «وإنّما أرادوا أنّه ينبغي أن يقصد قربة أخرى؛ ليكن سفرًا إلى قُربَتين؛ فيكثر الأجر بزيادة القُرَب، حتّى لو زاد من قصد القُربات زادت الأجور

» إلخ:

فالجواب أن يقال: من أين لك أنّهم ما جعلوا ذلك شرطًا، وأنّهم أرادوا أنّه ينبغي أن يقصد قُربة أخرى

إلى آخر ما قلتَ؟! وهم قد أطلقوا كلامهم؛ فلِمَ جعلتَ الأصل من كلامهم شدّ الرّحل والسّفر إلى الزّيارة، والصّلاة في المسجد تبعًا له، من غير دلسل يدلُّك عليه من كلامه؟! فإذا قال رجل لآخر: اذهب إلى زيد وعمرو؛ فهل يقول أحد: إنّ زيدًا هو الأصل وعمرًا تبع له ـ والحال أنّ الواو جمعت بينهما ـ؟! ولو قاله أحد؛ لكان مخالفًا بقوله هذا ما هو المعلوم والمعروف من لغة العرب! فغاية ما يُقال: إنّ الأمر بشدّ الرّحل والسّفر يتناول الأمرين: الزّيارة والصّلاة في المسجد الشّريف؛ فكيف خصّصتَ الأمر بشيء دون شيء بغير مخصّص؟! ولولا ما ذكرتَه عن الأكثرين ممن صَنَّف في المناسك؛ لم تُعَرِّج على ذكر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولكن منعك منه امتلاء كتب القوم به.

وما ذكره عن ابن الصّلاح: فإن صَحَّ؛ حُمِلَ على تغاليه في التّقليد، مع جلالة قدره في الحديث،

ص: 172

ويُقال له: إنّك من أهل الحديث العالمين بالصّحيح منه والسّقيم؛ فهل رويتَ لنا حديثًا في موطإ مالك، أو في صحيح البخاريّ ومسلم، أو في السُّنّن الأربعة، أو المُنتقى لابن الجارود، أو المختارة للضياء المقدسيّ، أو المستدرك للحاكم ـ على ما فيه ـ؛ يدلّك على ما ذهبتَ إليه من مشروعيّة شدّ الرّحل والسّفر إلى مجرد الزّيارة من غير قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؟! وما نراك رويتَ لنا في هذه الكتب التي سمّيناها إلَّا حديث:«لا تُشَدّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» ، وحديث فضل المدينة، وفضل الصّلاة في مسجدها! فإن كنتَ رويتَ حديثًا يخالف هذه الأحاديث الصّحيحة ويُقَدّم عليها؛ فأوجده لنا؛ حتى ننظر فيه، وإن كنتَ ما رويتَ في ذلك إلَّا الأحاديث الملفّقة والواهية والموضوعة، وزعمتَ أنّ العمل بمقتضاها يُقَدّم على العمل بمقتضى الأحاديث الصّحيحة التي تقدّمت الإشارة إليها؛ فقد خالفتَ بقولك هذا ما عليه أئمّة الحديث والأصول؛ إذ لا نسبة بين موضوع وضعيف، وبين ضعيف وصحيح، فضلًا عن أن يُقَدَّم عليه! وكنتُ أتعجّب من الحافظ أبي عمرو ابن الصّلاح هذا لما نقلوا عنه قوله:«ولا يجوز تقليد غير الأئمّة الأربعة؛ لأنّ مذاهبهم لم تدوّن ولم تُحَرّر مثل مذاهب الأربعة» ! فلو قالها أحد غيره من أهل الفقه فقط؛ فلا غرو؛ لأنّهم لم يُعانوا صناعة علم الحديث، وأمّا مثل ابن الصّلاح فغريب منه صدور مثل هذا عنه؛ ومن المعلوم لدى كلّ مَن مارس علم السُّنّة واطّلع على دواوين أهل الإسلام المؤلّفة في الحديث ـ كموطإ مالك والأصول السّتّة والمسانيد ومُصَنّف عبد الرّزّاق وابن أبي شيبة وغيرها ـ أنّ هذه الكتب كلّها مشحونة بأقوال الصّحابة

والتّابعين وغيرهم ممّن أتوا بعدهم غير الأربعة! فإن قال: لا يُعبأ بتلك الأقوال؛ لأنّنا لسنا على ثقة من صِحّتها ونسبتها إلى أهلها؛ فالجوابُ أن يقال: الذي روى الأحاديث النّبويّة التي فيها روى هذه الأقوال عن أهلها، فلِمَ صدّقناه في رواية الحديث واتّهمناه في رواية هذه الأقوال عن أهلها؟! فإن كنّا قد صدّقناه في رواية الحديث؛ فقد وجب علينا أن نُصَدّقه في رواية

ص: 173

تلك الأقوال؛ فتأمّل.

وغاية ما يُقال في ابن الصّلاح: أنّه ـ وإن كان إمامًا في الحديث ـ لكنّه كان يَغْلِب عليه التّعصّب للمذاهب كغيره ممّن اعتنى بهذا الشّأن، ولم يقدّمه على أقوال الرّجال!

والحال أنّنا نقول: إنّ التّقليد في أمثالهم حرام؛ لأنّهم أعلى قدرًا من أن يُقَلِّدوا أحدًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عالمون بصحيح السُّنّة وسقيمها، لايختلف في هذا اثنان، ولكن كما قيل:«حُبّك الشّيء يعمي ويصمّ» ! فنسأل الله أن يرحمهم ويُجازيهم على حسن نيّاتهم.

وقد علمتَ مما مرّ أنّ السّبكيّ لا دليل [له] في القرآن ولا في السُّنّة ولا في القياس ولا في الإجماع على جواز شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور، من غير قصد شيء آخر يكون السّفر مشروعًا له، فضلًا عن استحبابه! وأنّ شيخ الإسلام أسعد بصحّة الحُجّة على ما ذهب إليه من تحريم شدّ الرّحل والسّفر لزيارة القبور المُجرّدة عن كل قصد سواها، وأنّ زيارة القبور مشروعة من غير شدّ رحل وسفر؛ فهما مسألتان؛ فاحذر من جعلهما مسألة واحدة ـ كما بيّنّاه فيما سبق ـ. والله وليّ التّوفيق.

فصل

ثم ذكر السّبكيّ بعد الإجماع أصلًا خامسًا؛ أشار [إليه] بقوله: «الخامس: وسيلة القُربة قُربة» ، وأطال الكلام جدًّا في تقرير هذا الأصل؛ مستدلًّا عليه بأحاديث نبويّة ومباحث أصوليّة لا تحتاج إلى مناقشة؛ لأنّه لا حاجة بنا إلى ردّ شبهته؛ لوجهين:

أحدهما: أنّنا قد أبطلنا حُجّته من الأصول الأربعة على ما ذهب إليه، وهو ما بنى هذا الأصل الخامس إلَّا على تصحيح ما ادّعاه بالأصول الأربعة، وإذا تبيّن لك بطلان ما ادّعاه، وأنّ الأصول الأربعة شاهده على سقوط دعواه؛ علمتَ قطعًا سقوط احتجاجه بالأصل الخامس.

الثاني: أن يُقال: وسيلة القُربة قُربة إذا كانت الوسيلة إليها مشروعة، وبحيث يتوقّف فعل القُربة على هذه الوسيلة، وأمّا إذا كانت هذه الوسيلة غير مشروعة، أو أنّ فعل القُربة لا يتوقّف عليها؛ فليست مشروعة. فإذا تقرّر هذا الأصل؛ فنقول: إنّ مسألتنا هذه ليست من هذا الباب؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الزّيارة مشروعة، ولكنّ شدّ الرّحل والسّفر

ص: 174

إليها منهيّ عنه؛ فتكون ـ حينئذ ـ مشروعة في حقّ القريب، وفعلها لا يتوقّف على هذه الوسيلة؛ لأنّه ما من بلد إلَّا وفيها قبور؛ فالفائدة التي تحصل من الزّيارة المقصودة بالسّفر وشدّ الرّحل تحصل بزيارة قبور البلدة. وأعني بالفائدة: تذكّر الآخرة بزيارتها، والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها. وهذا هو الذي صحّ في السُّنّة من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم. ومَن ادّعى شيئًا آخر زائدًا على هذه الفائدة الحاصلة من زيارة القبور؛ فعليه الدّليل.

وأيضًا يُقال في الجواب: ليست كلّ قُربة يُشرع إليها السّفر وشدّ الرّحل؛ فهذه الصّلاة من أعظم القُربات وأفضلها، ولكن لم يُشرَع لها شدّ رحل ولا سفر لغير المساجد الثّلاثة، وهذا النّذر أصله قُربة ـ وهو: الإنفاق في أوجه الخير ـ، ولكن لم يُشرَع؛ بل نُهي عنه.

وما أجاب به السّبكيّ لا يكفي في رَدّه؛ بل الحُجّة قائمة لمخالفيه، ولو أخذنا نناقشه في جميع ما أورده؛ لطال بنا الكلام، وردّه ظاهر من الأصل الذي قرّرناه في أوّل الفصل. والله الهادي.

واعلم أنّ السّبكيّ قد أسهب جدًّا في تقرير هذه القاعدة بكلام لا طائل تحته، ويُورِد على نفسه إشكالات ويجاوب عنها بأجوبة ضعيفة، وحيث أنّنا ما وضعنا كتابنا هذا إلَّا لردّ ما ظنّه دليلًا من الكتاب والسُّنّة والإجماع والقياس؛ فلا تحتاج لردّ ما أورده من هذه المباحث؛ لأنّ الحُجّة في قول الله ورسوله، وحيث أنّنا قد بيّنّا ردّ ما استدلّ به منهما؛ فلا نحتاج لردّ ما بناه على ذلك؛ فإنّه بناه على باطل، وما بُني على باطل فهو باطل؛ فتدبّرها. ثم إنّ هذه الشُّبه والمباحث التي أوردها السّبكيّ في هذا الباب والذي بعده؛ قد ناقشه فيها كثير من العلماء؛ فمنهم: الإمام الحافظ شمس الدين ابن القيم في «نونيّته» وغيرها، ومنهم: الإمام الحافظ شاه ولي الله المحدّث الدهلويّ، ومنهم: العلّامة الشّيخ عبد اللّطيف النّجديّ في كتابه المُسمّى «منهاج

ص: 175

التّأسيس في الرّدّ على داود بن جرجيس» ، ومنهم: الإمام المفضال السّيد صدّيق حسن ملك بهوبال في كتابه المُسمّى بـ «رحلة الصّديق إلى البيت العتيق» ، وفي كتابه «عون الباري شرح أدلّة البخاريّ» ، وفي كتابه المُسمّى «السّراج الوهّاج بشرح مختصر [مطالب] بن الحجاج» ، وفي كتابه المُسمّى «الدّين الخالص» ، وغير ذلك من كتبه؛ فلقد أجاد وأفاد.

ومنهم: الإمام السّيد محمود شكري الألوسيّ في كتابه المُسمّى بـ «غاية الأماني في الرّدّ على النبهانيّ» ، ومنهم: الإمام مفتي بغداد السيد نعمان في كتابه المُسمّى بـ «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين» ، وغيرهم من أئمّة الدّين قديمًا وحديثًا.

وحيث أنّ هذه الكتب قد طبع أكثرها، بعضها بمصر وبعضها بالهند؛ فلا حاجة بنا إلى نقل ما فيها؛ لأنّ ذلك يفضي إلى التّطويل المُمِلّ، وحسبنا أنّنا أشرنا إليها، وهي متيسرة لمن أراد الرّجوع.

ثم إنّ الإمام نعمان أفندي الألوسيّ ـ صاحب كتاب «جلاء العينين» ـ بعد أن ذكر أقوال العلماء وما رَدُّوا به على السّبكيّ وأضرابه؛ قال ما حاصله: «والذي أختاره: جواز شدّ الرّحل والسّفر إلى مرقده الشريف صلى الله عليه وسلم، وهذا خاصّ به؛ لا يجوز السّفر إلى زيارة قبر غيره» . والذي ذكر هذا الإمام هو

ص: 176

وجيه؛ إلَّا أنّنا نقول: الذي ندين الله به أنّ الأحوط والأولى: شدّ الرّحل والسّفر بنيّة الزّيارة والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم كما قاله شيخ الإسلام ابن تيميّة ومَن وافقه من علماء المذاهب ـ؛ وذلك لوجهَين:

أحدهما: أنّ المسافر إذا قصد بشدّ رحله الزّيارة والصّلاة في المسجد؛ حصل له ثواب النيّتين، بخلاف ما إذا قصد الزّيارة فقط.

الثاني: أنّ قصد الزّيارة المُجرّدة فيه تعطيل للحديث الصّحيح ـ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرِّحال

» الحديث ـ؛ فإنّه لو كان كلّ مَن سافر إلى المدينة لم يقصد بشدّ رحله إلَّا الزّيارة فقط؛ للزم منه ألا يكون أحد قد عمل بهذا الحديث.

فإن قلتَ: الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم حاصلة لكلّ أحد نوى الزّيارة فقط؛ لأنّه [إذا] وصل المدينة قدّم الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ثم زار قبره الشّريف.

قلنا: هذه دعوى مقابلة بمثلها؛ فإنّا نقول: مَن نوى الصّلاة في المسجد والزيارة معًا، أو نوى الصّلاة في المسجد فقط؛ فلا بُدّ من فعل ما ذكرتُ في هذا الإشكال.

وأمّا قصد الزّيارة الخالية عن قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فالذي يظهر لي: أنّه قول ما قاله أحد، ولا دلّ عليه أثر يُعتمَد عليه.

فإن قلتَ: يدلّ على هذا القول: ما رواه الطّبرانيّ من قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن أتاني زائرًا لا تُعمِله حاجة إلَّا زيارتي؛ كان حقًّا عليّ أكون له شفيعًا يوم القيامة» ؛ فهذا الحديث صريج في الجواز، بل استحباب السّفر إلى الزّيارة، من غير قصد عبادة سواها.

أقول: هذا الحديث قد تقدّم الكلام عليه من الحافظ ابن عبد الهادي في أوّل كتابه «الصّارم المُنكي في الرّدّ على السّبكيّ» ، وقد تكلّمنا عليه أيضًا في أوّل هذا الباب عند ذكر السّبكيّ له، وبيّنّا أقوال العلماء على ما يدور عليه إسناده، وأنّه لا يصلح للاحتجاج في محلّ النّزاع، وعلى تقدير صلاحيته؛ فيكون معناه ـ

ص: 177

والله أعلم ـ: لا تُعمِله حاجة من حوائج الدُّنيا ـ كالتّجارة ونحوها ـ ممّا هو ليس عبادة؛ فلا يتناول قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي اخترناه هو الأحوط في هذه المسألة؛ جمعًا بين الأدلّة وخروجًا من الخلاف الوارد فيها، ولا تقيس قبور غيره من الأنبياء والصّالحين على قبره صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الفرق ظاهر؛ فإنّ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم متضمّنة للصّلاة في مسجده، وأمّا قبور غيره فلا تقصد بشدّ رحل ولا سفر، ولا هناك شيء آخر قد شُرِعَ له ذلك، سيّما وقد آل الأمر بالنّاس إلى أمور منكرة مُبتدعة في زيارة القبور، وقد تركوا ما هو الحكمة في زيارة القبور، وعمدوا إلى طلب حوائج الدُّنيا والآخرة من أهلها، حتى عُبِدَت من دون الله عز وجل! فما لهذا شُرِعَة زيارة القبور؛ بل من أجله نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارتها في أوّل الأمر، ثم أَذِنَ فيه بعد أن وقر الإيمان والتّوحيد في قلوب أصحابه.

والعجب من السّبكيّ كيف جزم بتخطئة الإمام النّوويّ في نقله الخلاف في هذه المسألة ـ عند شرحه حديث: «لا تُشَدّ الرِّحال

» ، الوارد في صحيح مسلم ـ، وحكم بتغليطه! وقد غفل ـ رحمه الله تعالى ـ عمّا ذكره غيره من نقل الخلاف فيها قديمًا وحديثًا؛ فمِمّن ذكر الخلاف فيها، واختار القول بتحريم شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة: القاضي عياض ـ في شرحه لصحيح مسلم ـ، ومنهم: الإمام ابن عقيل الحنبليّ، ومنهم: ابن الجوينيّ، والقاضي حسين ـ من الشّافعيّة ـ، واختار المنع وإليه أشار: الإمام الغزاليّ ـ في كتابه «الإحياء» ـ. فقد تبيّن بما ذكرناه عن هؤلاء الأئمّة من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإمام النّوويّ ـ رحمه الله تعالى ـ لم ينفَرِد بذكر الخلاف في هذه المسألة؛ بل هو مسبوق به، كما أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم ينفَرِد

ص: 178

باختياره للقول بالمنع من شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة؛ بل اختاره غيره من المالكيّة والشّافعيةّ والحنابلة المُعاصرين له ـ رحمه الله تعالى ـ. فإن شئتَ الوقوف على هذا؛ فارجع إلى ما ذكره الشّيخ مرعي في كتابه «الكواكب الدّريّة في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيميّة» ، [وإلى كتاب «القول الجليّ في ترجمة الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة الحنبليّ» ] للإمام صفيّ الدّين الحنفيّ ـ نزيل نابلس ـ، والكتابان مطبوعان بمصر.

وكنتُ عزمتُ على ترك الكلام على ما أورده السّبكيّ في الباب السّابع من الشّبهات والحطّ على أئمّة الدّين الذين نقلوا الخلاف في هذه المسألة، واختاروا القول بالمنع ـ كما تقدّم ـ؛ اتّكالًا على ما ردّ عليه غيري في كتبهم المتقدّم ذكرها، ثم رأيتُ من الواجب عليّ بيان ما ذكره في هذا الباب من الجور والميل عن سبيل العدل، وتغليط الأئمّة والحطّ عليهم بغير حقّ؛ فأقول ـ ومن الله أستمدّ [العون]ـ:

قال المعترض السّبكيّ ـ رحمه الله تعالى ـ: «الباب السّابع: في دفع شُبه الخصم وتتبّع كلماته. وفيه فصلان: الأول: في شُبَهه. وله ثلاث شُبه» ، وأخذ يُبيّن الثّلاث الشّبه، وأطال الكلام في ذلك.

وأنا لا أناقشه إلَّا فيما هو محلّ الفائدة؛ فأقول: قد سلّم المعترض ـ السّبكيّ ـ لشيخ الإسلام: أنّ الحديث دالٌّ على منع السّفر إلى أيّ بقعة من بقاع الأرض غير المساجد الثّلاثة بقصد إيقاع عبادة فيها، وإنّما نازعه في كون شدّ الرّحل إلى زيارته صلى الله عليه وسلم ليس داخلًا في هذا النّهي؛ لأنّه لم يقصد البقعة بعينها؛ وإنّما قصد الذي حلّ فيها!

وأنا أقول: قد علمتَ مما سبق أنّ زيارة القبور مشروعة من غير شدّ رحل ولا سفر ـ كما استُفيد من الحديث الصّحيح ـ، وحيث أنّ السّبكيّ صحّح الاستدلال بهذا الحديث على منع شدّ

ص: 179

الرّحل إلى أيّ بقعة من الأرض غير المساجد الثّلاثة؛ فيلزمه القول بما قاله شيخ [الإسلام] وغيره؛ فإنّ شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور المُجرّدة عن كلّ قصد سواها لم يرد به دليل صحيح يصلُح للاحتجاج في محلّ النّزاع؛ فوجب أن يكون هذا الحديث عامًّا في منع شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة. وأمّا ما استدلّ به من قياس زيارة الميّت على الحيّ؛ ففيه نظر بيِّن، سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ عند الكلام على الشُّبَه التي تعلّق بها السّبكيّ. وإليك عبارة من كلام شيخ الإسلام تبيِّن لك ما ذكرناه؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ بعد كلام طويل: «ومَن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ فصَلّى في مسجده، وصلَّى في مسجد قباء، وزار القبور؛ كما مَضَت به سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومَن أنكر هذا السّفر؛ فهو كافر يُستتاب فإن تاب وإلَّا قُتِلَ. وأمّا مَن قصد السّفر لمجرد زيارة القبر، ولم يقصد الصّلاة في مسجده، وسافر إلى مدينته فلم يُصَلِّ في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا سَلَّم عليه في الصّلاة؛ بل أتى القبر ثم رجع؛ فهذا مُبتدع ضالّ مخالف لسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أُمّته، وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما أنّه محرّم والثّاني [أنّه] لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزّيارة الشّرعيّة: يُصَلّون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويُسَلّمون عليه في الدُّخول للمسجد وفي الصّلاة، وهذا مشروع باتّفاق المسلمين.

