الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فليخبرنا: ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل! يا زيلعي! يا ابن علوان! يا فلان! يا فلان! وهل ينكر هذا منكر، أو يشكّ فيه شاكّ؟! وما عدا ديار اليمن؛ فالأمر فيها أطمّ [وأعظم] وأعمّ! ففي كل قرية ميّت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى أنّهم في حرم الله ينادون: يا ابن عبّاس! يا محجوب! فما ظنّك بغير ذلك؟! فلقد تلطّف إبليس وجنوده ـ أخزاهم الله ـ لغالب أهل الملّة الإسلاميّة بلطفية تزلزل الأقدام عن الإسلام؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
أين مَن يعقل معنى {إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} ، {فلا تدعوا مع الله أحدًا} ، {له دعوة الحقّ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} ؟! وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنّ الدُّعاء عبادة في محكم كتابه؛ بقوله ـ تعالى ـ:{ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين} ، وأخرج أبو داود والتّرمذي ـ وقال:«حسن صحيح» ـ، من حديث النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ
الدعاء هو العبادة»
، وفي رواية:«مخّ العبادة» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة.
وأخرج [أيضًا] النّسائيّ وابن ماجه والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة باللفظ
المذكور.
وكذلك النّحر للأموات عبادة لهم، والنّذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتّعظيم عبادة لهم، كما أنّ النّحر للنّسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومَن زعم أنّ ثمّ فرقًا بين الأمرين؛ فليهده إلينا!
ومَن قال: إنّه لم يقصد بدعاء الأموات والنّحر لهم والنّذر عليهم عبادتَهم؛ فقل له: فلأيّ مقتضى صنعتَ هذا الصّنيع؟! فإنّ دعاءك للميّت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبّر عنه لسانك؛ فإن كنتَ تهذي نزول بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم؛ فأنتَ مصاب بعقلك!
وهكذا إن كنتَ تنحر لله؛ فلأيّ معنى جعلتَ ذلك للميّت، وحملتَه إلى قبره؟! فإنّ الفقراء على ظهر البسيطة في كلّ بقعة من بقاع الأرض! وفعلك وأنتَ عاقل لا يكون إلَّا لمقصد قد قصدتَه، أو أمر قد أردتَه؛ وإلا فأنتَ مجنون قد رُفِعَ عنك القلم! ولا نوافقك على دعوى الجنون إلَّا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين؛ فإن كنتَ تصدرها مصدر أفعال العقلاء؛ فأنتَ تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه؛ فرارًا عن أن يلزمك ما لزم عبّاد [الأصنام و] الأوثان الذين حكى عنهم الله في كتابه العزيز ما حكاه بقوله:{وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} ، وبقوله:{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبًا ممّا رزقناهم تالله لتسألنّ عمّا كنتم تفترون} .
فإن قلتَ: إنّ المشركين كانوا لا يقرّون بكلمة التّوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرّون بها!
قلتُ: هؤلاء إنّما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم؛ فإنّ مَن استغاث بالأموات،
أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ سبحانه ـ، أو عظّمهم، أو نذر عليهم بجزء من ماله، أو نحر لهم؛ فقد نزّلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال؛ فهو لم يعتقد معنى (لا إله إلَّا الله) ، ولا عمل بها؛ بل خالفها اعتقادًا وعملًا؛ فهو في قوله (لا إله إلَّا الله) كاذب على نفسه؛ فإنّه قد جعل إلهًا غير الله يعتقد أنّه يضرّ وينفع، وعبده بدعائه عند الشّدائد، والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إيّاه، ونحر له النّحائر، وقرّب إليه نفائس الأموال، وليس مجرّد قوله (لا إله إلَّا الله) من دون عمل بمعناها مثبتًا للإسلام؛ فإنّه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلامًا.
فإن قلتَ: قد أخرج أحمد بن حنبل والشّافعي في «مُسندَيهما» ، من حديث عبيد الله بن عديّ بن الخيار، أنّ رجلًا من الأنصار حدّثه أنّ رجلًا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه؛ فسارّه ييستأذنه في قتل رجل من المنافقين؛ فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أليس يشهد أن لا إله إلَّا الله؟» ؛ قال الأنصاريّ: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له! قال:«أليس يشهد أنّ محمّدًا رسول الله؟» ؛ قال: بلى، ولكن لا شهادة له! قال:«أليس يصلّي؟» ؛ قال: بلى، ولا صلاة له!
قال: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» .
وفي «الصّحيحين» ، من حديث أبي سعيد، في قصة الرّجل الذي قال: يا رسول الله؛ اتّق الله. وفيه: فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله؛ ألا أضرب عنقه؟ فقال: «لا؛ لعلّه أن يكون يصلّي» ؛ فقال خالد: كم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لم أومر أن أنقّب عن قلوب الناس ولا أشقّ قلوبهم» .
