المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في التوسل والاستغاثة - الكشف المبدي

[محمد بن حسين الفقيه]

الفصل: ‌في التوسل والاستغاثة

ادّعاء السّبكيّ أنّ الاستغاثة والتّوسل من الأمور الحسنة

قال السّبكيّ:

«الباب الثامن:

‌في التّوسّل والاستغاثة

والتّشفّع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم:

اعلم أنّه يجوز ويحسن التّوسّل والاستغاثة والتّشفّع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربّه سبحانه وتعالى؛ وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكلّ ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السّلف الصّالحين والعلماء، والعوامّ من المسلمين، ولم ينكر ذلك أحد من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيميّة؛ فتكلّم في ذلك

» إلى آخره!

وجوابه أن يُقال: إنّ التّجويز والتّحسين ليسا من خصائص البشر؛ وإنّما ذلك من خصائص الله ورسوله؛ فما لم يشرعه الله ورسوله لا يُقال فيه: هذا جائز أو حسن.

وقوله: «هذه المسألة مُجمع عليها، ومعروفة من سير الأنبياء والسّلف، إلى حدّ زمانه» ؛ فهذا قول تردّه الأدِلّة الصّحيحة الثّابتة في الكتاب والسُّنّة وسيرة السّلف:

فأمّا القرآن: فمن أوّله إلى آخره ليس فيه آية تدلّ على ما قاله، ولا تومئ إليه؛ بل فيه ما يردّ ذلك؛ مثل: قوله ـ تعالى ـ في ردّه على المشركين حيث يقول: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وقوله ـ تعالى ـ:{أم اتخذوا من دون الله شفعاء} الآية، وقوله ـ تعالى ـ:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} .

وأمّا السُّنّة: فلم يأتِ فيها حديث واحد يدلّ على طلب التّوسّل بالمعنى الذي أراده السّبكيّ، أو أنّه أفضل من سؤال الله ـ تعالى ـ والإقسام عليه بأسمائه وصفاته. وأدعيته صلى الله عليه وسلم الواردة في الصّحيح والضّعيف ليس فيها حرف يدلّ على استحسان ذلك أو جوازه.

وأمّا الإجماع: فإليك ما ورد في «الصّحيح» من توسّل أمير المؤمنين عمر بن

ص: 243

الخطّاب بالعباس عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حين أجدبوا، مع وجود قبر النّبيّ عليه الصلاة والسلام، والقصة مشهورة؛ فلا حاجة لنا بذكرها، وقد أقرّه الصّحابة على ذلك؛ فلو كانوا يعلمون أنّ في القرآن أو السُّنّة دليلًا على استحسان التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به بعد وفاته؛ لما ساغ لهم أن يتركوه ويعدلوا عنه، ويقرّوا أمير المؤمنين سيدنا عمر على قوله:«اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل [إليك] بنبيّنا فتسقينا؛ والآن نتوسّل إليك بالعباس عمّ نبيّنا؛ فاسقنا» ؛ فصحّ بهذا أنّ التّوسّل والاستغاثة [به صلى الله عليه وسلم] كانا معروفين عند الصّحابة في حياته صلى الله عليه وسلم، وأنّهما بمعنى: طلب الدُّعاء منه صلى الله عليه وسلم، فلمّا قُبِضَ عليه الصلاة والسلام فليس لنا أن نزيد في الدّين ونشرع فيه ما لم يأذن به الله؛ بل علينا أن نسأل الله ونقسم عليه بأسمائه وصفاته، ونتوسل إليه ـ تعالى ـ بصالح الأعمال؛ لقوله ـ تعالى ـ:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ، ولحديث الثّلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة وهم بالغار؛ فتوسّلوا إلى الله ـ تعالى ـ بصالح أعمالهم؛ فانفرجت عنهم. رواه مسلم.

ص: 244

واعلم أنّه لم يأتِ حديث في جواز التّوسّل يصلح للاستدلال، إلَّا حديث الأعمى، الذي رواه التّرمذيّ وغيره، من طريق أبي جعفر الخطمي، وقال فيه:«هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلَّا من طريق أبي جعفر» .

وقد تكلّم العلماء على هذا الحديث؛ فمنهم مَن خصّه بحياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن جعله خصوصيّة له. وسنتكلّم عليه عند إيراد السّبكيّ له ـ إن شاء الله تعالى ـ.

واعلم أنّني أسلك في طريق التّوسّل والاستغاثة والتّشفّع مسلك التّرجيح بين الأدِلّة؛ بمعنى: ما ورد منها ثابتًا صحيحًا يقبل، وإلَّا فلا.

وأمّا من جهة الاعتقاد؛ فأقول: إنّ التّوسّل المجرّد ليس فيه بأس إذا كان بلفظ ما ورد في حديث الأعمى؛ لأنّ المسؤول هو الله ـ تعالى ـ، سواء سألناه ـ تعالى ـ بأسمائه وصفاته، أو

ص: 245

توسّلنا إليه بأنبيائه والصّالحين من عباده، غير أنّ الوقوف عند ما ورد هو خير وأحسن تأويلًا؛ فنحن لا نكون أعلم بالله ولا أورع ولا أتقى له من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ولو كان هذا معروفًا في زمانهم؛ لنقل إلينا نقلًا مستفيضًا، ولم يروهِ الآحاد فقط؛ إذ ما من أحد منهم إلَّا كان يدعو الله ـ تعالى ـ ويسأله حوائجه؛ فالخير في الاتّباع، والشّر في الابتداع.

والحاصل: أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم ينكر شيئًا معروفًا في القرآن أو السُّنّة أو إجماع الصّحابة ـ كما قاله هذا المعترض ـ؛ بل سلك مسلك الموحّدين الواقفين عند ما شرعه الله ورسوله، ولم يتعدّوه إلى استحسانهم، وهذا هو تعظيم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّا الذي يجوّز ويستحسن شيئًا في الدّين برأيه وهواه؛ فهو منازع لله في شرعه، منتقص لرسوله صلى الله عليه وسلم باستدراكه عليه بعض الأحكام؛ فكأنّه لم يرضَ بحكمه ولم يكتفِ بشرعه، وقد ضمن الله سبحانه وتعالى محبّته لمن اتّبع نبيّه؛ فقال (تعالى) ـ وهو أصدق القائلين ـ:{قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله} الآية.

وأمّا ما أورده السّبكيّ في هذا الباب من الأحاديث التي ظنّها أدِلّة وبراهين قاطعة، وأخذ يشنّع على شيخ الإسلام من أجل مخالفته لها؛ فسنتكلّم عليها ـ إن شاء الله تعالى ـ حديثًا حديثًا. وبالله التّوفيق.

ص: 246

فصل

الكلام على الحديث الأوّل

حديث الحاكم: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لما اقترف آدم الخطيئة

» إلخ.

ص: 247

أقول: هذا حديث ضعيف باتّفاق، انفرد بتصحيحه الحاكم؛ جريًا على عادته في التّساهل؛ وكم صحّح أحاديث ضعيفة بل موضوعة. وإليك ما قاله أهل العلم في الحاكم هذا: لا يلتفت إلى تصحيحه ما لم يوافقه أحد من أئمّة الحديث. وكيف ساغ للحاكم تصحيحه وإلزام الشّيخين بإخراجه؛ وفيه عبد الرحمن بن زيد؟!

قال في «تهذيب التّهذيب» : عبد الرحمن بن زيد

وذكر تضعيفه عن مالك وأحمد وأبي زرعة وأبي طالب. وناهيك بهم.

وقوله: «اعتمدنا فيه على تصحيح الحاكم» ؛ فكأنّه لا يدري ما قاله العلماء في تصحيح الحاكم، وإذا كان لا يدري؛ فما له وما للحديث ورجاله!

وقوله: «ولعلّ ابن تيميّة إذا بلغه الحديث؛ يطعن فيه بعبد الرحمن بن زيد، [وعبد الرحمن] لم يبلغ به الضّعف إلى الحدّ الذي ادّعاه» .

أقول: قد عرفتَ من تكلّم في عبد الرحمن بن زيد، ولم يأتِ السّبكيّ برجل واحد

ص: 249

عدّل عبد الرحمن بن زيد؛ فإذ كان يعدّل مَن شاء ويضعّف مَن شاء بعقله ورأيه؛ فهو الأجدر بالكلام في الدّين بالظّنّ والخرص، لا شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فإنّه قد تكلّم في عبد الرحمن بكلام أهل العلم فيه، وما قاله هو الذي وجدناه في كتب الجرح والتّعديل.

والذي صحّ في تفسير هذه الآية ـ أعني: قوله (تعالى) : {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه} ـ هو ما قاله الفاضل الشّيخ أبو بكر خوقير في كتابه «فصل المقال» :

قال ـ حرسه الله تعالى ـ:

«بيان ما ورد في قوله ـ تعالى ـ: {فلتقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} ، في التّفسير الكبير للعلّامة الفاضل محمّد بن جرير الطبريّ:

عن ابن زيد، تابعه أبو زهير ومجاهد وقتادة والحسن:{ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} .

ابن عباس: «أي ربّ؛ ألم تخلقني بيديك؟ قال: بلى. قال: أي ربّ؛ ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. قال: أي ربّ؛ ألم تسكنّي جنّتك؟ قال: بلى. قال:

ص: 250

وقال أيضًا في الكتاب المذكور عند الكلام على هذا الحديث ـ لما استدلّ به الهنديّ ـ:

«أقول: الذي في «الدّرّ المنثور» خمس، الخامس: ابن عساكر، يرويه جميعهم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جدّه عن عمر بن الخطّاب يرفعه، وليس عندي من كتب هؤلاء الحفّاظ إلَّا معجم الطّبرانيّ الصّغير، وإسناده فيه هكذا: عن محمد بن داود بن أسلم الصّدفيّ المصريّ، عن أحمد بن سعيد المدنيّ الفهريّ، عن عبد الله بن إسماعيل المدنيّ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. وبعد سياق المتن قال: لا يروى عن عمر إلَّا بهذا الإسناد؛ تفرّد به أحمد بن سعيد. انتهى. قال البيهقيّ: تفرّد به عبد الرحمن. انتهى. وقال بعضهم: صححه الحاكم. انتهى. وفي تصحيحه نظر؛ فليس كلّ ما صحّحه مقبولًا؛ قال المدارسيّ في «كشف الأحوال في نقد الرّجال» : إنّ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم

ص: 253

ضعيف باتّفاق، وكذا في «تقريب التّهذيب» .

قال العلّامة حمد بن ناصر التيميّ في جوابه على رسالة الفاضل اليمنيّ محمد بن أحمد الحفظيّ، سنة ألف ومائتين وسبعة عشر، ما نصّه: وأمّا قول القائل: فقد أخرج الحاكم في «مستدركه» ـ وصحّحه ـ: أنّ آدم توسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعّفه ابن المدينيّ جدًّا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلّهم ضعيف، وقال النّسائيّ: ضعيف،

ص: 254

وقال ابن عبد الحكم: سمعتُ الشّافعيّ يقول: ذكر رجل لمالك حديثًا؛ فقال: مَن حدّثك؟ فذكر إسنادًا له منقطعًا؛ فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدّثك عن أبيه عن نوح عليه السلام! وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ في الحديث؛ كان في نفسه صالحًا وفي الحديث واهيًا، وقال ابن حبّان: كان يقلّب الأخبار وهو لا يعلم؛ حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف؛ فاستحقّ التّرك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا، وقال ابن خزيمة: ليس هو مما يحتجّ أهل العلم بحديثه، وقال الحاكم وأبو نعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال ابن الجوزيّ: أجمعوا على ضعفه. فهذا الحديث الذي استدلّ به تفرّد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع!

ص: 255

وقال الشّيخ تقيّ الدّين في ردّه على ابن البكريّ: وأمّا قول القائل: قد توسّل به الأنبياء آدم وإدريس ونوح وأيّوب؛ كما هو مذكور في كتب التّفسير وغيرها؛ فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين؛ فإنّ النّاس لهم في شرع مَن قبلنا قولان:

أحدهما: أنّه ليس بحُجّة.

الثّاني: أنّه حُجّة ما لم يأتِ شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم ـ كإخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فأمّا الاعتماد على نقل أهل الكتاب أو نقل مَن نقل عنهم؛ فلا يجوز باتّفاق المسلمين؛ لأنّ في الصّحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم» . وهذه القصص التي ذكر فيها توسل الأنبياء بذاته ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصّحابة؛ وإنّما تذكر مرسلة؛ كما تُذكر في الإسرائيليّات التي تُروى عمّن لا يعرف. وقد بسطنا الكلام في

ص: 256

غير هذا الموضع على ما نقل في ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتكلّمنا عليه، وبيّنّا بطلانه. ولو نقل ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممّن ينقل عن أهل الكتاب؛ لم يجز أن يحتجّ به؛ لأنّ الواحد من هؤلاء ـ وإن كان ثقة ـ فغاية ما عنده [أن ينقل] من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم؛ فإنّه بينه وبين الأنبياء دهر طويل، والمرسل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يعرف علمه وصدقه لا يقبل باتّفاق المسلمين، ومراسيل أهل زمننا عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند العلماء، مع كون ديننا محفوظًا محروسًا؛ فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيّوب عليهم السلام؟!

والقرآن قد أخبر بأدعية الأدنبياء وتوباتهم واستغفارهم؛ وليس فيها شيء من هذا، وقد نقل أبو نعيم في «الحلية» أنّ داود عليه السلام قال:«يا ربّ؛ أسألك بحقّ آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فقال: يا داود؛ أي حقّ لآبائك عليّ» . فإن كانت الإسرائيليّات حُجّة؛ فهذا يدلّ على أنّه لا يسأل بحقّ الأنبياء، وإن لم تكن حُجّة؛ لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليّات. انتهى [كلامه] . فبيّن رحمه الله أن لم يصح في هذا شيء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّ جميع ما رُوي في ذلك باطل لا أصل له. [اهـ] .

ص: 257

فصل

وأمّا الكلام على حديث ابن عبّاس ـ وهو الحديث الثّاني ـ؛ فجوابه أن يقال: هذا الحديث أشدّ ضعفًا من الحديث الذي قبله ـ كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى ـ.

الحديث الثّاني المرويّ عن ابن عبّاس: قال في «الميزان» في ترجمة عمرو بن أوس: يجهل حاله، وروى حديثًا فذكره بتمامه، وقال: رواه الحاكم من طريق جندل بن والق، وأظنّه موضوعًا، وأمّا جندل بن والق؛ فقال مسلم في «الكنى» : ضعيف، ومثله عن البزّار، وأمّا علي شيخ الحاكم وهارون بن العباس الهاشميّ؛ فلم أجدهما في رجال «التّهذيب» ، لكن ذكرهما في «الميزان» ، ونقل تضعيفها عن الدّارقطنيّ. انتهى.

ص: 258

فإذا تبيّن حال هذا الحديث؛ علم قطعًا جراءة الحاكم على تصحيحه، وأغرب منه موافقة السّبكيّ له انتصارًا لنفسه لا للحق، ومثل هذا لا يخفى عليه؛ فإنّ تساهل الحاكم لا يخفى على مَن له أدنى إلمام بهذا الفنّ، ولكن أداه تعصّبه إلى الإغضاء عن بيان حاله، كما حمل ابن حجر المكيّ تعصّبه على إنكار الحديث الوارد في إرخاء العَذَبة، وأخذ يشنّع على شيخ الإسلام وابن القيّم، وقد ردّ عليه في هذه المسألة الشّيخ عبد الرؤوف المناويّ، والشّيخ علي القاري، كلاهما في شرح شمائل التّرمذيّ. انتهى.

ص: 259

وأمّا قوله: «فلا فرق في هذا المعنى بين أن يُعبّر عنه بلفظ التّوسّل أو الاستغاثة أو التّشفّع أو التّوجّه

» إلخ.

أقول: هذا كلام مَن لم يعرف أسلوب لغة العرب؛ لأنّ كلّ مَن له أقلّ معرفة بلغة العرب يظهر له الفرق بين التّوسّل والاستغاثة والتّوجّه، ولا يشكّ عاقل في أنّ التّوسّل هو سؤال الله ـ تعالى ـ متوسّلًا إليه ـ سبحانه ـ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أو الوليّ.

[أمّا] الاستغاثة: فهي طلب الغوث من المُستغاث به، لا طلب الغوث من غيره؛ كما قال الله ـ تعالى ـ:{فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} ؛ فظهر الفرق.

وأيضًا فإنّ مدّة التّوسّل لا تتعدّى إلَّا بالحرف؛ كقولك: «توسّلتُ بفلان إلى فلان» ، ومثله:«تشفّعت به وتوجّهتُ به» ، وتصير الباء على هذا بمعنى السّببيّة.

وأمّا مادّة (الاستغاثة) ؛ فإنّها تتعدّى بنفسها وبالحرف، وكلاهما واحد؛ فنقول:«استغاثه واستغاث به» ، وكلا المعنيين: طلب الغوث من المُستغاث به؛ فظهر الفرق بين «التّوسّل» و «الاستغاثة» . وسيأتي لهذا مزيد بيان.

وأمّا قوله: «فالمسؤول في هذه الدّعوات كلّها هو الله سبحانه وتعالى» .

أقول: هذه الدّعوات ليس فيها ما يدلّ على قصد هذا المعترض؛ لأنّ لفظ الحديث الأوّل [ليس فيه] إلَّا سؤال الله ـ تعالى ـ بأسمائه وصفاته، وفي حديث الغار ليس فيه إلَّا التّوسّل إلى الله ـ تعالى ـ بصالح الأعمال؛ فأيّ شخص في هذين الحديثين قد تُوسّل به إلى الله؟! فتأمّل!

ص: 260

الكلام على حديث التّرمذيّ هذا، وهو أصحّ شيء ورد في هذا الباب

ذكر العلّامة السّيد محمود الآلوسيّ في كتابه «فتح المنّان» ـ الذي ردّ به على داود بن جرجيس ـ، قال ما نصّه ـ عند إيراده لهذا الحديث ـ:

«والجواب: أنّ هذا الدّليل لا يفيد العراقيّ شيئًا؛ بل هو من نمط ما قبله، وببيان معنى الحديث يُعلم ذلك؛ فقوله: «اللهمّ إنّي أسألك» أي: أطلب منك، «وأتوجّه إليك بنبيّك محمد» ، صرّح به مع ورود النّهي عن ذلك تواضعًا منه؛ لكون التّعليم من قبله، وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدُّعاء على الله ـ تعالى ـ الملك المتعال، ولكنّه توسّل بالنّبيّ؛ أي: بدعائه؛ ولذا قال في آخره: «اللهمّ فشفّعه فيّ» ؛ إذ شفاعته لا تكون إلَّا بالدُّعاء لربّه قطعًا» .

ولو كان المراد التّوسّل بذاته فقط؛ لم يكن لذلك التّعقيب معنى؛ إذ التّوسّل بقوله: «بنبيّك» كافٍ في إفادة هذا المعنى؛ فقوله: «يا محمّد؛ إنّي توجّهتُ بك إلى ربّي» قال الطّيبيّ: الباء في (بك) للاستعانة. وقوله: «إنّي توجّهتُ بك» بعد قوله: «أتوجّه إليك» فيه معنى قوله: {مَن ذا الذي يشفع عنده إلَّا بإذنه} ؛ فيكون خطابًا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجّه به عند ربّه من سؤال نبيّه بدعائه الذي هو عين شفاعته؛ ولذلك أتى بالصّيغة الماضوية بعد الصّيغة المضارعيّة؛ المفيد كلّ ذلك أنّ هذا

ص: 261

الدّاعي قد توسّل بشفاعة نبيّه في دعائه؛ فكأنّه استحضره وقت ندائه؛ ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابيّة والقرائن الاعتباريّة؛ فقوله: «في حاجتي هذه لتفضي لي» ؛ أي: ليقضها لي ربّي (بشفاعته؛ أي: في دعائه) . وذلك مشروع مأمور به؛ فإنّ الصّحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كانوا يطلبون منه الدُّعاء، وكان يدعو لهم، وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلًا صالحًا فتطلب منه الدُّعاء لك؛ بل يجوز للأعلى أن يطلب من الأدنى [الدُّعاء] له؛ كما طلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم الدُّعاء من عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في عمرته؛ بأن قال له:«لا تنسنا يا أخي من دعائك» ؛ قال عمر رضي الله عنه: «ما يسرّني [أنّ لي] بها حمر النّعم» .