وقد ذكرتُ هذا في المناسك وفي الفُتيا، وذكرتُ أنه يسلِّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعًا في الفتيا، مع أنّ فيه نزاعًا؛ إذ من العلماء مَن لا يستحبّ زيارة القبور مطلقًا، ومنهم مَن يكرهها مطلقًا؛

ص: 180

كما نُقِلَ ذلك عن إبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجِلّة التّابعين، ونُقِلَ ذلك عن مالك، وعنه: أنّها مباحة ليست مستحبّة

وأمّا إذا قُدِّر [أن] مَن أتى المسجد فلم يُصَلِّ فيه، ولكن أتى القبر ثم رجع؛ فهذا هو الذي أنكره الأئمّة ـ كمالك وغيره ـ، وليس هذا مستحبًّا عند أحد من العلماء، وهو محلّ النّزاع: هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أنّ أحدًا من علماء المسلمين استحبّ مثل هذا» ، ثم ذكر ـ عليه الرّحمة ـ حكم السّفر إلى القبور، ومن كلامه في «الجواب الباهر» قال:«وأما السّفر إلى قبور الأنبياء والصّالحين؛ فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن مالك؛ وإنّما حدث هذا بعد القرون الثّلاثة ـ قرن الصّحابة والتّابعين وتابعيهم ـ، فأمّا هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن هذا ظاهرًا فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشّرك. ولهذا لما سأل سائل مالكًا عن رجل نذر أن يأتي قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إن كان أراد المسجد فليأتِه وليُصَلّ فيه، وإن كان أراد القبر؛ فلا يفعل؛ للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» . وكذلك مَن يزور قبور الأنبياء والصّالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدُّعاء، أو يقصد الدُّعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنّه؛ فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا غيره.

وإذا كان مالك يكره أن يطيل [الرجل] الوقوف عنده [صلى الله عليه وسلم] للدُّعاء؛ فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له؛ وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه ويرفع صوته [عنده] ؛ فيؤذي الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه، ولم يعتمد الأئمّة [لا] الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك؛ مثل ما يروون أنّه قال:«مَن زارني في مماتي فكأنّما زارني في حياتي» ، ومن قوله:«مَن زارني وزار أبي إبراهيم في سنة واحدة؛ ضمنت له [على الله] الجنة» ، ونحو ذلك؛ فإنّ هذا لم يروه أحد من أئمّة المسلمين، ولم يعتمدوا عليها، ولم يرووها، لا أهل الصّحاح ولا أهل السُّنَن التي يُعتمَد عليها ـ كأبي داود والنّسائي ـ؛ لأنّها ضعيفة بل موضوعة،

ص: 181

كما قد بيّن العلماء الكلام عليها. ومَن زاره في حياته [صلى الله عليه وسلم] كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم و [لا] نصيفه، وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصّحابة؛ فكيف يكون مثلهم في النّوافل، أو بما ليس قُربة، أو بما هو منهيّ عنه» ، وقد أطال الكلام في هذا المقام ـ عليه الرّحمة والرِّضوان ـ بما يقطع شُبه المعاندين ويجعلها هباء وسرابًا في أعين النّاظرين.

والحاصل أنّ السّبكيّ قد اعترف بأنّ حديث: «لا تُشدّ الرِّحال

» عامّ في النّهي عن شدّ الرّحل إلى أيّ بقعة ما عدا المساجد الثّلاثة ـ كما قال شيخ الإسلام وغيره ـ؛ فهذا القدر يكفينا منه للإذعان للحقّ. وأمّا ما حاول به في إخراج شدّ الرّحل إلى زيارة القبور من هذا النّهي؛ فقد بناه على الأحاديث التي استدلّ بها على استحبابه، وقد بيّنّا حالها؛ وأنّها ساقطة عن درجة الحسن والصّحّة معا، بل عن درجة الضّعيف المنجبر؛ فلا تقوم بها حُجّة، ولا تقوى بها دعوى؛ فلزمه القول بما قاله مخالفوه. وأمّا قياسه زيارة الميّت على الحيّ؛ فهذا قياس فاسد الاعتبار، والفرق بينهما ظاهر ببادئ الرأي؛ فشتان بين مَن يزور الحيّ لأخذ العلم والإيمان منه، ويفوز برؤيته، ويحظى بصحبته وسماع كلامه والجلوس بين يديه، وغير ذلك من المنافع والمصالح التي كانت تحصل للوافدين إليه صلى الله عليه وسلم، وبين مَن يزور الميّت فلا يرى شيئًا من هذا كلّه؛ فمن ادّعى غير ذلك؛ فعليه بيانه بالنّقل والعقل، ونحن نعلم أنّ زيارة القبور لم تُشرَع إلَّا لتذكّر الآخرة والدُّعاء لأهلها والتّرحّم والسّلام عليهم، ليس إلَّا، ومَن ادّعى مشروعيّتها لغير ذلك؛ فعليه أن يثبت ما ادّعاه بالكتاب والسُّنّة وإجماع الأُمّة، وهذه الزّيارة لا تحتاج إلى سفر وشدّ رحل، وليست هذه الزّيارة مشروعة باتّفاق العلماء؛ بل منهم مَن استحبّها ـ وهم الأكثرون ـ إذا خلت عن شدّ رحل وسفر،

ص: 182

ومنهم مَن كرهها مطلقًا، ومنهم مَن أباحها إذا عريت عمّا تقدّم:

فحُجّة الفريق الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنّها تذكّركم الآخرة» ، وقوله:«كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» ، وفعله صلى الله عليه وسلم من زيارة قبور أهل البقيع والشّهداء، والدُّعاء لهم والتّرحّم والسّلام عليهم. وعلى هذا؛ فمعلوم أنّ الزّيارة إذا خلت عن تذكّر الآخرة والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهل القبور؛ فغير مشروعة اتّفاقًا؛ لأنّ العلّة تدور مع الحكم نفيًا وإثباتًا.

وأمّا حُجّة مَن كرهها: فلعلّ النّاسخ لم يبلغهم.

وأمّا حُجّة مَن أباحها: ورود الإذن بعد النّهي؛ لأنّ صيغة (افعل) بعد الحظر لا تفيد إلَّا الإباحة عند كثير من أهل الأصول.

وحيث أنّ قياس زيارة الميّت على الحيّ هو الذي اغترّ به السّبكيّ، وأطال في تقريره؛ أردتُ أن أورد لك عبارة من كلام شيخ الإسلام في تفنيده وردّه؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ في «الجواب الباهر» ما نصّه، وقبل نقل عبارته أذكر لك فائدة؛ وهي: أنّ جميع ما أورده السّبكيّ في كتابه هذا قد أخذه عن القاضي المالكيّ الذي ردّ ـ بزعمه ـ على شيخ الإسلام؛ حيث أفتى بمنع شدّ الرّحل إلى مجرّد زيارة القبور؛ فقد وقع ردّه في يد شيخ الإسلام، وردّ عليه بكتاب حافل سمّاه «الجواب الباهر لمن سأل عن شدّ الرّحل إلى زيارة المقابر» ؛ فما ترك فيه للمعاند مجالًا؛ بل سدّ عليه الأبواب، وألقمه الأحجار، وألزمه السّكوت؛ فلا أدري هل السّبكيّ رأى هذا الكتاب أم [لا] ؟ فإن كان رآه؛ فكيف ساغ له الإتيان بالشّبه المردود عليها والمقطوع أصولها؟! وإن كان لم يره؛ فنحن قد نقلنا لك شيئًا منه ـ والكتاب موجود ـ.

وقد قلتُ: إنّ السّبكيّ أخذ كتابه عن القاضي المالكيّ الذي رَدّ عليه شيخ الإسلام؛ لعلمي أنّ السّبكيّ لم يؤلّف

ص: 183

كتابه هذا إلَّا بعد وفاة شيخ الإسلام؛ دلّني على ذلك قوله كثيرًا: «قال ابن تيميّة ـ رحمه الله تعالى ـ كذا وكذا» ؛ فلو كان حيًّا إذ ذاك ما ساغ له قول ذلك؛ لأنّ هذه الجملة الدُّعائيّة لا تُستعمل ـ غالبًا ـ إلَّا في حقّ الميّت.

ولنرجع إلى المقصود؛ لنقل كلام شيخ الإسلام في هذا الكتاب؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ، بعد أن ذكر المعترض المالكيّ هذا القياس الذي ذكره السّبكيّ هنا، غير أنّ المالكيّ قد استدلّ له بما أخرجه مسلم في صحيحه (في فضل الذي زار أخًا له في الله)، قال الشيخ ابن تيميّة:

«والجواب: أمّا زيارة الأخ الحيّ في الله ـ كما في الحديث ـ؛ فهذا نظير زيارته في حياته؛ يكون الإنسان بذلك من أصحابه، وهم خير القرون، وأمّا جعل زيارة القبر كزيارته حيًّا ـ كما قاسه هذا المعترض ـ؛ فهذا قياس ما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قاسه، ولا علمتُ أحدًا منهم احتجّ في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحيّ المحبوب في الله، وهذا من أفسد القياس؛ فإنّه من المعلوم أنّ مَن زار الحيّ حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمَن لم يشاهده ولم يسمع كلامه.

وليس رؤية قبره أو رؤية الجدار الذي بني على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه؛ ولو كان هذا مثل هذا؛ لكان مَن زار قبره مثل واحد من أصحابه، ومعلوم أنّ هذا من أباطل الباطل.

وأيضًا؛ فالسّفر إليه في حياته إمّا أن يكون لمّا كانت الهجرة إليه واجبة ـ كالسّفر قبل الفتح ـ؛ فيكون المسافر إليه مسافرًا للمقام عنده بالمدينة، مهاجرًا من المهاجرين إليه، وهذا السّفر انقطع بفتح مكّة؛ فقال:«لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية» ؛ ولهذا لمّا جاء صفوان بن أميّة مهاجرًا أمره أن يرجع إلى مكّة، وكذلك سائر الطّلقاء كانوا بمكّة لم يهاجروا. وإمّا أن يكون المسافر إليه وافدًا إليه ليسلم أو يتعلّم منه ما يبلغه قومه؛ كالوفود الذين كانوا يفدون عليه، لا سيّما سنة عشر سنة الوفود، وقد أوصى

ص: 184

في مرضه بثلاث؛ فقال: «أخرجوا [اليهود] والنّصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم» ، ومن الوفود: وفد عبد القيس

» وذكر قصّتهم، إلى أن قال: «وكان السّفر إليه في حياته لتعلّم الإسلام والدّين ولمشاهدته وسماع كلامه، وكان خير محضًا، ولم يكن أحد من الأنبياء والصّالحين عُبد في حياته بحضرته؛ فإنّه كان ينهى مَن يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي؛ فكيف بالشّرك؟! كما نهى الذين سجدوا له

» ، إلى أن قال: «ومعلوم أنّه لو كان حيًّا في المسجد؛ لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وقصد القبر الذي اتّخذ مسجدًا ممّا نهى عنه، ولعن أهل الكتاب على فعله. وأيضًا؛ فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدّين وقربة إلى ربّ العالمين إلَّا وهي مشروعة في جميع البقاع؛ فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرّسول صلى الله عليه وسلم التّعظيم التّامّ والمحبّة التّامّة إلَّا عند قبره؛ بل هو مأمور بهذا في كلّ وقت.

وزيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسّفر إلى القبر بمجرّده بالعكس: مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، بخلاف السّفر إلى مسجده؛ فإنّه مصلحة راجحة، وهنا يفعل من حقوقه ما يفعل في سائر المساجد، وهذا ممّا يتبيّن به كذب الحديث الذي يٌقال فيه:«مَن زارني بعد مماتي؛ فكأنّما زارني في حياتي» ، وهذا الحديث معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضريّ ـ صاحب عاصم ـ، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن حجّ فزار قبري بعد موتي؛ كان كمَن زارني في حياتي» ، وقد رواه عنه غير واحد، وهو عندهم معروف من طريقه، وهو عندهم ضعيف في الحديث إلى

ص: 185

الغاية، حُجّة في القراءة، وقال يحيى بن معين: حفص ليس بثقة، وقال البخاريّ: تركوه

» ، ثم سرد الشّيخ كلام الأئمّة فيه، وقال:«وقد رواه الطّبرانيّ في «المعجم» من حديث اللّيث بن أبي سليم عن زوجة جدّه عائشة عن ليث، وهذا اللّيث وزوجة جدّه مجهولان، ونفس المتن باطل؛ فإنّ الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرّجل بها مثل الواحد من الصّحابة؛ بل في «الصّحيحين» عنه أنّه قال: «لو أنفق أحدكم

» الحديث؛ فالجهاد والحجّ ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتّفاق المسلمين، ولا يكون الرجل بهما كمَن سافر إليه في حياته ورآه؛ كيف وذلك إمّا أن يكون مهاجرًا إليه كما كانت الهجرة قبل الفتح، أو من الوفود الذين كانوا يفدون إليه يتعلّمون الإسلام ويبلغونه عنهم إلى قومهم، وهذا لا يمكن لأحد بعدهم أن يفعل مثلهم.

ومن شبّه مَن زار قبر شخص بمَن كان يزوره في حياته؛ فهو مصاب في عقله ودينه، والزّيارة الشّرعيّة لقبر الميّت مقصودها الدُّعاء له والاستغفار كالصّلاة على جنازته، والدُّعاء المشروع المأمور به في حقّ نبيّنا ـ كالصّلاة عليه والسّلام عليه وطلب الوسيلة له ـ مشروع في جميع الأمكنة؛ لا يختصّ بقبره؛ فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة؛ بل كلّ عمل صالح يمكن فعله في سائر البقاع، لكنّ مسجده أفضل من غيره؛ فالعبادة فيه فضيلة؛ لكونها في مسجده؛ كما قال:«صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلَّا المسجد الحرام» ، والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه مشروعة فيه قبل أن يدفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجرته، وقبل أن تُدخل حجرته في المسجد، ولم يتجدّد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغير ما شرعه هو لأُمّته ورغّبهم فيه

ص: 186

ودعاهم إليه، وما يشرع للزّائر من صلاة وسلام ودعاء له وثناء عليه؛ كلّ ذلك مشروع في مسجده في حياته، وهي مشروعة في سائر المساجد، بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصّلاة، ومَن ظنّ أنّ زيارة القبر تختصّ بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنّما شُرعت لأجل القبر؛ فقد أخطأ؛ لم يقل هذا أحد من الصّحابة والتّابعين، وإنّما غلط في هذا بعض المتأخّرين، وغاية ما نقل عن بعض الصّحابة كابن عمر أنّه كان إذا قدم من سفر يقف عند القبر ويسلّم، وجنس السّلام مشروع في المسجد وغير المسجد قبل السّفر وبعده» .

ثم قال بعد كلام طويل: «وأمّا السّفر لأجل القبور؛ فلا يُعرف عن أحد من الصّحابة؛ بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبل الخليل صلى الله عليه وسلم وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومَن معه من المهاجرين والأنصار؛ قدموا إلى بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام، وكذلك سائر الصّحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام؛ لم يُعرف عن أحد منهم أنّه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره؛ كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربة للغرباء فهو قربة لأهل المدينة، [وما] لم يكن قربة [لأهل المدينة؛ لم] يكن قربة لغيرهم، كاتّخاذ بيته عيدًا، واتّخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا، وكالصّلاة إلى الحجرة والتّمسّح بها وإلصاق البطن بها والطّواف، وغير ذلك ممّا يفعله جهّال القادمين؛ فإنّ هذا بإجماع المسلمين ينهى عنه الغرباء، كما ينه عنه أهل المدينة؛ يُنهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين.

وبالجملة؛ فجنس الصّلاة والسّلام عليه والثّناء عليه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما استحبّه بعض العلماء عند القبر للواردين والصّادرين؛ هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وأمّا ما كان سؤالًا له؛ فهذا لم يستحبّه أحد من

ص: 187

السّلف، لا الأئمّة الأربعة ولا غيرهم، ثم بعض مَن يستحبّ هذا من المتأخّرين يدعونه من البعد؛ فلا يختصّ هذا عندهم بالقبر، وأمّا نفس [داخل] بيته عند قبره؛ فلا يمكن أحد الوصول إليه، ولا يُشرع هناك عمل يكون هناك [أفضل] منه في غيره؛ ولو شُرع لفُتح باب الحجرة للأُمّة؛ بل قد قال:«لا تتّخذوا بيتي عيدًا، وصلّوا عليّ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ، صلاة الله وسلامه عليه. وقد تقدّم ما رواه سعيد بن منصور في «سننه» ، عن عبد العزيز الدّراورديّ، عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب؛ فناداني فقال: رأيتُك عند القبر؟ فقلتُ: سلّمتُ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إذا دخلتَ المسجد؛ فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتّخذوا بيتي عيدًا، وصلّوا عليّ حيثما كنتُم؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» ، ما أنتم ومَن بالأندلس إلَّا سواء. وكذلك سائر الصّحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشّام ـ مثل: معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجرّاح،

ص: 188

وعبادة بن الصّامت، وأبي الدّرداء، وغيرهم ـ؛ لم يُعرف عن أحد منهم أنّه سافر لقبر من القبور التي بالشّام، لا قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصّحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد ـ كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ـ.

فإن قيل: الزّائر في الحياة إنّما أحبّه لله لكونه يحبّه في الله، والمؤمنون يحبّون الرّسول صلى الله عليه وسلم أعظم، وكذلك يحبّون سائر الأنبياء والصّالحين؛ فإذا زارهم أثيبوا على هذه المحبّة.

قيل: حبّ الرّسول من أعظم واجبات الدّين

» ، ثم ذكر الآيات القرآنيّة والأحاديث الصّحيحة النّبويّة؛ الموجبة لتعظيمه ومحبّته صلى الله عليه وسلم؛ حذفناها لأجل طولها، إلى أن قال: «لكن حبّه وطاعته وتعزيره وتوقيره وسائر ما أمر الله به من حقوقه؛ مأمور به في كلّ مكان؛ لا يختصّ بمكان دون مكان، وليس مَن كان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممّن كان في موضع آخر.

ومعلوم أنّ مجرّد زيارة قبره كالزّيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة، ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأُمّة؛ لفُتح باب الحجرة، ومكّنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكّنوا إلَّا من الدّخول إلى مسجده، والذي يُشرع في مسجده يُشرع في سائر المساجد، لكنّ مسجده أفضل من سائرها، غير المسجد الحرام ـ على نزاع في ذلك ـ. وما يجده مسلم في قلبه من محبّته والشّوق إليه والأنس بذكره وذكر أحواله؛ فهو مشروع له في كلّ مكان، وليس في مجرّد زيارة ظاهرة الحجرة ما يوجب عبادة لا تُفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتّخذ ذلك المكان عيدًا، وأمر أن يصلّى عليه حيث يكون العبد ويسلّم عليه؛ فلا يخصّ بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا بتسليم عليه؛ فكيف بما ليس كذلك؟! وإذا خصّ قبره بذلك؛ صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره ينقص حبّه وتعظيمه وتعزيه وموالاته والثّناء عليه عند غير قبره، عمّا يفعل عند قبره، كما يجد النّاس في قلوبهم إذا رأوا مَن يحبّونه ويعظّمونه؛ يجدون

ص: 189

في قلوبهم عند قبره مودّة له ورحمة ومحبّة أعظم ممّا يكون بخلاف ذلك، والرّسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في كلّ مكان وزمان؛ فلا يؤمرون بما يوجب نقصّ محبّتهم وإيمانهم في عامّة البقاع والأزمنة، مع أنّ ذلك لو شُرع لهم؛ لاشتغلوا بحقوقهم عن حقّه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه ـ كما هو الواقع ـ؛ فيدخلون في الشّرك بالخالق، وفي ترك حق المخلوقّ؛ فينقص تحقيق الشّهادتين: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله.