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة ابن زيد رضي الله عنه، لمّا قتل رجلًا من الكفّار بعد أن قال (لا إله إلَّا الله) ؛ فقال له صلى الله عليه وسلم:«فما تصنع بـ (لا إله إلَّا الله) ؟» ؛ فقال: يا رسول الله؛ إنّما قالها تقيّة! [فقال: «هل شققتَ عن قلبه؟» . هذا معنى الحديث] ، وهو في «الصّحيح» .
قلتُ: ولا شكّ أنّ مَن قال (لا إله إلَّا الله) ، ولم يتبيّن من أفعاله ما يخالف معنى التّوحيد؛ فهو مسلم محقون الدّم والمال، إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة [في
حديث] : «أُمرتُ أن أقاتل النّاس حتى يقولوا (لا إله إلَّا الله) ، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، ويحجّوا البيت، ويصوموا رمضان» ، وهكذا مَن قال (لا إله إلَّا الله) متشهدًا بها شهادة الإسلام ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام؛ فالواجب حمله على الإسلام؛ [عملًا] بما أقرّ به لسانه، وأخبر به مَن أراد قتاله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد ما قال.
وأمّا مَن تكلّم بكلمة التّوحيد، وفعل أفعالًا تخالف التّوحيد ـ كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات ـ؛ فلا ريب أنّه قد تبيّن من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتّوحيد.
ولو كان مجرّد التّكلّم بكلمة التّوحيد موجبًا للدخول في الإسلام والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلّم بها ما يطابق التّوحيد أو يخالفه؛ لكانت نافعة لليهود مع أنّهم يقولون: عزير ابن الله، وللنّصارى مع أنّهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنّهم يكذّبون بالدِّين ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثّلاث يتكلمون بكلمة التّوحيد! بل لم تنفع الخوارج ـ فإنّهم من أكمل النّاس توحيدًا وأكثرهم عبادة ـ؛ وهم كلاب النّار، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم، مع أنّهم لم يشركوا [بالله، ولا خالفوا معنى (لا إله إلَّا الله) ؛ بل وحّدوا الله توحيده، وكذلك المانعون الزّكاة هم موحّدون لم يشركوا]، ولكنّهم تركوا ركنًا من أركان الإسلام؛ ولهذا أجمعت الصّحابة رضي الله عنهم على قتالهم؛ بل دلّ الدّليل الصّحيح المتواتر على ذلك؛ وهو الأحاديث الواردة بألفاظ؛ منها:«أُمرتُ أن أقاتل النّاس حتى يقولوا (لا إله إلَّا الله) ، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، ويحجّوا البيت، ويصوموا رمضان؛ فإذا فعلوا ذلك؛ فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلَّا بحقّها» ؛
فمَن ترك أحد هذه الخمسة؛ لم يكن معصوم الدّم ولا المال، وأعظم من ذلك: تارك معنى التّوحيد، أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال. اهـ.
فإن قلتَ: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأنّ ما يفعلونه شرك؛ بل لو عُرض أحدهم على السّيف لم يقرّ بأنّه مشرك بالله، ولا فاعل لما هو شرك، ولو علم أدنى علم أنّ ذلك شرك لم يفعله!
قلتُ: الأمر كما قلتَ، ولكنّ الأمر لا يخفى عليك، كما تقرّر في أسباب الرّدّة: أنّه لا يُعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله مَن جاء بلفظ كفريّ أو فعل فعلًا كفريًّا.
وعلى كل حال؛ فالواجب على من اطّلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتّصف بها المعتقدون في الأموات: أن يبلّغهم الحُجّة الشّرعيّة، ويبيّن لهم ما أمره الله بيانه، وأخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه؛ كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز؛ فيقول لمَن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث بهم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النّذور، وينحر لهم النّحور، ويعظّمهم تعظيم الرّبّ ـ سبحانه ـ: إنّ هذا الذي يفعلونه هو الشّرك الذي كانت عليه الجاهليّة، وهو الذي بعث الله رسوله بهدمه، وأنزل كتبه في ذمّه، وأخذ على النّبيّين أن يبلغوا عباده أنّهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التّوحيد ويعبدوه وحده؛ فإذا علموا بهذا علمًا لا يبقى معه شكّ ولا شبهة، ثم أصرّوا على ما هم فيه من الطّغيان والكفر بالرحمن؛ وجب عليه أن يخبرهم بأنّهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهداية؛ فقد حلّت دماؤهم وأموالهم، فإن رجعوا؛ وإلّا فالسّيف هو الحكم العدل؛ كما نطق به الكتاب والسُّنّة في إخوانهم من المشركين!
