المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في حياة الأنبياء في قبورهم - الكشف المبدي

[محمد بن حسين الفقيه]

الفصل: ‌في حياة الأنبياء في قبورهم

الباب التّاسع

‌في حياة الأنبياء في قبورهم

ـ صلوات الله (تعالى) وسلامه عليهم

وحياة الشّهداء وسائر الموتى

ورتّبه على خمسة فصول، اختصر في الفصل الأوّل الجزء الذي صنّفه الحافظ البيهقيّ في حياة الأنبياء، وزاد عليه بعض فوائد.

وتكلّم في الفصل الثّاني على حياة الشّهداء.

وفي الفصل الثّالث على سائر الموتى

إلى آخر ما ذكر في بقيّة الفصول.

وجوابه أن يُقال: ليس بنا حاجة في الكلام على حياة الأنبياء والشّهداء وسائر الموتى؛ لأنّ شيخ الإسلام لم ينكر شيئًا من هذا؛ بل ذكر هو وتلميذه الحافظ ابن القيّم شيئًا من ذلك في كتبهم ـ كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى ـ؛ وحينئذ فيُقال للسّبكيّ: ما أردتَ بما ذكرتَه في هذا الباب؟ فإن كنتَ تريد أنّ حياة الأنبياء في قبورهم كالحياة الدّنيويّة؛ وعليه فيجوز أن يُطلب منهم الشّيء الذي كانوا يقدرون عليه في الدُّنيا؛ فهذا دونه خرط القتاد؛ لأنّنا نقول: هم أحياء بالمعنى الذي يعلمه الله ـ تعالى ـ، لا بالمعنى الذي نعلمه، ومع هذا؛ فنحن نعتقد أنّها حياة أعلى وأغلى وأعظم من الحياة الدّنيويّة؛ فإنّها لو كانت كحياتنا في هذا الدّار؛ لكان أقلّ النّاس أعلى منهم؛ لأنه مطلق سراحه؛ يمشي ويسافر ويمتمتّع بلذات الدُّنيا، وهم مسجونون تحت الأرض في قبورهم! فأيّ شرف هذا؟!

فإن قال السّبكيّ: أنا لا أعني هذا؛ بل أقول: هي حياة برزخيّة أعلى من الحياة الدُّنيا.

فنقول له: قد رجعتَ عمّا وضعتَ له هذا الباب؛ فإنّك قد خالفت وفرّقت بين

ص: 378

الحياتين؛ فحينئذ؛ لا يُطلب منهم ما كانوا يقدرون عليه في الدُّنيا.

وأمّا الأحاديث التي وردت في هذا الباب: فالصّحيح منها مبنيّ على أنّ رؤياه صلى الله عليه وسلم لموسى ـ صلوات الله عليه ـ وهو قائم يصلّي، وكذلك رؤياه لعيسى وموسى ويونس وهم يلبّون؛ إمّا على رؤيا المنام؛ وعليه؛ فلا إشكال، وقد اختار شيخنا محمّد جمال الدّين القاسميّ الدّمشقيّ ـ تغمّده الله برحمته ـ في «معراجه» : أنّ الإسراء والمعراج كان منامًا؛ فاستدلّ له بأحاديث، وهو مذهب عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وإن كان الجمهور على خلافه.

وإن كانت الرّؤيا في اليقظة؛ فهو حُجّة لنا على أنّ حياة البرزخ مغايرة للحياة الدُّنيا؛ وإلَّا لما اختصّ برؤيتهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحده فقط؟! بل كان رآهم كلّ الصّحابة الذين كانوا معه عليه الصلاة والسلام. وهذ الذي ذكرناه مبنيّ على تسليم الأحاديث التي

ص: 379

أوردها البيهقيّ وغيره في هذا الباب.

وعند التّحقيق: فحياة الشّهداء ثابتة بالكتاب العزيز والسُّنّة الصّحيحة، ومنكرها مكذّب بالقرآن وصحيح السُّنّة:

فمن القرآن: قوله ـ تعالى ـ: {ولا تقولوا لمَن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} ، وقال ـ تعالى ـ:{ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء} إلى قوله: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل} .

وأمّا السُّنّة: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أرواح الشّهداء في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنّة كيف شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلّقة تحت العرش» .

هذا ما ورد في القرآن، ولم يرد مثله في حقّ الأنبياء، وما ورد من ذلك لا يبلغ درجة هذا.

فإن قلتَ: يلزم على قولكم هذا: أنّ الشّهداء أفضل من الأنبياء.

فالجواب: أنّا لا نزيد على ما أخبر الله وصحّ عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولا نقيس الأشياء بعقولنا. وأيضًا؛ فإنّ الخصوصيّة لا تقتضي تفضيلًا. فعلى هذا؛ لا يلزمنا ما أوردتموه علينا، سيّما ونحن نقول: إنّ فضل الأنبياء على غيرهم ثابت بنصوص من الكتاب والسُّنّة، ولكن إذا خصّ الله ـ تعالى ـ أحدًا من خلقه بشيء؛ لا يلزم أن يكون أفضل من الأنبياء. ويؤيّد الذي قلناه: ما ذكره العلّامة المحقّق السّيد محمد رشيد رضا ـ حفظه الله ـ في تفسيره لهذه الآية