وأمّا ما شرعه لهم من الصّلاة والسّلام عليه في كلّ مكان، وأن لا يتّخذوا بيته عيدًا ولا مسجدًا، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تُزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرّبّ تبارك وتعالى، وكمال إيمانهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم ومحبّته وتعظيمه، حيث كانوا لاهتمامهم بما أُمروا به من طاعته؛ فإنّ طاعته هي مدار السّعادة، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنّة وأهل النّار؛ فأهل طاعته هم أولياء الله المتّقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك.

والذين يقصدون الحجّ إلى قبره وغبر غيره، ويدعونهم ويتّخذونهم أندادًا من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته؛ فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنّوا أنّ هذا من موالاته ومحبّته، كما يظنّ النّصارى أنّ ما هم عليه من الغُلُوّ في المسيح والشّرك به من جنس محبّته وموالاته، وكذلك دعائهم للأنبياء الموتى ـ كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم السلام ـ، ويظنّون أنّ هذا من محبّتهم وموالاتهم؛ وإنّما هو من جنس معاداتهم؛ ولهذا يتبرّؤون منهم يوم القيامة، وكذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم يتبرّأ ممّن عصاه، وإن قصد تعظيمه والغُلُوّ فيه؛ قال ـ تعالى ـ:{وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمَن اتّبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون} ؛ فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرّؤوا من كلّ معبود غير الله ـ تعالى ـ ومن كلّ مَن عبده. قال ـ تعالى ـ: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحدَه} ، وكذلك سائر الموتى؛ ليس في مجرّد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبّة إلَّا لمَن عرف أحوالهم بدون ذلك؛ فيتذكر أحوالهم فيحبّهم،

ص: 190

والرّسول صلى الله عليه وسلم يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله وما منّ الله به عليه [ومنّ] به على أُمّته؛ فبذلك يزداد حبّهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر؛ ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصّالحين من أبعد النّاس عن سيرتهم ومتابعتهم؛ وإنّما قصد جمهورهم التّأكل والتّرأس بهم؛ فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رياسة ومأكلة، لا ليزدادوا لهم حبًّا وخيرًا.

وفي «مسند الإمام أحمد» و «صحيح ابن حبّان» ، عن ابن مسعود، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ من شرار النّاس مَن تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» .

وما ذكره هذا من فضائله فبعضّ ما يستحقّه صلى الله عليه وسلم، والأمر فوق ما ذكره أضعافًا مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به، وطاعتنا له، واتّباع سُنّته، والتّأسي به، والاقتداء به، ومحبّتنا له، وتعظيمنا له، موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ فإنّ هذا هو طريق النّجاة والسّعادة، وهو سبيل الحقّ ووسيلتهم إلى الله ـ تعالى ـ، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره والشّرك بالله واتّباع غير سبيل المؤمنين السّابقين الأوّلين والتّابعين لهم بإحسان، وهو صلى الله عليه وسلم قد قال:«لا تُشدّ الرّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» ، وقال: لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يحذّر ما فعلوا، وقال:«لا تتّخذوا قبري عيدًا، وصلّوا [عليّ] ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» ، وقال:«خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» ، وقال: «إنّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنّتي وسُنّة

ص: 191

الخلفاء الرّاشدين من بعد؛ تمسّكوا بها وعَضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كلّ بدعة ضلالة» ، إلى غير ذلك من الأدِلّة التي تبيّن أنّ الحجّاج إلى القبور هم من المخالفين للرّسول صلى الله عليه وسلم، الخارجين عن شريعته وسُنّته، لا من الموافقين له المطيعين ـ كما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع ـ» .

انتهى ما أردنا نقله من كلام شيخ الإسلام، وقد نقلناه بطوله؛ لتعلم منه دحض ما أورده السّبكيّ في هذا الباب من الشُّبهات والمشاغبات التي نقلها عن القاضي المالكيّ المتقدّم ذكره، وقد رَدّ عليه شيخ الإسلام بكتاب ضخم، نقلنا منه هذا الأنموذج. والله الموفّق.

ثم إنّ السّبكيّ أخذ يذكر المذاهب في جواز شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة وعدمه، وهذا لا حاجة بنا إليه في هذا الموضع؛ لأنّ المقصود شدّ الرّحل إلى زيارة قبر من القبور جائز أم لا؟ وقد علمتَ أنّ مَن قال بجوازه لم يأتِ بحُجّة لا صحيحة ولا ضعيفة، ومَن قال بعدم جوازه فحُجّته ظاهرة من حديث:«لا تُشَدّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» ، وأمّا تغليطه للإمام النّوويّ في نقله في هذه المسألة التي نحن بصددها في «شرحه لصحيح مسلم» ، وذكره التّحريم عن أبي محمد وغيره؛ أقول: إنّ السّبكيّ قد اتّبع هواه في تغليط هذا الإمام الجليل نصرة لرأيه، وقد علمتَ مما مرّ أنّ الإمام النّوويّ لم ينفرد بنقل الخلاف في هذه المسألة؛ بل سبقه إلى ذلك الإمام ابن عقيل ـ من الحنابلة ـ، وأبو عبد الله بن بطّة ـ من الحنابلة أيضًا ـ، والقاضي عياض ـ من المالكيّة ـ، والقاضي حسين ـ من الشّافعيّة ـ؛ فأيّ لوم يلحق الإمام النّوويّ على نقله

ص: 192

الخلاف كغيره ممّن تقدّمه، وقد رَدّ على السّبكيّ في تغليطه للنّوويّ الحافظُ ابن عبد الهادي في أوّل كتابه «الصّارم المنكي» ؛ فارجع إليه.

وقوله: «لم أجد هذا ـ يعني: تحريم شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة ـ في كلام ابن عقيل، ولا في كلام الموفّق ابن قدامة» :

فيُقال له في الجواب: قد علم غيرك وجهلتَ، وحفظ غيرك ونسيتَ، ومَن حفظ حُجّة على مَن لم يحفظ، وشيخ الإسلام أعلم بكلام أهل مذهبه منك؛ لأنّك لم تعانِ كتب الحنابلة كما عاناها هو؛ فغاية الأمر أنّك لم تطّلع على كلامهما؛ فجزمتَ برأيك أنّهما لم يقولا ذلك، ولو رأيتَ أقوالهم لغلطتهما كما غلطتَ الإمام النّوويّ؛ فأيّ فائدة للمسلمين في اطّلاعك وعدمه إذا كنتَ ملتزمًا هذه الطّريقة؟!

وأمّا قوله: «لو فُرِضَ أنّ ابن عقيل قال ذلك؛ فكلامه يخصّص كما تخصّص الكتاب والسُّنّة» :

فأقول: مَن كان يُعَمِّم ويُخَصّص بهواه ورأيه؛ فكلامه أحقر من أن يُشتغل بالرّدّ عليه، ومَن يُخَصّص بأدلّة شرعية؛ فهذا ـ لعمري ـ هو العلم، ومن أين للسّبكيّ دليل شرعيّ يُخَصّص به كلام ابن عقيل؟! وأمّا تحسين ظَنّه به؛ فهذا لا

ص: 193

يُخَصّص كلامه، ومتى كان ابن عقيل مخالفًا للنّصوص الشّرعيّة في هذه المسألة حتى تحتاج إلى تحسين الظّنّ به، اللهمّ إلَّا أن يكون السّبكيّ وأضرابه ممن يرى البِدعة سُنّة، ولم يميّز بين صحيح الأدلّة وسقيمها. وأمّا تكذيبه لفتيا علماء بغداد الذين أفتوا بصحّة ما قاله شيخ الإسلام، وقوله:«إنّها مختلفة» ؛ فهذا لا يثبت بالظّنّ والتّخمين، ولو جاز رَدّ أقوال العلماء بمثل هذا؛ لكان كلّ أحد لم يعجز عنه، وكيف يُظَنّ الاختلاف على علماء موجودين في ذلك الزّمان تبلغهم الكتابة؟! وأيضًا فإنّ الإمام ابن عبد الهادي قد قال في أوّل «الصّارم المنكي» :«قد اطّلعتُ على إفتاء علماء بغداد أنا وغيري، ورأينا خطوطهم عليها» ، ولكن مَن حمله تعصّبه إلى مثل هذا الهذيان؛ فلا بدع به أن يقول ما هو أعظم من ذلك، وقد ذكر فتيا أهل بغداد الشّيخ مرعي في كتابه «الكواكب الدّريّة في ترجمة ابن تيميّة» ـ المطبوع في مصر ـ؛ فلا نطيل بذكرها.

وأمّا قوله: «إنّ ابن تيميّة لم يُنازع في شدّ الرّحل للزّيارة فقط؛ بل مقصود منع الزّيارة أيضًا» :

أقول: هذا افتراء محض على شيخ الإسلام؛ لأنّ كلّ مَن طالع كتبه يجد فيها استحبابه زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا زيارة غيره من المسلمين، وإنّما قسّم الزّيارة إلى شرعيّة وبدعيّة ـ كما ذكره السّبكيّ نفسه عنه في هذه الجمل ـ.

وأمّا قوله: «وقد بقي عليه قسم ثالث؛ وهو: زيارتها للتبرّك بها» :

فيقال له: هذا القسم لم يُعَرّج عليه شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء الأعلام الذين جعلهم الله هداة للأنام؛ فإنّ هذا القسم قد دخل في فسم الزّيارة البدعيّة الشّركيّة؛ كما يعلمه مَن تتبّع النّصوص الشّرعيّة الواردة في زيارة القبور، فليس فيها استحباب زيارة القبور للتبرّك بأهلها؛ وإنّما فيها الزّيارة لأجل تذكّر الآخرة والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها، ليس إلَّا، وإن كان السّبكيّ يقول:«هناك قسم آخر» ؛ فعليه الدليل، وأنّى له

ص: 194

ذلك؟! وقد رَكِبَ الصّعب من تأويل الآية القرآنية بتأويل لم يسبقه به أحد، وإيراد الأحاديث الضّعيفة والموضوعة ـ وقد مرّ بيان ذلك ـ.

وقوله: «إنّ ابن تيميّة حكم عليها بالضّعف والوضع» ؛ فهذا قول ساقط؛ لأنّ شيخ الإسلام لم يحكم على هذه الأحاديث الواردة في الزّيارة بالضّعف والوضع من عند نفسه؛ بل ذكر أقوال العلماء أهل الجرح والتعديل في حال رجال إسنادها، وإذا رجعتَ إلى كتاب «الصّارم المنكي» للحافظ ابن عبد الهادي وإلى ما ذكرناه؛ علمتَ سقوط ما اعترض به السّبكيّ على شيخ الإسلام.

وأمّا قوله: «ومن المعلوم من الدّين وسير السّلف الصّالحين التبرّك ببعض الموتى من المسلمين؛ فكيف بالأنبياء والمرسلين

» إلى آخره:

أقول: هذه دعوى ما عليها أثارة من علم؛ بل هي أصل ضلال المُضلّين وشرك المشركين، ويقال له: أوجد لنا دليلًا من الكتاب العزيز أو من سُنّة صحيحة أو أثر صحابيّ يدلّ على ما قلتَه؛ وإلّا فكيف يكون هذا الشّرك معلومًا من الدّين وسير السّلف، وهم كانوا أشدّ النّاس تحريًا وتباعدًا عن الشّرك؟! ولو كان ما قلتَه صحيحًا ومعلوم أنّ قبره صلى الله عليه وسلم أفضل القبور وأعظمها؛ فكيف نهاهم عن اتخاذه عيدًا، ولعن مَن يبني المساجد على قبور الصّالحين؟! فهل كان صلى الله عليه وسلم يعلم أنّ التبرّك بقبور الصّالحين خيرًا أم لا؟! فإن كان يعلم أنّه خير؛ فكيف ينهى أُمّته عن اكتساب هذا الخير وهو حريص على هداية أُمّته وعلى جلب الخيرات لها؟! وإن كان لا يعلم؛ فكيف اهتدى لهذا الخير السّبكيّ وأضرابه ممّن حسّنوا للنّاس العكوف على القبور، وطلب الحوائج من أهلها، وجوّزوا لهم التمسّح بها، والطواف حولها، وتقبيلها، والسّجود لها؟! فهل هذا معلوم عند السّبكيّ من الدّين؟ فسبحانك هذا بهتان عظيم!

ص: 195

وأيضًا؛ فقد نقلنا فيما سبق معنى التبرّك عند أهل اللّغة؛ وأنّ معناه طلب البركة منه؛ فأيّ عاقل ذاق طعم الإيمان يقول: إنّ الميت يُعطِي مَن يشاء ويمنع مَن يشاء؟! فما هذا إلَّا فتح باب شرّ على الإسلام وأهله، وهذا هو السّبب في منعه صلى الله عليه وسلم عن اتّخاذ القبور مساجد، وعن اتخاذ قبره عيدًا، ولعن مَن يفعل ذلك، كما لعن المُتّخذين عليها السُّرج، ومَن يذبح لغير الله، وهذا كلّه سدّ لباب الشّرك بالله العظيم، وجميع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم قد وقع في زماننا وقبله بقرون عديدة؛ وما ذلك إلَّا بسبب فتيا من السّبكيّ وأضرابه، وما زال هذا الشّرّ يتفاقم شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى ما يُرى من العكوف على القبور، والاستنجاد بالمقبور، والذّبح لأهلها، والهتاف بأسمائها، والخشوع والتّضَرّع والتّذلّل والتّملّق عندها، والسُّجود لها، حتى أخبرني بعض النّاس أنّه رأى مَن يأتي بالكبش فيذبحه عند القبر، ورأى آخر مَن يأتي لإناء فيه سمن فيهريقه على القبر!

وغير ذلك من المنكرات التي ما فعل المشركون مِعْشار عُشْرها، وما هذا إلَّا بسبب تحسين بعض علماء السّوء لذلك؛ فإنّ العوام لا علم عندهم يُمَيِّزون به بين ما هو من الدّين وما هو شرك برب العالمين؛ بل تَبعوا علماء السّوء على أقوالهم وأفعالهم، واغتروا بسكوتهم وإقرارهم على ما يرونه منهم، فوالله لو كان شدّ الرّحل إلى القبور والتّبرّك بها جائزًا؛ لكان بهذه المثابة التي وصفناها حرامًا؛ لأنّ القاعدة المقرّرة وهي: أنّ «درء المفاسد مُقدّم على جلب المصالح» ، فكيف والأمر فوق ما وصفنا بأضعاف مضاعفة؟! ولم أعلم أنّ السّبكيّ قد أجاز فعل جميع ما ذُكِرَ

؛ ولكن أعلم أنّه استحبّ التّبرّك ـ بمعنى: طلب البركة ـ من قبور الصّالحين؛ فجاء غيره بعده فزاد في الطنبور نغمة والطّين بلّة؛ فجوّز السُّجود للقبور ـ انظر كتاب: «الجوهر المنظم» للهيتمي ـ. وأجاز بعضهم تقبيل أعتابها وتقبيلها ـ انظر: الرسالة المطبوعة مع «شفاء السّقام» ، المطبوع بالمطبعة الأميرية بمصر ـ. وأجاز بعضهم طلب الحوائج من أهلها؛ وقال:

ص: 196

إنّ عند كلّ قبر من قبور الصّالحين ملَك وُكّل بهذا القبر يقضي حوائح السّائلين من صاحب القبور! ـ انظر: «حاشية الباجوري على جوهرة اللقانيّ» ـ. وغير ذلك مما يطول ذكره ويُعْيين حصره؛ فإلى الله المشتكى والمفزع مما ألصقه هؤلاء بالدّين، وشوّهوا به وجه المسلمين، حتى ضاهوا بفعلهم هذا فعل المشركين من قبل، {قاتلهم الله أنّى يؤفَكون} .

وقد فهم كثير من النّاس أنّ إنكار هذا المنكر وردّ هذا الشّرك خاصّ بشيخ الإسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم؛ كلَّا بل ردّه كثير من أهل المذاهب؛ وإليك ما قاله الإمام البركويّ الحنفيّ ـ صاحب «الطّريقة المحمّديّة» ـ في رسالته في زيارة القبور؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأمّا الزّيارة الشّرعيّة التي أَذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛ فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزّائر؛ وهي: الاعتبار والاتّعاظ، والثاني: راجع إلى الميّت؛ وهو: أن يُسَلِّم عليه الزّائر، ويدعو له، ولا يطول عهده به؛ فيهجره وينساه، كما أنّه إذا ترك أحدًا من الأحياء تناسه، وإذا زاره فرح بزيارته وسُرَّ بذلك؛ فالميّت أولى به؛ لأنّه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم؛ فإذا زاره أحد وأهدى إليه هبة من سلام ودعاء؛ ازداد بذلك سروره وفرحه.

وأمّا الزّيارة البدعيّة: فزيارة القبور لأجل الصّلاة عندها، والطّواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها وأخذ تُرابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النّصر والرّزق والعافية والولد وقضاء الدّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها من أوثانهم؛ فليس شيء من ذلك مشروعًا باتّفاق أئمّة المسلمين؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصّحابة والتّابعين وسائر أئمّة الدّين؛ بل أصل هذه الزّيارة البدعيّة الشّركيّة مأخوذة من عبادة الأصنام؛ فإنّهم قالوا:

ص: 197

الميّت المعظّم على هذا الوجه قربة ومزية عند الله ـ تعالى ـ، لا يزال تأتيته الألطاف من الله ـ تعالى ـ، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علّق الزّائر روحه به وأدناه منه؛ فاض من روح المزور على روح الزّائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشّعاع من المرآة الصّافية والماء الصّافي ونحوهما على الجسم المقابل له! ثم قالوا: فتمام الزّيارة أن يتوجّه الزّائر بروحه إلى الميّت ويعكف بهمّته عليه، ويوجه قصده وإقباله إليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره! وكلّما كان جمع الهمّة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به! وقد ذكر هذه الزّيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرّح به عُبّاد الكواكب، وقالوا: إذا تعلّقت النّفس النّاطقة بالأرواح العلويّة فاض عليها منها نور؛ ولهذا السّر عُبِدَت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصُنّفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام» انتهى ما أردتُ نقله من

ص: 198

الرّسالة المذكورة.

والرسالة مطبوعة في مصر، وقد أطال فيها الكلام على الزّيارة البدعيّة؛ فارجع إليها؛ لأنّها مفيدة جدًّا في هذا الباب، وحيث إنّها قد نُشِرَت في البلدان؛ اكتفيتُ بذكر القليل منها؛ فرحمة الله على مؤلّفها.