فإن قلتَ: فقد ورد الحديث الصّحيح بأنّ الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه
ويستغيثونه به، ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمّدا صلى الله عليه وسلم.
قلتُ: أهل المحشر إنّما يأتون هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله ـ سبحانه ـ ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف. وهذا جائز؛ فإنّه مَن طلب الشّفاعة والدُّعاء المأذون فيهما؛ وقد كان الصّحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم؛ كما في الحديث: «يا رسول الله؛ ادعُ الله أن يجعلني منهم» ـ لمّا أخبرهم بأنّه يدخل الجنّة سبعون ألف ـ، وحديث:«سبقك بها عكّاشة» ، وقول أم سليم:«يا رسول الله؛ [خادمك أنس، ادعُ الله له» ، وقول المرأة التي كانت تُصره:«يا رسول الله؛] ادعُ الله لي» ، [وآخر الأمر] سألته الدُّعاء بأن لا تنكشف عند الصّرع؛ فدعا لها. ومنه: إرشاده صلى الله عليه وسلم لجماعة من الصّحابة بأن يطلبوا الدُّعاء من أويس القرنيّ
[الدُّعاء] إذا أدركوه. ومنه: ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، وغير ذلك مما لا يحصر، حتى إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر ـ لمّا خرج معتمرًا ـ:«لا تنسني يا أخيّ من دعائك» .
فمَن جاء إلى رجل صالح واستمدّ منه أن يدعو له؛ فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات؛ بل هو سُنّة حسنة، وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشّفاعة ممّن جاءت الشّريعة المطهرة بأنّه من أهلها ـ كالأنبياء ـ؛ ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة:«سَل تُعطه، واشْفع تُشفّع» ، وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به؛ كما في كتابه العزيز.
والحاصل: أنّ طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها، ومن ذلك: الدُّعاء؛ فإنّه يجوز استمداده من كلّ مسلم ـ بل يحسن ذلك ـ، وكذلك الشّفاعة من أهلها الذين ورد الشّرع بأنّهم يشفعون.
ولكن ينبغي أن يعلم [أنّ] دعاء مَن يدعو له لا ينفع إلَّا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك [شفاعة] مَن يشفع لا تكون إلَّا بإذن الله ـ كما ورد بذلك القرآن العظيم ـ؛ فهذا تقييد للمطلق، لا ينبغي العدول عنه بحال.
واعلم أنّ من الشّبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات: أنّهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهليّة؛ لأنّهم إنّما يعتقدون في الأولياء والصّالحين، وأولئك
اعتقدوا في الأوثان والشّياطين!
وهذه الشّبهة داحضة، تنادي على صاحبها بالجهل؛ فإنّ الله ـ سبحانه ـ لم يعذر مَن اعتقد في عيسى عليه السلام، وهو نبيّ من الأنبياء؛ بل خاطب النّصارى بتلك الخطابات القرآنيّة؛ ومنها:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلَّا الحقّ إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله} ، وقال لمن كان يعبد الملائكة:{ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم} ، ولا شكّ أنّ عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصّالحين الذين صار هؤلاء القبوريّون يعتقدونهم ويغلون في شأنهم، مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكرم الخلق على الله، وسيّد ولد آدم؛ وقد نهى أُمّته أن يغلو فيه كما غلت النّصارى في عيسى [عليه السلام] ، ولم يتمثلوا [أمره، ولم يمتثلوا] ما ذكره الله في كتابه العزيز من قوله: {ليس لكَ من الأمر شيء} ، ومن قوله:{وما أدراك ما يوم الدِّين * ثمّ ما أدراك ما يوم الدِّين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} ، وما حكاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وما قاله صلى الله عليه وسلم لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله:{وأنذر عشيرتك الأقربين} ؛ فقام داعيًا لهم ومخاطبًا لكلّ واحد منهم؛ قائلًا: «يا فلان بن فلان؛ لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فلانة بنت فلان؛ لا أغني عنكِ شيئًا. يا بني فلان؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا» .
فانظر ـ رحمك الله ـ ما وقع من كثير من هذه الأُمّة من الغُلُوّ المنهيّ عنه، المخالف لما في كتاب الله وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما يقول صاحب «البردة» ـ رحمه الله تعالى ـ ما
نصّ هذا البيت:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذُ به
…
سواكَ عند حلول الحادث العمم!
فانظر كيف نفى كلّ ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وغفل عن ذكر ربّه وربّ نبيّه؛ إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وهذا باب واسع، قد تلاعب الشّيطان بجماعة من أهل الإسلام؛ حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشّرك في أبواب بكثير من الأسباب؛ ومن ذلك: قول مَن يقول مخاطبًا لابن العجيل:
هات لي منك يا ابن موسى إغاثة
…
عاجلًا في سيرها حثاثة!