قال العلّامة المناويّ: «سأل الله أولًا أن يأذن لنبيّه أن يشفع، ثمّ أقبل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ملتمسًا شفاعته له، ثم كرّ مقبلًا على ربّه أن يقبل شفاعته. والباء في (نبيّك) للتعدية، وفي (بك) للاستعانة. وقوله: «اللهمّ فشفّعه فيّ» أي: اقبل شفاعته في حقّي. والعطف على مقدّر؛ أي: اجعله شفيعًا إليّ فشفّعه. وكلّ هذه المعاني دالّة على وجود شفاعته بذلك ـ وهو: دعاؤه صلى الله عليه وسلم له بكشف عاهته ـ، وليس ذلك بمحظور؛ غاية الأمر أنّه توسّل من غير دعاء؛ بل هو نداء لحاضر. والدُّعاء أخصّ من النّداء؛ إذ هو نداء عبادة شاملة للسّؤال بما لا يقدر عليه إلَّا الله؛ وإنّما المحظور السّؤال بالذّوات لا مطلقًا؛ بل على معنى أنّهم وسائل (لله) ـ تعالى ـ بذواتهم، وأمّا كونهم وسائل

ص: 262

بدعائهم فغير محظور، وإذا اعتقد أنّهم وسائل (لله) بذواتهم يسأل منهم الشّفاعة للتقرّب إليهم؛ فذلك عين ما كان عليه المشركون الأوّلون.

فتبيّن أنّه لا دلالة في الحديث على جواز الاستغاثة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلًا.

والعراقيّ نقل عبارة شيخ الإسلام محرّفة؛ وهذه هي عبارته في كتابه «اقتضاء الصّراط المستقيم» ؛ قال: «والميّت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى؛ فإنّه طلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليردّ الله عليه بصره؛ فعلّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعاءً أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة [نبيه فيه؛ فهذل يدلّ على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شفع [فيه] ، وأمره أن يسأل الله قبول الشّفاعة] ، وأنّ قوله: «أسألك وأتوجّه (إليك) بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة» أي: بدعائه وشفاعته؛ كما قال عمر: «كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا» ؛ فلفظ (التّوسّل) و (التّوجّه) في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال: «يا محمّد يا رسول الله؛ إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها؛ اللهمّ فشفّعه فيّ» ؛ فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيّه.

وقوله: «يا محمّد يا نبيّ الله» ؛ هذا وأمثاله نداء يُطلب به استحضار المنادى في القلب؛ فيخاطب المشهود بالقلب؛ كما يقول المصلّي: «السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته» ، والإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا؛ يخاطب مَن يتصوّره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج مَن يسمع الخطاب.

فلفظ (التّوسّل بالشّخص) و (التّوجّه به) و (السّؤال به) ؛ فيه إجمال واشتراك؛ غلط بسببه مَن لم يفهم مقصود الصّحابة:

1ـ يُراد به: التّسبّب به؛ لكونه داعيًا وشافعًا مثلًا، أو: لكون الدّاعي محبًّا له مطيعًا لأمره مقتديًا به؛ فيكون التّسَبّب إما بمحبّة السّائل له واتّباعه له، وإمّا بدعاء الوسيلة وشفاعته.

ص: 263

2ـ ويراد به: الإقسام به والتّوسّل بذاته؛ فلا يكون التّوسّل لا [بشيء] منه ولا [بشيء] من السّائل؛ بل بذاته، أو بمجرّد الإقسام به على الله.

فهذا الثّاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.

وكذلك [لفظ] السّؤال بشيء:

1ـ قد يُراد به المعنى الأول: التّسبّب؛ لكونه سببًا في حصول المطلوب.

2ـ وقد يُراد به: الإقسام

» إلى آخر ما قال. انتهى.

والحاصل: أنّ هذا الحديث هو أحسن ما رُوي في هذا الباب، ومع هذا؛ فلا يدلّ إلَّا على جواز التّوسّل؛ وهو: سؤال الله ـ تعالى ـ بأحد من خلقه كالأنبياء وغيرهم عند قوم. وقال بعضهم ـ كالعزّ بن عبد السّلام ـ: «إذا صَحّ حديث الأعمى؛ فهو خاصّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يُقاس عليه غيره» ، وقال بعضهم: لا يدلّ على جواز التّوسّل أصلًا ـ كما تقدّم بيان ذلك ـ.

وقال بعضهم: هو خاصّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته فقط؛ إذ هو توسّل بدعائه صلى الله عليه وسلم، ويدلّ عليه: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «وإن شئتَ دعوتُ» ـ بضَمّ التّاء في (دعوتُ) على أنّه ضمير المتكلّم فاعل، «وإن شئتَ صبرتَ» ـ بنصب التّاء في (صبرتَ) على أنّه ضمير المخاطَب.

وعندي: أنّ التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والصّالحين جائز، لا فرق في ذلك

ص: 264

بين أن يكونوا أحياء أو أمواتًا، عند مَن يفرّق بين (التّوسّل) و (الاستغاثة) ـ وقد بيّنّا الفرق بينهما ـ.

فقد علم بهذا: جواز التّوسّل؛ إذ المسؤول هو الله ـ تعالى ـ لا غيره، ولا شكّ أنّ الأنبياء سيّما نبيّنا صلى الله عليه وسلم لهم الجاه العظيم، ولكن حيث إنّ بعض النّاس لم يفرّق بين التّوسّل الذي هو جائز وبين الاستغاثة التي هي شرك، إلَّا إذا كانت بالحيّ الحاضر؛ كما استغاث صاحب موسى ـ صلوات الله عليه ـ به فأغاثه، وكإغاثة بعضنا بعضًا في الشّيء الذي نقدر عليه؛ فهذا جائز بالاتّفاق. وأمّا بعد الموت؛ فلا يجوز طلب شيء من الميّت، سواء كان نبيًّا أو وليًّا أو صالحًا. وأمّا مَن جعل (التّوسّل) و (الاستغاثة) بمعنى واحد؛ فقد جنى على الدّين وأهله ـ والله ـ وعلى لغة العرب، وافترى على الله الكذب؛ والفرق بينهما ظاهر لمن له أدنى فهم، وهذا الذي ذكرناه واخترناه هو أعدل الأقوال وأوسطها؛ جمعًا بين الأدِلّة، سيّما والعقل لا يأبى ذلك؛ إذ لا شرك ولا شائبة شرك في سؤال الله ـ تعالى ـ بجاه نبيّ أو وليّ؛ وإنّما الشّرك والبليّة في طلب الحوائج من خير الدّنيا والآخرة من الأموات الذين انقطع عملهم إلَّا من ثلاث: علم يُنتفع به، وصدقة جارية، أو ولد صالح، والذين منعوا جواز التّوسّل أرادوا بذلك سدّ باب سؤال غير الله ـ تعالى ـ كي لا يقع أحد في الشّرك، سيّما العوام الذين لا يفرّقون بين (التّوسّل) و (الاستغاثة)

ص: 265

بالميّت؛ ولذلك إذا سمعتَه يقول: يا سيّدنا الحسين، أو: يا سيدتي خديجة، ومثل ذلك؛ وقلتَ له: يا شيخ؛ هذا حرام وشرك؛ لأنّ الله يقول ـ وهو أصدق القائلين ـ: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} ، {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضّرّ عنكم ولا تحويلًا} ؛ يجاوبك بقوله: اسكت يا شيخ؛ أنا لا أسألهم شيئًا؛ وإنّما أتوسّل بهم إلى الله ـ تعالى ـ!

فإذا قلتَ له: إذا كان مقصودك التّوسّل بهم ليس إلَّا؛ فلا تنادِ أحدًا من المخلوقين الغائبين باسمه، ولا تذهب إلى قبره بقصد سؤاله؛ وإنّما غاية الأمر: أن ترفع يديك إلى الله ـ تعالى ـ الذي خلقك وخلقهم؛ وقل: يا رب؛ أسألك وأتوسّل إليك بفلان أو فلانة، وأمّا أنّك مُعرض عن سؤال الله ـ تعالى ـ وتقبل على المخلوق وتطلب منه ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ تعالى ـ، وتقول: هذا توسّل. كلَّا!

ص: 266

فصل

وأمّا أثر عثمان بن حنيف الذي علّم مَن له حاجة عند أمير المؤمنين عثمان بن عفّان؛ فهذا لا حُجّة فيه مِن وجوه:

الأول: أنّها رواية شاذّة؛ والرّواية الصّحيحة هي التي أخرجها التّرمذيّ والحاكم ـ وأقرّها الذّهبيّ ـ.

وأمّا ما تفرّد به الطّبرانيّ أو البيهقيّ من غير تنبيه على صحّة ذلك؛ ففيه نظر.

الثاني: أنّ هذا ـ لو صَحّ ـ فهو رأي صحابيّ لا حُجّة فيه.

الثالث: لو كان هذا شايعًا ذائعًا؛ لما اختصّ به عثمان بن حنيف وحده من دون الصّحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ، سيّما الخلفاء الرّاشدين.

وأمّا ما أطال به من ذكر الآثار الدّالّة على جواز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في حياته؛ فلا

ص: 267

حاجة بنا إلى المناقشة معه في ذلك؛ لأنّنا مسلّمون ومعتقدون جواز ذلك وطلبه حتى ممن هو أدنى من النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمراحل؛ وكيف يسوغ إنكاره والله يقول: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} ؟! وإنّما النّزاع في جواز الاستغاثة بالمخلوق بعد وفاته؛ بمعنى: طلب الغوث منه ـ كما تدلّ عليه لغة الكتاب والسُّنّة ـ؛ فهذا ما دلّ عليه أثر ولا جاء في خبر.

والقول الفصل في هذه المسألة: أنّ الميّت إذا مات انقطع عمله من قول وفعل، ولم يبقَ له إلَّا ما قدّمه في حياته، لا فرق في ذلك بين نبيّ ووليّ وصالح؛ ومَن زعم أنّ الأنبياء والأولياء يفعلون أشياء في قبورهم يصل إليهم ثوابها كما كانوا في حياتهم؛ فعليه الدّليل؛ وأنّى له ذلك؟! وهذه المشغبات كلّها لا تجدي نفعًا؛ بل تفتح على النّاس باب الشّرك الأصغر بل الأكبر.

وأمّا جعله (الاستغاثة) و (التّجوّه) و (التّشفّع) و (التّوسّل) بمعنى واحد؛ فهذا لا يقوله أحد مارس فنّ اللّغة؛ بل الفرق بين (الاستغاثة) و (التّوسّل) ظاهر ـ كما سبق لنا بيانه ـ. والله الموفّق والهادي إلى الصّواب.

ص: 268

فصل

قال الشّيخ عبد اللطيف في «منهاج التّأسيس والتّقديس» الذي رَدّ به على داود بن جرجيس العراقيّ، عند إيراده لكلام السّبكيّ هذا، وكلام السّمهوديّ في «تاريخ المدينة» ـ المسمّى «خلاصة الوفا» ـ، وكلام القسطلاني في «المواهب» ، وكلام ابن حجر في «الجوهر المنظم» ؛ في باب جواز الاستغاثة بغير الله ـ كالأنبياء والصّالحين ـ، وأنّها بمعنى التّوسّل، وبمعنى أنّهم وسائل ووسائط وأسباب، لا أنّهم فاعلون على الحقيقة؛ قال ما نصّه: «فأقول ـ وبالله الاستعانة، ومنه أستمدّ المدد والهداية ـ: أمّا ما في كلام العراقيّ من فساد التّركيب وبشاعة التّعبير؛ فلسنا بصدده، والكلام عليه يطول؛ والغرض: إبطال الدّعوى ومعارضتها ونقضها، والكشف عن حالها وحال أئمّته السّابقين إليها من الأُمم المعارضين للرّسل بآرائهم وأهوائهم الضّالّة الفاسدة. والجواب عن هذه الشّبه من وجوه:

الأوّل: أنّ الله ـ سبحانه ـ إنّما خلق خلقه لعبادته؛ الجامعة لمعرفته ومحبّته والخضوع له وتعظيمه وخوفه ورجائه والتّوكّل عليه والإنابة إليه والتّضرّع بين يديه، وهذه زبدة الرّسالة الإلهيّة وحاصل الدّعوة النّبويّة، وهو الحقّ الذي خُلقت له السّماوات والأرض

ص: 269

وأنزل به الكتاب، وهو الغاية المطلوبة والحكمة المقصودة من إيجاد المخلوقات وخلق سائر البريّات. قال ـ تعالى ـ:{وما خلقتُ الجنّ والإنس إلَّا ليعبدون} ، ودعا ـ سبحانه ـ عباده إلى هذا المقصود، وافترض عليهم القيام به حسب ما أمر، والبراءة من الشّرك والتّنديد المنافي لهذا الأصل الذي هو المراد من خلق سائر العبيد. قال الله ـ تعالى ـ:{إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ، وقال:{إنّه مَن يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النّار وما للظّالمين من أنصار} ، وقال:{ومَن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطّير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق} .

فالقول بجواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الأنبياء والصّالحين، وجعلهم وسائط بين العبد وبين الله، والتّقرّب إليهم بالنّذر والنّحر والتّعظيم بالحلف وما أشبهه؛ مناقضة ومنافاة لهذه الحكمة التي هي المقصودة بخلق السّماوات والأرض وإنزال الكتب وإرسال الرّسل، وفتح لباب الشّرك في المحبّة والخضوع والتّعظيم، ومشاقّة ظاهرة لله ولرسله ولكلّ نبيّ كريم، والنّفوس مجبولة على صرف ذلك المذكور من العبادات إلى [مَن] أهّلته لكشف الشّدائد، وسدّ الفاقات، وقضاء الحاجات من الأمور العامّة التي لا يقدر عليها إلَّا فاطر الأرض والسّماوات.

الوجه الثّاني: أنّ هذا بعينه قول عُبّاد الأنبياء والصّالحين من عهد قوم نوح إلى أن بُعث [إليهم] خاتم النّبيّين، لم يزيدوا عمّا قاله العراقيّ فيما انتحلوه من الشّرك الوخيم والقول الذّميم؛ كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم؛ قال ـ تعالى ـ:{ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وقال

ص: 270

ـ تعالى ـ: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} ، وقال ـ تعالى ـ {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهة بل ضلّوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} ؛ فهذه النّصوص المحكمة صريحة في [أنّ] المشركين لم يقصدوا إلَّا الجاه والشّفاعة والتّوسّل ـ بمعنى: جعلهم وسائط تقرّبهم إلى الله وتقضي حوائجهم منه (تعالى) ـ، وقد أنكر القرآن هذا أشدّ الإنكار؛ وأخبر أنّ أهله هم أصحاب النّار، وأنّ الله حرّم عليهم الجنّة دار أوليائه الأبرار، وجمهور هؤلاء المشركين لم يَدّعوا الاستقلال [لآلهتهم] ولا الشّركة في توحيد الرّبوبيّة؛ بل قد أقرّوا واعترفوا بأنّ ذلك [كلّه] لله وحده؛ كما حكى ـ سبحانه ـ إقرارهم واعترافهم بذلك في غير موضع من كتابه.

فحاصل ما ذكره العراقيّ من جواز الاستغاثة والدُّعاء والتّعظيم بالنّذر والحلف، مع نفي الاستقلال، وأنّ الله يفعله لأجله؛ هو عين دعوى المشركين وتعليلهم وشبهتهم؛ لم يزيدوا عليه حرفًا واحدًا، إلَّا أنّهم قالوا (قربانًا) و (شفعاء) ، والعراقيّ سمّى ذلك (توسّلًا) ؛ فالعلّة واحدة والحقيقة متّحدة. وما ذكره العراقيّ من الإسهاب مجرّد هوس وهذيان؛ لا يغير الحقائق، ولا يتوقّف كشف باطله على معرفة الغوامض والدّقائق!

الوجه الثّالث: أنّ الله سبحانه وتعالى أمر عباده بدعائه ومسألته والاستغاثة به وإنزال حاجتهم وفاقتهم وضرورتهم به؛ قال ـ تعالى ـ: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون} ، وقال ـ تعالى ـ:{وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخر ين} ، وقال ـ تعالى ـ:{أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه} الآية، وقال ـ تعالى ـ:{وابتغوا إليه الوسيلة} ، {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه} ، وقال ـ تعالى ـ: {يسأله مَن في السّموات والأرض كلّ

ص: 271

يوم هو في شأن} ، وقال ـ تعالى ـ:{فإذا فرغتَ فانصب * وإلى ربّك فارغب} ، وفي الحديث:«مَن لم يسأل الله يغضب عليه» ، وفيه:«الدُّعاء سلام المؤمن وعماد الدّين» ، وحديث النّزول كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا؛ يقول ـ تعالى ـ:«هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه؟» . وعلى مذهب هذا العراقيّ، وقوله باستحباب الاستغاثة بغير الله، وجعل الوسائط بين العباد وبينه ـ تعالى ـ؛ يهدم هذا الأصل، الذي هو أصل الدّين، ويسدّ بابه، ويُستغاث بالأنبياء والصّالحين، ويرغّب إليهم في حاجات الطّالبين والسّائلين، وضرورات المضطرين من خلق الله أجمعين.

الوجه الرّابع: أنّ الله دعا عباده بربوبيّته العامّة الشّاملة لكليّات الممكنات وجزئياتها في الدُّنيا والآخرة، وانفراده بالإيجاد والتّدبير والتّأثير والتّقدير، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والعزّ والذّلّ، والإحياء والإماتة، والسّعادة والشّقاوة، والهداية والمغفرة، والتّوبة على عباده

إلى غير ذلك من أفعال الرّبوبيّة وآثارها المشاهدة المصنوعة ـ إلى معرفته، وعبادته الجامعة لمحبّته والخضوع له وتعظيمه ودعائه، وترك التّعلّق على غيره محبّة وتعظيمًا واستغاثة؛ قال ـ تعالى ـ:{أمّن خلق السّموات والأرض وأنزل لكم من السّماء ماءً فأنبتنا به} إلى قوله ـ تعالى ـ: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم

ص: 272

صادقين} ، وقال ـ تعالى ـ:{قل لمن الأرض ومَن فيها إن كنتم تعلمون} إلى قوله: {فأنّى تُسحرون} ، وقال ـ تعالى ـ:{قل مَن يرزقكم من السّماء والأرض} إلى قوله: {أفلا تتّقون} ؛ فتأمّل هذه الآيات الكريمات، وما تضمّنته من تقرير أفعال الرّبوبيّة التي لا يخرج عنها فرد من أفراد الكائنات، واعرف ما سيقت [له] ودلّت عليه من وجوب محبّته ـ تعالى ـ، وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما عُبد من دونه من الأنداد والآلهة، والبراءة من ذلك، وانظر: هل القوم المخاطبون بهذا زعموا الاستقلال لغير الكبير المتعال، أم أقرّوا له ـ سبحانه ـ بالاستقلال والتّدبير والتّأثير؟! وإنّما أتوا من جهة الواسطة والشّفاعة والتّوسّل بدعاء غير الله وقصد سواه فيما يحتاجه العبد وما يهواه، وهذا صريح من تلك الحُجج البيّنات، ونصّ هذه الآيات المحكمات؛ احتجّ ـ سبحانه ـ بما أقرّوا به من الرّبوبيّة والاستقلال على إبطال قصد غيره بالعبادة والدُّعاء والاستغاثة ـ كما يفعله أهل الجهل والضّلال ـ.