الحاصل: أنّ العلماء قديمًا وحديثًا قد قسّموا زيارة القبور إلى: شرعيّة، وبدعيّة؛ فالشّرعيّة: ما كانت لأجل تذكّر الآخرة والدُّعاء لأهلها والتّرحّم والسّلام عليهم، وهذا القدر لا يفتقر إلى شدّ رحل؛ إذ ما من بلدة إلَّا وفيها قبور، وأمّا قبره صلى الله عليه وسلم فهو أفضلها وأحقّ بالزّيارة، ولكن لا يُقصد بشدّ رحل استقلالًا؛ بل إذا نوى المسافر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ سُنّ له أن يزور قبره الشّريف، وله أن ينوي الزّيارة مع نيّة شدّ الرّحل لأجل الصّلاة في المسجد ـ كما تقدّم تقريره ـ، وهذا هو الذي قاله شيخ الإسلام، ولم يأتِ في كلامه قط ما ينفي الزّيارة الشّرعيّة؛ عملًا بالحديث المرويّ: «لا تُشَدّ الرّحال

» ، وتأويل السّبكيّ لهذا الحديث بالتّأويلات البعيدة لا يُخرجه عن المقصود منه؛ لأنّنا نقول: معنى قوله «لا تُشَدّ الرّحال» : خبر، ومعناه النّهي، «إلَّا إلى ثلاثة مساجد» : هذا استثناء مفرغ، والاستثناء منقطع؛ لعدم تقدّم مادة عليه يُستثنى منها، فمَن خَصّه بعدم جواز شدّ الرّحل إلى مسجد غير المساجد الثّلاثة فقد أخطأ؛ لأنّ المساجد ما تقدّم لها ذكر؛ فيبقى النّهي على عمومه؛ فإذا قلنا ـ مثلًا ـ:«لا يُسافَر إلَّا لمكة» ؛ فُهِمَ من هذا عدم جواز السّفر إلى غيرها مما جرت العادة بالسّفر إليه، ولا يُقال: هذا خاصّ بالبلدان دون الأشخاص؛ لأنّ البلدان والأشخاص من النّاس جرت العادة بالسّفر إليها؛ فلا يكون أحدهما هو المتعيّن بالنّهي عن السّفر إليهم.

فإن قلتَ: يلزم على قولك هذا: عدم جواز السّفر إلى غير المساجد الثّلاثة، والحال: قد جاءت الأدلّة باستحباب السّفر إلى طلب العلم، وزيارة الإخوان، والتّجارة، وغير ذلك.

فالجواب أن يقال: هذا الإشكال مدفوع من وجهين:

أحدهما: أنّ حديث:

ص: 199

«لا تُشَدّ الرّحال

» عامّ مخصوص بهذه الأدلة المجوّزة لشدّ الرّحل والسّفر إلى ما ذكر، وقد بقي حكمه في منع شدّ الرّحل إلى زيارة أيّ قبر من القبور؛ حيث لم يأتِ دليل يجوّز السّفر إلى زيارة القبور.

فإن قلتَ: قد وردت أحاديث تفيد استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والسّفر إليه؛ فهي مُخَصصة لهذا الحديث.

فالجواب: هذه الأحاديث بعضها ضعيف، وبعضها موضوع، وحديث: «لا تُشَدّ الرّحال

» صحيح متّفق على صحّته، ولا يُخصص الصّحيح بالضّعيف؛ بل بصحيح مثله. وأيضًا؛ إنّ الأحاديث الواردة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الثابت منها لا يفيد إلَّا استحباب الزّيارة فقط، وهذا لا ينكره شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء إذا خلا عن شدّ رحل، وما يُفيد استحباب شدّ الرّحل للزّيارة منها فهو مُختلق موضوع، ومما يدلّ على أنّ شدّ الرّحل لزيارة القبور غير جائزة: عدم ورود دليل عنه صلى الله عليه وسلم، لا من قوله ولا من فعله، ولا من قول أصحابه ولا من فعلهم، ومعلوم أنّ قبور الأنبياء والصّالحين كانت في زمانه وفي زمان أصحابه، ولم يبلغنا أنّه صلى الله عليه وسلم شدّ رحله إلى زيارة قبر من القبور، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه، مع أنّه صلى الله عليه وسلم سافر للتّجارة والغزو، وسافر موسى ـ عليه وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة والسّلام ـ لطلب العلم، وسافر الصّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لطلب العلم، والتّجارة، وزيارة الإخوان في الدّين؛ فعُلِمَ بهذا أنّ حديث: «لا تُشَدّ الرّحال

» لم يُخَصّ بهذه المذكورات؛ بل باقٍ على حكمه من المنع عن شدّ الرّحل إلى زيارة القبور.

الوجه الثاني: أن يقال: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرّحال» : إلى أي بُقعة تُلتَمس منها بركة، أو تفعل فيها عبادة أو قُربة، «إلَّا إلى المساجد الثّلاثة» ، ومعلوم أنّ كلّ قبر من القبور في بقعة من البقاع، وهي غير المساجد الثّلاثة؛ فقد تبيّن بما قرّرناه أنّ تأويل السّبكيّ وأضرابه لهذا الحديث ساقط عن درجة الاعتبار، وأنّ ما ذهب إليه شيخ الإسلام وغيره هو الحقّ الذي لا غبار عليه عند كلّ مَن أنصف من نفسه وحكّم الدّليل، والله الهادي إلى سواء السّبيل.

تتمة البحث في هذه المسألة:

فإن قال قائل: يُفهم من شرحك لحديث: «لا تُشَدّ

ص: 200

الرّحال

» أنّ السّفر ينقسم إلى: محرّم ومستحبّ فقط، والحال: أنّه قد يكون مباحًا.

فالجواب أن يقال: نعم؛ قد قسَّم العلماء السّفر إلى ثلاثة أقسام: محرّم، ومستحبّ، ومباح. فالمحرّم: إذا كان سفر معصية ـ كسفر الآبق وقاطع الطّريق، وغير ذلك مما فيه معصية ـ. والمستحبّ: ما كان فيه خير دينيّ أو دنيويّ. ومباح: إذا كان خاليًا عن هذا كلّه. والذي يظهر لي: أنّه لا يكون مباحًا؛ بل أقلّ درجاته أن يكون مستحبًّا؛ لأنّه إن كان سفرًا لأجل طلب علم أو زيارة والد أو ذي رحم وغير ذلك من الأمور المندوب إليها شرعًا؛ فهو مطلوب، وإن كان سفرًا لأجل تحصيل رزق من وجه حلال ـ كالتّجارة ونحوها ـ؛ فهو مطلوب أيضًا؛ لقوله ـ تعالى ـ:{فامشوا في مناكبها}

وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدّالّة على طلب الكسب من وجه الحِلّ، وأمّا كونه مباحًا: فلا يظهر لي؛ لأنّه إن خلا عن هذه الأمور كلّها؛ فهو عبث، وإضاعة مال، وتحمّل مشقّة فيما لا فائدة فيه. ولا يرد علينا: جواز السّفر بقصد السّياحة؛ فإنّا نقول: هذا السّفر من أهمّ أمور الدّين والدُّنيا معًا؛ فأمّا كونه من أهمّ أمور الدّين: فإنّه إذا رأى في سفره هذا ما فعله الله بالمكذّبين للرّسل من قبل ـ كقوم ثمود، وأصحاب الرّسّ، وغيرهم ممن قصّ الله علينا نبأهم في كتابه ـ؛ زاده هذا إيمانًا بربّه وتصديقًا بنبيّه؛ فعليه أن يقصد بسفره مثل هذا؛ لقوله ـ تعالى ـ محتجًّا على الكفّار:{قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذّبين} ، {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}

إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالسّير في الأرض لأجل العظة والاعتبار بأحوال الذين مضوا.

وإن كان المقصود من السّفر: الاطّلاع على أحوال النّاس اليوم الذين تقدّموا وترقُّوا في المعارف والصّنائع والعمران؛ فهذا من أهمّ أمور الدّين والدُّنيا، ولا

ص: 201

يَجعل هذا مُباحًا إلَّا مَن لم يتدبّر معاني القرآن والسُّنّة وسير السّلف. وإن تجرّد قصده بالسّفر عن هذا كلّه؛ فهو إلى التّحريم أقرب؛ لأنّنا منهيّون عن إضاعة المال، وعن الاشتغال بما لا يعني.

فإن قلتَ: السّفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فيه خير دينيّ؛ فيكون من باب السّفر المطلوب.

فالجواب: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هي من أعظم القربات، ولكن لم يأمرنا عليه الصلاة والسلام إلَّا بشدّ الرّحال للصّلاة في المساجد الثّلاثة؛ فلو كانت زيارته صلى الله عليه وسلم كالصّلاة في مسجده لعطفها على المساجد، ولكن لمّا لم يذكر معها؛ علمنا أن حكمها غير حكم المساجد الثّلاثة، وأنّ الذي يُقصَد بشدّ الرّحل إنّما هو الصّلاة في مسجده والزّيارة معًا، وإن أخّر نيّة الزّيارة حتى وصل فلا بأس.

فإن قال قائل: يلزم على قولك هذا: أنّ الزّيارة تابعة لا متبوعة، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم متبوع لا تابع؛ فزيارته كذلك!

فجوابه أن يقال: هل المقصود من زيارة القبر الشّريف انتفاع الزّائر أو انتفاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان الأول: فمعلوم أنّ الصّلاة خير موضوع، وأنّها أفضل الأعمال ـ كما جاء ذلك في الأحاديث الصّحيحة ـ، وأنّها في مسجده أفضل من غيرها سوى المسجد الحرام؛ فهي أحقّ بالقصد من الزّيارة. وإن كان الثاني: فمعلوم أنّ الصّلاة حق لله والزّيارة حق للمخلوق، وحقّ الله أولى بالتّقدّم على حقّ المخلوق.

وأمّا قول السّبكيّ: «ولو طُولب ابن تيميّة بالدّليل على هذا النّفي العام؛ لم يجد إليه سبيلًا» !

فجوابه: أمّا هذه الآثار التي أوردتَها؛ فقد تقدّم الكلام عليها مستوفى، وأمّا جوابنا على هذه الجملة فهو: لو كان السّفر لمجرد الزّيارة شائعًا ذائعًا بين الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم؛ ما كان يختصّ بفعله بلال وعمر بن عبد العزيز؛ بل كان يكون مما استفيض واشتهر، ولكان أئمّة الدّين من المتقدّمين ذكروه في كتبهم، وهذا مالك في «الموطأ»

ص: 202

والشّافعيّ في «الأُمّ» وأهل الكتب السّتّة وغيرهم؛ لم يذكر أحد منهم هذا السّفر؛ بل اقتصروا على ذكر: فضل المدينة، وفضل الصّلاة في مسجده، وذكروا حديث: «لا تُشَدّ الرّحال

» ، ولما لم يذكروا شيئًا من ذلك؛ عُلِمَ أنّ السّفر لمجرد الزّيارة لم يكن معروفًا عندهم؛ وإنّما المعروف عندهم وصرّحوا به في كتبهم: السّفر إلى مسجده، وإذا صلّى فيه انثنى للسّلام عليه صلى الله عليه وسلم كما فعل ابن عمر ـ، وأيّ دليل لابن تيميّة على ما ذهب إليه أعظم من هذا؟!

ثم أطال الكلام بعد ذلك، وتركنا الكلام عليه؛ لأنّه بعينه قد ذكره القاضي المالكيّ الذي اعترض على شيخ الإسلام؛ فردّ عليه شيخ الإسلام بكتاب سمّاه «الجواب الباهر» ، وقد نقلنا منه شيئًا يُبطل كلام السّبكيّ الذي ذكره في هذا المقام ـ فيما سبق ـ؛ فلا حاجة بنا إلى إعادته.

وأما قوله في الفصل الثاني: «إنّه رأى ورقة صورة فُتيا لشيخ الإسلام ابن تيميّة في هذه المسألة، وعليها عليها خطّ القاضي جمال الدّين. وحاصله أنّ ابن تيميّة يحرّم زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وزيارة غيره من الأنبياء والصّالحين

» إلخ:

فالجواب: هذا ـ والله العظيم ـ افتراء وكذب محض، ما قاله ابن تيميّة معتقدًا، ولا كتبه في كتبه محتجًّا، وقد بيّن الحافظ ابن عبد الهادي في «الصّارم» تكذيب نسبة هذا له، وذكر قوله في الزّيارة، ونحن أيضًا قدمنا ما هو واضح ومصرّح بسنيّة زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء وجميع المسلمين وحتى الكافرين من كلام شيخ الإسلام، وإذا تأمّلتَ صورة الفُتيا التي نقلها السّبكيّ عن شيخ الإسلام تبيّن لك أنّ هذا القول الذي ذكره عنه كذب وزور؛ أوقعهم فيه عدم فهم كلام هذا الإمام. نعم؛ حرّم شدّ الرّحال إلى الزّيارة المجرّدة عن قصد آخر يبيح السّفر، وشتان بين شدّ الرّحل والسّفر إلى الزّيارة، وبين زيارة القبور الخالية من ذلك؛ وقد أسلفنا أنّهما مسألتان؛ فمَن جعلهما مسألة واحدة وحكم

ص: 203

عليهما بحكم واحد، وطفق يُشنّع على مَن خالفه وينسبه للجهل والزّيغ والابتداع؛ فهو الأجدر بذلك؛ لأنّه ملوم بتقصيره في الفهم، مذموم على وقوعه في أعراض العلماء بغير حقّ ولا مسوّغ شرعيّ؛ بل حمله على ذلك التّعصّب والحسد وقلة الخوف من الله عز وجل؛ فنعوذ بالله ممن هذا حاله.

وأمّا قوله في الرّد على الفُتيا: «إنّ ابن تيميّة جعل ابن عقيل من المتقدّمين والغزاليّ من المتأخّرين؛ ليوهم على العوام» :

فجوابه: أنّ شيخ الإسلام قد عطف ابن عقيل على ابن بطّة القائلين بمنع شدّ الرّحل إلى زيارة القبور، ومعلوم أنّ ابن بطّة من المتقدّمين بلا خلاف؛ لأنه مات سنة ثلاثمائة وسبع وثمانين، وأمّا ابن عقيل فهو كان معاصرًا للغزاليّ ومات بعده؛ فمراده أنّ ابن عقيل وافق على ما قال ابن بطّة، ولم يتعرّض للتّاريخ، وأمّا جعله الغزاليّ من أصحاب الشّافعيّ المتأخّرين فهو الصّحيح؛ لأنّه مات سنة خمسمائة وخمس؛ فلا إيهام حينئذ.

وأمّا ردّه على شيخ الإسلام في نقله الخلاف: فهو ساقط؛ وقد بُيّن فساده فيما سبق.

وأمّا قوله عن شيخ الإسلام: «إنّه عزا حديث: «مَن زارني في مماتي كان كمَن زارني في حياتي» للدّارقطنيّ وابن ماجه» :

فجوابه: أنّ هذه الفُتيا التي نقلها السّبكيّ في هذا الموضوع هي بعينها التي نقلها عن شيخ الإسلام الشّيخ مرعي الحنبليّ في كتاب «الكواكب الدّريّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيميّة» ، وعليها توقيعات من علماء بغداد من أهل المذاهب الأربعة، وكلّهم قد شهدوا أنّ ما قاله شيخ الإسلام في هذا الجواب هو حقّ لا مرية فيه، وأنا قد قرأتُ الجواب من أوّله إلى آخره؛ فلم أجد فيه أنّ شيخ الإسلام عزا هذا الحديث لابن ماجه؛ بل اقتصر على عزوه للدّارقطنيّ فقط.

وقول السّبكيّ: «إنّه لم يرَ هذا الحديث في سنن ابن ماجه» : فهو حقّ؛ وهذا يدلّ على

ص: 204

أنّه ساقط لا يصلح للاحتجاج في محلّ النّزاع؛ إذ لو كان هذا الحديث ثابتًا عند أهل الفنّ الشّريف لما أخلوا منه كتبهم؛ إذ هي الأصول السّتّة، وإذا كان ابن ماجه ـ مع تساهله في إيراد بعض الأحاديث الواهية ـ لم يخرّجه؛ فكيف غيره من أهل الصّحيح والسّنن. وأما إخراج الدّارقطنيّ له؛ فهو جريٌ على عادته في «سُننه» من إخراج غرائب السُّنن، وكم أودعها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، وتارة ينبّه عليها، وقد لا ينبّه. وقد بيّن حال الأحاديث التي فيها الحافظ شمس الحقّ الدّهلويّ في كتابه «التّعليق المغني على سُنن الدّارقطنيّ» .

ثم إنّ السّبكيّ بعد أن نقل جواب شيخ الإسلام على وجهه؛ أخذ يُحرّفه عند الرّدّ عليه؛ فمن ذلك قوله عنه: «إنّ العلماء قد حرّموا شدّ الرّحل إلى أيّ مسجد غير المساجد الثّلاثة، ولو نذره» ؛ فهذا تحريف بيّن من السّبكيّ؛ لأنّ شيخ الإسلام نقل الخلاف فيمَن نذر الصّلاة في مسجد غير الثّلاثة، وذكر وجوب الوفاء به عن مالك والشّافعيّ وأحمد ـ في الرّوايتين ـ، وذكر عن أبي حنيفة أنّه لا يجب الوفاء به؛ لأنّ قاعدة النّذر عنده: أنّه ما كان من جنسه واجبًا فالوفاء به واجب. واحتجّ شيخ الإسلام للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومَن نذر أن يعصيه فلا يعصه» ، أخرجه البخاريّ. وإذا كان حال السّبكيّ هكذا من تحريف كلام العلماء من أجل مخالفتهم له؛ فلا ثقة بنقله في شيء؛ لأنّ هذا قادح فيه، سيّما والمسألة قريبة. وأمّا حطّه على ابن بطّة الحنبليّ، وذكره كلام الخطيب فيه؛ فهذا لا يقدح فيه؛ لأنّ المسألة من أبواب الفقه، والرجل فهو ـ وإن كان ضعيفًا في الحديث ـ فهو فقيه باتّفاق ـ كما سنبيّنه ـ.

فإن

ص: 205

قلتَ: إذا كان ضعيفًا في الحديث؛ يلزم منه أن يكون ضعيفًا في الفقه.

فالجواب: لا يلزم من كونه ضعيفًا في الحديث ضعفه في الفقه؛ لأنّ الرجل قد يغلب عليه فن فيُشغله عن إتقان غيره ـ كما وقع ذلك للكثير من الفقهاء ـ؛ وهذا حُجّة الإسلام أبو حامد الغزاليّ كان متبحرًا في الفقه وأصوله، وفي الحديث بضاعته مزجاة؛ حتى شحن كتبه بالأحاديث الضّعيفة والموضوعة، ومع هذا؛ لم يحط [من] قدره؛ لأنّ الله يقول:{وفوق كلّ ذي علم عليم} .

وإليك ترجمة الإمام أبي عبد الله بن بطّة أثبتناها ليتبيّن صدق ما قلناه: ابن بطّة العُكبري الحنبلي، مصنّف «الإبانة» ، كُنيته أبو عبد الله، واسمه: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، تكلّموا فيه، سمع عبد الله بن سليمان ابن الأشعث، والبغويّ، وطبقته، وعنه: أبو القاسم بن البُسريّ، وغيره، توفي سنة ثلاثمائة وسبع وثمانين. انتهى من «القاموس» و «شرحه» للزّبيدي.

وقال في «الميزان» : «عبيد الله بن محمد بن بطّة العُكبريّ، الفقيه، إمام، لكنّه ذو أوهام، لحق البغويّ وابن صاعد. قال ابن أبي الفوارس: روى ابن بطّة عن البغويّ عن مصعب عن مالك عن الزّهريّ عن أنس مرفوعًا: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» ،

ص: 206

وهذا باطل. العتيقيّ: حدثنا ابن بطّة، أنبأنا البغويّ، أنبأنا مصعب، حدثنا مالك عن هشام عن أبيه

فذكر حديث قبض العلم، وهو بهذا الإسناد باطل. وقد روى ابن بطّة عن النّجاد عن العطاردي؛ فأنكر عليه ابن ينال وأساء القول فيه؛ حتى همّت العامّة بابن نيال؛ فاختفى! وقال أبو القاسم الأزهريّ: ابن بطّة ضعيف.

قلتُ: ومع قلّة إتقان ابن بطّة في الرواية؛ كان إمامًا في السُّنّة، إمامًا في الفقه، صاحب أحوال وإجابة دعوة، رضي الله عنه» اهـ.