فهذا محض الاستغاثة ـ التي لا تصلح لغير الله ـ لميّت من الأموات قد صار تحت أطباق الثّرى منذ مئين من السّنين! ويغلب على الظنّ أنّ مثل هذا البيت والبيت الذي قبله؛ إنّما وقعا من قائليهما لغفلة وعدم تيقّظ، ولا مقصد لهما إلَّا تعظيم جانب النّبوّة والولاية، ولو نُبّها لتنبّها ورجعا وأقرّا بالخطأ، وكثيرًا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة؛ وقد سمعنا ورأينا.
فمَن وقف على [شيء من] هذا الجنس لحيّ من الأحياء؛ فعليه إيقاظه بالحُجَج الشّرعيّة؛ فإن رجع؛ وإلَّا كان الأمر فيه كما أسلفناه. وأمّا إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثّرى؛ فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل، وقد وقع في
«البردة» و «الهمزيّة» شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضا لمَن تصدّى لمدح نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ولمدح الصّالحين والأئمّة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلّق بالاستكثار منه فائدة؛ فليس المراد إلَّا التّنبيه والتّحذير لمَن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد؛ {وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين} ، {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنتَ الوهّاب} .
واعلم أنّ ما حرّرناه وقرّرناه من أنّ كثيرًا ممّا يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركًا قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفيًّا في نفسه؛ بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير وشبّ [عليه] الصّغير، وهو يرى ذلك [ويسمعه] ، ولا [يرى ولا] يسمع مَن ينكره، بل ربّما يسمع مَن يُرغّب فيه ويندب النّاس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشّيطان للنّاس من قضاء حوائج مَن قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة وللعامّة فيهم اعتقاد، وربّما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون النّاس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميّت؛ ليستجلبوا منهم النّذور، ويستدرّوا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النّحائر، ويستخرجوا من عوامّ النّاس ما يعود عليهم وعلى مَن يعولونه، ويجعلوا ذلك مكسبًا ومعاشًا، وربّما يهوّلون على الزّائر لذلك الميّت بتهويلات، ويجمّلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون في المشهد الشّموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجمّ؛ فينبهر الزّائر ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القُرب من الميّت، والتّمسّح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات، ونجاح الطّلبات! مع خضوعهم واستكانتهم، وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف النّحائر! فبمجموع هذه الأمور، مع تطاول الأزمنة وانقراض القرن بعد القرن؛ يظنّ الإنسان ـ في مبادئ عمره وأوائل أيّامه ـ أنّ ذلك من أعظم القربات وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلّمه من العلم بعد ذلك؛ بل يذهل عن كلّ حُجّة شرعيّة تدلّ على أنّ هذا هو الشّرك بعينه،
وإذا سمع مَن يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه؛ لأنّه يبعد كلّ البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد
عن شيء يعتقده من أعظم الطّاعات إلى كونه من أقبح المقبّحات وأكبر المحرّمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف ودبّ فيه الأخلاف، وتعاودته العصور وتناوبته الدّهور، وهكذا كلّ شيء يقلّد النّاس فيه أسلافهم، ويحكّمون العادات المستمرة، وبهذه الذّريعة الشّيطانية، والوسيلة الطّاغوتية بقى المشرك من الجاهليّة على شركه، واليهوديّ على يهوديّته، والنّصراني على نصرانيّته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وتبدّلت الأُمّة بكثير من المسائل الشّرعية غيرها، وألفوا ذلك، وتمرّنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، ووأنسوا إليه حتى لو أراد مَن يتصدّى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشّرعيّة البيضاء النّقيّة التي تبدّلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طباعهم، ونالوا ذلك المرشد بكلّ مكروه، ومزّقوا عرضه بكلّ لسان، وهذا كثير [جدًّا] موجود في كلّ فرقة من الفرق، لا ينكره إلَّا مَن هو عنهم في غفلة.
وانظر ـ إن كنتَ ممّن يعتبر ـ ما ابتليت به هذه الأُمّة من التّقليد للأموات في دين الله؛ حتى صارت كلّ طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين، ولا تقبل قول غيره ولا ترضى به، وليتها وقفت عند عدم القبول والرّضا؛ لكنّها تجاوزت ذلك إلى الحطّ على سائر علماء المسلمين، والوضع من شأنهم، وتضليلهم وتبديعهم والتنفير عنهم، ثم تجاوزوا ذلك إلى التّفسيق والتّكفير، ثم زاد الشّرّ حتى صار أهل كلّ مذهب كأهل ملّة مستقلّة لهم نبيّ مستقلّ ـ وهو ذلك العالم الذي قلّدوه ـ! فليس الشّرع إلَّا ما قال به دون غيره، وبالغوا وغلوا؛ فجعلوا قوله مقدمًا على قول الله ورسوله! وهل بعد هذه الفتنة والمحنة شيء من الفتن والمحن؟!