فإن قيل: تجوز الاستغاثة بالأنبياء والصّالحين ودعاؤهم والنّذر لهم على أنّهم وسائط ووسائل بين الله وبين عباده، وأنّ الله يفعل لأجلهم! انهدمت القاعدة الإيمانيّة، وانتقضت الأصول التّوحيديّة، وانفتح باب الشّرك الأعظم، وعادت الرّغبات والرّهبات والمقاصد والتّوجيهات إلى سكان القبور والأموات، ومَن دُعي مع الله من سائر المخلوقات! وهذه هي الغاية الشّركيّة، والعبادة الوثنيّة؛ فنعوذ بالله من الضّلال والشّقاء، والانحراف عن أسباب الفلاح والهدى.

ص: 273

الوجه الخامس: أنّه لا فلاح ولا صلاح ولا نجاح ولا نعيم ولا لذّة للعبد إلَّا بأن يكون الله سبحانه وتعالى هو إلهه ومحبوبه ومستغاثه الذي إليه مفزعه عند الشّدائد، وإليه مرجعه في عامّة المطالب والمقاصد. والعبد به فاقة وضرورة وحاجة إلى أن يكون الله هو معبوده ومستغاثه، وإليه إنابته ومفزعه، ولو حصلت له كلّ الكائنات وتوجّه إلى جميع المخلوقات؛ لم تسدّ فاقته، ولا تدفع ضرورته، ولا يحصل نعيمه وفرحه ويزول همّة كربه وشقاؤه إلَّا بربّه؛ الذي مَن وجده وجد كلّ شيء، ومَن فاته فاته كلّ شيء، وهو أحبّ إليه من كلّ شيء، وهذه فاقة وضرورة وحاجات لا يشبهها شيء فتقاس به؛ وإنّما تشبه من بعض الوجوه حاجة العبد إلى طعامه وشرابه وقوّته الذي يقوم بدنه به؛ فإنّ البدن لا يقوم [إلَّا] بذلك، وفقده غاية انعدام البدن وموته. وأمّا فقد محبّة الله وعبادته ودعائه؛ فعذاب وشقاء وجحيم في الآخرة والأولى، لا ينفكّ [عنه] بحال من الأحوال. قال الله ـ تعالى ـ:{اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدوّ فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمَن تبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى} إلى قوله: {ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى} ، وقال ـ تعالى ـ:{الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصّالحات طوبى لهم وحسن مئاب} ، وفي الحديث القدسيّ ـ حديث الأولياء ـ؛ يقول الله ـ تعالى ـ: «مَن عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه

ص: 274

كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش

» الحديث.

وعلى القول بجعل الوسائط والشّفعاء بين العباد وبين الله؛ تقلع أصول هذا الأصل العظيم؛ الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركّب عليه البنيان؛ فأيّ فرح، وأيّ نعيم، وأيّ فاقة سُدّت، وأيّ ضرورة دُفعت، وأيّ سعادة حصلت، وأيّ أنس واطمئنان إذا كان التّوجّه والدُّعاء والاستغاثة والذّبح والنّذر لغير الله الحنّان المنّان؟! سبحان الله! ما أجرأ هذا المعترض على الله وعلى رسله وعلى دينه وعلى عباده المؤمنين! اللهمّ إنّا نبرأ إليك مما جاء به هذا المفتري، وما قاله في دينك وكتابك وعلى عبادك وأوليائك. قال الله ـ تعالى ـ:{لو كان فيهما آلهة إلَّا الله لفسدتا فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون} ؛ فصلاح السّماوات والأرض بأن يكون الله سبحانه وتعالى هو إلهها دون ما سواه، ومستغاثها الذي تفزع إليه وتلجأ إليه في مطالبها وحاجاتها، وقرّر المتكلّمون ـ هنا ـ: تمانع وجود ربّين مدبّرين؛ وأنّه لا صلاح للعالَم إلَّا بأن يكون الله قيومه ومدبّره، وقرّر غيرهم من المحقّقين: امتناع الصّلاح بوجود آلهة تُعبد وتُقصد وتُرجى. فالأوّل يرجع إلى الرّبوبيّة، والثّاني إلى الألوهيّة.

الوجه السّادس: أنّ الشّرع الذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم، والسُّنّة التي سنّها في قبور الأنبياء والصّالحين وعامّة المؤمنين؛ تنافي هذا القول الشّنيع الذي افتراه هذا الجاهل، وتبطله وتعارضه؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم سنّ عند القبور ما صحّت به الأحاديث النّبويّة، وجرى عليه عمل علماء الأُمّة؛ من السّلام عند زيارتها، والدُّعاء لأصحابها، وسؤال الله العافية لهم، من جنس ما شرعه من الصّلاة على جنائزهم، ونهى عن عبادة الله عند القبور، والصّلاة فيها وإليها، وخصّ قبور الأنبياء والصّالحين بلعن مَن اتّخذها مساجد يُعبد فيها ـ تعالى ـ

ص: 275

ويُدعى، وتواترت بذلك الأحاديث، خرّجها أصحاب الصّحيحين وأهل السُّنَن ومالك في «موطئه» :

فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وحديث ابن مسعود:«إنّ من شرار النّاس مَن تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» ، وحديث أبي هريرة:«قاتل الله اليهود؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وحديث جندب بن عبد الله، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:«إنّي بريء إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنّ الله قد اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنتُ متّخذًا من أهل الأرض خليلًا؛ لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ألا وإنّ مَن كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد؛ ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد؛ فإنّي أنهاكم عن ذلك» ، وحديث عائشة: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اعتمّ بها كشفها؛ فقال ـ وهو كذلك ـ:«لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

ص: 276

قالت عائشة: يحذّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره؛ ولكن خشي أن يتّخذ مسجدًا. وفي رواية لمسلم:«وصالحيهم» .

وإنّما نهى عن الصّلاة عندها واتّخاذها مساجد لما يفضي إليه من دعائها والاستغاثة بها، وقصدها للحوائج والمهمّات، والتّقرّب إليها بالنّذر والنّحر ونحو ذلك من القربات.

فجاء هذا العراقيّ؛ فهتك ستر الشّريعة، واقتحم الحمى، وشاقّ الله ورسوله، وقال: تُدعى ويُستغاث بها وتُرجى!

ومن اشتمّ رائحة العلم، وعرف شيئًا مما جاءت به الرّسل؛ عرف أنّ هذا الذي قاله العراقيّ من جنس عبادة الأصنام والأوثان، مناقض لما دلّت عليه السُّنّة والقرآن، ولا يستريب في ذلك عاقل من نوع الإنسان.

الوجه السّابع: أنّ الله ـ تعالى ـ نهى عن الغلوّ ومجاوزة الحدّ فيما شرعه من حقوق أنبيائه وأوليائه؛ قال ـ تعالى ـ: [ {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلَّا الحقّ} ، وقال تعالى: {قل] يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحقّ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيرًا وضلّوا عن سواء السّبيل} ، وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم؛ إنّما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» ، وعن ابن عبّاس في قوله ـ تعالى ـ:{وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سُواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا * وقد أضلّوا كثيرًا} : «هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا؛ أوحى الشّيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصابًا وصوّروا تماثيلهم، فلمّا مات أولئك ونُسي العلم؛ عُبدت» . وقال ابن القيّم: «قال غير واحد من

ص: 277

السّلف: عكفوا على قبورهم، وصوّروا تماثيلهم، فلمّا طال عليهم الأمد عُبدت» . انتهى.

فانظر إلى ما آل إليه الغلوّ بالتّصاوير والعكوف من غير دعاء ولا عبادة؛ فكيف بالدُّعاء والاستغاثة والتّوسّل؟!

والقول بأنّ لله يفعل لأجلهم؛ هذا نفس الشّرك، والأوّل وسيلته التي حدث الشّرك بسببها، وقد قطع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسيلة هذا الشّرك، وحمى الحمى، وسدّ الذّريعة حتى نهى عن الصّلاة عندها واعتياد المجيء إليها؛ بقوله في إشراف القبور:«لا تجعلوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» ، ونهى عن رفع القبور، وبعث عليّ بن أبي طالب [إلى اليمن] أن لا يدع تمثالًا إلَّا طمسه، ولا قبرًا مشرفًا إلَّا سوّاه، ونهى عن تعظيمها بإيقاد السّرج؛ كلّ هذا صيانة للتّوحيد وحماية لجنابه؛ فرحم الله امرءًا آمن بالجنّة والنّار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامه ومعلّمه وقدوته، ولم يلتفت عمّا جاء به، ولا يبالي بمَن خالفه وسلك غير سبيله، وحنّ إلى ما كان عليه السّلف الصّالح وأئمّة الهدى في هذا الباب وفي غيره؛ {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ، {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرّسول فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين} .

الوجه الثامن: أنّ من أعرض عن الله وقصد غيره، وأعدّ ذلك الغير لحاجته وفاقته، واستغاث به، ونذر [له] ، ولاذ به؛ فقد أساء الظّنّ بربّه، وأعظم الذّنوب عند الله ـ تعالى ـ إساءة الظّنّ به؛ فإنّ المسيء به الظّنّ قد ظنّ به خلاف كماله المقدّس؛ فظنّ به ما يناقض

ص: 278

أسماءه وصفاته؛ ولهذا توعّد سبحانه وتعالى الظّانّين به ظنّ السّوء بما لم يتوعّد به غيرهم؛ كما قال ـ تعالى ـ: {عليهم دائرة السّوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جنّهم وساءت مصيرًا} ، وقال ـ تعالى ـ لمن أنكر صفة من صفاته:{وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} ، وقال ـ تعالى ـ عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه:{ماذا تعبدون * أإفكًا ألهة دون الله تريدون * فما ظنّكم بربّ العالمين} ؛ أي: فما ظنّكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيّته من النّقص حتى أحوجكم إلى عبوديّة غيره؟!

فلو ظننتم به ما هو أهله من أنّه بكلّ شيء عليم، وعلى كلّ شيء قدير، وأنّه غنيّ عن كلّ ما سواه، فقير إليه كلّ ما عداه، وأنّه قائم بالقسط على خلقه، وأنّه المنفرد بتدبير خلقه، لا يشرك فيه غيره، و [أنّه] العالم بتفاصيل الأمور؛ فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده؛ لا يحتاج [إلى معين، والرّحمن بذاته؛ فلا يحتاج] في رحمته إلى مَن يستعطفه؛ [ما اتخذتم الأنداد من دونه والوسطاء بينكم وبينه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤوساء؛ فإنّهم محتاجون إلى مَن يعرّفهم أحوال الرعيّة وحوائجهم؛ من الوسطاء الذين يعينوهم على قضاء حوائجهم، وإلى مَن يسترحمهم ويستعطفهم بالشّفاعة؛ فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، فأمّا القادر على كلّ شيء، الغنيّ بذاته عن كلّ شيء، العالم بكلّ شيء، الرّحمن الرّحيم، الذي وسعت رحمته كلّ شيء؛ فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقّص بحقّ ربوبيّته وإلهيّته وتوحيده، وظنّ به ظنّ السّوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وفبحه مستقرّ في العقول السّليمة فوق كلّ قبح.

ص: 279

يوضّح هذا: أنّ العابد معظّم لمعبوده متألّه له، خاضع ذليل له، والرّبّ تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحقّ كمال التّعظيم والإجلال والتّألّه والخضوع والذّلّ، وهذا في خالص حقّه، فمن أقبح الظّلم أن يعطي حقّه لغيره، ويشرك بينه وبينه فيه، ولا سيّما إذا كان الذي جُعل شريكه في حقّه هو عبده ومملوكه؛ كما قال ـ تعالى ـ:{ضرب لكم مثلًا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} ؛ أي: إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه؛ كيف تجعلون لي [من] عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به ـ وهو الإلهيّة التي لا تنبغي لغيري، ولا تصحّ لسواي ـ؛ فمَن زعم ذلك؛ فما قدرني حقّ قدري، ولا عظّمني حقّ تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي.

فما قدر الله حقّ قدره مَن عبد معه غيره؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسّموات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون} ؛ فما قدر مَن هذا شأنه وعظمته حقّ قدره مَن أشرك معه في عبادته مَن ليس له شيء من ذلك ألبتة؛ بل هو أعجز شيء وأضعفه؛ فما قدر القويّ العزيز حقّ قدره مَن أشرك الضّعيف الذّليل، وكذلك ما قدره حقّ قدره مَن قال: إنّه لم يرسل إلى خلقه رسولًا ولا أنزل كتابًا؛ بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه؛ من إهمال خلقه وتركهم سدى وخلقهم باطلًا عبثًا، ولا قدره حقّ قدره مَن نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره، وعلوّه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمَن شاء من خلقه بما

ص: 280

يريد، أو نفى عموم قدرته وتعلّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم؛ فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الرّبّ تبارك وتعالى؛ فيكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون! تعالى الله عز وجل عن قول أشباه المجوس علوًّا كبيرًا.

وكذلك ما قدره حقّ قدره مَن قال: إنّه يعاقب عبده على ما [لا] يفعله العبد ولا له عليه قدرة ولا تأثير له فيها البتة؛ بل هو نفس فعل الرّبّ جل جلاله؛ فيعاقب عبده على فعله [هو] ، وهو سبحانه وتعالى الذي جبر العبد عليه، وجبرُه على الفعل أعظم من إكراه المخلوقِ المخلوقَ! فإذا كان من المستقرّ في الفطر اولعقول أنّ السّيّد لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه؛ لكان قبيحًا؛ فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الرّاحمين؛ كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقع بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثمّ يعاقب عليه عقوبة الأبد؟! تعالى الله عز وجل علوًّا كبيرًا.

وقول هؤلاء شرّ من أقوال المجوس، والطّائفتان ما قدروا الله حقّ قدره.

وكذلك ما قدره [حقّ قدره] مَن لم يصنه عن بئر ولا حُشّ ولا مكان يُرغب عن ذكره؛ بل جعله في كلّ مكان، وصانه عن عرشه أن يكون مستويًا عليه، يصعد إليه الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه، وتعرج الملائكة والرّوح إليه، وتنزل من عنده، ويدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثم يعرج إليه؛ فصانه عن استوائه على سرير المُلك، ثم جعله في كلّ مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه!

وما قدره حقّ قدره مَن نفى حقيقة محبّته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا مَن نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا مَن نفى حقيقة فعله

ص: 281

ولم يجعل له فعلًا اختياريًّا يقوم به؛ بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه! فنفى حقيقة محبّته، وإتيانه، واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى صلى الله عليه وسلم من جانب الطّور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه

إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها؛ وزعموا أنّهم بنفيها قدروا الله حقّ قدره!

وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن جعل له صاحبة وولدًا، وجعله يحلّ في مخلوقاته، وجعله عين هذا الوجود!

وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن قال: إنّه رفع أعداء رسله وأهل بيته وأعلى ذكرهم، وجعل فيهم المُلك والخلافة والعزّة، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلّهم وضرب عليهم الذّلة أين ما ثُقفوا! وهذا يتضمّن غاية القدح في الرّبّ تبارك وتعالى عن قول الرّافضة علوًّا كبيرًا ـ. وهذا القول مشتقّ من قول اليهود والنّصارى في ربّ العالمين: أنّه أرسل ملكًا ظالمًا؛ فادّعى النّبوّة لنفسه وكذب على الله ـ تعالى ـ، ومكث زمنًا طويلًا يكذب عليه كلّ وقت، ويقول: قال كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم [وأموالهم] وحريمهم، ويقول: الله ـ تعالى ـ أباح لي ذلك، والرّبّ تبارك وتعالى يُظهره ويؤيّده ويُعليه ويقوّيه ويجيب دعواته، ويمكّنه ممّن يخالفه، ويقيم الأدلّة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلَّا ظفر به؛ فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلّة تصديقه شيئًا بعد شيء! ومعلوم أنّ هذا يتضمّن أعظم القدح والطّعن في الرّبّ سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيّته ـ تعالى عن قول الجاحدين علوًّا كبيرًا ـ.

فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرّافضة؛ تجد القولين:

رضعا لبان ثدي أُمٍّ تقاسَما

بأسحم داج عوض لا يتفرّق

ص: 282

وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن قال: إنّه يجوز أن يعذّب أولياءه، ومَن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الجحيم، وينعّم أعداءه، ومَن لم يؤمن به طرفة عين، ويدخلهم دار النّعيم! وأنّ كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء؛ وإنّما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك؛ فمعناه: الخبر، لا مخالفة حكمته وعدله. وقد أنكر سبحانه وتعالى في كتابه على مَن يجوّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوإ الأحكام.

وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن زعم: أنّه لا يحيي الموتى، ولا يبعث مَن في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يُجازى [فيه] المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقّه من ظالمه، ويُكرم المتحمّلين المشاقّ في هذه الدّار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويُبيّن لخلقه الذين يختلفون فيه، وليعلم الذين كافروا أنّهم كانوا كافرين.

وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقّه فضيّعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعته المخلوقَ أهمّ عنده من طاعته؛ فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدّم في ذلك؛ لأنّه المهمّ عنده! يستخفّ بنظر الله إليه واطّلاعه عليه وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظّم نظر المخلوق إليه واطّلاعهم عليه بكلّ قلبه وجوارحه، يستحيي من النّاس ولا يستحيي من الله عز وجل، ويخشى النّاس ولا يخشى الله عز وجل، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عز وجل عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجدّ والاجتهاد وبذل النّصيحة، قد فرّغ له قلبه وجوارحه وقدّمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حقّ ربّه ـ إن ساعده القدر ـ قام قيامًا لا يرضاه مقله لمخلوق من مخلوقاته، وبدا له ما يستحيي أن يواجه به مخلوقًا مثله!!!

فهل قدر الله حقّ قدره مَن هذا وصفه؟! وهل قدره

ص: 283

حقّ قدره مَن شارك بينه وبين عدوّه في محض حقّه من الإجلال والتّعظيم والطّاعة والذّلّ والخضوع والخوف والرّجاء؟! فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكًا في ذلك؛ لكان ذلك جرأة وتوثّبًا على محضّ حقّه، واستهانة به، وتشريكًا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلَّا له سبحانه وتعالى؛ فكيف وإنّما شرك بينه وبين أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده؛ وهو عَدوّ على الحقيقة؛ فإنّه ما عُبد من دون الله إلَّا الشّيطان؛ كما قال ـ تعالى ـ:{ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألَّا تعبدوا الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} ، ولما عبد المشركون الملائكة ـ بزعمهم ـ؛ وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشّيطان، وهم يظنون أنّهم يعبدون الملائكة؛ كما قال ـ تعالى ـ:{ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون} ؛ فالشّيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمه أنّه ملك، وكذلك عبّاد الشّمس والقمر والكواكب يزعمون أنّهم يعبدون روحانيّات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج! ولهذا إذا طلعت الشّمس قارنها الشّيطان ـ لعنه الله تعالى ـ؛ فيسجد لها الكفّار؛ فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها، وكذلك مَن عبد المسيح وأُمّه لم يعبدهما؛ وإنّما عبد الشّيطان؛ فإنّه يزعم أنّه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أُمّه ورضيها لهم وأمرهم بها؛ وهذا هو الشّيطان الرّجيم ـ لعنه الله تعالى ـ، لا عبد الله ورسوله.