ومع هذا كلّه؛ فلم ينفرد ابن بطّة بذكر هذا الخلاف؛ بل ذكره أيضًا ابن عقيل والغزاليّ والقاضي عياض

ص: 207

والنّوويّ؛ فأيّ لوم يلحق بشيخ الإسلام على نقله الخلاف في هذه المسألة؟! وكيف يقول هذا من عند نفسه؟! وقد تقدّم نصوص هؤلاء الذين نقلوا الخلاف، ولا التفات لتغليط السّبكيّ النّوويَّ؛ فإنّه لم يسبقه لتغليطه النّوويَّ أحدٌ قبله.

ثم إنّ السّبكيّ ـ رحمه الله تعالى ـ قد أطال الكلام بعد ذلك بذكر أشياء لا تدلّ على مقصوده؛ بل خارجة عن الموضوع؛ فغاية أمرها أنّها تفيد استحباب الزّيارة، ونحن ـ ولله الحمد ـ وشيخ الإسلام وكافّة المسلمين لا ننكر ذلك، ولكنّ الخلاف في مسألة: شدّ الرّحل، وقد عرفتَ أنّهما مسألتان، وعرفتَ أيضًا الفرق بينهما.

وهنا أمر يجب التّنبيه عليه؛ وهو: أنّ شيخ الإسلام قد استحبّ زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وذكر ذلك في «مناسكه» و «فتاويه» ؛ فمَن نسب له أنه كره الزّيارة أو حرّمها؛ فهو كاذب عليه. نعم؛ أنكر شدّ الرّحل للزّيارة المجرّدة؛ محتجًّا بالحديث الصّحيح؛ وهو: «لا تُشَدّ الرّحال

» ، ونقل فيه الخلاف، واختار القول بالمنع؛ وقال: يشدّ الرّحال بنيّة الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وإذا وصل زار القبر الأعطر، وكذا قبور الشّهداء وغيرهم، وإذا نوى بشدّ الرّحل الصّلاة في المسجد والزّيارة معًا؛ فلا بأس. فقط يمنع شدّ الرّحل بقصد الزّيارة من غير قصد الصّلاة في المسجد ـ كما تقدّم بيان ذلك بأدلّته مستوفاة. والله الموفّق.

فصل

واعلم أنّ هذه المسألة ليست من المسائل المنفصلة، والخلاف فيها شديد الخطر حتى يُتعمّق في تحريرها، وعند التأمّل يظهر أنّ الخلاف فيها قريب التّوفيق؛ إذ لا بُدّ من زيارته صلى الله عليه وسلم على كلّ قول من هذه الأقوال، سواء قصد بشدّ الرّحل الصّلاة في المسجد، أو الصّلاة والزّيارة معًا، ولم يقل أحد بشدّ الرّحل إلى الزّيارة من غير قصد الصّلاة في المسجد، كما لم يقل أحد بمنع الزّيارة؛ فالحاصل أنّ الخلاف يرجع إلى شيء واحد؛ وهو: الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره المعظّم.

فإن قلتَ: إذا كان

ص: 208

الأمر على ما وصفتَ؛ فكيف قام العلماء على ابن تيميّة من أجل هذه المسألة، وصنّفوا فيها كتبًا عديدة؟!

فالجواب: أنّ العلماء الذين قاموا على شيخ الإسلام ما كان سبب قيامهم عليه هذه المسألة؛ ولكنّ السّبب فيه: أنّ شيخ الإسلام قد صنّف كتبًا كثيرة في التّوحيد ردّ فيها على مشائخهم وساداتهم، وبيّن فيها ميلهم عن الكتاب والسُّنّة، وسلوكهم طريق الابتداع، والقول على الله بغير علم، وغير ذلك من البدع المنكرة التي ابتدعوها في أصول الدّين وفروعه؛ فشتّت شملهم، وسفّه أحلامهم، وضلّل سعيهم، وخطّأ رأيهم بالحُجج الدّامغة والبراهين السّاطعة، وقد تتبّع جميع شبهاتهم وأقوالهم؛ فضى عليها بالطّرد والرّدّ، وهذا كتابه المسمّى بـ «التّسعينيّة» ، وكتاب «السّبعينيّة» ، وكتاب «العقل والنّقل» ، وكتاب «منهاج السُّنّة» ، وكتاب «الرّدّ على الفلاسفة»

وغير ذلك من الكتب التي صنّفها في الرّدّ على مَن خالف كتاب الله وسنّة رسوله؛ فلما رأى علماء زمانه ما حلّ بأسلافهم من هذا الإمام؛ أخذوا يشنّعون عليه بأشياء، منها ما هو بريء من نسبتها إليه، ومنها ما قاله بدليل ولكنّه لم يتقيّد فيها برأي أحد، وحيث إنّهم قد علموا أنّ ما قاله شيخ الإسلام في أسلافهم حقّ لا مرية فيه ـ لأنّه ما نقله إلا عن كُتبهم ـ، ورأوا أنّ دفع ذلك غير ميسور لهم؛ فعمدوا إلى مسألتين هما في الحقيقة من مسائل الفروع، المصيب فيها بأجرين والمخطئ فيها بأجر ـ أعني بها: مسألتي الطّلاق والزّيارة ـ، وقد ردّ الله كيدهم في نحورهم لما شنّعوا عليه

ص: 209

وأغروا به الحكّام بسببها، وقد انتصر له في كلّ زمان أئمّة من علماء الحديث والفقه، فأمّا مسألة الزّيارة: فقد استبان مذهبه فيها، وأمّا مسألة الطّلاق: فقد حقّقها كثير من أئمّة الإسلام قديمًا وحديثًا، حتى في زماننا، وبيّنوا أنّ شيخ الإسلام هو أسعد النّاس بإصابة القول فيها.

وأمّا قوله: «ويلزم على قول ابن تيميّة: أنّ الأُمّة كلّهم مخطئون في سفرهم إلى الزّيارة، وأنّها عثرة لا تُقال، ومصيبة عظيمة

» إلخ:

فالجواب: قد تقدّم غير مرّة بيان استحباب شيخ الإسلام زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعوى السّبكيّ أنّ الأُمّة لم يزالوا يسافرون إليها قديمًا وحديثًا؛ هذه دعوى منه، وتحكّم بحت على مقاصد النّاس، وكيف يُظَنّ بصفوة النّاس ـ وهم العلماء ـ أنّهم لم يسافروا إلا للزّيارة فقط من غير قصد الصّلاة في المسجد الشّريف.

فإن قال السّبكيّ: كانوا يسافرون بقصد الصّلاة والزّيارة معًا.

قلنا: هذا المراد ـ وهو الذي يقول به شيخ الإسلام ـ.

وإن قال: كانوا لا يقصدون بسفرهم إلَّا الزّيارة فقط من غير قصد الصّلاة [في] المسجد.

قلنا: معاذ الله أنّ الأُمّة كلّها قد أجمعت على ترك سُنّة عظيمة ـ وهي: شدّ الرّحل إلى مسجده الشّريف ـ، وهم يروون ذلك في جميع كتبهم؛ فما أحد حكم عليها بالخطإ إلَّا الذي قال: لا يُسافرون إلَّا للزّيارة فقط!

وأمّا قوله: «إنّها عثرة لا تُقال

» إلى آخره:

فجوابه: أنّ شيخ الإسلام ما قال إلَّا عن دليل استبان له، وقد وافق غيره ممّن ذكرنا أسماءهم، وحيث إنّ المسألة محلّ اجتهاد؛ فالمصيب فيها له أجران والمخطئ له أجر؛ فهو مأجور على كلّ حال بشهادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فهب أنّه أخطأ فيها ـ على رأي السّبكيّ ـ؛ فهو مأجور؛ فكيف يُقال:«إنّها عثرة لا تُقال» ، سيّما والإنسان ومحلّ للنّسيان، والبشر يجوز عليهم الصّواب والخطأ؟! وعقد علمتَ ـ بما مرّ ـ أنّ شيخ الإسلام لم يتكلّم في المسألة بالتّشهي وهوى النّفس؛ بل تكلّم فيها بالأدِلّة النّقليّة والعقليّة، والرّجل من أئمّة الاجتهاد ـ كما شهد له بذلك سبعون مجتهدًا في زمانه؛ نقل ذلك شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر

ص: 210

العسقلانيّ وغيره ممّن يقدّرون للعلماء قدرهم، ولا يبخسون النّاس أشياءهم؛ فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلَّا أُولو الفضل ـ.

وأمّا قوله: «مصيبة عظيمة» :

فجوابه أن يُقال: ما أردتَ بقولك هذا؟! فإن أردتَ: أنّ ما أتى به شيخ الإسلام من الأدِلّة والبراهين الدّالّة على ما ذهب إليه في هذه المسألة وغيرها من المسائل مصيبة؛ فإن كانت على مَن لم يألف الدّليل، وألزم نفسه التّقليد واتّباع كلّ قال وقيل؛ فهو حقّ؛ فإنّ هؤلاء عندهم أنّ إيراد الأدِلّة والاشتغال بها مصيبة عظيمة؛ لأنّ ذلك مما يُخَرّب قواعدهم وأصولهم ويُحقّرهم في أعين العامّة، بعد أن كانوا رؤساء عظماء، ومن أجل ذلك؛ سدّوا باب الاجتهاد، وحرّموا على النّاس الاستهداء بالكتاب والسُّنّة، مهما بلغ أحدهم في العلم ما بلغ، وهذا شأن الغاشّين والمدلّسين في شريعة سيد المرسلين، وأنّهم ضدّ ما كان عليه أئمّة الدّين ـ كأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد

وغيرهم (رضوان الله عليهم) ـ؛ فكلّ هؤلاء كان مقصدهم إصابة الحقّ وظهوره على يد أيّ أحد من النّاس؛ ولذلك كانوا لا يأمرون النّاس بتقليدهم وأخذ أقوالهم، ما لم يعلموا من أين أخذوها، وكلّ واحد منهم يقول:«إذا صَحّ الحديث فهو مذهبي» ؛ فبإخلاصهم لله في علمهم أبقى الله ذكرهم إلى يوم القيامة، وأمّا هؤلاء المنتسبون إليهم بالتّسمية ـ لا بالقول والفعل ـ؛ فالأئمّة بُراء منهم ومن أفعالهم؛ فإنّ المنتسبين مقصدهم بالعلم على ضدّ مقصد الأئمّة؛ يعلم ذلك من سبر سير هؤلاء وهؤلاء.

وإن أراد السّبكيّ بقوله هذا: أنّ ذلك مصيبة على الإسلام والمسلمين؛ فكلّا ثمّ كلّا! وهل يقول عاقل: إنّ الذي يستدلّ على مسائل الدّين بالأدِلّة الصّحيحة، لا يقلّد فيها أحدًا من النّاس كائنًا مَن كان [أنّ فعله مصيبة] ؟! هذه ليست مُصيبة، إلَّا على مَن حُرِمَ التّوفيق وضلّ عن الطّريق. وكيف يكون ما أتى به شيخ الإسلام مصيبة على

ص: 211

الإسلام والمسلمين، وهو الذي حمى الإسلام والمسلمين، وذبّ عنه وقام لنصرته قيام مخلص متجرّد لله، ممتثلًا أمره، فارًّا من وعيده، كمَن لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذه كتبه في الرّدّ على اليهود والنّصارى والدّهريّين والفلاسفة والرّافضة والباطنية وأهل الكلام، وغيرهم من الطوّائف التي حادت عن طريق القرآن والسُّنّة، وكلّها تشهد بعلوّ همّته وقوّة جنانه وصدق عزمه؛ فقد نصر الإسلام بيده ولسانه وقلبه، ما عُلِمَ عليه يومًا أنّه هاب في ذلك سلطانًا أو كثرة جموع، أو قدّم قول أحد على آية أو سُنّة، أو حاب أحدًا أو جاراه على معتقده إذا كان على غير اعتقاد السّلف الصّالح؛ بل هجر في نصرة دين الله الأهل والوطن والخلّان والأصحاب، والدّنيا بزخرفها، ورضي بالقليل منها، وأضاع عمره ما بين تعلّم وتعليم وتصنيف، ومكابدة أهوال، ومشقة لحقته من أجل قيامه لربه في نصرة دينه؛ فكم هُدّد بالحبس والإخراج عن وطنه، وكم تحدّثوا بقتله ولم يصدّه ذلك كلّه عن الامتثال لأمر ربّه، حتى أتاه اليقين ـ وهو الموت ـ في غيابات السّجن؛ فأيّ مصيبة بعد هذا كلّه أتى بها للإسلام؟! فطيّب الله ثراه، ونصر مَن والاه، وخذل عدوه وأقصاه.

وهب أنّه أخطأ في مسألة أو مسألتين أدّاه إلى ذاك اجتهاده؛ فذلك مغمور في بحر علمه وحسناته ـ أي: شيخ الإسلام ـ، وأمّا السّبكيّ وأضرابه: فهم على الضّدّ مما وصفنا من حال شيخ الإسلام؛ فجنايتهم على الله وعلى كتابه ـ وهو: القرآن ـ وعلى رسوله وعلى سُنّته وعلى المسلمين أشهر من أن تُشهر:

فأمّا جنايتهم على الله: فإنّهم أنكروا جميع صفاته الخبريّة التي جاء بها القرآن العزيز والسُّنّة ـ من: العلو، والفوقيّة،

ص: 212

والإتيان، والمجيء، والنّفس، والوجه، واليدين، والعين، والسّاق، والحبّ، والرّضا، والسّخط، والتّعجّب، والاستهزاء، والضّحك، والنّزول، والاستواء على العرش، وغير ذلك مما وصف الله به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله؛ فعمدوا إلى جميع ذلك فأوّلوه بحسب ما أدّته إليه عقولهم، وسوّلت لهم به نفوسهم، وأوحته إليهم شياطينهم؛ فلم يقفوا عند ما أخبر الله عن نفسه، وأجروه على ظاهره من غير تأويل ولا تمثيل ولا تعطيل، ولم يَدْرُجوا على نهج السّلف في مثل ذلك؛ بل ابتدعوا للنّاس عِلمًا محدثًا مولدًا في الدّين، مأخوذًا عن اليهود والجعد بن درهم وبشر المريسيّ، وسمّوه: علم المنطق وعلم الكلام، ولما اغتروا بما أُوتوه من هذا العلم المذموم الملعون، الذي خرّب عقائد المسلمين؛ قالوا: هما طريقتان: طريقة السّلف وطريقة الخلف، ولكنّ طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السّلف أسلم، لكنّها ليست بأعلم ولا أحكم! وقد علمتَ أنّ طريقة السّلف في العقائد هي طريقة الكتاب والسُّنّة وطريقة الرّسول وأصحابه والتّابعين وسائر أئمّة الدّين، أمّا طريقة الخلف فهي تنقل عن بشر المريسيّ والجعد بن درهم، ويتصل سندها إلى اليهوديّ الذي سحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

فإذا عرفتَ هذا؛ فأيّ الطّريقتين أعلم وأحكم وأسلم؟! فعلى طريقة الخلف هذه: يلزم عليها أنّهم أعلم من الرّسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ومن تابعيهم، وأنّهم أفضل منهم؛ لأنّهم أتقنوا وأحكموا علم التّوحيد ـ الذي هو أشرف العلوم، ولأجله أُرسلت الرّسل، وأُنزلت الكُتب ـ! فسبحانك هذا بهتان عظيم! فهل

ص: 213

يقول هذا عاقل أو مسلم أو كافر؟! فالإله عندهم عبارة عن العمى المحض؛ لأنّهم وصفوه بأنّه: لا فوق العرش ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا يُشار إليه من أيّ جهة من الجهات السّتّ، ولا داخل العالم ولا خارجه! ولا يوصف بحركة ولا سكون، ولا جوهر ولا عرض، ولا استوى على العرش! ولا يأتي ولا يجيء يوم القيامة والملَك صفًّا صفًّا! ولا له يدان ولا نفس ولا وجه ولا عين! ولا يضحك ولا يرضى ولا يغضب ولا يتعجّب ولا يفرح، ولا يُوصف بصفة يجوز وصف المخلوق بها؛ فرارًا من التّجسيم والتّمثيل؛ فأوّلوا هذه الصّفات بتأويلات لا تنطبق على النّقل ولا على العقل، وجهلوا أن يكون لها معانٍ تليق بجلاله سبحانه وتعالى؛ فكما أنّ ذاته ليست كالذّوات؛ فصفاته ـ تعالى ـ ليست كالصّفات. وهل العدم كلّ العدم إلَّا ما وصفوه به؟!

وأمّا جنايتهم على القرآن: فمثل قولهم: إنّه ليس بكلام الله على الحقيقة؛ بل هو عبارة عن كلام الله، أو مدلول أو حكاية عن كلام الله، وأنّ هذه الحروف التي في المصاحف ونقرؤها بألسنتنا ونحفظها في صدورنا مخلوقة! وصرّح

ص: 214

بعضهم أنّه ليس لله كلام في الأرض. ومثل قولهم: إنّ نصوص القرآن لا تكفي وحدها في أدِلّة التّوحيد؛ بل لا بُدّ من دليل عقليّ معها! وكقولهم: إنّ القرآن والسُّنّة فيهما نصوص مَن اعتقدها على ظاهرها يكفر! ومثل قولهم: لا يُعمل بنصوص الكتاب والسُّنّة بعد الأئمّة الأربعة؛ بل يحرم على كلّ أحد أن يستدلّ على أيّ مسألة ما بآية أو سُنّة، ولا يُقرأ القرآن إلَّا للتّعبّد، ولأجل الحسنات التي تحصل للقارئ، ولأجل الموتى، واستخراج الأسرار من الحروف!

وأمّا جنايتهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فمثل قولهم: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تكلّم بهذه الألفاظ الواردة في الصّفات ـ من: نزول الرّبّ عز وجل كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا، وأنّه فوق العرش وعرشه فوق سبع سماوات، وأنّه يصعد إليه الكلم الطّيب، وأنّ الملائكة يعرجون إليه وكذا روح المؤمن، ومثل قوله للجارية:«أين الله؟» فقالت له: في السّماء، وشهادته لها بأنّها مؤمنة ـ؛ قالوا في جميع ذلك وغيره: إنّ الرّسول تكلّم بهذه الألفاظ ـ ولم يبيّن معناها ـ على سبيل التّمثيل والتّقريب لعقول النّاس! فلمّا رسخت أقدامهم في الدّين؛ عرفوا الحقّ بأنفسهم؛ فصرفوا هذه الألفاظ عن ظواهرها! وأنّ الله ـ تعالى ـ ليس

ص: 215

موصوفًا بها؛ فهذا يلزم عليه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُدْخِل النّاس في الدّين إلَّا بالكذب المحض ـ والعياذ بالله ـ! وأنّهم عرفوا الحقّ من عند أنفسهم، لا من الرسول، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم؛ بل غشّهم وكتم عنهم ما فيه هدى ونور لهم! فأيّ كفر أعظم، وأيّ مصيبة أطمّ، وأيّ ذنب أقبح، وأيّ بلاء على الإسلام والمسلمين أعمّ من هذا؟! فالويل كلّ الويل لمن حاد عن طريقة القرآن والسُّنّة؛ {فبعدًا لقوم لا يؤمنون} . ومثل قولهم: إنّ الرّسول أقرّ الجارية على قولها موافقة لها على عقلها؛ لأنّ عقلها يقصر عن معرفة أدِلّة النّظر! فيُقال لهم: هل أقرّها صلى الله عليه وسلم على حقّ أم باطل؟ فإن كان الأوّل: فقد ارتفع النّزاع، ولزم أن تُجيبوا مَن سألكم بـ «أين الله؟» بقولكم: في السّماء، وتشهدون له بالإيمان، ونحن نراكم تُضلّلون وتكفّرون مَن سأل عن الله بـ «أين؟» ، والمجيب له بأنّ: الله في السّماء.