فإن أنكرتَ هذا؛ فهؤلاء المقلّدون على ظهر البسيطة قد ملئوا الأقطار الإسلاميّة؛ فاعمد إلى أهل كلّ مذهب؛ وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم هي مخالفة لكتاب الله أو لسُنّة رسوله، ثم أرشدهم إلى الرّجوع عنها إلى ما قال الله ورسوله؛ وانظر بماذا يجيبونك! فما أظنّك تنجو من شرّهم، ولا تأمن من مضرّتهم، وقد يستحلّون لذلك دمك ومالك! وأورعهم يستحلّ
عرضك وعقوبتك!
وهذا يكفيك ـ إن كان لك فطرة سليمة، وفكرة مستقيمة ـ! فانظر كيف خصّوا بعض علماء المسلمين واقتدوا بهم في مسائل الدّين، ورفضوا الباقين، بل جاوزوا هذا إلى أنّ الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأُمّة، وأنّ الحُجّة قائمة بهم! مع أنّ في عصر كلّ واحد منهم مَن هو أكثر علمًا منه، فضلًا عن العصر المتقدّم على عصره والعصر المتأخّر عن عصره؛ وهذا يعرفه كلّ من يعرف أحوال الناس. ثم تجاوزوا في ذلك إلى أنّه: لا اجتهاد لغيرهم؛ بل هل مقصور عليهم؛ فكأنّ هذه الشّريعة كانت لهم لا حظّ لغيرهم فيها، ولم يتفضل الله على عباده بما تفضّل عليهم، وكل [عالم] عاقل يعلم أنّ هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمّة ـ رحمهم الله تعالى ـ إن كانت باعتبار كثرة علمهم وزيادته على علم غيرهم؛ فهذا مدفوع عند كلّ مَن له اطّلاع على أحوالهم وأحوال غيرهم؛ فكيف بمَن لم يكن من أتباعهم من المعاصرين لهم والمتقدّمين عليهم والمتأخّرين عنهم؟!
[وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة؛ فالأمر كما تقدّم؛ فإنّ في معاصريهم والمتقدّمين عليهم والمتأخّرين عنهم] مَن هو أكثر عبادة وورعًا منهم؛ لا ينكر هذا إلَّا مَن لم يعرف تراجم الناس بكتب التّواريخ.
[وإن كانت تلك المزايا بتقدّم عصورهم؛ فالصّحابة رضي الله عنهم والتّابعون أقدم منهم عصرًا بلا خلاف، وهم أحقّ بهذه المزايا ممّن بعدهم؛ لحديث: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ] .
وإن كانت تلك المزايا لأمر عقليّ؛ فما هو؟ أو لأمر شرعي؛ فأين هو؟ ولا ننكر أنّ الله قد جعلهم بمحلّ من العلم والورع وصلابة الدِّين، وأنّهم من أهل السّبق في
الفضائل والفواضل، ولكنّ الشّأن في المتعصّب لهم من أتباعهم القائل: إنّه لا يجوز تقليد غيرهم، ولا يعتدّ بخلافه إن خالف، ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تقليدهم ـ وإن كان عارفًا بكتاب الله وسُنّة رسوله، قادرًا على العمل بما فيهما، متمكّنًا من استخراج المسائل الشّرعيّة منهما ـ! فلم يكن مقصودنا إلَّا التّعجّب لمَن كان له عقل صحيح وفكر رجيح، وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون للأموات، وأنّه لا يغترّ العاقل بالكثرة وطول المهلة مع الغفلة؛ فإنّ ذلك لو كان دليلًا على الحقّ؛ لكان ما زعمه المقلّدون المذكورون حقًّا، [ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقًّا] ! وهذا عارض من القول أوردناه للتّمثيل، ولم يكن من مقصودنا.
والذي نحن بصدده هو أّنه: إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقرّرناه في حكم المعتقدين للأموات؛ لسبب من أسباب الخفاء التي قدّمنا ذكرها، ولم يتعقّل ما سقناه من الحُجَج البرهانيّة القرآنيّة والعقليّة؛ فينبغي أن تسأله: ما هو الشرك؟
فإن قال: هو أن تتخذ مع الله إلهًا آخر، كما كانت الجاهليّة تتخذ الأصنام آلهة مع الله ـ سبحانه ـ.