ونُزّل هذا كلّه على قوله ـ تعالى ـ: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين} ؛ فما عبد أحد من

ص: 284

بني آدم غير الله عز وجل كائنًا مَن كان إلَّا وقعت عبادته للشّيطان؛ فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشّيطان؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ:{ويوم نحشرهم جميعًا يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس} ـ من إغوائهم وإضلالهم ـ {وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلتَ لنا قال النّار مثواكم خالدين فيها إلَّا ما شاء الله إنّ ربّك حكيم عليم} .

فهذه إشارة لطيفة إلى السّرّ الذي لأجله كان الشّرك أكبر الكبائر عند الله ـ تعالى ـ، وأنّه لا يُغفر بغير التّوبة منه، وأنّه يوجب الخلود في النّار، وأنّه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النّهي عنه؛ بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكيف يظنّ بالمنفرد بالرّبوبيّة والإلهيّة والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؟! تعالى الله عز وجل عن ذلك عُلوًّا كبيرًا» . انتهى.

وإنّما سقنا هذا المبحث العظيم الذي تُعقد عليه الخناصر ويُعضّ عليه بالنّواجذ؛ لما فيه من الفوائد التي لا يستغني عنها مَن نصح نفسه، وإنّما الغرض بيان ما في التّوسّل والاستغاثة بالأموات والغائبين من سوء الظّنّ بالله ربّ العالمين.

الوجه التّاسع: أنّ الله ـ تعالى ـ حرّم القول عليه بغير علم، وجعله أعظم من الشّرك؛ قال ـ تعالى ـ:{قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تُشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} الآية؛ فرتّب المحرّمات منتقلًا من الأدنى إلى الأعلى، وقال ـ تعالى ـ:{ومَن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أولئك يُعرَضون على ربّهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين * الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا وهم بالآخرة هم كافرون} ، ومَن عرف الشّرك حقّ المعرفة؛ يعلم أنّ مَن قال: تجوز الاستغاثة والتّوسّل بالأنبياء والصّالحين والنّذر لهم والحلف وما أشبهه

ص: 285

من التّعظيم؛ له نصيب وافر من الكذب على الله وعلى رسله، ومن الصّدّ عن سبيل الله وابتغاء العوج، والله المستعان. وقال الله ـ تعالى ـ:{قالوا اتّخذ الله ولدًا سبحانه هو الغنيّ له ما في السّموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدُّنيا ثمّ إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشّديد بما كانوا يكفرون} .

ويتبيّن كذب هذا العراقيّ على الله وعلى رسوله وعلى عباده الصّالحين؛ بالكلام على ما ساقه هذا العراقيّ من الأدِلّة التي يزعم أنّها تدلّ على دعواه وتنصر ما قاله وافتراه:

فأمّا قوله: «اعلم أنّ المجوّزين للاستغاثة بالأنبياء والصّالحين مرادهم أنّها أسباب ووسائل بدعائهم، وأنّ الله يفعل لأجلهم، لا أنّهم الفاعلون استقلالًا من دون الله؛ فإنّ هذا كفر بالاتّفاق» :

فجواب هذا: تقدّم في الوجه الثّاني؛ وذكرنا أنّ المشركين من عهد نوح إلى عهد خاتم النّبيّين صلى الله عليه وسلم لم يقصدوا سوى هذا، ولم يدّعوا لآلهتهم غيره، وأنّهم ما زادوا حرفًا واحدًا على هذا العراقيّ وشيعته، وهو يظنّ أنّ النّزاع في: دعواه الاستقلال، وليس الأمر كذلك؛ فإنّ النّزاع بين الرّسل وقومهم إنّما هو في توحيد العبادة؛ فكل رسول أول ما يقرع أسماعه قومه بقوله:{يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ، وكان المشركون من الجاهليّة يقولون في تلبيتهم:«لبيك لا شريك لك، إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك» ؛ فأثبتوا الشّركة في العبادة، واعتقدوا أنّ آلهتهم مملوكة لا مستقلّة. وهذا ظاهر في القرآن والسُّنّة، لا يجهله مَن عرف ما النّاس

ص: 286

فيه من أمر دينهم، وإنّما خفي ذلك على هذا المعترض لفرط جهله وكثافة فهمه، ولأنّه نشأ بين عبّاد القبور المتوسّلين بها وبأهلها؛ فظنّ أنّ هذا هو الإسلام! والمسكين لم يعرف ربّه وما يجب له من الحقوق على كافّة الأنام، ولم يتخرّج على إمام يعتمد في بيان الشّرائع والأحكام، مع أنّ عبّاد القبور في هذه الأزمان اعتقدوا التّدبير والتّصريف لمن يعتقدونه؛ فظائفة قالت: يتصرّف [في الكون سبعة، وطائفة قالت: يتصرّف أربعة، وطائفة قالت: يتصرّف] سبعون، واختلفوا في قُطبهم الذي إليه يرجعون! تعالى الله عما يقول الظّالمون: فأهل مصر يرون أنّه البدوي، وأهل العراق يرجّحون الشّيخ عبد القادر الجيلانيّ، والرّافضة يرون ذلك للأئمّة من أهل البيت، وهذا مشتهر عنهم لا ينكره إلَّا مكابر.

وقد حكم العراقيّ بأنّ دعوى الاستقلال كفر بالاتّفاق، وعلى قول غلاة عبّاد القبور: مصدر التّصريف عنهم يستقلّون به؛ لأنّ الوكيل يستقلّ بتدبير ما وُكّل إليه، وحينئذٍ فإذا لم يعرف العبادة ومسألة النّزاع؛ كيف يجادل عن قوم جزم بكفرهم وحكى عليه الاتّفاق؟! فالرّجل مخلّط لا يدري ما يقول!

وأمّا قوله: «ولا يخطر ببال مسلم جاهل فضلًا عن عالم» ؛ فيقال: أين العَنقاء

ص: 287

لُتطلب، وأين السّمندل ليُجلب؟! إذا صحّ الإسلام لم يرغب أهله إلى دعاء غير الله من العبّاد والأوثان والأصنام.

وأمّا قوله: «بل ليس هذا خاصًّا بنوع الأموات؛ فإنّ الأحياء وغيرهم من الأسباب العاديّة ـ كالقطع للسّكين، والشّبع للأكل، والرّي، والدفء ـ لو اعتقد أحد أنّها فاعلة [ذلك] بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعًا» :

فيُقال: إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالًا يكفر فاعله إجماعًا، وهي من الأسباب العاديّة التي أودع الله فيها قوّة فاعلة؛ فكيف لا يكفر مَن أسند ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ من إغاثة اللهفات وتفريج الكربات وإجابة الدّعوات ـ إلى غير الله من الصّالحين أو غيرهم، وزعم أنّها وسائل، وأنّ الله وكّل إليهم التّدبير كرامة لهم؟! هذ أولى بالكفر وأحقّ به ممن قبله.

ويُقال للعراقيّ: أنتَ لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشّبهة، وأنّه شرك أصغر يثاب مَن أخطأ فيه؛ فكيف جزمتَ بكفر مَن أسند القطع للسّكين من غير إسناد إلى الله؟؟!! وما الفرق بين مَن عذرتَه وجزمتَ بإثابته، وبين مَن كفّرته وجزمتَ بعقابه؟؟؟! ليست إحدى المسالتين بأظهر من الأخرى، وما يُقال من الجواب فيما أثبتَه من الكفر يُقال فيما نفيتَه:

يومًا بحُزوي ويومًا بالعقيق

وبالعُذيب يومًا ويومًا بالخُليصاء

ص: 288

أيّ مذهب وافق هواك تمذهبتَ به؟!

ويُقال: جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العاديّة وغيرها؛ فالشّبع والرّي والدفء أسباب عاديّة فاعلة، وإنّما يكفر مَن أنكر خلق الله لهذه الأسباب وقال بفعلها دون مدبّر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلّق بتوحيد الرّبوبيّة، وأمّا جعل الأموات أسبابً يُستغاث بها وتُدعى وترجى وتعظّم على أنّها وسائط؛ فهذا دين عبّاد الأصنام؛ يكفر فاعله بمجرّد اعتقاده وفعله، وإن لم يعتقد الاستقلال؛ كما نصّ عليه القرآن في غير موضع؛ فالعراقيّ معارض للقرآن مصادم لنصوصه!

وأمّا قوله: «إنّ السّبكيّ والقسطلانيّ والسّمهوديّ وابن حجر في «الجوهر المنظم» قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره في معنى التّوسّل إلى الله بجاهه

» إلى آخره؛ فمسألة الاستغاثة به وبجاهه ليست هي مسألة النّزاع، ومراد أهل العلم: أن يسأل الله بجاه عبده ورسوله، لا أن يسأل الرّسول نفسه؛ فإنّ هذا لا يطلق عليه (توسّل) ؛ بل هو دعاء واستغاثة؛ وتقدّم أنّ لفظ (التّوسّل) صار مشتركًا؛ فعبّاد القبور يطلقون (التّوسّل) على: الاستغاثة بغير الله ودعائه رغبًا ورهبًا، والذّبح والنّر والتّعظيم بما لم يشرع في حقّ مخلوق، وأهل العلم يطلقونه على: المتابعة والأخذ بالسُّنّة؛ [فيتوسّلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التّوسّل في عُرف القرآن والسُّنّة]ـ كما يأتيك مفصّلًا (إن شاء الله تعالى) ـ.

ومنهم مَن يطلقه على: سؤال الله ودعائه بجاه نبيّه، أو بحقّ عبده الصّالح، أو

ص: 289

بعباده الصّالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخّرين ـ كالسّبكيّ والقسطلانيّ وابن حجر ـ.

وبالجملة: فما نقله ـ هنا ـ عمّن ذكر؛ ليس من مسألة النّزاع في شيء، وإن كابر العراقيّ وزعم أنّهم قصدوا دعاء الأنبياء والصّالحين والاستغاثة بهم أنفسهم، وأنّ هذا يسمّى (توسّلًا) ؛ فهذا عين الدّعوى، والدّعوى يُحتجّ لها لا بها؛ فبطل كلامه على كلّ تقدير!

وأمّا قوله: «أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة؛ إذ هو غير ممتنع» ؛ فيُقال: هذا جرأة على الله وعلى رسوله، وتقدُّم إليه بما لم يشرعه ولم يأذن فيه، وأعلم الخلق به ـ أصحابه وأهل بيته وأئمّة الدّين من أُمّته ـ لم يفعل أحد منهم ذلك البتة، ولا نقله مَن يعتدّ به، وهم أعلم الخلق به وبدينه وشرعه وما يجوز وما يمتنع؛ فلا يخلو إمّا أن: تسلّم هذه المقامات؛ ويجزم بأنّ الخروج عن هديهم من أفضح الجهالات وأضلّ الضّلالات، أو: تسلّم تلك المقدّمات؛ ويُدّعى أنّ الخلف ـ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون ـ أحقّ بالصّواب والعلم والمتابعة في تلك المسائل والمقالات. وهذا انحلال عن جملة الدّين، وقدح في القرون المفضلة بنصّ سيد المرسلين، وكفى بهذا فضيحة وجهلًا لو كانوا يعلمون!

وأمّا قوله: «مع علمه [بسؤال مَن سأله] ، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن

ص: 290

يحصل له الغوث من غيره» :

فيُقال: أمّا دعوى عموم العلم بسؤال السّائلين لمن يستغيث به جهلة القبوريّين؛ فالأخذ به وإطلاقه على غير الله كفر صريح باتّفاق أهل العلم؛ فإنّ مَن زعم إحاطة العلم وعمومه لغير الله، أو عموم القدرة أو الرّزق أوالخلق لغيره ـ سبحانه ـ يكفر كفرًا واضحًا ـ كما ذكره شرّاح الأسماء [الحسنى] وغيرهم من أهل العلم ـ.

وأمّا دعوى تخصيص ذلك بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فهي ـ وإن كانت من جنس ما قبلها في الرّدّ والمنع ـ تُبطل مذهب عبّاد القبور ودعائهم لغير الله من الغائبين والأموات؛ فإنّ دعاء الغافل الذي لا يعلم بحال الدّاعي ولا يدريها ضلال مستبين؛ قال ـ تعالى ـ: {ومَن أضلّ ممّن يدعو من دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون} .

وأمّا قوله: «والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ممّن هو أعلى منه، وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك

» إلى آخره؛ فهذا يدلّ على جهل العراقيّ باللّغة والشّرع؛ فإنّ الدّاعي السّائل لغيره لا يسمى (مغيثًا)، و (المغيث) : مَن يفعل الإغاثة ويحصل الغوث بفعله.

قال شيخ الإسلام: مَن زعم أنّ مسألة الله بجاه عبده تقتضي أن يُسمى العبد (مغيثًا) ، أو يكون ذلك استغاثة بالعبد؛ فهذا جهل، ونسبته إلى اللّغة أو إلى أُمّة من الأُمم كذب ظاهر؛ فإنّ (المغيث) : هو فاعل الإغاثة ومحدثها، لا مَن تُطلب بجاهه وحقّه، ولم يقل أحد: إنّ (التّوسّل بشيء) هو الاستغاثة به؛ بل العامّة الذين يتوسّلون في أدعيتهم بأمور ـ كقول أحدهم: نتوسّل إليك بحقّ الشّيخ فلان أو بحرمته، أو باللّوح، أو بالقلم، أو بالكعبة ـ في أدعيتهم؛ يعلمون أنّهم لا يستغيثون بهذه الأمور، وأنّ المستغيث [بالشيء] طالب

ص: 291

منه سائل له، والمُتوسّل به لا يدعى ولا يُطلب منه ولا يُسأل؛ وإنّما يُطلَب به؛ فكلّ أحد يفرّق بين المدعو به والمدعو ـ وتقدّم ذلك ـ.

وقول العراقيّ: «والنّبيّ مستغاث منه تسبّبًا وكسبًا» :

فيُقال: نعم؛ هذا معتقد مَن يعبد الأنبياء والصّالحين ويستغيث بهم؛ يقول: هم سببي وواسطتي، يحصلون لي بكسبهم، والله هو الخالق، ولا أدعي غير ذلك! ولا نازع في الخلق والرّبوبيّة إلَّا فرعون والذي حاجّ إبراهيم في ربّه، وجمهور المشركين على الأوّل ـ كما تقدّم تقريره ـ؛ فبطل تعليله.

وأمّا قوله: «ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر رضي الله عنه: «قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛ لأنّ في سنده ابن لهيعة، [والكلام فيه مشهور] » :

فيُقال: إنّ ابن لهيعة خرّج له البخاريّ ومسلم؛ فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلَّا جاهل بالصّناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن: عطاء بن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلق، وعنه:

ص: 292

شعبة بن الحجّاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، واللّيث بن سعد، وابن وهبة، وخلق، ومَن طعن في ابن لهيعة بقول بعض النّاس فيه؛ لزمه الطّعن في كثير من الأكابر المحدّثين ـ كسعيد المقبريّ، وسعيد بن إياس الجريريّ، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السّمّان البصريّ، وأحمد بن صالح المصريّ، وأبي اليمان، وأمثالهم ممّن خرّج لهم البخاريّ وغيره من الأئمّة ـ.

ليس عُشَّك فادرُجي

ص: 293

فدع عنك الكتابةَ لستَ منها

ولو سوّدتَ وجهكَ بالمدادِ

وأمّا قوله: «وبفرض صحّته؛ فهو على حدّ قوله ـ تعالى ـ: {وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا حملتُكم؛ ولكنّ الله حملكم» » ؛ وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضّلّال؛ فإنّ لفظ (الاستغاثة) : طلب الغوث ممّن هو بيده لمن أصابته شدّة ووقع في كرب، والأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمَن يجيب المضطرّ إذا دعاه، الموصوف بأنّه غياث المستغيثين، مجيب المضطرّين، أرحم الرّاحمين؛ فلفظ (الاستغاثة) يستعمل في مخّ العبادة، وما لا يقدر عليه إلَّا الله عالم الغيب والشّهادة. فكَرِه صلى الله عليه وسلم إطلاقَه عليه فيما يستطيعه ويقدر عليه؛ حماية لحمى التّوحيد، وسدًّا لذريعة الشّرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق؛ فحماية جانب التّوحيد من مقاصد الرّسول، ومن قواعد هذه الشّريعة المطهّرة؛ فأين هذا من قوله:{وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى} ؛ فإنّ (الرّمي) المنفيّ: هو إيصال ما رمى به إلى أعين المشركين جملتهم وهزيمتهم بذلك، و (الرّمي) المثبت: ما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رمي ما أخذ بكفّه الشّريفة من التّراب واستقبال وجوه العدوّ به.

وأمّا قوله: «وكثيرًا ما تجيء السُّنّة بنحو هذا من بيان حقيقة العلم، ويجيء القرآن من إضافة الفعل إلى مكتسبه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد الجنّة بعمله» ، مع قوله ـ تعالى ـ:{ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون} » ؛ فالأمر ليس كما توهّمه العراقيّ؛ فإنّ (الباء) في الحديث: باء المعاوضة والمبادلة، و [ (الباء) في الآية] : هي بابء السّببيّة، لا باء المعاوضة؛ فالمنفي غير

ص: 294

المثبت ـ كما نصّ عليه أهل العلم وأهل التّفسير وكلّ فاضل وعارف بصير ـ، ونعوذ بالله من القول على الله وعلى كتابه بغير علم ولا سلطان منير.

وأمّا قوله: «إنّ إطلاق لفظ (الاستغاثة) لمن يحصل منه غوث ولو تسبّبًا؛ أمر معلوم لا شكّ فيه لغة ولا شرعًا» ؛ فقد تقدّم كلام شيخ الإسلام في نفي الاستغاثة عمّن يسأل الله بجاهه وحقّه، وعمّن يدعو غيره، وأنّ مَن قال ذلك قد كذب على سائر اللّغات والأُمم، وأمّا مَن يسأل ويدعو وينادي ـ كما يفعله عبّاد القبور بمَن يدعونه ـ؛ فهذا [يسمّى] استغاثة، كما يسمّى عبادة لغير الله وشركًا بالله، وهذا النّوع ليس النّزاع في اسمه؛ وإنّما النّزاع في جوازه وحِلّه، وأمّا حديث الشّفاعة؛ فهو فيما يقدر عليه البشر من الدُّعاء، كما يُسأل الحيّ الحاضر أن يدعو الله وأن يستسقي.

وأمّا كلام الشّيخ ابن تيميّة الذي نقله عن المصنّفين في أسماء الله؛ فهو حُجّة لنا على عبّاد القبور؛ فإنّهم استغاثوا بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَّا الله.

وقوله: «وإن حصلت من غيره ـ تعالى ـ؛ فهو مجاز

» ؛ جوابه: إنّ الاستغاثة التي هي من جنس الأسباب العاديّة التي يقدر عليها المخلوق وفي وسعه؛ فهذه ـ وإن حصلت من العبد ـ فهي حقيقة لا مجاز، ولا ينازع في هذا مَن عرف شيئًا من اللّغة، والعبد يفعل حقيقة؛ فيأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالمًا أو مظلومًا حقيقة، والله ـ سبحانه ـ خلق العبد وما يعمل، وهذا معروف من عقائد أهل السُّنّة والجماعة. وإنّما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله وعمّن قام به: القدريّة المجبّرة الذين يزعمون أنّ العبد مجبور، وأنّه لا اختيار له ولا مشيئة ـ كما هو مبسوط في موضعه ـ، والعراقيّ صفر اليدين من هذه المباحث المهمّة!