وإن كان الثّاني: لزمكم القول بما ألزمنا سابقًا من أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرّ النّاس على الكفر! بل يتكلّم بما ظاهره كفر صراح من غير أن يؤوّله لهم! وهل الكفر الذي ما فوقه كفر إلَّا مثل هذا؟! وهل ثَمّ تنقيص لرتبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم ولا أحطّ قدرًا من هذا؟! ومع هذا كلّه تقولون لمن أدّاه الدّليل إلى مسألة: أنّه لم يعظّم النّبيّ؛ بل نقصه عن رتبته؛ حيث لم يجوّز السّفر إلى زيارته من غير قصد الصّلاة في مسجده! فهل هذا إلَّا كما قيل: «رمتني بدائها وانسلّت» ؟! وهل هتك ستركم، وكشف عورتكم، وأظهر للنّاس سوء معتقدكم وما انتقصتم به ربّكم ونبيّه، وإعراضكم عن الكتاب الذي جاء به؛ إلَّا شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيميّة؛ فروّح الله روحه، ونوّر ضريحه.

وأمّا جنايتهم على السُّنّة:

فمنها: ما تقدّم في القرآن العزيز.

ومنها: ردّ السُّنَن

ص: 216

الصّحيحة الواردة في الصّفات بقولهم: هذه أخبار آحاد! فلا يجوز وصف الباري ـ تعالى ـ بمثلها، ولا يُقبل في الصّفات إلَّا الأخبار المتواترة! وإذا جاءهم الخبر المتواتر أوّلوه بآرائهم. فالحاصل: أنّهم لا يقبلون الأحاديث الواردة في الصّفات، وإذا كانوا قد أوّلوا آيات الكتاب العزيز الواردة في صفات الله عز وجل؛ فالسُّنّة بطريق الأولى!

ومنها: تقديمهم آراء متبوعهم عليها؛ حتى قال بعضهم: «إنّ كلام أصحابنا هو الأصل، وما جاء من السُّنّة إن كان موافقًا لهم قُبِل، وإلَّا فيؤوّل أو يهمل» . وبعضهم ممّن اشتغل بعلم الحديث، لكنّه لم يرفع به رأسًا؛ لغلبة التّقليد عليه؛ فترى هذا المسكين يتعصّب للمذهب بكل ما يقدر عليه؛ فتارة يضعّف الصّحيح، أو يؤوّله بما يوافق المذهب، وتارة يصحّح الضّعيف؛ فإذا اطّلعتَ على شرح «صحيح البخاريّ» ـ مثلًا ـ لعالم حنفيّ؛ قلتَ: كتاب البخاريّ كلّه أدِلّة لمذهب أبي حنيفة! وإن قرأتَه بشرح مالكيّ أو شافعيّ أو حنبليّ؛ قلتَ: هذا الكتاب كلّه لمذهب إمام الشّارِح!

ومنها: قولهم: إنّ السُّنّة قد انقطع الاستدلال بها مِن سنة أربعمائة أو بعدها بيسير ـ على اختلاف بينهم في الزّمن الذي انسدّ فيه باب الاجتهاد ـ؛ فيحرم على النّاس استنباط حكم من آية أو سُنّة؛ ويجب عليهم تقليد مذهب معيّن، ولا يجوز لهم قراءة كتب السُّنّة ـ كـ «صحيح البخاريّ» وغيره ـ إلَّا لأجل التّبرّك وإنزال المطر ورفع الوباء والغلاء ودفع الشّدائد! ويقتنون الكتاب من كتب السُّنّة لأجل تكثير الدّراهم، وحفظًا للبيت من الاحتراق والسّرقة، وغير ذلك من الأشياء التي لم تُعهد في زمان السّلف! وليت شعري؛ مع هكذا كلّه؛ أمروا النّاس بالاستهداء بها وفهم معانيها، وأوجبوا عليهم العمل بما فيها، والرجوع إليها عند التّنازع والاختلاف، بل تراهم يقولون للنّاس: أنتم لا تفهمون معاني الكتاب والسُّنّة ـ كأنّهما لم يكون باللّسان العربيّ الفصيح العاري عن التّعقيد والغرابة ـ، وأنتم لا تعرفون المتواتر من الآحاد، ولا النّاسخ من المنسوخ، وغفلوا أنّ السُّنّة معظمها بل كلها ـ ما عدا حديث: «من

ص: 217

كذب عليّ متعمّدًا» ـ آحاد؛ كما قال ابن الصّلاح، وأنّ المنسوخ منها لم يزد على واحد وعشرين حديثًا؛ جمعها: أبو الفرج ابن الجوزيّ في جزء.

ومنها: إذا رأوا رجلًا يستهدي بالكتاب والسُّنّة في جميع أصول الدّين وفروعه؛ رموه عن قوس واحدة بقولهم: هذا مجسّم حشويّ! وفي زماننا هذا يقولون له: أنتَ رجل وهابي! وغير ذلك من الألفاظ المنفّرة للنّاس عنه، سيّما إذا سمعوه يقول: إنّ الإمام الفلانيّ أو العالم الفلانيّ أخطأ في كذا؛ لمخالفته حديث كذا وكذا؛ شنّوا عليه الغارة؛ وقالوا: هذا رجل يستحقر الأئمّة وأتباعهم، وقد غفل المغرّرون عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر للنّاس: لا تتغالوا في مهور النّساء؛ فقامت إليه امرأة وقالت له: يا أمير المؤمنين؛ أين أنتَ من قوله ـ تعالى ـ: «وآتيتُم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا» ، ومَن فيكم يعطينا قنطارًا؟! فوقف عند قولها أمير المؤمنين، وقال:«كلّ النّاس أعلم منك يا عمر، حتى المرأة» ! وكان أبو بكر يقول في كلّ مسألة يفتي فيها باجتهاده: «إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمنّي ومن الشّيطان؛ والله ورسوله منه بريء» ، وكان

ص: 218

الشّافعيّ يقول: «أنا راجع عن كلّ مسألة تخالف آية أو سُنّة، وإذا رأيتموني أروي حديثًا ولا آخذ به؛ فأشهدكم أنّ عقلي قد ذهب» ! والآثار في مثل ذلك عن الأئمّة كثيرة مستفيضة.

وأمّا جنايتهم على المسلمين: فمنها: صدّهم لهم عن كتاب ربّهم وسُنّة نبيّهم، وتكثيرهم لهم من كتب الفقه والخلاف، وإلزامهم النّاس بقراءتها ودراستها، وأن يضيعوا فيها عمرهم، ويا حبذا لو كانت هذه الكتب التي سمّوها كتب الفقه خالية من المسائل التي لا يشهد لها نقل ولا يستحسنها عقل؛ بل هي مشتملة على ما هو حقّ وعلى ما هو باطل مخالف للشّرع؛ فلم يراعوا فيها حكمة التّشريع ولا علل الأحكام؛ ولذلك تراهم يجوّزون الحيل على إسقاط فرائض الله وعلى حقوق الآدميّين، وعلى التّعرّض للعنة سيد المرسلين لمن يفعل ذلك.

فمنها: مسألة إسقاط الصّلاة التي ما جاء [بها] كتاب ولا سُنّة، ويقولون: إنّ فعل ذلك يسقط الصّلاة عن ذمّة الميّت! فصادموا بقولهم هذا ما ورد في الصّحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها؛ فلا كفارة لها إلَّا ذلك» .

ومنها: تحايلهم على إسقاط الزّكاة بقولهم: إذا ملك الرّجل نصاب الزّكاة من ذهب أو وَرِق، وخشي أن يحول عليه الحول؛ فبدّله بذهب آخر أو وَرِق أو يوهبه لأحد من النّاس، ثم يسترده منه بعد قبضه له، أو يجعل النّصاب في شيء من المتاع أو الحنطة، أو يوهبه لأحد ثم يشتريه منه بعد ذلك! فإذا فعل شيئًا من هذه الحيل ـ ولو قبل الحول بيوم ـ؛ سقطت عنه الزّكاة، فقط في ذلك كراهة

ص: 219

تنزيهيّة؛ يعني: أنّها خلاف الأولى، ولا حرمة عليه في ذلك! والحيل على إسقاط الزّكاة لها ضروب عندهم كثيرة؛ فانظر ـ رحمك الله ـ إن كنتَ ممّن نوّر الله قلبه؛ هل هذا موافق لشرع ربّنا وسُنّة نبيّنا؟! وهل هذا يرضاه الله منّا أم مصادم للدّين مناقض له أعظم تناقض؟! وأين حكمة التّشريع في ذلك؛ حيث يقول في غير ما آية:«وآتوا الزّكاة» ، وقوله ـ تعالى ـ:{خذ من أموالهم صدقة تطّهرهم وتزكّيهم بها} ، وغير ذلك من الآيات المحرّضة على إيتاء الزّكاة، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أمرني ربي أن آخذ صدقة من أغنيائهم فأجعلها في فقرائهم» ؟! فبالله عليك؛ هذا المحتال المنافق المخادع ـ لله ورسوله ـ هل فعل شيئًا من حكمة التّشريع أو أتى بما أُمِرَ به.

ومثل: تحيّلهم على إسقاط الشّفعة، ولهم فيها حيل مختلفة.

ومنها: تحيّلهم للمطلّقة من زوجها ثلاثًا؛ بأن يأتوا لها بالتّيس المستعار ـ الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو: المحلّل) ؛ ويقولون: إنّ هذا يُحلّها للأوّل.

وغير ذلك من المسائل التي يستهجن ويستقبح ذكرها؛ مثل: قولهم في الإمامة وصاحب

ص: 220

الزوجة الحسناء يقدّم على مَن ليس كذلك، وصغر الذّكر يقدّم على الأكبر ذكرًا!!! فأنشدك بالله أيها المنصف الذي شمّ رائحة العلم؛ هل شرعنا يأمرنا بالتّجسّس على مَن زوجته حسناء أو قبيحة، وهل شرعنا يأمرنا أن نجسّ عورات بعضنا بعضًا لأجل أن نعرف مَن ذكره قصير أو طويل؟!! فهل هذا كلّه جناية على المسلمين أم لا؟! خصوصًا في التحيّل على إسقاط الزّكاة التي هي أحد أركان الدّين بعد الصّلاة، وأنّ منفعتها للمسلمين أعمّ من غيرها؛ فإذا كان كلّ غنيّ قرأ هذه الكتب، وعلم كيف يتحيّل على إسقاط الزّكاة؛ فماذا يصنع الفقراء والأصناف الثّمانية الذين تُصرف لهم الزّكاة؟! فهل يموتون جوعًا، أو يسرقون؟! بل يبتهلون إلى الله ـ تعالى ـ أن يعامل أرباب هذه الكتب بعدله، ويجازيهم على صنيعهم هذا بما هم أهله. فهل بعد هذا كلّه يُقال: إنّهم أهل السُّنّة والجماعة، وهم النّاجون والمعظّمون للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولشريعته؟! وأمّا ابن تيميّة فقد أتى بعثرة لا تُقال ومصيبة عظمى! فكلَّا؛ ومعلوم لكلّ مَن قرأ كتب ابن تيميّة أنّه ما قصد في كتبه إلَّا محاربة هؤلاء الذين وصفنا حالهم، وأتى بالأدِلّة القاطعة لحججهم، والمُزيلة لشبههم، والمشتّتة لجمعهم، وأفنى عمره رضي الله عنه في نصرة دين الله وكتابه وسُنّة نبيّه؛ {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون} ؟

ومن حيلهم القبيحة والمذمومة: حيلتهم على أكل الرّبا باسم العينة،

ص: 221

ومسألة أخرى مشهورة بدرهم عجوى، والخرقة، والسّبحة، وغير ذلك من الحيل التي كادت أن تهدم أصل الدّين. ولولا ما يلحقهم من لوم العامّة لتحيّلوا على إسقاط الصوم والحجّ والصّلاة وسائر العبادات!

والحاصل: أنّهم أضرّ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنّصارى الذين بدّلوا وغيّروا؛ فنسوا جميع قبائحهم هذه وأخذوا يشنّعون على أئمّة الدّين الذين أظهروا للنّاس مصائبهم؛ فكانوا ـ كما قيل في المثل السّائر على ألسنة العوام ـ: «تعبر الباغية تدهيك والذي فيها تجعله فيك» ! فالله يجازيهم بما يستحقّون!

فصل

ووصيّتي لك أيّها السُّنّيّ المريد سعادته في العاجل والآجل: أن تترك كتبهم هذه التي وضعوها في أصول الدّين وفروعه، وتعكف على القرآن العزيز وسُنّة النّبيّ الكريم، وتستعين على فهم ذلك بالتّفاسير المعتبرة ـ كتفسير ابن جرير وابن كثير ـ، وبأقوال الأئمّة المتقدّمين ـ كأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد ـ، وسائر أئمّة الحديث الذين لم يخلطوا الحقّ بالباطل، لا في الأصول ولا في الفروع. وإذا صار لك قدم راسخ في علم الكتاب والسُّنّة وأقوال سلف الأُمّة؛ فلك ـ حينئذ ـ أن تنظر في كتب هؤلاء المتأخّري؛ لتميّز بعلمك ما فيها من الحقّ والباطل، وعليك أن تتبع الحقّ أينما كان، ومع مَن كان، لا تتعصّب ولا تنتصر ولا تتشيّع إلَّا لله ورسوله. وإذا كان لم يكن عندك شيء من علم الكتاب والسُّنّة ولا أقوال السّلف في الأصول والفروع؛ فابكِ على نفسك! واحذر أن تخوض في أعراض العلماء تقليدًا للذين خاضوا؛ فتهلك كالذين هلكوا. ونحن لم تكن بيننا وبين شيخ الإسلام ابن تيميّة قرابة ولا نسب ولا غير ذلك مما تظنّ بسببه تهمة؛ ولكن رأينا الرّجل لا يتكلّم على مسألة من مسائل الدّين ـ أصوليّة أو

ص: 222

فرعيّة ـ إلَّا وأيّدها بالأدِلّة النّقليّة والعقليّة، ورأينا المُشنّعين عليه بخلاف ذلك؛ فتراهم يقلّد بعضهم بعضًا في التّشنيع والسّبّ والتّكفير ونقل الكذب الصّراح من غير تحاشي ولا نظر، وسمعنا الله يقول:{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة} ، وفي قراءة:(فتثبتوا)

الآية، ونحن ـ بفضل الله ـ قد تبيّنّا وتثبّتنا في أمر ابن تيميّة وأمر مُخالفيه؛ فوجدنا الفرق أظهر من الشّمس في رابعة النّهار؛ فشتان بين مَن يتكلّم بالدّليل وبين مَن يتكلّم بقال وقيل! وأيضًا رأينا الذين أثنوا على شيخ الإسلام ابن تيميّة ومدحوه وشهدوا به بالعلم ـ على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ـ أعظم قدرًا وأجلّ معرفة من الذين طعنوا فيه. وهذا السّبكيّ مع كونه من ألدّ الخصوم للشّيخ؛ فقد اعترف بعلمه وبفضله! والفضل ما شهدت به الأعداء. وهذه كتب شيخ الإسلام قد انتشرت في جميع بقاع الأرض، شرقًا وغربًا، وانتفع بها المسلمون على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وأجناسهم، وكلّ منهم أثنى عليها وعلى مؤلفها، وحطّ على مَن طعن عليه وشانه بما هو منه بريء؛ كما شهدت له بذلك مصنّفاته التي يلوح النّور في كلّ ورقة منها.

ص: 223

فصل

وأمّا ما عوى به ابن حجر المكيّ في كتابه «الجوهر المنظم» وشرحه لـ «مناسك النّووي» وكتابه «الفتاوى الحديثيّة» ؛ من التّشنيع والحطّ على شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فقد رأينا ـ أولًا ـ أن نطوي الكشح ونلوي عنان القلم عمّا نبح به؛ لأنّه أشبه بكلام الرّافضة في حقّ الشّيخين أبي بكر وعمر. وأين ابن حجر من شيخ الإسلام حتى يُقبل طعنه فيه؟! فلو وزنّا بينه وبين شيخ الإسلام؛ وجدنا الفرق كما بين السّماء والأرض، وكما بين الثّريا والثّرى، وكما بين حبّ اللؤلؤ والذّرة، ولكن لما رأينا بعض النّاس الجاهلين الأغبياء قد قلّدوا ابن حجر في هذيانه؛ رأينا أن نتكلّم على بعض ما قاله في حقّ هذا الإمام؛ فنقول:

أولًا: أمّا طعن ابن حجر على شيخ الإسلام؛ فهو معارض بمدح الأئمّة الأعلام الذين عاصروا شيخ الإسلام؛ مثل: الإمام الحافظ أبي الحجاج المزّيّ، والإمام الذّهبيّ، وغيرهما ممّن ذكر أسماءهم الإمام ابن ناصر الدّين الدّمشقيّ الشّافعيّ في كتابه «الرّد الوافر» ؛ فارجع إليه؛ فقد ذكر جمعًا كثيرًا يقارب مائتي إمام، وكلّهم أثنوا على ابن تيميّة، وسمّوه شيخ الإسلام، وبعدهم بقليل؛ مثل: الحافظ شيخ الإسلام أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلانيّ، والحافظ بدر الدين محمود العينيّ الحنفيّ، ومفتي المالكيّة الإمام البساطيّ، والقاضي جلال الدّين البلقينيّ، وخلق سواهم، وكلّهم أثنوا على شيخ الإسلام، وبرّأوه مما نسبه إليه

ص: 224

أعداؤه الجاهليّون. وإذا أردتَ الوقوف على مَن أثنى على شيخ الإسلام ورثاه بعد موته بقصائد عديدة؛ فعليك بكتاب «الكواكب الدّريّة في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيميّة» للشّيخ مرعي الحنبليّ، وكتاب «القول الجليّ في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيميّة الحنبليّ» للشّيخ صفيّ الدّين الحنفي ـ نزيل نابلس ـ، والكتابان مطبوعان في مصر. وممّن ترجم لاشيخ الإسلام وأطال: الإمام شمس الدّين الذّهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» و «التّاريخ الإسلاميّ» ، والإمام ابن شاكر، والصّلاح الكتبيّ في «فوات الوفيات» ، والإمام ابن الورديّ في «تاريخه» ـ وله مرثيّة فيه تقطّع القلوب ـ وغيرهم من المتقدّمين قبل ابن حجر المكيّ. وأمّا في زمننا وقبله فخلق لا يُحصون. فإذا رجعتَ إلى هذه الكتب التي أشرنا؛ تبيّن لك ما قاله ابن حجر من الكذب والزّور والبهتان في حقّ هذا الإمام.

ثانيًا: إنّ ابن حجر لم يعزُ ما قاله إلى كتاب من كتب شيخ الإسلام. والذي يظهر لي: أنّه ما رأى منها كتابًا واحدًا؛ وإلَّا لو رأى لاستحيا من الله أن يقول ما

ص: 225

قال؛ اللهمّ إلَّا أن يكون قد غلب عليه التّعصّب والعناد، وهل يليق برجل ينتسب إلى العلم يستحلّ الخوض في أعراض أئمّة الهدى من غير أن يعزي ما قاله إلى كتاب من كتبهم، بل كتبهم على خلاف ما قال هذا المفتري.