قيل [له] : وماذا كانت الجاهليّة تصنعه لهذه الأصنام التي اتّخذوها حتى صاروا مشركين؟
فإن قال: كانوا يعظّمونها، ويقرّبون لها، ويستغيثون بها، وينادونها عند الحاجات، وينحرون لها النّحائر، ونحو ذلك من الأفعال الدّاخلة في مسمّى العبادة.
فقل له: لأيّ شيء كانوا يفعلون لها ذلك؟
فإن قال: لكونها الخالقة الرّازقة أو المحيية أو المميتة؛ فاقرأ [عليه] ما قدّمنا لك من البراهين القرآنيّة؛ المصرّحة بأنّهم مقرّون بأنّ الله الخالق الرّازق المحيي المميت، وأنّهم إنّما عبدوها لتقرّبهم إلى الله زلفى، وقالوا: هم شفعاؤهم عند الله، ولم يعبدوها لغير ذلك؛ فإنّه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أنّ كلام الله حقّ. وبعد أن
يوافقك أوضح له أنّ المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصّفة التي قرّرناها وكرّرناها في هذه الرّسالة؛ فإنه إن بقى فيه بقيّة من إنصاف وبارقة من علم وحصّة من عقل؛ فهو ـ لا محالة ـ يوافقك، وتنجلي عنه الغمرة، وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة، ويعترف بأنّه كان في حجاب عن معنى التّوحيد الذي جاءت به السُّنّة والكتاب.
فإن زاغ عن الحقّ وكابر وجادل في مكابرته ومجادلته بشيء من الشّبه؛ فادفعه بالدّفع الذي قد ذكرناه فيما سبق؛ فإنّا لم ندع شبهة يمكن أن يدّعيها مدع إلَّا وقد أوضحنا أمرها، وإن لم يأت بشيء في جداله ـ بل اقتصر على مجرّد الخصام والدّفع المجرّد لما أوردته عليه من الكلام ـ؛ فاعدل معه عن حُجّة اللّسان بالبرهان والقرآن إلى محجّة السّيف والسّنان؛ فآخر الدّواء الكي! هذا إذا لم يمكن دفعه بما [هو] دون ذلك من الضّرب والحبس والتّعزير؛ فإن أمكن وجب تقديم الأخفّ على الأغلظ؛ عملًا بقوله ـ تعالى ـ:{فقولا له قولًا ليّنًا لعلّه يتذكّر أو يخشى} وبقوله ـ تعالى ـ: {ادفع بالتي هي أحسن} .
ومن جملة الشّبه التي عرضت لبعض أهل العلم: ما جزم به السّيّد العلّامة محمّد بن إسماعيل الأمير ـ رحمه الله تعالى ـ في شرحه لأبياته التي يقول في أولها:
رجعتُ عن النّظم الذي قلتُ في النّجديّ
فإنّه قال: إنّ كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العمليّ لا الكفر الجحوديّ، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة ـ كما ورد في الأحاديث الصّحيحة ـ، وكفر تارك الحجّ ـ كما في قوله (تعالى) :{ومَن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين} ـ، وكفر مَن لم يحكم بما أنزل الله ـ كما في قوله (تعالى) :{ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ـ، ونحو ذلك من الأدِلّة الواردة فيمَن زنى، وفيمَن سرق، ومَن أتى امرأة حائضًا، أو امرأة في دبرها، أو أتى كاهنًا أو عرّافًا، أو قال لأخيه: يا كافر. قال: فهذه الأنواع من الكفر ـ وإن أطلقها الشّارع على فعل هذه الكبائر ـ فإنّه لا يخرج به العبد عن الإيمان ويفارق به الملّة ويباح به دمه وماله وأهله ـ كما ظنّه من لم يفرق بين الكفرين و [لم يميّز] بين الأمرين ـ، وذكر ما عقده البخاريّ في «صحيحه» من كتاب الإيمان في:«كفر دون كفر» ، وما قاله العلّامة ابن القيّم: إنّ الحكم بغير ما أنزل الله
وترك الصّلاة من الكفر العمليّ؛ وتحقيقه: أنّ الكفر: كفر عمل وكفر جحود وعناد؛ فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أنّ الرّسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا؛ فهذا الكفر يضادّ الإيمان من كلّ وجه، وأمّا كفر العمل فهو نوعان: نوع يضادّ الإيمان، ونوع لا يضادّه. ثم نقل عن ابن القيّم كلامًا في هذا المعنى، ثم قال السّيد المذكور:
قلتُ: ومن هذا ـ يعني: الكفر العمليّ ـ: مَن يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشّدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبّل جداراتها، وينذر لها بشيء من ماله؛ فإنّه كفر عمليّ لا اعتقاديّ؛ فإنّه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر، لكن زيّن له الشّيطان أنّ هؤلاء عباد الله الصّالحين ينفعون ويشفعون ويضرّون؛ فاعتقدوا ذلك كما اعتقده أهل الجاهليّة في الأصنام، لكنّ هؤلاء مثبتون التّوحيد لله، لا يجعلون الأولياء آلهة، كما قاله الكفار إنكارًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا دعاهم إلى كلمة التّوحيد:{أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} ؛ فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة؛ فقالوا في التّلبية: «لبّيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك» ؛ [فأثبتوا للأصنام شركة مع ربّ الأنام، وإن كانت عباراتهم الضالّة قد أفادت أنّه لا شريك له] ؛لأنّه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له ـ تعالى ـ؛ بل هو مملوك؛ فعبّاد الأصنام الذين جعلوا لله أندادًا واتّخذوا من دونه شركاء ـ وتارة يقولون: شفعاء ـ يقرّبونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النّفع والضّرّ؛ فإنّهم مقرّون لله بالوحدانيّة وإفراده بالإلهيّة، وصدّقوا رسله؛ فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد. فالواجب:
وعظهم وتعريفهم جهلَهم وزجرهم ولو بالتعزير؛ كما أُمرنا بحدّ الزّاني وشارب الخمر والسّارق من أهل الكفر العمليّ.