وكذلك قوله: «الاستغاثة بمعنى: أن يطلب منه ما هو اللّائق بمنصبه» ؛ لا ينازع فيها

ص: 295

مسلم؛ فاللائق بمنصبه الشّريف أن يطلب منه ما يستطيعه ويقدر عليه ـ كالدُّعاء وسائر الأسباب العاديّة ونحو ذلك ـ، وأمّا ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ كهداية القلوب، والمغفرة للذّنوب، والإنقاذ من النّار، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلَّا الله الواحد القهّار ـ؛ فهذا إنّما يليق بمقام الرّبوبيّة؛ قال ـ تعالى ـ:{إنّك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنّ الله يهدي مَن يشاء} ، وقال:{ومَن يغفر الذّنوب إلَّا الله} ، وقال ـ تعالى ـ:{أفأنتَ تنقذ مَن في النّار} ، وقال ـ تعالى ـ:{ليس لكَ من الأمر شيء} ، وقال رجل: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمّد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «عرف الحقّ لأهله» .

وأمّا قول العراقيّ: «وقد ذكر المجوّزون أنّ جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم متسبّبًا لا مانع من ذلك شرعًا وعقلًا» ؛ فهذه العبارة ركيكة التّركيب! والمجوّزون للاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَّا الله هم خصومنا؛ فلا حُجّة في كلامهم؛ بل الشّرع والعقل يرد مذهبهم ويبطله ـ كما مرّ تقريره عن شمس الدّين ابن القيّم ـ، وأمّا الأسباب العاديّة؛ فإنّها قد تُستحبّ وقد تُباح وقد تُكره، وليس الكلام فيها.

والمستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَّا الله لا ينجيه مجرّد اعتقاده أنّ ذلك بإذن الله؛ بل لا بُدّ من إخلاص الدُّعاء والاستغاثة، ودعاء المستغيث من أجلّ العبادات؛ فجيب إخلاصه لله.

وقول العراقيّ: «ومَن أقرّ بالكرامة وأنّها بإذن الله؛ لم يجد بدًّا من اعترافه بجواز ذلك» ؛ يُقال له: بل البُدّ والسّعة واليسر في القول بأنّه: لا يُستغاث بالمخلوق فيما يختصّ بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت؛ فالكرامة فعل الله لا من فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره، ولم يكن الصّحابة يستغيثون

ص: 296

ويسألون مَن ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق. فهذا الكلام الذي قاله العراقيّ جهل مركّب يليق بقائله؛ فإنّ كلّ إناء بالذي فيه ينضح!

وأمّا قوله: «والأخبار النّبويّة قد عاضدته، والآثار قد ساعدته» ؛ فالبوقوف على ما مرّ من كلامنا؛ تعرف أنّ الأخبار النّبويّة قد عارضته وما عضدته ـ بل أبطلته ـ، والآثار السّلفيّة قد ردّته وما ساعدته!

وأمّا قوله: «ومَن جعل اللهُ فيه قدرةً كاسبةً للفعل مع اعتقاده أنّ الله هو الخالق؛ كيف يمتنع عليه طلب ذلك الشّيء؟» :

فجوابه: أنّ الله لم يجعل للعباد قدرة على ما يختصّ به من الإغاثة المطلقة، وأمّا الإغاثة بالأسباب اعلاديّة وما هو في طوق البشر وقدرتهم؛ فهذا ليس الكلام فيه، والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العاديّة وما يطلب من الحيّ الحاضر؛ فما هنا ليس من ذلك القبيل؛ {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} ، وقد يجعل الله للعبد قدرة على بعض الأشياء ويمنع من سؤاله وطلبه؛ وفي الحديث:«لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم» ، وفيه:«مَن يسأل النّاس وله ما يغنيه؛ جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا ـ أو خموشًا ـ في وجهه» ؛ فهذا له قدرة وقد مُنع السّائل الغني من سؤاله، بل والسّحرة جعل الله لهم قدرة على أنواع السّحر والشّعوذة، وسؤالهم ذلك من أكبر الكبائر؛ فبطل قول العراقيّ:«إنّ مَن جعل الله له قدرة لا مانع من سؤاله» ، وكون الله قد قرّر أنبياءه ورسله وأوجب على العباد برّهم وتعظيمهم؛ لا يفضي ذلك أن يُستغاث بهم أو يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله؛ والتّعظيم اللّائق بمناصبهم ليس من هذا الجنس؛ بل تعظيمهم: محبّتهم وطاعتهم وتعزيرهم وتوقيرهم والاقتداء بهديهم والأخذ بما جاءوا به، وعبّاد القبور تركوا هذا التّعظيم الواجب وعظّموهم بالاستغاثة

ص: 297

والعبادة والذّبح والنّذر؛ من جنس تعظيم أهل الكتاب لأنبيائهم ورهبانهم وأحبارهم! وهذا العراقيّ من جهله يدعو النّاس إلى طريقة الغلاة من أهل الكتاب، ويعرض عما جاءت به الرّسل، ويصدّ عن السُّنّة والكتاب؛ قال ـ تعالى ـ:{إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الصّمّ البكم الذين لا يعقلون} .

وأمّا قوله: «وقد خلق الله فيه قوة كاسبة» ؛ فإن أراد: القوّة العاديّة البشريّة الإنسانيّة؛ فليس النّزاع في هذا، وإن أراد: ما يعتقده عبّاد القبور في معبوداتهم من الصّالحين وغيرهم، وأنّ لهم قدرة على إجابة المضطر وإغاثة الملهوف وقضاء حوائج السّائلين؛ فهذا شرك في الرّبوبيّة لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهليّة! بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرّفًا وتدبيرًا، وإن أراد: أنّهم يُدعَون ويُسألون ويُستغاث بهم والله يعطي لأجلهم؛ فهذا هو قول أهل الجاهليّة من الأُمّيين والكتابيّين؛ وتقدّمت الآيات الدّالّة على ذلك، وتقدّم ما حكام الشّيخ من قول النّصارى:«يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الله» ؛ فهم طلبوا منها الشّفاعة والجه ليس إلَّا، وهذا من كفرهم وشركهم، مع ما هم عليه من القول [الشّنيع] في عيسى وأُمّه ـ قاتلهم الله ـ. فإن كان العراقيّ أراد هذا الثّاني؛ فهو شرك غليظ، وقد تقدّم له التّصريح بذلك، وعبارته هنا توهم الأوّل، وهو الغالب على عبّاد القبور في هذه الأزمان، نسأل الله العفو والعافية.

وأمّا كون الأولياء والصّالحين في حال مماتهم كحال حياتهم يَدعون لمَن قصدهم، ويتسبّبون في إنقاذه؛ فهذا جهل عظيم وقول على الله بلا علم، لم يرد به كتاب ولا سُنّة ولا قاله ولا فعله أحد يُعتدّ به ويقتدى به من أهل العلم والإيمان، وقد مضت القرون الثّلاثة المفضّلة ولم يعهد عن أحد منهم أنّه قال ذلك أو فعله، وعندهم أشرف القبور على الإطلاق ولم يعرف عن أحد منهم أنّه سأل الرّسول صىل الله عليه وسلم أو دعاه، ولا غيره من الصّالحين. وخبر العتبيّ

ص: 298

قد تقدّم الكلام فيه، وإنّ فاعل ذلك أعرابيّ ليس ممّن يُقتدى به ويُحتجّ بقوله، وإن كان بعض المتأخّرين احتجّ بحكاية الأعرابيّ؛ فهو احتجاج مدخول، وقد نازعهم من هو أقدم منهم وأجلّ من الأكابر والفحول.

وقول العراقيّ في قوله ـ تعالى ـ: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} : «فإن [قال] قائل: هذا في الحيّ، وله قدرة؛ قلنا: لا يجوز نسبة الأفعال إلى أحد حيّ أو ميّت على أنّه الفاعل استقلالًا من دون الله» ؛ فهذا الكلام أورده العراقيّ بناء على أنّ النّزاع في دعوى الاستقلال، وبزعمه أنّه إذا لم يعتقد الاستقلال؛ فالأسباب العاديّة كغيرها، ودعاء الأموات والغائبين يجوز عنده إذا لم يعتقد الاستقلال! هذه دعواه كرّرها مرارًا واحتجّ بها، والدّعوى تحتاج لديل ولا تصلح هي دليلًا، لا سيّما هذه الدّعوى الضّالّة الكاذبة الخاطئة، والله ـ سبحانه ـ حكى استغاثة المخلوق الحيّ الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوّه، وهذا جائز لا نزاع فيه. واعتقاد الاستقلال من دون الله، وأنّ العبد يخلق أفعال نفسه؛ هذه مسألة أخرى لم يقل بها إلَّا القدريّة النّفاة، والنّاس مختلفون في تكفيرهم بهذا القول. وبالجملة: فالنّزاع في غير هذه المسألة؛ وإنّما هو في: دعاء الأموات والغائبين، وإن لم يستقلّ بذلك المطلوب من دون الله.

وقول العراقيّ: «وقد جعل الله الإغاثة في غيره» ؛ قول ركيك فاسد المعنى؛ فإنّ الله لم يجعل الإغاثة في غيره؛ بل هو المغيث على الإطلاق؛ وإنّما جعل للعباد عملًا وكسبًا في فرد جزئيّ مما يستطيعه العبد ويكون في قدرته. وعبارة العراقيّ في غاية البشاعة!

ص: 299

وقوله: «فلهذا [نفي] النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإغاثة ـ كما تقدّم ـ» ـ حيث قال: إنّه لا يُستغاث إلَّا بالله ـ؛ فليس النّفي لما ذكره العراقيّ؛ فإنّ المخاطبين يعلمون أنّ الله خالق أفعال العباد؛ وإنّما نفى الاستغاثة عنه حماية للتّوحيد وصيانة لجانبه؛ كما قال لمَن قال له: أنتَ سيّدنا وابن سيّدنا: «السّيد الله. إنّما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» ، ولو كان كما زعم العراقيّ؛ لنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ فعل وكلّ قول صدر منه؛ لأنّه لا يفعله استقلالًا؛ قال الله ـ تعالى ـ:{والله خلقكم وما تعملون} . والعراقيّ قد خاض فيما لا يدريه، وما هو أجنبيّ عنه؛ فألحد في الألفاظ النّبويّة وحرّفها، وكابر الحسّ والمعقول، والمنفيّ في الحديث (الاستغاثة) لا (الإغاثة) ، وأظنّ المعترض لا يفرّق بينهما!» .

انتهى ما أردتُ نقله من كلام هذا الفاضل في الكتاب المذكور، وقد آثرتُ نقله بطوله لما فيه من ردّ هذه الشّبهات التي تشاغب بها السّبكيّ وابن حجر المكيّ وداود العراقيّ والنّبهانيّ، وهؤلاء إنّما أخذوا هذه الشّبهات من كلام السّبكيّ، وقد تبيّن دحضها ـ ولله الحمد ـ.

والقول الفصل في هذه المسألة: أنّه مَن تأمّل القرآن الحكيم من أوّله إلى آخره؛ لم يجد فيه آية تدلّ بمنطوقها أو بمفهومها على ما ذهب إليه السّبكيّ وأضرابه من جواز الاستغاثة بالمخلوق الغائب حيًّا كان أو ميّتًا، وطلب الحوائج منه؛ بل كلّ آيات القرآن الواردة في التّوحيد تنهى عن ذلك وتأمر بسؤال الله ـ تعالى ـ وحده، والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وكذا السُّنّة الصّحيحة؛ فإنّها موافقة للقرآن، فإن جاء شيء يخالف القرآن والسُّنّة الصّحيحة؛ فلا يُلتفت إليه؛ لأنّه معارض ومناقض للكتاب والسُّنّة الصّحيحة، والذين جوّزوا الاستغاثة لم يأتوا بشيء يصلح للاستدلال ـ كما علمتَ ـ.

ص: 300

فصل

وقد اشتبه على كثير من النّاس ـ حتى المنتسبين إلى العلم ـ معنى (الاستغاثة) و (الاستغانة) و (الاستجارة) و (التّوسّل) ؛ فنرى بعضهم يأتي بالألفاظ المتضمّنة للشّرك الظّاهر والغلوّ الزّائد ويقول: أنا متوسّل!

ويقول [أحد مَن تسلّط الشّيطان] عليهم في حقّ الرّسول صلى الله عليه وسلم:

منا سامَني الدّهرُ ضَيمًا واستَجرتُ بهِ

إلَّا ونِلتُ جِوارًا منه لَم يُضَمِ

ولا استلمتُ غنى الدّارين من يدهِ

إلَّا استلمتُ النَّدى من خيرِ مُستلِمِ

وقد عظّم بعض الجهّال ـ ممّن شرح هذه القصيدة ـ هذين البيتين، وجعل لهما خصائص وفوائد! فنعوذ بالله من الضّلال بعد الهدى.

ومثل قول بعضهم في حقّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أيضًا:

فمَن لي أرتجيهِ لكشف ضُرّي

وغوثي في الشّدائِدِ والنّوالِ

فانظر إلى هذا المتغالي في شعره، النّاسي لربّه؛ كيف لم يجعل له إلهًا يرتجيه لكشف الضُّرّ والشّدائد إلَّا الرّسول صلى الله عليه وسلم!

وأمثال ذلك كثير معلوم لمن تتبّع شعر القبوريّين؛ وقد احتوت مجموعة النّبهانيّ ـ التي طبعها في بيروت ـ على أكثره!

وقد عرفت الفرق بين (التّوسّل) و (الاستغاثة) بما مرّ، ومَن جعل (التّوسّل) و (الاستغاثة) و (التّشفّع) و (التّوجّه) كلّ ذلك بمعنى واحد؛ فهو من أجهل الجاهلين بلغة القرآن والسُّنّة، بعيد عن لسان العرب.

وللإمام الفاضل المفسّر المحدّث ذي النّسبين السّيد محمود شكري الآلوسيّ في

ص: 301

كتابه «غاية الأماني» الذي ردّ به على النّبهانيّ ـ وهو كتاب لم يؤلّف مثله في هذا الباب ـ كلام نفيس؛ قاله ـ حرسه الله وأبقاه، ومن كلّ شرّ وهمّ نجّاه ووقّاه ـ عند نقل النّبهانيّ في كتابه «شواهد الحقّ» كلام السّبكيّ هذا وابن حجر المكيّ وأضرابها في جواز الاستغاثة والتّوسّل بالمخلوقين، وأنّهما بمعنى واحد:

«أقول ـ ومن الله المعونة وبه أزمّة التّوفيق ـ: إنّ الكلام على ما حواه كلامه من الكذب والزّور والبطلان يطول جدًّا، فضلًا عمّا اشتملت عليه عبارته من الغلط وفساد التّركيب وسوء التّعبير؛ فكتابه كلّه ظلمات بعضها فوق بعض! فلو تكلّمنا على ذلك كلّه لطال الكلام، وكلّت عن رقمه الأقلام؛ فإنّ النّبهانيّ هذا هو من أعظم الغلاة المحادّين لله ورسوله، وكلامه كلّه باطل، وجهل مركّب، وبهت لأهل الحقّ، وليس فيه جملة واحدة توافق الحقّ أصلًا؛ فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه وعباده المؤمنين.

أمّا مشروعيّة الاستغاثة؛ ففيها تفصيل: إذ (الاستغاثة بالشّيء) ـ على ما ذكره بعض المحقّقين ـ: طلب الإغاثة والغوث منه، كما أنّ الاستعانة طلب الإعانة منه، فإذا كانت بنِدَاء من المُستغيث للمُستغاث؛ كان ذلك سؤالًا منه، وظاهر أنّ ذلك ليس توسّلًا به إلى غيره؛ إذ قد جرت العادة أنّ مَن توسّل بأحد عند غيره أن يقول لمُستغاثه: أستغيثك على هذا الأمر بفلان؛ فيوجّه السّؤال إليه، ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المُستغاث به ويقول له: أرجو منك أو أريد منك وأستغيث بك، ويقول: إنّه وسيلتي إلى ربّي.

وإن كان كما يقول؛ فما قدر المتوسّل الله حقّ قدره، وقد رجا وتوكّل والتجأ إلى غيره؛ كيف واستعمال العرب يأبي عنه؛ فإنّ مَن يقول: صار لي ضيق فاستغثتُ بصاحب القبر فحصل الفرج؛ يدلّ دلالة جليّة على أنّه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنّه توسّل به؛ بل إنّما يُراد هذا المعنى إذا قال: توسّلتُ أو استغثتُ عند الله بقلان، أو يقول لمستغاثه: استغثتُ إليك بفلان؛ فيكون حينئذ مدخول (الباء) متوسّلًا به، ولا يصحّ إرادة هذا المعنى إذا قلتَ: استغثتُ بفلان، وتريد التّوسّل به، سيّما إذا كنتَ داعيه وسائله؛ بل قولك هذا نصّ على أنّ مدخول (الباء) مستغاث وليس مستغاثًا به؛ والقرائن التي تكتنفه من الدُّعاء وقصر الرّجاء والالتجاء شهود وعدول، ولا محيد عمّ شهدت به ولا عدول؛ فهذه الاستغاثة وتوجّه القلب إلى المسؤول بالسّؤال والإنابة محظورة

ص: 302

على المسلمين؛ لم يشرعها لأحد من أُمّته رسول ربّ العالمين، وهل سمعتم أنّ أحدًا في زمانه صلى الله عليه وسلم أو ممّن بعده في القرون المشهود لأجلها بالنّجاة والصّدق ـ وهم أعلم منّا بهذه المطالب وأحرص على نيل مثل تلك الرّغائب ـ استغاث بمَن يزيل كربته التي لا يقدر على إزالتها إلَّا الله؟! أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك الأمور، ولم يعبدوا إلَّا إيّاه؟! ولقد جرت عليهم أمور مهمّة وشدائد مدلهمة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته؛ فهل سمعتَ عن أحد منهم أنّه استغاث بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو قالوا: إنّا مستغيثون بك يا رسول الله؟! أم بلغك أنّهم لاذوا بقبره الشّريف ـ وهو سيّد القبور ـ حين ضاقت منهم الصُّدور؟! كلَّا؛ لا يمكن ذلهم ذلك، وإنّ الذي كان بعكس ما هنالك؛ فلقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم؛ فقال ـ عزّ من قائل ـ:{إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم} ؛ مبيّنًا لنا أنّ هذه

الاستغاثة أخصّ الدُّعاء، وأجلى أحوال الالتجاء، وهي من لوازم السّائل المضطر الذي يضطر إلى طلب الغوث من غيره؛ فيخصّ نداءه لدى استغاثته بمزيد الإحسان في سرّه وجهره؛ ففي استغاثته بغيره ـ تعالى ـ عند كربته تعطيل لتوحيد معاملته.

فإن قلتَ: إنّ للمُستغاث بهم قدرة كسبيّة وتسببيّة؛ فتنسب الإغاية إليهم بهذا المعنى.