ثالثًا: إنّ ابن حجر وأمثاله ممّن طعن في شيخ الإسلام لا يُقبل طعنهم فيه؛ لأنّهم جاهلون؛ بشهادتهم على أنفسهم أنّهم مُقلِّدون، مُحَرِّمون على أنفسهم وعلى النّاس الاستهداء بالكتاب والسُّنّة، مُقِرّون على أنفسهم أنّهم لا يفهمون معاني الكتاب والسُّنّة، ولا قدرة لهم على استنباط الأحكام من الأدِلّة! وأمّا شيخ الإسلام فقد شهد له بالاجتهاد المطلق، وأنّ شروط الاجتهاد قد توفرت فيه واستجمعها: سبعون مجتهدًا في زمانه؛ فكيف يليق بالجاهل العاجز عن فهم النّصوص أن يطعن في عِرض إمام مجتهد، كتبه تشهد له بالفضل الذي لم يشاركه فيه إلَّا القليل من النّاس؟! وما لك يا ابن حجر وما لهذا الإمام؟! أشفِق على نفسك وأرِحها من العناء؛ فشيخ الإسلام لا يحطّ من قدره ما هذيتَ به، وما أدري طعنك هذا إلَّا كما قال الشّاعر:

كناطِحٍ صخرةً يومًا ليكلِمَها

أشفِق على الرّأسِ لا تُشفِقْ على الحجرِ

وكما قيل:

لقد هَزلَتْ حتى بدا مِن هزالها

كلاها وحتى سامها كلّ مفلِسِ

وما مثل ابن حجر ومثل شيخ الإسلام في الفرق والبعد إلَّا كما قال أمير المؤمنين أبو الحسنين سيدنا عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ورضي عنه ـ، حين قسّم النّاس إلى ثلاثة أقسام؛ فقال: «النّاس ثلاث: عالم ربانيّ ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لا يستضيئون بنور العلم، مفتونة قلوبهم وقلوب مَن يعجبهم شأنهم

» إلى آخر ما قال. فأمّا شيخ الإسلام فهو من القسم الأوّل والثّاني ـ بلا نزاع ـ؛ فإنّه كان عالمًا بالكتاب والسُّنّة، مقدمًا لهما على قول كلّ

ص: 226

أحد، زاهدًا في الدُّنيا معرضًا عن المناصب والوظائف، مختارًا للدّار الآخرة الباقية على الدّار الفانية؛ فصدق عليه أنّه عالم ربانيّ ومتعلّم على سبيل نجاة. وأمّا ابن حجر فكان على خلاف ذلك من حبّ الدُّنيا والشّهرة والتّفاخر، مقلدًا في دينه غيره من الأصول والفروع، إن أصاب مقلّده أصاب، وإن أخطأ أخطأ؛ فصدق عليه ما قاله أمير المؤمنين في وصف أهل القسم الثّالث.

فصل

وهذا أوان الشّروع في الرّد على ما قاله ـ وبالله التّوفيق ـ.

وهنا تنبيه؛ وهو: أنّي إذا عبتُ المتأخّرين وكتبهم؛ فلا أقصد عامّتهم؛ بل أعني: الذين لم يعيروا الدّليل نظرهم ولا ينتصرون له؛ بل جمدوا على التّعصّب للمذهب، ولو أورد عليه مخالفه عشرين دليلًا لم يلتفت لشيء من ذلك! بل يقول: المذهب هكذا! ومعاذ الله أن أعيب على كافّة المتأخّرين وكتبهم؛ بل أقول: وكم من المتأخّرين مَن فاق بعض المتقدّمين بأضعاف مضاعفة، كما أنّي لا أمدح كافّة المتقدّمين ومصنّفاتهم؛ بل أقول: وكم في المتقدّمين مَن هو أصل بلاء الأُمّة.

فالحاصل: أنّي إذا مدحتُ أو عبتُ؛ فإنّما مُرادي: الذين نصروا الدّليل وتشيّعوا لله ورسوله، ولم يُهملوا شيئًا من الأدِلّة الصّحيحة، لا في أصول الدّين ولا في فروعه، سواء كان من المتقدّمين أو من المتأخّرين، وكلّ مَن قدّم عقله وآراء الرّجال على الأدِلّة الشّرعيّة؛ فهو المعنيّ بالقدح والذمّ، سواء كان من المتقدّمين أو من المتأخّرين؛ فاحفظ هذا، والله يؤيّدك.

قول ابن حجر: «فإن قلتَ: كيف تحكي الإجماع السّابق على مشروعيّة الزّيارة والسّفر إليها وطلبها، وابن تيميّة ـ من متأخّري الحنابلة ـ منكر لمشروعيّة ذلك كلّه، كما رآه

ص: 227

السّبكيّ في خطّه» .

فجوابه أن يقال: في أيّ كتاب وفي أي فتوى لابن تيميّة حرّم فيها زيارة قبرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟! وهذه كتبه بأيدينا مطبوعة منتشرة في جميع أنحاء الأرض، وكلّها مصرّحة بمشروعيّة زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبور غيره من الأنبياء وكافّة المسلمين؛ وإنّما ذكر الخلاف في مسألة: شدّ الرّحل. فبالله عليك؛ إذا كان رجل قد قصر فهمه عن فهم كلام الأئمّة؛ فهل يليق به أن يطعن عليهم، وينسب إليهم أشياء لم يقولوها بل قالوا بخلافها؟! أمّا يستحي مَن هذا صنيعه، ويتذكّر موقفه بين يدي أحكم الحاكمين؟! وهل يجوز لهذا المعترض ـ بعد هذا البيان ـ التّشدّق بما أتى به من الهذيان من جهلة النّاس الطّغام الذين لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون؛ بل وجدوا مشائخهم على هذا الضّلال المبين؛ فقالوا: إنّا وجدنا أشياخنا على هذا قائلين، وإنّا على آثارهم مقتدون! فتبًّا لهاتيك العقول! وكيف ينتسب ابن حجر هذا لأهل العلم، وهذا حاله؛ مِن ترك التّثبّت في النّقل، والتّبصّر في النّقد. وكان دأب العلماء رحمهم الله التّثبّت في مسألة الجرح والتعّديل؛ فكانوا لا يحكمون بجرح الرّجل إلَّا إذا عرفوا حال الجارح، وبشرط أن يذكر ما جرحه به؛ ليُنظر فيه؛ فقد يكون ذلك جرحًا في الحقيقة، وقد لا يكون؛ مثل مسألتنا هذه؛ فالسّبكيّ التبس عليه وعسر عليه فهم فتوى ابن تيميّة؛ فظنّ أنّه حرّم الزّيارة وشدّ الرّحال معًا؛ فأخطأ؛ فجاء العلماء فبيّنوا مقصود ابن تيميّة من هذا الكلام؛ وأنّ مقصوده من هذا تحريم شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة ـ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شدّ الرّحل بنيّة الصّلاة في مسجده؛ استُحب له أن يزور قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا نواها مع الصّلاة؛ فلا بأس.

فهذا ملخّص ما قال ابن تيميّة؛ فهل يقول أحد: إنّ هذا يفيد تحريم الزّيارة إلَّا مَن أعمى الله بصره وقلبه واتّبع الشّيطان وحزبه؟!

وأمّا قوله: «كما رآه السّبكيّ في فُتيا له بخطّه» ؛ فجوابه: أنّ الفُتيا التي رآها السّبكيّ قد ذكرها بالحرف الواحد في كتابه «شفاء السّقام» ، ومذكورة أيضًا في عدّة كتب لشيخ الإسلام، وعليها خطوط علماء بغداد من أهل المذاهب الأربعة، وليس فيها ـ

ص: 228

ولله الحمد ـ حرف يوهم تحريم الزّيارة ـ كما زعمتَ ـ، ولولا طولها لأثبتُها هنا؛ ولكن حيث أنّ الكتب التي توجد فيها مطبوعة منتشرة؛ فلا حاجة بي لذكرها. نعم؛ قد توهّم السّبكيّ هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فشيخ الإسلام تمثّل بهذا البيت:

عليك في العلم أن تبدي غوامضه

غَلَطَ في فهم كلامه فأخذ يُغلّط غيره

فأمّا شيخ الإسلام فلا ملامة عليه، ومَن لامه فهو المخطئ؛ لأنّه بيّن الحقّ بأوضح عبارة؛ وإنّما اللّوم على مَن لم يفهم كلام أهل العلم؛ فيغلّط ويخطّئ ويأخذ يشنّع عليهم، وابن حجر هذا قد نقل عبارات السّبكيّ كلّها من غير تصرّف، ونسبها إلى نفسه ـ والله أعلم بقصده ـ؛ فاتبّع غيره في خطيئته فضلّ وأضلّ، وهذا جاءه من شؤم التّقليد الأعمى؛ فنسأل الله ـ تعالى ـ السّلامة من الضّلال بعد الهدى، آمين.

وقوله: «ومَن هو ابن تيميّة؟» فيُقال له: ومَن أنتَ يا ابن حجر؟! وهذه كتب طبقات الرّجال قد أوضحت لنا رتبته ورتبتك؛ فعلمنا أنّ الفرق بينك وبين ابن تيميّة كبعد المشرقين! وهذه مصنّفاته شاهدة بعظم فضله، وكلّها مؤيّدة ومقرّرة لهذا الدّين. وأمّا أنتَ فأين مصنّفاتك؟ وكلّها لم تبلغ معشار عشر مصنّفاته، لا في العلم ولا في الحجم، وأحسن ما في كتبك: كتاب «الزّواجر عن اقتراف الكبائر» ، إن صحّت نسبته لك؛ وقد رأيتُ أنا في كتاب «عقود الجوهر في تراجم مَن له خمسون مؤلّف فأكثر» ، ذكر فيه اسم هذا الكتاب ونسبه للحافظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلانيّ، شارح البخاريّ، ذكر ذلك في ترجمته. وإن صحّت نسبته لك؛ فأنتَ مسبوق به؛ فقد ألّف النّاس قبلك كتبًا في عدّ الكبائر؛ كالحافظ الذّهبيّ، والإمام

ص: 229

شمس الدّين ابن القيّم، وغيرهما.

وأمّا ما أطال به من السّبّ والشّتم لشيخ الإسلام؛ فإنّي أتركه له؛ لأنّه هو الأجد والأحرى به. ولما أفلس من الجواب؛ أخذ يُشَنّع بالشّتم والسّباب، وهذا شأن سفلة النّاس لا شأن أهل العلم، والسّبّ لا يظهر علمًا ولا يبني حقًّا؛ ولذلك لم نشتغل بمكافأته عليه.

وأمّا تعريضه ـ في أثناء سبّه ـ بقوله: «وجاء بعده من الحنابلة ممّن هو على مذهبه» ؛ يعني به: الحافظ شمس الدّين ابن عبد الهادي، صاحب كتاب «الصّارم المنكي في الرّد على السّبكيّ» ، وهو كتاب ليس له نظير في بابه؛ بيّن فيه حال الأحاديث التي أوردها السّبكيّ في الزّيارة شاهدًا لها بالصّحّة؛ فبيّن ضعفها ووضعها، كما بيّن ما افتراه السّبكيّ على شيخ الإسلام. فكان يلزم هذا المعترض بدل أن يشتغل بالسّبّ يشتغل بالرّدّ على هذا الكتاب، إن كان عنده علم؛ وإلَّا فكان يسعه السّكوت، ومن أين لك ذلك، والحافظ ابن عبد الهادي لم يتكلّم على هذه الأحاديث إلَّا بكلام أهل الفنّ فيها؛ فما ذنبه؟!

وقوله: «وأطال الكلام بما تَمُجّه الأسماع» ـ يعني: ابن تيميّة ـ!

وجوابه: نعم؛ أمثالكم الذين لم يألفوا الدّليل، وحرّموا عىل أنفسهم وعلى النّاس الاستهداء بالكتاب والسُّنّة؛ فلا يستطيعون سماع الأدِلّة إذا تواردت عليهم؛ لأنّها مخرّبة لبنيانهم، وهادمة لقواعدهم، مزعزعة لأصولهم، وأمّا المقتدون المتّبعون للدّليل؛ فإنّهم يجدون حلاوة واطمئنانًا في أنفسهم عند سماع الدّليل، وتنقبض نفوسهم عند سماع قال وقيل، ومِن المعلوم أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم يتكلّم في هذا الكتاب الذي ردّ به على القاضي المالكيّ في مسألتنا هذه ـ بل وفي سائر كتبه ـ إلَّا بصريح الأدِلّة النّقليّة والعقليّة، مع استفراغ الوسع في استنباط الأحكام منها.

ص: 230

فأيّ لوم يلحقه في ذلك، وهو مأجور على كلّ حال، أصاب أو أخطأ، وأمّا ابن حجر فلا حظّ له من ذلك؛ لأنّه حرّم على نفسه العمل بالدّليل وألزمها التّقليد، وشتّان بين الرّجلين؛ فإنّ المجتهد هو الذي يكون مأجورًا في الحالين ـ أصاب أم أخطأ ـ، وأمّا مَن قلّده فليس له ذلك؛ لأنّ الله يقول ـ وهو أصدق القائلين ـ:{واتّقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا} .

وأمّا قوله: «وسوّلت له نفسه حتى ضرب مع المجتهدين بسهم صائب

» إلخ:

فجوابه أن يُقال: أمّا شيخ الإسلام فقد شهد له بالاجتهاد في زمانه سبعون مجتهدًا؛ أنّ شروط الاجتهاد قد استجمعها وزيادة؛ كما دلّت على ذلك مصنّفاته التي ملأت الآفاق، وشهد بحسن جودتها المخالف والموافق؛ فلا غرو بعد هذا أن يدّعي الاجتهاد.

ويقال أيضًا لابن حجر: هذا باب الاجتهاد الذي سددتموه؛ من الذي أمركم بسدّه؟ وفي أي زمان كان سدّه؟ أمّا تستحون من هذا المقال الذي لا يصدر إلَّا عن جاهل محتال؟! فكم من خير عن الأُمّة بمقالكم هذا منعتموه، وكم من بدع وخرافات وترهات ألصقتموها بالدّين بسبب هذا الافتراء العظيم، منعتم الناس أن يستهدوا بكتاب ربّهم وسُنّة نبيّهم وأقوال سلفهم؛ لتروج عليهم بضاعتكم المزجاة، وتنفقوا عليهم سلعتكم؛ توسلًا لحبّ المال والجاه! فلمّا رأى شيخ الإسلام ما حلّ بالدّين وأهله من سوء صنيعكم هذا؛ قام لله بصدق عزم، وقوة حزم، ومعه تلميذه الإمام شمس الدّين ابن القيّم، وفي أثرهم الحافظ ابن عبد الهادي، والحافظ ابن كثير والحافظ ابن الوزير اليمانيّ، وتبعهم الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر السعقلاني، والحافظ السّخاوي، والحافظ جلال الدّين السّيوطيّ، وفي أثرهم جاء الحافظ شيخ الإسلام محمد بن إسماعيل الأمير الصّنعاني، والحافظ شاه ولي الله المحدّث الدّهلويّ، والحافظ شيخ الإسلام قاضي اليمن محمد عليّ الشّوكانيّ، والإمام المحدّث السّيد صدّيق حسن خان، وخلق سواهم؛ وهجموا بأجمعهم وقوة عزمهم وجنانهم على باب الاجتهاد الذي سدّه أهل البغي والعناد؛ ففتحوه، وصار النّاس يدخلون في دين الله أفواجًا، حتّى النّصاري واليهود وأهل المِلل المختلفة، الذين كان لا يمنعهم عن الدّخول فيه إلَّا تشعّب الفرق والأحزاب والبدع والخرافات؛ فكانوا يحسبون أنّ هذا كلّه دين؛ فلمّا جاء هؤلاء الأئمّة الذين وصفنا حالهم، وبيّنوا للنّاس ما هو من الدّين وما هو بريء منه ـ بل يشتكي إلى الله من

ص: 231

نسبة هذا إليه ـ؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا؛ فقد سنّوا للنّاس سُنّة حسنة، يلحقهم ثوابها في قبورهم، وأمّا مخالفوهم الذين منعوا النّاس عن الاستدلال

بالكتاب والسُّنّة، وأوجبوا عليهم قبول أقوالهم وإن كانت مصادمة للقرآن العزيز؛ فقد سنّوا للنّاس سُنّة سيّئة يلحقهم وزرها إلى قبورهم؛ {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون} : الذين آمنوا بالله ورسوله، واتّبعوا ما أُنزل عليه وما بيّنه من قوله وفعله، وتمسّكوا بهديه، وأوجبوا على النّاس ذلك كلّه، وحرّموا عليهم أن يقدّموا عليه قول أحد من النّاس كائنًا مَن كان، أم الذين قالوا: يحرم على كلّ أحد بعد الأئمّة الأربعة أن يأخذ أو يستدلّ على مسألة ما بآية أو سُنّة؟! فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله السّلامة إلى دار السّلام.؟

وأمّا قوله: «هذا ما وقع من ابن تيميّة مما ذكروا ـ وإن كان عثرة لا تقال أبدًا، ومصيبة يستمرّ عليه شؤمها دوامًا سرمدًا ـ ليس بعجيب» !

أقول له في الجواب: هذا قد تقدّم الجواب عنه عند قول السّبكيّ له؛ وبيّنّا أنّ شيخ الإسلام ما قال ذلك عن هوى وتشهي؛ بل قاله عن اجتهاد وتفحّص [للأدِلّة] الشّرعيّة العقليّة؛ ولذلك حكمنا له بأنّه مأجور ـ أصاب أم أخطأ ـ؛ بشهادة الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يحلقه لوم ولا شؤم، وأمّا أنتم فأهل اللّوم والذّمّ؛ لأنّكم ما حكّمتم الدّليل في شرع الملك الجليل؛ بل قلّد بعضكم بعضًا في أصول الدّين وفروعه؛ فجنايتكم على الدّين وأهله أشهر من أن تُشهر، وأوضح من أن تُذكر ـ وقد سبق منّا بيان بعض ذلك ـ.

وقوله: «إنّه خالف إجماعهم في مسائل كثيرة» .

وجوابه أن يُقال: أوجد لنا مسألة من مسائله التي خالف فيها إجماع الأُمّة حتى ننظر فيها! وأمّا هذا القول المجمل فلا يُطالب بالجواب عنه. ومن أين لك معرفة بالأجماع؟! والدّليل على جهلك به: نقلك مثل هذا عن شيخ الإسلام؛ فإن كان قد قلتَ هذا مقلّدًا لغيرك؛ فهو جهل على جهل! وإن كان قلتَه بعد اطّلاعك على مسائله التي خالف فيها غيره؛ فهو أعظم دليل لنا على أنّك لا تعرف الإجماع ولا مواقعه، وأنّى يُسلّم لك هذا الافتراء؛ وما من مسألة خالف فيها شيخ الإسلام إلَّا هو مسبوق بها، وهب أنّه لم يُسبق بمَن قال مثل قوله؛ ولكن ما قال ذلك إلَّا بدليل صحيح؛ فأيّ لوم عليه ونحن مطالبون بالعمل بالحديث الصّحيح، سواء عمل به الكثير أو القليل، أو لم يُعرف أحد عمل به، والإجماع لا ينسخ

ص: 232

ولا ينسخ به ـ على فرض تسليم وقوعه؛ ودون ذلك خرط القتاد ـ!

وأمّا قوله: «وتدارك على أئمّتهم، سيّما الأئمّة الرّاشدين» .

فجوابه أن يُقال له:

أولًا: إنّ تدارك العلماء بعضهم على بعض لم يزل بين الأُمّة معروفًا مشهورًا، قديمًا وحديثًا، لم ينفرد به شيخ الإسلام؛ فهذا الشّافعيّ رضي الله عنه قد ردّ على أهل العراق وردُّوا عليه، وردّ على مالك في بعض المسائل وردّوا عليه، ولم يزل الردّ من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم مستعملًا إلى يومنا هذا؛ فلِمَ تركتَ كلّ هؤلاء وأخذتَ تشنّع على شيخ الإسلام؟!