إلى أن قال: فهذه كلّها قبائح محرّمة من أعمال الجاهليّة؛ فهو من الكفر العمليّ، وقد ثبت أنّ هذه الأُمّة تفعل أمورًا من أمور الجاهليّة هي من الكفر العمليّ؛ كحديث:«أربع من أُمّتي من أمر الجاهليّة لا يتركوهنّ: الفخر في الأحساب، والطّعن في الأنساب، والاستسقاء بالنّجوم، والنّياحة» ، أخرجه مسلم في «صحيحه» ، من حديث أبي مالك الأشعريّ. فهذه من الكفر العمليّ، لا تخرج بها الأُمة عن الملّة؛ بل هم ـ مع إتيانهم بهذه الخصلة الجاهليّة ـ أضافهم إلى نفسه؛ فقال:«من أُمّتي» .
فإن قلتَ: [أهل] الجاهليّة تقول في أصنامها: إنّهم يقرّبونهم إلى الله زلفى، ـ كما يقوله القبوريّون ـ، {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ـ كما يقوله القبوريّون ـ.
قلتُ: لا سواء؛ فإنّ القبوريّين مثبتون التّوحيد لله، قائلون إنّه (لا إله إلَّا هو)، ولو ضربت عنقه على أن يقول: إن الوليّ إله مع الله؛ لما قالها؛ بل عنده اعتقاد جهل أنّ الوليّ لمّا أطاع الله كان له بطاعته عنده جاه به تقبل شفاعته ويرجى نفعه، لا أنّه إله مع الله، بخلاف الوثنيّ؛ فإنّه امتنع عن قول (لا إله إلَّا الله) حتى ضربت عنقه، زاعمًا أنّ وثنه إله مع الله، ويسميه ربًّا وإلهًا؛ [قال يوسف عليه السلام:{أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهار} ؛ سمّاهم (أربابًا) ؛ لأنّهم كانوا يسمّونهم بذلك؛ كما قال الخليل: {هذا ربّي} في الثّلاث الآيات؛ مستفهمًا لهم مبكّتًا متكلّمًا على خطابهم
حيث يسمّون الكواكب أربابًا، وقالوا:{أجعل الآلهة إلهًا واحدا} ، وقال [قوم] إبراهيم:{مَن فعل هذا بآلهتنا} ، {أانت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} ، وقال إبراهيم:{أإفكًا آلهة دون الله تريدون} .
ومن هنا يُعلم أنّ الكفار غير مقرّين بتوحيد الإلهيّة والربوبيّة؛ كما توهّمه من توهّم من قوله: {ولئن سألتهم مَن خلقهم ليقولنّ [الله} ، {ولئن سألتهم مَن خلق السّموات والأرض ليقولنّ] خلقهنّ العزيز العليم} ، {قل مَن يرزقكم من السّماء والأرض} إلى قوله:{فسيقولون الله} ؛ فهذا إقرار بتوحيد الخالقيّة والرازقيّة ونحوهما، لا أنّه إقرار بتوحيد الإلهيّة؛ لأنّهم يجعلون أوثانهم أربابًا ـ كما عرفتَ ـ؛ فهذا الكفر الجاهليّ كفر اعتقاد؛ ومن لازمه: كفر العمل، بخلاف مَن اعتقد في الأولياء النّفع والضّرّ مع توحيد الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر؛ فإنّه كفر عمل. فهذا تحقيق بالغ وإيضاح لما هو الحقّ من غير تفريط ولا إفراط. انتهى كلام السّيّد المذكور رحمه الله.