قلنا له: إنّ كلامنا فيمَن يُستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلَّا الله، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلَّا الله. وأمّا فيما عدا ذلك ما يجري فيه التّعاون والتّعاضد بين النّاس واستغاثة بعضهم ببعض؛ فهذا شيء لا نقول به، ونعد منعه جنونًا، كما نعدّ إباحة ما قبله شركًا وضلالًا، وكون العبد له قدرة كسبيّة لا يخرج بها عن مشيئة ربّ البريّة؛ لا يُستغاث به فيما لا يقدر عليه إلَّا الله، ولا يُستعان به، ولا يُتوكّل عليه، ولا يُلتجأ في ذلك إليه، فلا يُقال لأحد حيّ أو ميّت قريب أو بعيد: ارزقني، أو: أمتنى، أو: اشفِ مريضي

إلى غير ذلك ممّا هو من الأفعال الخاصّة بالواحد الأحد الفرد الصّمد؛ بل يُقال لمَن له قدرة كسبيّة قد جرت العادة بحصولها ممّن أهّله الله لها: أعِنّى في حمل متاعي، أو غير ذلك. والقرآن

ص: 303

ناطق بحظر الدُّعاء عن كلّ أحد، لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدُّعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها؛ فإنّ الأمور الغير مقدورة للعباد لا تُطلب إلَّا من خالق القدر ومنشئ البشر؛ كيف والدُّعاء عبادة، وهي مختصّة به سبحانه وتعالى، أسبل الله علينا ـ بفضله ـ عفوه ورضوانه؛ فالقصر على ما تعبّدنا فيه من محض الإيمان، والعدول عنه عين المقت والخذلان.

وهذه خلاصة ما ذكروه من جعل الاستغاثة والاستشفاع بغير الله شركًا ظاهرًا لا يُغفر، ومتعاطيه جاعل لله ندًّا؛ فيُذبَح بأمر الله ـ تعالى ـ وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ويستغفر.

وبالجملة: فالاستغاثة والاستعانة والتّوكّل أغصان دوحة التّوحيد المطلوب من العبيد.

بقي ـ هاهنا ـ شيء يورده المجيزون على هؤلاء المانعين؛ وهو: أنّه لا شكّ أنّ مَن عبد غير الله مشرك حلال الدّم والمال، وأنّ الدُّعاء المختصّ بالله ـ سبحانه ـ عبادة، بل هو مخّ العبادة، ولكن لا نسلّم أنّ طالب الإغاثة ممّن استُغيث بهم شرك مطلقًا؛ وإنّما يكون شركًا لو كان المستغيث معتقدًا أنّهم هم الفاعلون لذلك خلقًا وإيجادًا؛ فحينئذٍ يكون من الشّرك الاعتقاديّ قطعًا، أمّا مَن اعتقدهم الفاعلين كسبًا وتسبّبًا فليس بمسلّم، ولئن سلّمنا؛ فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلَّا التّوسّل بهم وبجاههم، وإن كان اللّفظ ظاهرًا يدلّ على الطّلب منهم وأنّهم المطلوبون بهذا النّداء، لكنّ مقصود المُستغيث التّشفّع والتّوسّل بهم إلى ربّهم، و [هو] صلى الله عليه وسلم من أشرف الوسائل إلى الله سبحانه وتعالى، وقد أمرنا ـ سبحانه ـ بتطلّب ما يتوسّل به؛ فقال ـ تعالى ـ:{وابتغوا إليه الوسيلة} ؛ فكيف تحظرونها بل تجعلونها شركًا مخرجً عن الملّة، وليس في قلوب المسلمين إلَّا هذا المعنى؟! وإنّ في ذلك تكفير أكثر النّاس من غير ارتياب والتباس، وكيف تحكون على أناس قد أظهروا شعائر الإسلام ـ من أذان وصلاة وصوم وحجّ

ص: 304

وإيتاء زكاة ـ، يأتون بكلمة التّوحيد، ويحبّون الله، ويحبّون سيد المرسلين، ويتبلغون بالقبول التّامّ ما جاء عنهما من أمور الدّين؟! وغاية الأمر: أنّهم لرهبتهم من ربّهم ومعرفتهم بعلوّ مرتبة نبيّهم وما وعده الله ـ سبحانه ـ من إرضائه في أُمّته ـ كما قال (سبحانه) : {ولسوف يعطيك ربّك فترضى} ـ، ولا يرضى صلى الله عليه وسلم إلَّا بأن يقف لأُمّته في مثل هذه التّوسّلات؛ فينالوا الرّغبات.

وليس في أقوالكم هذه إلَّا تنقّص بحقّ هذا النّبيّ الذي أوجب الله علينا حبّه أكثر من محبّتنا لأنفسنا، وفي مثل ذلك بشاعة في القول وشناعة بطريق الأولى!

فالجواب عنه منهم؛ أن قالوا: أمّا أوّل اعتراضكم وقولكم: «إنّه ليس مقصودهم إلَّا التّوسّل ـ وإن تكلّموا بما يفيد غيره ـ» ؛ فإنّه يدلّ على أنّ الشّرك لا يكون إلَّا اعتقاديًّا، وأنّه لا يكون كفرًا إلَّا إذا طابق الاعتقاد، وهذا يقتضي سدّ أبواب الشّرائع بأسرها، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الرّدة وزمحقها! كيف وأنّ الله ـ سبحانه ـ يقول:{ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} ، وقال ـ سبحانه ـ:{أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} ، وقد ذكر المفسّرون أنّهم قالوها على جهة المزح؟!

وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جدًّا، وبأفعال تدلّ على ما هو دون ذلك؟! ولو فتحنا هذا الباب؛ لأمكن لكلّ مَن تكلّم بكلام يُحكم على قائله بالرّدّة أن يقول: لِمَ تحكمون برِدّتي؟! فيذكر احتمالًا ـ ولو بعيدًا ـ يخرج [به] عمّا كفر فيه! ولما احتاج إلى توبة، ولا توجّه عليه لوم أبدًا! ولساغ لكلّ أحد أن يتكلّم بكلّ ما أراد؛ فتُسَدّ الأبواب المتعلّقة بأحكام الألفاظ ـ من: حدّ قذف، وكفارة يمين، وظهار ـ، ولانسدّت أبواب العقود ـ من: نكاح، وطلاق، وغير ذلك من الفسوخ والمعاملات ـ؛ فلا يتعلّق حكم من الأحكام بأيّ لفظ كان إلَّا إذا اعتقد المعنى، وإن أفيد بوضع الألفاظ!

ص: 305

وأمّا ما ذكرتم من أنّه «أشرف الوسائل» ؛ فهي كلمة حق أُريد بها باطل؛ كقلوكم: [إنّه] ذو الجاه العريض والمقام المنيع. ونحن أولى بهذا المقام منكم؛ لاتّباعنا لأقواله وأفعاله، واقتدائنا به صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، مقتفين لآثاره، واقفين عند أخباره؛ فهو صلى الله عليه وسلم نبيّنا وهادينا إلى سبيل الإسلام، ومنقذنا برسالته من مهاوي أولئك الجفاة الطّغام؛ فلا نعمل إلَّا بأمره، ونتلقّى ذلك بالسّمع والطّاعة في حلوه ومرّه، وقد أوجب علينا أن نتّبع سبيل المؤمنين، ونهانا عن الغلوّ في الدّين؛ فإن غلونا فإنّنا إذًا عن الصّراط ناكبون، ولئن عدلنا إذًا لخاسرون.

وكيف يحسن طريق يؤدي إلى الإشراك؟! وأنّى يليق بالموحّدين هذا الوجه المؤدّي للارتباك؟! وهذا طريق سلفنا الصّالح، وهو الاعتقاد الصّحيح الرّاجح. هذا؛ وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأرواحنا له فداء ـ لا يرضى بما يُغضِب الرّبّ المتعال، وكيف لا وقد بُعث بحماية التّوحيد من هذه الأقوال والأفعال؟! وقد قالت عائشة رضي الله عنها عن خُلُق النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«كان خُلُقه القرآن» ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، فليس لنا وسيلة إلى الله إلَّا الدُّعاء المبنيّ على أصول الذُّلّ والافتقار والثّناء؛ فهو الوسيلة التي أمرنا الله ـ سبحانه ـ بالتّوسّل به، وجعله من أفضل الوسائل، وأخبرنا أنّه مخّ عبادته تحقيقًا لعبوديّتنا؛ فسدّ به عن غيره أبواب الذّرائع.

وقد اختلف العلماء ـ بعد أن اتّفقوا على: استحباب سؤال الله ـ تعالى ـ[به] وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وبصالح أعمالنا التي حصلت لنا بمحض كرمه وإفضاله ـ في: جواز التّوسّل بالذّوات المنيفة، والأماكن والأوقات الشّريفة:

فعن العِزّ بن عبد السّلام ومَن تابعه: عدم الجواز إلَّا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حيث صحّ الحديث؛ فيجوز، ويكون ذلك خاصًّا به؛

ص: 306

لعلوّ مرتبته.

وعن الحنابلة ـ في أصحّ القولَين ـ: مكروه كراهة تحريم.

ونقل الفقهاء الحنفيّة عن بشر بن الوليد أنّه قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: «لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلَّا به» ، وفي جميع متونهم: أنّ قول الدّاعي المتوسّل بحقّ الأنبياء والرّسل وبحقّ البيت والمشعر الحرام: مكروه كراهة تحريم. [وقال القدوريّ] : المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنّه لا حقّ للمخلوق على الخالق، وأمّا حديث:«أسألك بحقّ السّائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، وبحقّ نبيّك والأنبياء من قبله» ؛ ففيها وهن، وعلى تسليمها؛ فالمراد بهذا

ص: 307

(الحقّ) : ما أوجبه الله ـ تعالى ـ على نفسه، وذلك من أفعاله؛ لأنّ حقّ السّائلين: الإجابة، وحقّ المطيعين: الإثابة، وحقّ الأنبياء: التّقريب والتّفضيل بما يخصّ أولئك العصابة ـ صلى الله تعالى عليهم وسلّم ـ؛ وذلك كقوله ـ تعالى ـ: {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين} ، وقوله:{وعدًا عليه حقًّا في التّوراة والإنجيل والقرآن} ، وقوله:{كتب ربّكم على نفسه الرّحمة} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يعذّبهم» .

أو: السّؤال بالأعمال؛ لأنّ المشيء إلى الطّاعة امتثالًا لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله ـ تعالى ـ:{يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ؛ فمَن نظر إلى الأدعية الواردة في الكتاب والسُّنّة؛ لم يجدها خارجة عمّا ذكرنا؛ قال الله ـ تعالى ـ في دعاء المؤمنين: {ربّنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمِنوا بربّكم فآمنّا} ، وقوله ـ تعالى ـ:{إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنتَ خير الرّاحمين} ، وقوله ـ تعالى ـ عن الحواريّين:{ربّنا آمنّا بما أنزلتَ واتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين} ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول:«إنّك أمرتني فأطعتُك، ودعوتَني فأجبتُك؛ فاغفر لي» ، ودعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي جمعه العلماء لا يخرج عن هذا النّمط، وخلاف ذلك يعدّ كالخروج عن جادّة الصّواب والشّطط؛ فاتّبع ـ أيّها النّاظر ـ نبيّك المصطفى تسلم من اللّغط والغلط.

ص: 308

هذا ما كان من تحرير مدّعى المانعين، وتقريره على وجه أبان عن لباب تلخيصهم بتسطيره.

ثم أخذ يذكر الجواب عمّا استدلّ به المجوّزون؛ فإن أردتَ الوقوف عليه؛ فارجع إلى كتاب «العقد الثّمين» .

فتبيّن ممّا قلناه: أنّ الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ تعالى ـ ممّا لا يجوز؛ فإنّ الاستغاثة دعاء، والدُّعاء عبادة، بل مخّ العبادة، وغير الله ـ تعالى ـ لا يُعبَد؛ بل هو المخصوص بالعبادة؛ فإذا أصاب النّاسَ جدبٌ وقحطٌ؛ فلا يُقال: يا رسول الله؛ ارفع عنّا القحط والجدب، وإذا نزل بالنّاس بلاء أو وباء؛ فلا يُقال: يار رسول الله، أو: يا جبريل، أو: يا ميكائيل؛ ارفع عنّا البلاء والوباء، وإذا مرض أحد؛ فلا يُقال: يا رسول الله؛ شافني وعافني، ولا غيره، وإذا احتاج أحد إلى زرق؛ فلا يقول: يا رسول الله؛ [ارزقني، ولا غيره، وإذا لم يكن لأحد ولد؛ فلا يجوز له أن يقول: يا رسول الله] ؛ أعطني ولدًا، وإذا كان في شدّة في برٍّ أو بحرٍ؛ فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله؛ أدركني، أو: ألتجئ إليك، أو: أستغيث بك، أو نحو ذلك؛ بل كلّ ذلك شرك مخرج عن الدّين؛ لأنّه عبادة لغير الله.

ونحن نوضّح المسألة ـ فقد زلّت فيها أقدام ـ؛ فنبيّن ـ أولًا ـ: معنى العبادة، ثم نذكر ما هو من خصائص الألوهيّة ـ ومن الله نستمدّ التّوفيق ـ:

أمّا العبادة:

فهي ـ في اللّغة ـ: الذُّلّ والانقياد.

واصطلاحًا: اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ كالتّوحيد ـ فإنّه عبادة في نفسه ـ، والصّلاة والزّكاة والحجّ وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والدُّعاء، والذّكر، والقراءة، وحبّ الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصّبر لحكمه، والشّكر لنعمه، والرّضا بقضائه، والتّوكّل عليه، والرّجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك مما رضيه وأحبّه؛ فأمر به وتعبّد النّاس فيه.

ص: 309

قال العلّامة عمر بن عبد الرحمن الفارسيّ في كشفه على الكشّاف للزّمخشريّ، عتد تفسير قوله ـ تعالى ـ:{يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم} : «وهو خطاب لمشركي أهل مكّة، ونقل عن علقمة أنّ كلّ خطاب بـ {يا أيّها النّاس} فهو مكيّ، وبـ {يا أيّها الذين آمنوا} فهو مدنيّ» ؛ ما لفظه:

«تحرير الكلام فيه: أنّ العبادة قد تُطلق على: أعمال الجوارح، بشرط قصد القربة؛ ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: «لفقيه واحد أشدّ على الشّيطان من ألف عابد» ، وهي على هذا غير الإيمان بمعنى التّصديق والنّيّة والإخلاص؛ بل مشروطة بها، وقد تُطلق على: التّحقّق بالعبوديّة بارتسام ما أمر السّيّد ـ جلّ وعلا ـ أو نهى، وعلى هذه؛ يتناول الأعمال والعقائد القلبيّة أيضًا؛ فيدخل فيها: الإيمان، وهو عبادة في نفسه وشرط لسائر العبادات» انتهى.

وقال ابن القيّم في شرح «منازل السّائرين» ما نصّه: «فالعبادة تجمع أصلين: غاية الحبّ بغاية الذُّلّ والخضوع، والعرب تقول: طريق معبّد؛ أي: مذَلّل، والتّعبّد: التّذلّل والخضوع؛ فمَن أحببتَه ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومَن خضعتَ له بلا محبّة؛ لم تكن عابدًا له؛ حتى تكون محبًّا خاضعًا» .

ثم قال ـ في مكان آخر من شرحه هذا ـ: «مراتب العبوديّة وأحكامها لكلّ واحد من القلب واللّسان والجوارح.

ص: 310

فواجب القلب: منه متّفق على وجوبه، ومختلف فيه:

فالمتّفق على وجوبه: كالإخلاص والتّوكل والمحبّة والصبر والإنابة والخوف والرّجاء والتّصديق الجازم، والنّيّة للعبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص؛ فإنّ الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.

ونيّة العبادة لها مرتبتان:

إحداهما: تميّز العبادة عن العادة.

والثانية: تميّز مراتب العبادات بعضها عن بعض.

والأقسام الثّلاثة واجبة.

وكذلك الصّدق، والفرق بينه وبين الإخلاص: أنّ للعبد مطلوبًا وطلبًا؛ فالإخلاص: توحيد مطلوبه، والصّدق: توحيد الطّلب؛ فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسمًا، والصّدق: أن لا يكون الطّلب منقسمًا؛ فالصّدق: بذل الجهد، والإخلاص: إفراد المطلوب.

واتّفقت الأُمّة على [وجوب] هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة، وكذلك النّصح في العبودية ـ ومدار الدّين عليه ـ؛ وهو: بذل الجهد في إيقاع العبوديّة على الوجه المحبوب للرّبّ المرضيّ له، وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقرّبين.

وكذلك كلّ واحد من هذه الواجبات القلبيّة له طرفان: واجب مستحقّ ـ وهو مرتبة أصحاب اليمين ـ، وكمال مستحبّ ـ وهو مرتبة المقرّبين ـ» انتهى ما قاله في بعض عبوديّة القلب.

وعقّبه بعبوديّة اللّسان ـ الواجب منها والمستحبّ ـ، وعبوديّة الجوارح ـ الواجب منها والمستحبّ أيضًا ـ، ومَن اشتغل بالنّظر إلى أنواع العبادات؛ هان عليه تمييزها. والله الهادي إلى سواء السّبيل.

وبالجملة؛ فكلّ عبادة فهي مقصورة على الإله الواحد؛ من أعمال القلوب والجوارح؛ فكما لو صلّى لغير الله أو صام على وجه التّقريب إليه؛ كان كافرًا مشركًا عند

ص: 311

جميع النّاس؛ فكذلك مَن تقرّب إليه بالأعمال القلبيّة المذكورة ـ من: التّوكّل والإنابة والخوف والرّجاء وغير ذلك ـ، لكن لما كانت هذه الأمور القلبيّة من التّألّه، وكان الأوّلون يتألّهون بها ويسمّون مَن تآله بها إلهًا، وكان مرجع كلّ ذلك إلى القلب وأعماله التي هي منبع التّوحيد ومصدر هذا الدّين والمرجع إليه في الشّك واليقين؛ ومع ذلك؛ فهي الفارقة بين الإله الحقّ الذي اختصّ بها على الدّوام، والإله الباطل الذي لا يحوم الموحّد حوله بهذا المقام؛ كان ذلك هو الدّاعي للتّخصيص والموجب للتّنصيص. وأيضًا؛ فالكلام على مَن حصل منه الشّرك بما تآلهه في قلبه ورسخ بفؤاده ولبّه من الأعمال الغير مختصّة بالمسلمين، وأمّا هذه الأعمال الظّاهرة الشّرعيّة المختصة بهم؛ فلا يتعاطاها أحد لمن سواه، ولم نرها تُعمَل إلَّا لله، ولم يعبدوا بها إلَّا إيّاه؛ فهذا هو الذي أوجب تخصيصهم لهذه الأعمال القلبيّة، وبعض البدنيّة ـ كالسُّجود وحلق الرأس عبوديّة ـ؛ وإلَّا فجميع العبادات ـ قلبيّها وقوليّها وبدنيّها ـ مختصّة به سبحانه وتعالى؛ لا تصلح إلَّا له.

قال المحقّق السّعد التّفتازانيّ في شرحه لـ «المقاصد» ما نصّه: «اعلم أنّ حقيقة التّوحيد: اعتقاد عدم الشّريك في الألوهيّة وخواتمها، ولا نزاع بين أهل الإسلام أن خلق الأجسام وتدبير العالم واستحقاق العبادة من الخواصّ» ، ثم قال في آخر هذا المبحث:«وبالجملة: فإنّ التّوحيد في الألوهيّة واجب شرعًا وعقلًا، وفي استحقاق العبادة شرعًا؛ {وما أمروا إلَّا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلَّا هو سبحانه عمّا يشركون} » انتهى.

وقد أفرد شيخ الإسلام لتحقيق معنى العبادة رسالة مفيدة ـ وهي: رسالة «العبوديّة» ـ؛ فراجعها.