وقوله: «سيّما الخلفاء الرّاشدين» ؛ أقول: هذه المقالة كذب محض؛ لا تُعرَف في شيء من كتب شيخ الإسلام؛ بل الموجود في كتبه الذّبّ عن الصّحابة أجمعين، خصوصًا الخلفاء الهادين المهديّين، وهذا كتابه في الرّدّ على الرّافضة شاهد بذلك. وهب أنّه أستدرك عليهم بعض المسائل؛ فلا بدع؛ لأنّهم ما كانوا معصومين؛ بل يجوز أن يخطئ كلّ أحد منهم؛ كما يعرف هذا مَن تتبّع سيرهم وأقوالهم؛ فقد ثبت عن الخليفة أبي بكر الصّديق أنّه كان يقول أذا أفتى في مسألة ليس لها نصّ صريح:«إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشّيطان؛ والله ورسوله منه بريء» ، وقد رجع أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب عن بعض المسائل ـ وهذا معروف في كتب الحديث والفقه ـ، وكثير من المسائل التي كان يفتي بها بعض الصّحابة لم يعمل بها في المذاهب الأربعة، وهي ثابتة عنهم بالنّقل الصّحيح؛ مثل: ما ثبت عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من جواز نكاح الرّجل ابنة زوجته إذا لم تكن في حجره؛ عملًا بظاهر القرآن، ومثل: ما ثبت ع نابن عباس وغيره من جواز نكاح المُتعة، وأنّه لم

ص: 233

يُنسَخ، وغير ذلك من المسائل التي يكول ذكرها؛ فلو خالف أحد شيئًا من هذه المسائل بدليل ظهر له؛ لم يكن منتقصًا لأحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا غيرهم؛ لأنّ الدّليل كما هو حجّة علينا؛ فهو حجّة على الصّحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ.

ولعلّ ابن حجر يومئ بكلامه هذا إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيميّة من أنّ الطّلاق الثّلاث إذا كان مجموعًا في كلمة واحدة؛ فلا يقع إلَّا طلقة واحدة، كما جاء ذلك في صحيح مسلم؛ ولفظه: كان الطّلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر: الثّلاث واحدة، حتى قال عمر:«إنّ النّاس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة؛ فلو أمضيناه عليهم؛ فأمضاه عليهم» ؛ فقال شيخ الإسلام ابن تيميّة عند هذا: إنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب فعل ذلك قبل أن يُفتح على النّاس باب التّحليل ـ الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعن فاعله، وسمّاه بالتّيس المستعار ـ، ولو كان يعلم ابن الخطّاب أنّ النّاس سيفعلون ذلك؛ ما أمرهم بوقوع الطّلاق ثلاثًا؛ وهذا مصداق ما قال بعض الصّحابة:«ما ضُيّعت سُنّة إلَّا وظهرت بدعة» ، وما زال أمر التّحليل يتفاقم حتى بلغ ما بلغ، وأقلّ مفاسده: التّعرّض للعنة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإفساد الزّوجة، وتغيير حكمة الشّرع التي شرع لها الزّواج، ومفاسد كثيرة جدًّا لا تحصى ـ ذكر بعضها الإمام ابن القيّم ـ؛ فلو بقي النّاس على ما كانوا في عهد نبيّهم صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر؛ لكان خيرًا لهم وأقوم، ولانسدّ عليهم باب مفاسد الحيل، التي كادت أن تُضيّع الدّين جملة، وقد أدخلوها في النّكاح، والصّلاة، والزّكاة، والصّوم، وفي أكل الرّبا والحقوق، وغير ذلك.

والحاصل: أنّ قول الله ورسوله مقدّم على رأي كلّ أحد من النّاس كائنًا مَن كان.

وأمّا من قوله: «حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس سبحانه وتعالى عن كلّ نقص، والمستحقّ لكلّ كمال ـ؛ فنسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته؛

ص: 234

بما أظهره للعامّة على المنابر من دعوى الجهة والتّجسيم، وتضليل مَن لم يعتقد ذلك من المتقدّمين والمتأخّرين؛ حتى قام علماء عصره وألزموا السّلطان قتله أو حبسه وقهره، إلى أن مات؛ وخمدت تلك البدع وزالت تلك الظّلمات» ! انتهى كلامه بحروفه.

وجوابه أن يُقال:

أولًا: سبحانك هذا بهتان عظيم! ومَن قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيميّة في التّوحيد وغيره؛ علم قطعًا براءته مما نَسب إليه هذا الكذّاب المعتدي ـ وهو ابن حجر ـ؛ فقد ردّ فيها على المجسّمة والمشبّهة، وليس فيها حرف واحد يشعر بما قاله وافتراه هذا الرّجل. نعم؛ قد أثبت لله سبحانه وتعالى أسمائه وصفاته التي ورد بها القرآن والسُّنّة من غير تأويل ولا تمثيل ولا تعطيل، فإن كان هذا تجسيمًا وإثبات جهة عند ابن حجر؛ فلا يختصّ به شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ لأنّه ليس أوّل مَن قال به؛ بل هذه الصّفات نزل بها القرآن العربيّ، وتكلّم بها النّبيّ الأُمّيّ في وسط أصحابه ـ الذين هم أعلم العرب باللّغة الفصيحة ـ، ونقلها عنهم خلف عن خلف، ولم يثبت عن أحد منهم أنّه أوّل شيئًا من ذلك؛ فهل كانوا في ذلك مجسّمين ومثبتين للجهة ومنتقصين ربّهم؟! فإن اعتقد ابن حجر فيهم ما اعتقده في شيخ الإسلام فهو أصل الضّلال وأجهل الجهّال، وإن كان يقول: ما كانوا يعتقدون ذلك؛ فقد خالف ما يشهد به النّقل والعقل وإجماع الأُمّة.

والحاصل: أنّ ردّه على شيخ الإسلام متضمن الرّدّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وتابعيهم والأئمّة المجتهدين ـ عرف ذلك أو جهله ـ، بل ردّ على الله سبحانه وتعالى: فأمّا ردّه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فلأنّه هو السّائل للجارية بقوله: «أين الله؟» ؛ فقالت: في السّماء؛ فقال لسيّدها ـ أي: مالكها ـ: «أعتقها؛ فإنّها مؤمنة» ، وهو القائل: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا

» الحديث

وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الصّفات؛ المفيدة أنّ الله في السّماء، وأنّه فوق العرش، وأنّه سبحانه وتعالى موصوف بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، والكيف في جميع ذلك غير

ص: 235

معقول. فهذا هو الذي كان عليه أئمّة سلفنا، وشيخ الإسلام لم يزد عليه؛ بل انتصر له، وردّ على مَن يخالفه ويتأوّله حتى وصف ربّه بصفات العدم المحض ـ فرارًا من التّجسيم بزعمه ـ! وألزمه أيضًا التّجسيم فيما أثبته لله ـ تعالى ـ من الصّفات ـ كالعلم والحياة والإرادة والسّمع والبصر والكلام (الذي ليس بحرف ولا صوت) ـ؛ لأنّ هذه الصّفات كما هي ثابتة لله عز وجل فهي ثابتة للمخلوقين.

فإن قال: علم الله ـ تعالى ـ ليس كعلمنا، ولا حياته كحياتنا، ولا إرادته ولا سمعه ولا بصره ولا كلامه

الجواب: قلنا له: كذلك استواؤه سبحانه وتعالى على عرشه ليس كاستوائنا، ولا نزوله، ولا وجهه، ولا عينه، ولا نفسه، ولا يداه، ولا قدمه، ولا ساقه، ولا إتيانه، ولا ضحكه، ولا رضاه، ولا غضبه، ولا فرحه، ولا تعجّبه، وأيّ فرق بين ما أثبته له وبين ما نقيته عنه من الصّفات التي ذكرناها، والثّابتة له ـ تعالى ـ بنصّ القرآن والسُّنّة الصّحيحة؛ فما هذه إلَّا مكابرة وتفريق من غير فرق.

والحاصل: أنّ الرّدّ على هؤلاء في مثل هذه المسائل يطول جدًّا، وقد أراحنا فيه أئمّتنا المتقدّمون والمتأخّرون ـ كأبي حنيفة في «الفقه الأكبر» ، ومالك، والشّافعيّ، وأحمد، وغيرهم؛ مثل: البخاريّ، وأهل الحديث كلّهم (رضوان الله تعالى عليهم) ، فمن بعدهم شيخ الإسلام ابن تيميّة، والحافظ ابن القيّم، وغيرهما من المتأخّرين ـ؛ جزاهم الله خيرًا.

ولشيخ الإسلام أن يتمثّل بقول بعضهم:

إن كان تجسيمًا ثبوتُ صفاتِهِ

فإنّي بحمد الله عبدٌ مجسّم

وما ضرّه أن يقول فيه ابن حجر ما قال إذا كان قد اقتفى فيما ذهب إليه سلفه الصّالح، فإن كان إثبات هذه الصّفات خرقًا لسياج عظمة الله ـ تعالى ـ وكبريائه، وأنّ ذلك من نسبة العظائم والكبائر ـ كما قاله هذا الجاهل بربّه ـ؛ فهو سبحانه وتعالى هو الذي وصف نفسه بنفسه؛ فقال ـ تعالى ـ:{الرحمن على العرش استوى} ـ في سورة طه ـ، وقال ـ تعالى ـ:{أأمنتم من في السماء} ـ في سورة تبارك ـ، وقال ـ تعالى ـ: {إليه يصعد الكلم

ص: 236

الطّيّب} ، وقال ـ تعالى ـ:{تعرج الملائكة والرّوح إليه} ، وقال:{هل ينظرون إلَّا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} ، وقال ـ تعالى ـ:{وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} ، وقال ـ تعالى ـ:{تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} ، وقال:{واصطنعتُك لنفسي} ، {ولتصنع على عيني} ، {يوم يكشف عن ساق} ، {بل عجبت ويسخرون} ، {الله يستهزئ بهم} ، {بل يداه مبسوطتان} ، {لما خلقتُ بيديّ} ، وغير ذلك من آيات الصّفات؛ فهل كلّ ذلك قاله الله ـ تعالى ـ أو ابن تيميّة؟! فإن كان الله ـ تعالى ـ هو الذي قاله؛ فأيّ لوم يلحق ابن تيميّة؟!

وأمّا قوله: «كان يقول ذلك على المنابر» .

فجوابه: إذا كان يقوله على الوجه الذي ذكرنا؛ فلا لوم عليه؛ فإنّه مأمور بتعليم العامّة دينهم ـ سيّما التّوحيد ـ، وإن كان يقوله على الوجه الذي ذكره ابن بطوطة في «رحلته» لما دخل دمشق؛ فهو كذب

ص: 237

وافتراء على الشّيخ؛ وكتبه على خلاف ذلك، وقد ردّ هذا وأنكر نسبته إلى الشّيخ ابن تيميّة الحافظ العينيّ ـ شارح البخاريّ ـ، وهو أعلم بمصنّفات شيخ الإسلام من ابن حجر بأضعاف، ولقرب عهده منه. وهذه الحكاية السّخيفة من نقل كذّاب عن كذّاب؛ فنعوذ بالله من حال مَن يخلق ما يقول.

والحاصل: أنّ هؤلاء الذين عطّلوا الله عن صفاته الخبريّة، وأوّلوها بآرائهم؛ فإنّهم أولًا شبّهوا ثم عطّلوا؛ لأنّهم ما عقلوا من هذه الصّفات إلَّا صفات المخلوفين؛ فلذلك نزّهوا الله عنها زعمًا منهم أنّ إثبات ذلك يُفضي إلى التّجسيم، وما دروا أنّ الله سبحانه وتعالى كما أنّ ذاته مخالفة للذّوات؛ فصفاته مخالفة للصّفات؛ فقالوا: إنّ إثبات صفة الكلام له ـ تعالى ـ يقضي أنّ له جارحة يتكلّم بها؛ لأنّه ما عهد كلام من غير جارحة، وغفلوا أنّ بعض المخلوقات قد تكلّمت من غير جارحة، كما أخبر الله عن السّماوات والأرض؛ إذ قال لها:{ائتيا طوعًا أو كرهًا} ؛ قالتا ـ السّماوات والأرض ـ: {أتينا طائعين} ، ومثل: تسبيح الحصى في كفّه صلى الله عليه وسلم، ومثل: شهادة الأعضاء على العباد يوم القيامة، وإخبار الأرض بما وقع عليها يوم القيامة أيضًا؛ فهل جميع ذلك كان لها لسان وفهم؟! كلَّا؛ فكيف بمَن هو على

ص: 238

كلّ شيء قدير؟! فيتكلّم كيف شاء ومتى شاء، وقد أرانا الله سبحانه وتعالى في الدُّنيا مثالًا؛ وهو الفوتوغراف؛ يتكلّم ويقرأ من غير لسان، وهو صنعة لبعض المخلوقين؛ فلله المثل الأعلى.

فلمّا لم يعقلوا كلامًا من غير جارحة؛ قالوا بالكلام النّفسيّ، ومنعوا أنّ الله سبحانه وتعالى يكون قد أسمع موسى كلامه؛ بل خلق الكلام في الشّجرة! وأنّه لم يتكلّم بهذا القرآن العربيّ الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه بأيدينا في مصاحفنا؛ وقالوا: هذا القرآن مدلول كلام الله أو عبارة أو حكاية! وأنّه يُطلق عليه كلام الله مجازًا لا حقيقة! ومنعوا أنّ الله ـ تعالى ـ يُسمِع كلامه بعض خلقه؛ كما روى ذلك البخاريّ في «صحيحه» ؛ عند تفسير قوله ـ تعالى ـ في سورة سبأ: {حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم} ، وكذلك سائر الصّفات منعوا إثباتها له ـ تعالى ـ؛ خوفًا من التّشبيه، وخفي عليهم ما قاله ابن عبّاس من أنّه: ليس شيء في الدّنيا يشبه ما في الجنة مما أعدّه الله لأوليائه المتّقين الصّالحين، إلَّا مجرّد الاشتراك في التّسمية. والحال: أنّ الله سبحانه وتعالى يقول ـ وهو أصدق القائلين ـ في وصف الجنّة: {فيهما فاكهة ونخل ورمّان} ، ومن المعلوم أنّ الدّنيا فيها نخل ورمّان، ولكن لما كان النّخل ليس كالنّخل الذي في الجنّة ولا الرّمّان كالرّمان؛ عُلم منه أنّه محض اشتراك في التّسمية فقط. والمقصود: أنّ هؤلاء لمّا حكّموا عقولهم في النّصوص الشّرعيّة وأوّلوها بأهوائهم؛ ضلّوا وأضلّوا، ولم ينفعهم قولهم:«إنّ خصومنا لا يمكن ردّهم إلَّا بأدِلّة العقل، وأمّا النّصوص السّمعيّة فلا تجدي معهم نفعًا» ؛ لأنّهم ـ في الحقيقة ـ لا للإسلام نصروا ولا لعدوهم كسروا؛ بل أوقعوا النّاس في الشّك والحيرة، ولو التزموا طريقة القرآن والسُّنّة؛ لكانوا هادين مهديّين، ناصرين للإسلام وأهله. فنسأله ـ تعالى ـ التّوفيق والعصمة.

وأمّا قول ابن حجر: «حتّى قام عليه بعض علماء زمانه؛ فكلّموا السّلطان في حبسه وقتله» .

فجوابه: هذا صحيح؛ وهذه سُنّة الله في حقّ كلّ مَن قام لله منتصرًا؛ لأجل أن يجعل له أسوة بالأنبياء والرّسل ـ صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ـ؛ لأنّ

ص: 239

العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال سبحانه وتعالى:{وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا} ، وقال ـ تعالى ـ:{وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا من المجرمين} . والحاصل: أنّ عداوة أهل الجهل للعلماء معروفة، لا ينكرها أحد؛ فلو أقنعوه بالحُجج والبراهين النّقليّة والعقليّة؛ لأرضوا بفعلهم ربّهم والنّاس أجمعين، ولكن من أين لهم علم يقاومون به هذا الطّود العظيم؛ فلما عجزوا عن مناظرته أمام السّلطان في مصر؛ أخذوا يسعون في أذاه، ويُغرون به الملوك والأمراء؛ فكان له في ذلك أجر وعليهم وزر، وعند الله تجتمع الخصوم.

وأمّا كونه مات في السّجن؛ فلا عجب، وكم من إمام حُبس في السّجن حتى مات، وهل أحد أُوذي في الله مثل أهل العلم؟! تأمّل في التّاريخ؛ تجد ما وقع للأئمّة المجتهدين وأهل البيت وغيرهم. فالشّيخ أراد الله ـ تعالى ـ له أن ينظمه في سلك الذين أُوذوا فيه وصبروا؛ ليوفيهم أجرهم بغير حساب.

وأمّا قوله: «ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأسًا، ولم يُظهر لهم جاهًا ولا بأسًا؛ بل ضربت عليهم الذّلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» !

فجوابه أن يُقال: قد ردّ الله ـ تعالى ـ هذا الكلام على قائله. وأمّا أتباع شيخ الإسلام؛ فقد أعلى الله ـ تعالى ـ قدرهم، ورفع ذكرهم، وانقاد النّاس لهم؛ حتى صاروا يهتفون ويترنمون في المجالس بذكرهم، ويفتخرون بالانتساب إليهم، وحقّق الله لهم ما قاله فيهم، وأنجز لهم وعده؛ حيث قال:{وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين} ، وقوله:{فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين} ؛ فكانت العاقبة لهم؛ بأن نشر كتبهم في الآفاق، وانتفع بها الخاصّ والعامّ من كلّ جنس، حتى النّصارى واليهود على اختلاف مللهم؛ فطُبعت في بلادهم، فضلًا عن بلدان أهل الإسلام من كلّ جنس ومذهب، وعكف النّاس عليها قراءة وتدريسًا وكتابة، وتبيّن لهم أنّها هي كتب الدّين الصّحيح، وشواهد الحال تشهد بما قلناه؛ فليخسأ هذا المعترض!

ومن طالع كتاب «سجل أم القرى» الذي

ص: 240

ألّفه السّيد عبد الرحمن الكواكبيّ؛ يعلم صدق ما قلناه، ولله الحمد في الأولى والآخرة.

فصل

ولا يظنّ ظانّ أنّ ما عليه أهل النّفي والتّعطيل هو ما كان عليه الإمام أبو الحسن الأشعريّ ـ رحمه الله تعالى ـ، كما يقولونه. نعم؛ كان عليه في أوّل أمره، ثم رجع عنه؛ وألّف كتابه «الإبانة عن أصول الدّيانة» ؛ أثبت فيها جميع الصّفات التي ورد بها القرآن والسُّنّة، ووافق فيها أهل الحديث؛ حتى قال فيها: إنّ فرعون كان أحسن معرفة بربّه من هؤلاء النّفاة؛ فقال: {يا هامان ابن لي صرحًا} الآية؛ وهذا دليل على أنّ موسى ـ صلوات الله عليه ـ كان يقول: إنّ إلهي في السّماء. وقد طُبِعَ هذا الكتاب بالهند مع «الفقه الأكبر» للإمام أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه ـ.

والحاصل: أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم يأتِ منكرًا من القول وزورًا؛ بل وافق في معتقده ما كان عليه سلفنا الصّالح، ومَن طالع مصنّفاته في التّوحيد وغيره، وطالع كتاب «العُلُوّ» لشمس الدّين الذّهبيّ، وكتاب «خلق أفعال العباد» للإمام البخاريّ، و «شرح السُّنّة» للإمام البغويّ، و «الأسماء والصّفات» للإمام البيهقيّ؛ علم قطعًا أنّه لم

ص: 241

يخرج عن اعتقاد السّلف قيد شبر، وأمّا مخالفوه؛ فهم شاهدون على أنفسهم بأنّهم لم يتبعوا فيما اعتقدوه الكتاب والسُّنّة؛ بل قالوا: إنّ فيهما ما ظاهره كفر! ولهذا ذهبوا يؤوّلون ويحرّفون كلّ صفة أثبتها الله ـ تعالى ـ لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بما أدّتهم إليه عقولهم؛ فمَن أحقّ بالتّضليل والابتداع: الذي يُحكّم الدّليل السّمعيّ في أصول الدّين وفروعه، أم الذي يعتقد أنّ نصوص الكتاب والسُّنّة منها ما ظاهره كفر! ويأخذ يبتدع له عقائد على حسب رأيه وهواه؟! فنعوذ بالله ـ تعالى ـ من اتّباع الهوى ودرك الشّقاء، ونسأله ـ تعالى ـ أن يرزقنا التّقوى، ويجنبن طرق الردى، آمين.

ص: 242