وأقول: هذا الكلام ـ في التّحقيق ـ ليس بتحقيق بالغ؛ بل كلام متناقض متدافع، وبيانه:
أنّه لا شك أن الكفر ينقسم إلى: كفر اعتقاد، وكفر عمل، لكن دعوى أنّ ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد؛ فإنّه قد ذكر هذا البحث أنّ كفر مَن اعتقد في الأولياء [كفر عمليّ، وهذا عجيب؛ كيف يقول كفر مَن يعتقد في الأولياء] ، ويسمي ذلك اعتقادًا، ثم يقول: إنّه من الكفر العمليّ؟! وهل هذا إلَّا التّناقض البحت، والتّدافع الخالص؟! انظر كيف ذكر في أوّل البحث أنّ كفر مَن يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشّدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جداراتها، وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عمليّ؟! فليتَ شعري! ما هو الحامل له على الدُّعاء والاستغاثة وتقبيل الجدارات ونذر النّذورات؟! هل هو مجرّد اللّعب والعبث من غير اعتقاد؟! فهذا لا يفعله إلَّا مجنون، أم الباعث عليه الاعتقاد في الميّت؟! فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد؛ الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال؟! ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنّه كفر عمل ـ لا كفر اعتقاد ـ بقوله:«لكن زيّن له الشّيطان أنّ هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون؛ فاعتقد ذلك جهلًا كما اعتقده أهل الجاهليّة في الأصنام» ! فتأمّل كيف حكم بأنّ هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهليّة، وأثبت الاعتقاد، واعتذر عنهم بأنّه اعتقاد جهل؟! وليتَ شعري! أيّ فائدة لكونه اعتقاد جهل؛ فإنّ طوائف الكفر بأسرها وأهل الشّرك قاطبة إنّما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل: الاعتقاد جهلًا، وهل يقول قائل: إنّ اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذرًا لإخوانهم المعتقدين في الأموات، ثم تمّم الاعتذار بقوله: «ولكن هؤلاء مثبتون للتّوحيد
…
» إلى آخر ما ذكر.
ولا يخفاك أنّ هذا عذر باطل؛ فإنّ إثباتهم للتّوحيد إن كان بألسنتهم فقط؛ فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنّصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم؛ فقد اعتقدوا في
الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم. ثم كرر هذا المعنى في كلامه، وجعله السّبب في رفع السّيف عنهم، وهو باطل؛ فما ترتب عليه مثله باطل؛ فلا نطول برده.
بل هؤلاء القبوريّون قد وصلوا إلى حدّ في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم؛ وهو: أنّ الجاهليّة كان إذا مسّهم الضّرّ دعوا الله وحده، وإنّما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشّدائد من الأمور؛ كما حكاه الله عنهم بقوله:{وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ مَن تدعون إلَّا إيّاه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفورًا} ، وبقوله ـ تعالى ـ:{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم السّاعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} ، وبقوله ـ تعالى ـ:{وإذا مسّ الإنسان ضرّ دعا ربّه منيبًا إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} ، وبقوله ـ تعالى ـ:{وإذا غشيهم موج كالظّلل دعوا الله مخلصين له الدّين} ، بخلاف المعتقدين في الأموات؛ فإنّهم إذا دهمتهم الشّدائد استغاثوا بالأموات ونذروا لهم النّذور، وقلّ مَن يستغيث بالله ـ سبحانه ـ في تلك الحال؛ وهذا يعلمه كلّ مَن له بحث عن أحوالهم؛ ولقد أخبرني بعض مَن ركب البحر للحجّ أنّه اضطرب اضطرابًا شديدًا؛ فسمع من أهل السّفين من الملّاحين وغالب الرّاكبين معهم؛ ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط! قال: ولقد خشيتُ في تلك الحال الغرق؛ لما شاهدته من الشّرك بالله.
وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية المتّصلة بصنعاء: إنّ كثيرًا منهم إذا حدث له ولد؛ جعل قسطًا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنّه قد اشترى ولده من ذلك الميّت الفلانيّ بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سنّ الاستقلال؛ دفع ذلك الجُعل لمَن يعتكف على قبر ذلك الميّت من المحتالين لكسب الأموال.
وبالجملة: فالسّيّد المذكور رحمه الله قد جرّد النّظر في بحثه السّابق إلى الإقرار بالتّوحيد الظّاهريّ، واعتبر مجرد التّكلّم بكلمة التّوحيد [فقط، من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلّم بكلمة التّوحيد] ، ويخالفه من اعتقاده الذي صدرت