وأمّا الثّاني ـ أعني: ما هو من خصائص الألوهيّة ـ: فاعلم أنّ توحيد الله ـ تعالى ـ بالتّعظيم ـ كما قاله العلّامة القرافيّ

ص: 312

في كتاب «الفروق» ـ ثلاثة أقسام: واجب إجماعًا، وغير واجب إجماعًا، ومختلف فيه: هل يجب توحيد الله ـ تعالى ـ به أم لا؟

القسم الأوّل (الذي يجب توحيد الله ـ تعالى ـ به) : من التّعظيم بالإجماع. [فذلك كالصّلوات]ـ على اختلاف أنواعها ـ، والصّوم ـ على اختلاف رتبه في الفرض والنّفل والنّذر ـ؛ فلا يجوز أن يفعل شيئًا من ذلك لغير الله ـ تعالى ـ، وكذلك الحجّ ونحو ذلك؛ أي: كالاستغاثة والاستعانة والالتجاء، وكذلك الخلق والرّزق، والإماتة والإحياء، والبعث والنّشر، والسّعادة والشّقاء، والهداية والإضلال، والطاعة والمعصية، والقبض والبسط؛ فيجب على كلّ أحد أن يعتقد توحيد الله ـ تعالى ـ وتوحّده بهذه الأمور على سبيل الحقيقة، وإن أضيف شيء منها لغيره ـ تعالى ـ؛ فإنّما ذلك على سبيل الرّبط العاديّ، لا أنّ ذلك المشار إليه فعل شيئًا [حقيقة؛ كقلونا: قتله السّم، وأحرقته النّار، وأرواه الماء؛ فليس شيء من ذلك يفعل شيئًا] ممّا ذكر حقيقة؛ بل الله ـ تعالى ـ ربط هذه المسبّبات بهذه الأسباب كما شاء وأراد، ولو شاء لم يربطها، وهو الخالق لمسبّباتها عند وجودها، لا أنّ تلك الأسباب هي الموجودة. وكذلك إخبار الله ـ تعالى ـ عن عيسى عليه السلام أنّه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص؛ معناه: أنّ الله ـ تعالى ـ كان يحيي الموتى ويبرئ عند إرادة عيسى عليه السلام لذلك، لا أنّ عيسى عليه السلام هو الفاعل لذلك حقيقة؛ بل الله ـ تعالى ـ هو الخالق لذلك، ومعجزة عيسى عليه السلام في ذلك ربط وقوع ذلك الإحياء وذلك الإبراء بإرادته؛ فإنّ غيره يريد ذلك ولا يلزم إرادته ذلك؛

ص: 313

فاللّزوم بإرادته هو معجزته عليه السلام، وكذلك جميع ما يظهر على أيدي الأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات الله ـ تعالى ـ هو خالقها.

وكذلك يجب توحيده ـ تعالى ـ باستحقاق لعبادة والإلهيّة، وعموم تعلّق صفاته ـ تعالى ـ؛ فيتعلّق علمه بجميع المعلومات، وإرادته بجميع الكائنات، وبصره بجميع الموجودات الباقيات والفانيات» .

انتهى ما أردتُ نقله من هذا الكتاب المذكور، وهو كتاب جليل مفرد في بابه، جعله مصنّفه في مجلّدين؛ أتى على كلّ شبهة تمسّك بها المبتدعون الذين أجازوا أن يُعبد مع الله غيره، وقد طُبع في مصر.

وقد علمتَ بما نقلناه منه: الفرق بين (الاستغاثة) و (الاستعانة) و (التّشفّع) و (التّوجّه) و (التّوسّل) ، وأنّ الذي جعل ذلك كلّه بمعنى واحد فقد أخطأ وضلّ ضلالًا بعد الهدى. [ونسأل الله ـ تعالى ـ] أن يجنبنا طريق الردى، آمين.

ص: 314

فصل

وممّا يوضّح هذه المسألة ويكشفها لمَن أرادها، ويكون هو فصل المقال فيها: ما قاله الإمام الفاضل صاحب كتاب «الدّين الخالص» ـ المطبوع في الهند ـ؛ قال فيه ما نصّه:

«باب: في سؤال عن التّوسّل بالأموات وكذلك الأحياء، والاستغاثة بهم ومناجاتهم عند الحاجة، وتعظيم قبورهم، واعتقاد أنّ لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السّائلين، وما حكم مَن فعل شيئًا من ذلك؟ وهل يجوز قصد قبور الصّالحين لتأدية الزّيارة ودعاء الله عندها، من غير استغاثة بهم؛ بل التّوسّل بهم فقط؟

والجواب عليه؛ قال رضي الله عنه: فأقول ـ مستعينًا بالله ـ:

اعلم أنّ الكلام على هذه الأطراف يتوقّف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف والالتباس؛ فمنها: الاستغاثة ـ بالغين المعجمة والمثلّثة ـ، ومنها: الاستعانة ـ بالعين المهملة والنّون، ومنها: التّشفّع، ومنها: التّوسّل.

فأمّا (الاستغاثة) ـ بالمعجمة والمثلثة ـ فهي: طلب الغوث؛ وهو: إزالة الشّدّة؛ كالاستنصار؛ وهو: طلب النّصر. ولا خلاف أنّه يجوز أن يُستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال؛ فهو في غاية الوضوح، وما أظنّه يوجد فيه خلاف؛ ومنه:{فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} ، وكما قال: {وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر) ، وكما قال ـ تعالى ـ:

ص: 315

{وتعاونوا على البرّ والتّقوى} .

وأمّا ما لا يقدر عليه إلَّا الله؛ فلا يُستغاث فيه إلَّا به؛ كغفران الذّنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق، ونحو ذلك؛ كما قال ـ تعالى ـ:{ومَن يغفر الذّنوب إلَّا الله} ، وقال:{إنّك لا تهدي مَن أحببت ولكنّ الله يهدي مَن يشاء} ، وقال:{يا أيّها النّاس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السّماء والأرض} . وعلى هذا؛ يُحمل ما أخرجه الطّبرانيّ في «معجمه الكبير» : أنّه كان في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّه لا يُستغاث بي؛ وإنّما يُستغاث بالله» ؛ فمراده صلى الله عليه وسلم: أنّه لا يُستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأمّا ما يقدر عليه المخلوق؛ فلا مانع من ذلك؛ مثل: أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، أو: يحول بينه وبين عدوّه الكافر، أو: يدفع عنه سبعًا صائلًا، أو لصًّا، أو نحو ذلك.

وقد ذكر أهل العلم: أنّه يجب على كلّ مكلف أن يعلم أن: لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلَّا الله سبحانه وتعالى، وأنّ كلّ غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره؛ فالحقيقة له ـ سبحانه ـ، ولغيره مجاز، ومن أسمائه: المغيث والغياث.

قال أبو عبد الله الحليميّ: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: يا غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشّدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلّصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصّحيحين:«اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا» ، إغاثة وغياثة وغوثًا،

ص: 316

وهو في معنى: المجيب والمستجيب؛ قال ـ تعالى ـ: {إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم} الآية، إلَّا أنّ الإغاثة أحقّ بالأفعال، والاستجابة بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر.

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة في بعض فتاواه ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرّسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه؛ لا ينازع فيه مسلم، ومَن نازع في هذا المعنى فهو إمّا كافر وإمّا مخطئ ضالّ.

وأمّا بالمعنى الذي نفاها صلى الله عليه وسلم أيضًا يجب نفيها، ومَن أثبتَ لغير الله ما لا يكون [إلَّا] لله؛ فهو أيضًا كافر إذا قامت عليه الحُجّة التي يكفر تاركها.

ومن هذا الباب: قول أبي يزيد البسطاميّ: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشّيخ أبي عبد الله القرشيّ: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.

وأمّا الاستعانة

وأمّا الاستعانة ـ بالنّون ـ فهي: طلب العون. ولا خلاف أنّه يجوز أن يُستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدُّنيا؛ كأن: يستعين [به] على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابّته، أو يُبلّغ رسالته. وأمّا ما لا يقدر عليه إلَّا الله جل جلاله؛ فلا يُستعان إلَّا به؛ ومنه:{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} .

وأمّا التّشفّع بالمخلوق: فلا خلاف بين المسلمين أنّه يجوز طلب الشّفاعة من

ص: 317

المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدُّنيا؛ وثبت بالسُّنّة المتواترة واتّفاق جميع الأئمّة أنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو الشّافع المشّفع، [و] أنّه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأنّ النّاس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربّه، ولم يقع الخلاف إلَّا في كونها لمحو ذنوب المذنبين أو لزيادة ثواب المطيعين، ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط. وفي سنن أبي داود: أنّ رجلًا قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: إنّا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله؛ فقال: «شأن الله أعظم من ذلك، إلَّا أنّه لا يُستشفع به على أحد من خلقه» ؛ فأقرّه عل ىقول: نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك. وسيأتي تمام الكلام في الشّفاعة.

أمّا التّوسّل إلى الله ـ سبحانه ـ بأحد من خلقه في مطلب العبد من ربّه: فقد قال الشّيخ عِزّ الدّين بن عبد السّلام: إنّه لا يجوز التّوسّل إلى الله ـ تعالى ـ إلَّا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، إن صحّ الحديث فيه.

ولعلّه يشير إلى: الحديث الذي أخرجه النّسائي في «سننه» ، والتّرمذيّ في «صحيحه» ، وابن ماجه، وغيرهم: أنّ أعمى أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله؛ إنّي أُصبت في بصري؛ فادعُ الله لي؛ فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «توضأ، وصلّ ركعتين، ثم قل: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد، يا محمّد؛ إنّي أستشفع بك في ردّ بصري، اللهمّ شفّع النّبيّ فيّ» ، وقال:«فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» ؛ فردّ الله بصره.

وللنّاس في معنى هذا قولان:

أحدهما: أنّ التّوسّل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لمّا قال: «كنّا إذا أجدبنا نتوسّل

ص: 318

بنبيّنا إليك فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا» ، وهو في «صحيح البخاريّ» وغيره؛ فقد ذكر عمر رضي الله عنه أنّهم كانوا يتوسّلون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء، ثم توسّل بعمّه العبّاس بعد موته، وتوسّلهم هو استسقاؤهم؛ بحيث يدعو ويدعون معه؛ فيكون هو وسيلتهم إلى الله ـ تعالى ـ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعًا وداعيًا لهم.

والقول الثاني: أنّ التّوسّل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه.

ولا يخفاك أنّه قد ثبت التّوسّل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وثبت التّوسّل بغيره بعد موته بإجماع الصّحابة إجماعًا سكوتيًّا؛ لعدم إنكار أحد منهم على عمر رضي الله عنه في توسّله بالعبّاس رضي الله عنه.

وعندي: أنّه لا وجه لتخصيص جواز التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم كما زعمه الشّيخ عِزّ الدين بن عبد السّلام؛ لأمرين:

الأوّل: ما عرّفناك [به] من إجماع الصّحابة رضي الله عنهم.

والثّاني: أنّ التّوسّل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو ـ في التّحقيق ـ توسّل بأعمالهم الصّالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلًا إلَّا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهمّ إنّي أتوسّل إليك بالعالم الفلانيّ؛ فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في «الصّحيحين» وغيرهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكى عن الثّلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة، أنّ كلّ واحد منهم توسّل إلى الله بأعظم عمل عمله؛ فارتفعت الصّخرة؛ فلو كان

ص: 319

التّوسّل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا ـ كما يزعمه المتشدّدون في هذا الباب (كابن عبد السّلام ومَن قال بقوله من أتباعه) ؛ لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم؛ وبهذا [تعلم] أنّ ما يورده المانعون من التّوسّل إلى الله ـ تعالى ـ بالأنبياء والصّلحاء من نحو قوله ـ تعالى ـ:{ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} ، ونحو قوله ـ تعالى ـ:{فلا تدعوا مع الله أحدًا} ، ونحو قوله ـ تعالى ـ:{له دعوة الحقّ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} ؛ ليس بوارد؛ بل هو من الاستدلال على محلّ النزاع بما هو أجنبيّ عنه؛ فإنّ قولهم {ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} مصرّح بأنّهم عبدوهم لذلك، والمتوسّل بالعالم ـ مثلًا ـ لم يعبده؛ بل علم أنّ له مزية عند الله بحمله العلم؛ فتوسّل به لذلك. وكذلك قوله:{فلا تدعوا مع الله أحدًا} ؛ فإنّه نهى عن أن يدعى مع الله غيره؛ كأن يقول: بالله وبفلان، والمتوسّل بالعالم ـ مثلًا ـ لم يدعُ إلَّا الله، وإنّما وقع منه التّوسّل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسّل الثّلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة بصالح أعمالهم.

وكذلك قوله: {والذين يدعون من دونه} الآية؛ فإنّ هؤلاء دعوا مَن لا يستجيب [لهم] ، ولم يدعوا ربّهم الذي يستحبب لهم، والمتوسّل بالعالم ـ مثلًا ـ لم يدعُ إلا الله، ولم يدع غيره دونه، ولا [دعا] غيره معه.

وإذا عرفتَ هذا؛ لم يخفَ عليك دفع ما يورده

ص: 320

المانعون للتّوسّل من الأدِلّة الخارجة عن محلّ النّزاع خروجًا زائدًا على ما ذكرناه؛ كاستدلالهم بقوله ـ تعالى ـ: {وما أدراك ما يوم الدّين * ثم ما أدراك ما يوم الدّين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} ؛ فإنّ هذه الآية الشّريفة ليس [فيها] إلَّا أنّه ـ تعالى ـ المنفرد بالأمر في يوم الدّين، وأنّه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسّل بنبيّ من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أنّ لمَن توسّل به مشاركة لله جل جلاله في أمر يوم الدّين، ومَن اعتقد هذا لعبد من العباد ـ سواء كان نبيًّا أو غير نبيّ ـ فهو في ضلال مبين.

وهكذا الاستدلال على منع التّوسّل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء} ، {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا} ؛ فإنّ هاتين الآيتين مصرّحتان بأنّه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شيء، وأنّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؛ فكيف يملك لغيره؟! وليس فيها منع التّوسّل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود ـ مقام الشّفاعة العظمى ـ، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه، وقال له:«سل تُعط، واشفع تُشفّع» ، وقيّد ذلك في كتابه العزيز بأنّ الشّفاعة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمَن ارتضى. ولعلّه يأتي تحقيق هذا المقام ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وهكذا الاستدلال على منع التّوسّل بقوله صلى الله عليه وسلم، لما نزل قوله ـ تعالى ـ:{وأنذر عشيرتك الأقربين} : «يا فلان بن فلان؛ لا أملك لك من الله شيئًا، يا فلانة بنت فلان؛ لا أملك لكِ من الله شيئًا» ؛ فإنّ هذا ليس فيه إلَّا التّصريح بأنّه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع مَن أراد الله ـ تعالى ـ

ص: 321

ضرّه، ولا ضرّ مَن أراد الله نفعه، وأنّه لا يملك لأحد من قرابته ـ فضلًا عن غيرهم ـ شيئًا من الله، وهذا معلوم لكلّ مسلم، وليس فيه أنّه لا يتوسّل به إلى الله؛ فإنّ ذلك هو طلب الأمر ممّن له الأمر والنهي؛ وإنّما أراد الطّالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببًا للإجابة ممّن هو المتفرّد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدّين.

وإذا عرفتَ هذا؛ فاعلم أنّ الرزيّة كلّ الرّزيّة، والبليّة كلّ البليّة؛ أمر غير ما ذكرنا من التّوسّل المجرّد والتّشفّع بمَن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواصّ في أهل القبور، وفي المعروفين بالصّلاح من الأحياء؛ من أنّهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلَّا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلَّا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم؛ فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالًا، ويصرّحون بأسمائهم، ويعظّمونهم تعظيم مَن يملك الضّرّ والنّفع، ويخضعون لهم خضوعًا زائدًا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربّهم في الصّلاة والدُّعاء! وهذا إذا لم يكن شركًا فلا ندري ما هو الشّرك! وإذا لم يكن كفرًا فليس في الدُّنيا كفر!

وها نحن نقصّ عليك أدلّة في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سُنّة وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها المنع ممّا هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التّصريح بأنّه شرك، وهو بالنّسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير. ثم بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال.

فمن ذلك:

ما أخرجه أحمد في «مسنده» ، بإسناد لا بأس به، عن عمران بن حصين، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى [رجلًا] بيده حلقة من صُفر؛ فقال: ما هذه؟ قال من

ص: 322

ولابن أبي حاتم، عن حذيفة أنّه رأى رجلًا في يده خيط للحمّى؛ فقطعه وتلا:{وما يؤمن أكثرهم بالله إلَّا وهم مشركون} .

وفي «الصّحيح» ، عن أبي بشير الأنصاريّ أنّه كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره؛ فأرسل رسولًا:«ألا يبقينّ في رقبة بعير قلادة من وتر إلَّا قُطعت» .

وأخرج أحمد وأبو داود، عن ابن مسعود: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الرّقى

ص: 324

والتّمائم والتّولة شرك» .

وأخرج أحمد والتّرمذيّ، عن عبد الله بن عكيم مرفوعًا:«مَن تعلّق شيئًا وُكل إليه» .

وأخرج أحمد، عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع؛ لعلّ الحياة ستطول بك؛ فأخبر النّاس أنّ مَن عقد لحيته أو تقلّد وترا أو استنجى برجيع دابّة أو عظم؛ فإنّ محمّدًا بريء منه» .

فانظر كيف جعل الرّقى والتّمائم والتّولة شركًا؛ وما ذلك إلَّا لكونها مظنّة لأن يصحبها اعتقاد أنّ لغير الله تأثيرًا في الشّفاء من الدّاء، وفي المحبّة والبغضاء؛ فكيفه بمَن نادى غير الله وطلب منه ما لا يُطلَب إلَّا من الله، واعتقد استقلاله بالتّأثير أو اشتراكه مع الله عز وجل.

ومن ذلك: ما أخرجه التّرمذيّ ـ وصحّحه ـ، عن أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع

ص: 325

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم، يُقال لها: ذات أنواط؛ فمررنا بسدرة؛ فقلنا: يا رسول الله؛ اجعل لنا ذات أنواط! فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنّكم قوم تجهلون} ؛ لتركبنّ سنن مَن كان قبلكم» .

فهؤلاء إنّما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك، ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشّجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريّون من أهل القبور؛ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك بمنزلة الشّرك الصّريح، وأنّه بمنزلة طلب آلهة غير الله ـ تعالى ـ.

ومن ذلك: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» ، عن عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: «لعن الله مَن ذبح لغير الله، لعن الله مَن لعن والدَيه، لعن الله مَن آوى محدثًا، لعن الله مَن غيّر منار الأرض» .

وأخرج أحمد، عن طارق بن شهاب، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«دخل رجل الجنّة في ذباب، ودخل النّار رجل في ذباب» ؛ قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مَرّ رجلان

ص: 326

على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرّب إليه شيئًا؛ فقالوا لأحدهم: قرّب ولو ذبابًا؛ [فقرّب ذبابًا] ؛ فخَلّوا سبيله؛ فدخل النار. وقالوا للآخر: قرّب؛ فقال: ما كنتُ لأقرّب لأحد غير الله عز وجل؛ فضربوا عنقه؛ فدخل الجنّة.

فانظر لعنَه صلى الله عليه وسلم لمَن ذبح لغير الله، وإخباره بدخول مَن قرّب لغير الله النّار، وليس في ذلك إلَّا مجرّد كون ذلك مظنّة للتّعظيم الذي لا ينبغي إلَّا لله؛ فما ظنّك بما كان شركًا بحتًا؟!

وقال بعض أهل العلم: إنّ إراقة دماء الأنعام عبادة؛ لأنّها إمّا هدي أو أضحية أو نسك، وكذلك ما يُذبح للبيع ـ لأنّه مكسب حلال ـ؛ فهو عبادة. ويتحصّل من ذلك شكل قطعي؛ هو: أنّ إراقة دماء الأنعام عبادة، وكلّ عبادة لا تكون إلَّا لله؛ فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلَّا لله، ودليل الكبرى: قوله ـ تعالى ـ: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ، {فإيّاي فاعبدون} ، {إيّاك نعبد} ، {وقضى ربّك ألَّا تعبدوا إلَّا إيّاه} ، {وما أُمروا إلَّا ليعبدوا الله مخلصين له الدِّين} .

ومن ذلك: أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله؛ فقال: «مَن حلف فليحلف بالله أو ليصمت» ، وقال:«مَن حلف بملّة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالمًا» ـ

ص: 327

أو كما قال ـ. [و] سمع رجلًا يحلف باللّات والعزّى؛ فأمره أن يقول: لا إله إلَّا الله.

وأخرج التّرمذيّ ـ وحسّنه ـ والحاكم ـ وصحّحه ـ، من حديث [ابن] عمر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَن حلف بغير الله فقد أشرك» .

وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها أنّ الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام؛ ذلك لكون الحلف بشيء مظنّة تعظيمه؛ فكيف بما كان شركًا محضًا

ص: 328

يتضمّن التّسوية بين الخالق والمخلوق في طلب النّفع أو استدفاع الضّرّ، وقد يتضمّن تعظيم المخلوق زيادة على تعظيم الخالق ـ كما يفعله كثير من المخذولين ـ؛ فإنّهم يعتقدون أنّ لأهل القبور من جلب النّفع ورفع الضّرّ ما ليس لله ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ـ.

فإن أنكرتَ هذا؛ فانظر أحوال كثير من هؤلاء المخذولين؛ فإنّك تجدهم كما وصف الله سبحانه وتعالى: {وإذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر

ص: 329

الذين من دونه إذا هم يستبشرون} .

ومن ذلك: ما ثبت في «الصّحيحين» عنه صلى الله عليه وسلم عند موته أنّه كان يقول: «لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يُحذّر ما صنعوا.

وأخرج مسلم، عن جندب بن عبد الله، أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إنّ مَن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد؛ إنّي أنهاكم عن ذلك» .

وأخرج أحمد ـ بسند جيّد ـ وأبو حاتم في «صحيحه» ، عن ابن مسعود مرفوعًا:«إنّ من شرار النّاس مَن تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» .

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التّصريح بلعن مَن اتّخذ القبور مساجد، مع أنّه لا يعبد إلا الله؛ وذلك لقطع ذريعة التّشريك، ودفع وسيلة التّعظيم.

وورد ما يدلّ على أنّ عبادة الله عند القبور بمنزلة اتّخاذها أوثانًا تُعبَد: أخرج مالك في «الموطأ» ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وبالغ في ذلك حتى لعن زائرات القبور؛ كما أخرجه أهل السُّنَن، من حديث ابن عبّاس قال:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسّرج» .

ص: 330

ولعل وجه تخصيص النّساء بذلك لما في طبائعهنّ من النّقص المفضي إلى الاعتقاد والتّعظيم بأدنى شبهة، ولا شكّ أنّ علّة النّهي عن جعل القبور مساجد وعن تسريجها وتجصيصها ورفعها وزخرفتها هي: ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة؛ كما ثبت في «الصّحيح» ، عن عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ سلمة ذكرت لرسول

ص: 331

الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصّور؛ فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرّجل أو العبد الصّالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّرا فيه تلك الصّور؛ أولئك شرار الخلق عند الله» .

ولابن خزيمة، عن مجاهد:{أفرأيتم اللَّات والعزّى} قال: «كان يلت له السّويق، فمات؛ فعكفوا على قبره» .

وكلّ عاقل يعلم أنّ لزيادة الزّخرفة للقبور وإسبال السّتور الرّائقة عليها وتسريجها والتّأنّق في تحسينها تأثيرًا في طبائع غالب العوامّ؛ ينشأ عنه التّعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئًا ممّا يتعلّق بالأحياء؛ وبهذا السبب اعتقدت كثيرٌ من الطوائف الإلهيّةَ في أشخاص كثيرة!

ورأيتُ في بعض كتب التاريخ أنّه قدم رسول لبعض الملوك على بعض خلفاء بني العبّاس؛ فبالغ الخليفة في التّخويل على ذلك الرسول، وما زال أعوانه ينقلونه من رتبة إلى رتبة؛ حتى وصل إلى المجلس الذي يقعد الخليفة في برج من أبراجه، وقد جمّل ذلك المنزل بأبهى الآيات، وقعد فيه أبناء الخلفاء وأعيان الكبراء، وأشرف الخليفة من ذلك البرج، وقد انخلع قلب ذلك الرسول ممّا رأى؛ فلمّا وقعت عيناه على الخليفة؛ قال لمن هو قابض على يده من الأمراء: أهذا الله؟! فقال ذلك الأمير: بل هذا خليفة الله. فانظر [ما] صنع ذلك التّحسين بقلب هذا المسكين!

ص: 332

ورُوي لنا أنّ بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبّة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين ـ صاحب ذي بين ـ (رحمة الله) ؛ فرآها وهي مسرجة بالشّمع، والبخور ينفخ في جوانبها، وعلى القبر السّتور الفائقة؛ فقال عند وصوله إلى الباب: أمسيتَ بالخير يا أرحم الراحمين!!!

وفي «الصّحيح» ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، في قوله ـ تعالى ـ {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا} قال:«هذه أسماء [رجال] من قوم نوح، لمّا هلكوا أوحى الشّيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابًا، وسمّوها بأسمائهم؛ ففعلوا، فلم يُعبدوا، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبِدَت» .

وقال غير واحد من السّلف: «لمّا ماتوا عكفوا على قبورهم» .

ومن ذلك: ما أخرجه أحمد ـ بإسناد جيّد ـ، عن قطن بن قبيصة عن أبيه، أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن العيافة والطرق والطّيرة من الجبت» ، وأخرجه أبو داود والنّسائي

ص: 333

وابن حبّان أيضًا.

وأخرج أبو داود ـ بسند صحيح ـ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن اقتبس شعبة من النّجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السّحر» .

وأخرج النّسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من عقد عقدة ثم نفث فيها؛ فقد سحر، ومَن سحر فقد أشرك، ومَن تعلّق شيئًا وُكل إليه» .

وهذه الأمور إنّما كانت من الجبت والشّرك؛ لأنّها مظنّة للتّعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد.

ومن ذلك: ما أخرجه أهل السُّنن والحاكم ـ وقال: صحيح على شرط الشّيخين ـ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدّقه؛ فقد كفر بما أُنزل على محمّد» .

ص: 334

وأخرج أبو يعلى ـ بسند جيّد ـ، موقوفًا:«مَن أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمّد» ، وأخرج نحوه الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس، بسند حسن.

والعلة الموجبة للحكم بالكفر ليست إلَّا اعتقاد أنّه مشارك لله في علم الغيب، مع أنّه ـ في الغالب ـ يقع غير مصحوب بهذا الاعتقاد، ولكن مَن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.

ومن ذلك: ما في «الصّحيحين» وغيرهما، عن زيد بن خالد قال: صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصّبح على إثر سماء كانت من الليل، فلمّا انصرف أقبل على الناس بوجهه الشّريف؛ فقال: هل تدرون ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأمّا مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأمّا مَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن

ص: 335

بالكواكب» .

ولا يخفى على العارف أنّ العلة في الحكم بالكفر هي: ما في ذلك من إيهام المشاركة، وأين هذا ممّن يصرّح في دعائه عندما يمسّه الضّرّ بقوله: يا الله ويا فلان، و: على الله وعلى فلان؛ فإنّ هذا يعبد إلهين ويدعو اثنين!

وأمّا مَن قال: مُطرنا بنوء كذا؛ فهو لم يقل: أمطره ذلك النّوء؛ بل: أمطر به، وبين الأمرين فرق ظاهر.

ومن ذلك: ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك؛ مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركه» .

وأخرج أحمد، عن أبي سعيد مرفوعًا:«ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال» ؛ قالوا: بلى. قال: «الشّرك الخفيّ؛ يقوم الرجل فيزيّن صلاته لما يراه من نظر رجل» .

ومن ذلك: قوله ـ تعالى ـ: {فمَن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدًا} ؛ فإذا كان مجرّد الرّياء الذي هو فعل الطّاعة لله عز وجل، مع محبّة أن يطّلع عليها غيره أو يثني بها أو يستحسنها شركًا؛ فكيف بما هو محضّ الشّرك؟!

ومن ذلك: ما أخرجه النّسائي أن يهوديًّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنّكم تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة! فأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: «وربّ الكعبة» ، وأن يقولوا:«ما شاء الله ثم شئت» .

ص: 336

وأخرج النّسائي أيضًا، عن ابن عبّاس مرفوعًا: أنّ رجلًا قال: ما شاء الله وشئتَ؛ قال: «أجعلتني لله ندًّا؟! ما شاء الله وحده» .

وأخرج ابن ماجه، عن الطفيل قال: رأيتُ كأنّي أتيتُ على نفر من اليهود؛ فقلت: إنّكم لأنتم القوم لولا أنّكم تقولون: عُزير ابن الله! وقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنّكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمّد! ثم مررتُ بنفر من النّصارى؛ فقلتُ: إنّكم لولا أنّكم تقولون: المسيح ابن الله! وقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنّكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد! [فلمّا أصبحتُ أخبرتُ بها مَن أخبرتُ، ثم أتيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه؛ قال: هل أخبرتَ بها أحدًا؟ قلتُ: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد؛ فإنّ طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنّكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنها كم عنها؛ فلا تقولوا: ما شاء محمد] ؛ ولكن [قولوا] : ما شاء الله وحده» .

والوارد في هذا الباب كثير، وفيه: أنّ التّشريك في المشيئة بين الله ورسوله أو غيره من عبيده فيه نوع من الشّرك؛ ولهذا جُعل ذلك في هذا المقام الصّالح كشرك اليهود والنّصارى بإثبات ابن لله عز وجل، وفي تلك الرّواية السّابقة أنّه إثبات ندّ لله عز وجل.

ص: 337

ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لمَن قال: «مَن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومَن يعصمها فقد غوى» : «بئس خطيب القوم أنتَ» ، وهو في «الصّحيح» .

وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس، في تفسير قوله:{فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} أنّه قال: «الأنداد أخفى من دبيب النّمل على صفاة سوداء في ظلمة اللّيل، وهو أن يقول: والله! وحياتِك يا فلان! وحياتي! ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا [اللّصوص] ، ولولا البطّ [في الدار] لأتى اللّصوص، ويقول الرّجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. [لا تجعل فيها فلان؛ فإنّ] هذا كلّه شرك» انتهى.

ومن ذلك: ما ثبت في «الصّحيحين» ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقل أحدكم: أطعم ربّك، وضئ ربّك، ولا يقل أحدكم: عبدي وأَمَتي؛ وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي» . ووجه هذا النّهي: ما يفهم من مخاطبة السّيد بمخاطبة العبد لربّه، والرّب لعبده، وإن لم يكن ذلك مقصودًا.

ومن ذلك: ما ثبت في «الصّحيحين» ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله ـ تعالى ـ: ومَن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبّة أو شعيرة» .

ولهما، عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدّ النّاس عذابًا يوم

ص: 338

القيامة الذين يضاهون خلق الله» .

ولهما، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلّ مصوّر في النار يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسًا يعذّب بها في جهنّم» .

ولهما، عنه مرفوعًا:«مَن صوّر صورة في الدُّنيا كُلّف أينفخ فيها الرّوح، وليس بنافخ» .

وأخرج مسلم، عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألّا تدع صورة إلَّا طمستَها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويتَه» .

فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشّديد للمصوّرين؛ لكونهم فعلوا فعلًا يشبه فعل الخالق، وإن لم يكن ذلك مقصودًا لهم، وهؤلاء القبوريّون قد جعلوا بعض خلق الله شريكًا له ومثلًا وندًّا؛ فاستغاثوا به فيما لا يُستغاث فيه إلَّا بالله، وطلبوا منه ما لا يُطلب إلَّا من الله، مع القصد والإرادة.

ومن ذلك: ما أخرجه النّسائيّ ـ بسند جيّد ـ، عن عبد الله بن الشّخّير قال: انطلقتُ في وفد بني عامر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقلنا: أنتَ سيّدنا؛ قال: «السّيد الله تبارك وتعالى» ، قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طولًا؛ قال:«قولوا بقولكم [أو بعض قولكم] ، ولا يستجرينّكم الشّيطان ـ وفي رواية: لا يستهوينّكم الشّيطان ـ، أنا محمد عبد الله ورسوله؛ ما أحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» .

وبالجملة: فالوارد عن الشّرع من الأدِلّة الدّالّة على قطع ذرائع الشّرك وهدم كلّ

ص: 339

شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمتُ حصر ذلك على التّمام؛ لجاء في مؤلّف بسيط؛ فلنقتصر على هذا المقدار، ونتكلّم على حكم ما يفعله القبوريّون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها؛ فنقول:

اعلم أنّ الله لم يبعث رسله ولم ينزّل كتبه لتعريف خلقه بأنّه الخالق لهم والرّازق لهم ونحو ذلك؛ فإنّ هذا يقرّ به كلّ مشرك

ثم ذكر الآيات القرآنيّة الدّالّة على إلإخلاص التّوحيد لله وحده، الذي من أجله أنزل كتبه وأرسل رسله ليكون الدّين كلّه له، وبيّن أنّ المشركين لم يكونوا يعتقدون في شركائهم الاستقلال بالضّرّ والنّفع؛ بل كانوا يعتقدون فيهم أنّهم وسائط وشفعاء إلى الله عز وجل؛ كما أخبرنا عنهم بقوله:{ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} ، {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} . فإذا وازنتَ بين ما يفعله النّاس اليوم ـ من نداء غير الله، والاستعانة به، والاستغاثة به، والالتجاء إليه في النّوائب والشّدائد، والخضوع له عند قبره ـ، وبين ما كانت تفعله المشركون بآلهتهم؛ لم تجد فرقًا بين الفريقين.

إلى أن قال: وإذا تقرّر هذا؛ فلا شكّ أنّ مَن اعتقد في ميّت من الأموات أوحيّ من الأحياء أنّه يضرّه أو ينفعه ـ إمّا استقلالًا أو مع الله (تعالى) ـ، وناداه أو توجّه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق؛ فلم يخص التّوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة؛

إذ الدُّعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضّرّ عنه هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجرًا أو شجرًا أو ملكًا أو شيطانًا ـ كما يفعل ذلك الجاهليّة ـ، وبين أن يكون إنسانًا من الأحياء أو الأموات ـ كما يفعله الآن كثير من المسلمين ـ، وكلّ عالم يعلم هذا ويقرّ به؛ فإنّ العلّة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك معه غيره يكون للحيوان كما يكون للجماد، وللحيّ كما يكون للميّت؛ فمَن زعم أنّ ثمّ فرقًا بين مَن اعتقد في وثن من الأوثان

ص: 340

أنّه يضرّ أو ينفع، وبين مَن اعتقد في ميّت من بني آدم أوحيّ منهم أنّه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلَّا الله ـ تعالى ـ؛ فقد غلط غلطًا بيّنًا، وأقرّ على نفسه بجهل كثير؛ فإنّ الشّرك هو دعاء غير الله ـ تعالى ـ في الأشياء التي تختصّ به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التّقرّب إلى غيره بشيء مما لا يتقرّب به إلَّا إليه.

ومجرّد تسمية المشركين لما جعلوه شريكًا ـ بالصّنم والوثن والإله ـ لغير الله زيادة على التّسمية بالوليّ والقبر والمشهد ـ كما يفعله كثير من المسلمين ـ؛ بل الحكم واحد إذا حصل لمَن يعتقد في الوليّ والقبر ما كان يحصل لمَن كان يعتقد في الصّنم والوثن؛ إذ ليس الشّرك هو بمجرّد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسمّيات؛ بل الشّرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختصّ به ـ سبحانه ـ، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهليّة، أو أطلق عليه اسمًا آخر؛ فلا اعتبار بالاسم قط، ومَن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحقّ أن يُخاطب بما يُخاطب به أهل العلم! وقد علم كلّ عالم أنّ عبادة الكفّار للأصنام لم تكن إلا بتّعظيمها واعتقاد أنّها تضرّ وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة، والتّقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كلّه قد وقع من المعتقدين في القبور؛ فإنّهم قد عظّموها إلى حدّ لا يكون إلا لله ـ سبحانه ـ، بل ربّما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد مَن يعتقده أو قريبًا منه؛ مخافة تعجيل العقوبة من ذلك [الميّت] ! وربّما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو مسجد من المساجد أو قريبًا من ذلك! وربّما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبًا، ولم يحلف بالميّت الذي يعتقده!

وأمّا اعتقادهم أنّها تضرّ وتنفع؛ فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدعُ أحد منهم ميّتًا أو حيًّا عند استجلابه لنفع أو استدفاعه لضرّ؛ قائلًا: يا فلان؛ افعل لي كذا وكذا، و: على الله وعليك، و: أنا بالله وبك!

ص: 341

وأمّا التّقرّب للأموات؛ فانظر ماذا يجعلونه من النّذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلّات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله ـ تعالى ـ؛ لم يفعل! وهذا معلوم يعرفه مَن عرف أحوال هؤلاء.

فإن قلتَ: إنّ هؤلاء القبوريّين يعتقدون أنّ الله هو الضّارّ والنّافع، والخير والشّر بيده، وإن استغاثوا بالأموات؛ قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله ـ سبحانه ـ.

قلتُ: وهكذا كانت الجاهليّة؛ فإنّهم يعلمون أنّ الله هو الضّارّ والنّافع، وأنّ الخير والشّرّ بيده، وإنّما عبدوا أصنامهم لتقرّبهم إلى الله زلفى؛ كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز.

نعم؛ إذا لم يحصل من المسلم إلَّا مجرّد التّوسّل ـ الذي قدمنا تحقيقه ـ؛ فهو كما ذكرناه سابقًا، ولكن مَن زعم أنّه لم يقع منه إلَّا مجرّد التّوسّل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميّت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرّد الاعتقاد؛ فتقرّب إلى الأموات بالذّبائح والنّذور، وناداهم مستغيثًا بهم عند الحاجة؛ فهذا كاذب في دعواه أنّه متوسّل فقط؛ فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك؛ فالمتوسَّل به لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح، ولا تعظيم [ولا اعتقاد؛ لأنّ المدعو هو الله ـ سبحانه ـ، وهو أيضًا المجيب، ولا تأثير لمَن وقع به التّوسّل قط؛ بل هو بمنزلة التّوسّل] بالعمل الصّالح؛ فأيّ جدوى في رشوة مَن قد صار تحت أطباق الثّرى بشيء من ذلك؟ وهل هذا إلَّا فعل مَن يعتقد التّأثير اشتراكًا أو استقلالًا؟ ولا عدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدّعاوي الباطلة العاطلة، بل مَن زعم أنّه لم يحصل منه إلَّا مجرّد التّوسّل وهو يقول بلسانه: يا فلان؛ مناديًا لمَن يعتقده من الأموات؛ فهو كاذب على نفسه، ومَن أنكر حصول النّداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالًا؛

ص: 342