ص: 380

ـ قوله (تعالى) : {ولا تقولوا لمَن يُقتل} إلخ ـ؛ قال ما نصّه: «أي: لا تقولوا في شأنهم: هم أموات. وقالوا: إنّ اللّام في (لمَن) للتّعليل لا للتّبليغ. والمعنى ظاهر، والتّركيب مألوف، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم؛ إذ ليس في عالم الحسّ الذي يدرك بالمشاعر. ثم لا بُدّ أن تكون هذه الحياة حياة خاصّة غير التي يعتقدها جميع المليين في جميع الموتى من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم؛ ولذلك ذهب بعض النّاس [إلى] أنّ حياة الشّهداء تتعلّق بهذه الأجساد، وإن فنيت أو احترقت وأكلتها السّباع والحيتان؛ وقالوا: إنّها حياة لا نعرفها، ونحن نقول مثلهم: إنّنا لا نعرفها، ونزيد: أنّنا لا نثبت ما لا نعرف.

وقال بعضهم: إنّها حياة يجعل الله بها الرّوح في جسم آخر يتمتّع به ويرزق. ورووا في هذا روايات؛ منها: الحديث الذي أشار إليه المفسّر الجلال؛ وهو أنّ أرواح الشّهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنّة كيف شاءت.

وقيل: إنّها حياة الذّكر الحسن والثّناء بعد الموت.

وقيل: إنّ المراد بالموت والحياة: الضّلال والهدى؛ روي هذا عن الأصمّ. أي: لا تقولوا: إنّ باذل روحه في سبيل الله ضالّ؛ بل هو مهتدٍ.

[وقيل: إنّها حياة روحانيّة محضة] .

وقيل: إنّ المراد: أنّهم سيحيون في الآخرة، وأنّ الموت ليس عدمًا محضًا كما يزعم بعض المشركين؛ فالآية عند هؤلاء على حدّ:{إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار في جحيم} ؛ أي: [إنّ] مصيرهم إلى ذلك.

ص: 381

قال الأستاذ الإمام ـ بعد ذكر الخلاف ـ: وقال بعض العلماء الباحثين في الرّوح: إنّ الرّوح إنّما تقوم بجسم [لطيف] أثيري [في صورة هذا الجسم المركّب الذي يكون عليه الإنسان في الدُّنيا، وبواسطة ذلك الجسم الأثيري] تجول الرّوح في هذا الجسم الماديّ، فإذا مات المرء وخرجت روحه؛ فإنّما تخرج بالجسم الأثيري، وتبقى معه، وهو جسم لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتحلّل، وأمّا هذا الجسم المحسوس فإنّه يتحلّل ويتبدّل في كل عدّة سنين.

قال: ويقرب هذا القول من مذهب المالكيّة؛ فقد رُوي عن مالك ـ رحمه الله تعالى ـ أنّه قال: إنّ الرّوح صورة كالسجد؛ أي: لها صورة، وما الصّورة إلَّا عرض، وجوهر هذا العرض هو الذي سمّاه العلماء بالأثير، وإذا كان من خواص الأثير النّفوذ في الأجسام اللّطيفة والكثيفة ـ كما يقولون ـ، حتى إنّه هو الذي ينقل النّور من الشّمس إلى طبقة الهواء؛ فلا مانع أن تتعلّق به الرّوح المطلقة في الآخرة، ثم هو يحلّ بها جسمًا آخر تنعم به وترزق، سواء كان جسم طير أو غيره، وقد قال ـ تعالى ـ في آية أخرى:{بل أحياء عند ربّهم يُرزَقون} . وهذا القول يقرّب معنى الآية من العلم.

والمعتمد عند الأستاذ الإمام في هذه الحياة: هو أنّها حياة غيبيّة، تمتاز بها أرواح الشّهداء على سائر أرواح النّاس، بها يُرزقون وينعمون، ولكنّنا لا نعرف حقيقتها، ولا حقيقة الرّزق الذي يكون بها، ولا نبحث عن ذلك؛ لأنّه من عالم الغيب الذي نؤمن به، ونفوّض الأمر فيه إلى الله [تعالى] .

ص: 382

ذكر الله ـ تعالى ـ فضل الشّهادة التي استهدف لها المؤمنون في سبيل الدّعوة إلى الحقّ والدّفاع عنه» . انتهى.

فإذا عرفتَ ما قاله العلماء في حياة الشّهداء التي ثبتت بالكتاب والسُّنّة، وأنّها ليست كحياتنا؛ علمتَ قطعًا [بطلان] ما بنى عليه السّبكيّ من جواز سؤال الميّت ما كان يقدر عليه في الدُّنيا ـ لأنّه حيّ في قبره حياة حقيقيّة ـ.

ثم يُقال له: فهل كان الصّحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يعلمون ذلك أم لا؟ فإن كانوا يعلمونه؛ فلِمَ لم يُنقل لنا بإسناد صحيح عن أحد منهم أنّه كان يأتي إلى القبر المعظّم، ويسأل منه صلى الله عليه وسلم ما كان يسأله منه في الدُّنيا ويستغيثه ويشاوره، مع علمه أنّه يسمعه ويقدر على إجابته وقضاء حوائجه؟! بل كانوا يأتون إلى القبر الشّريف ويسلّمون عليه ثم ينصرفون. وإن كانوا لا يعلمون ذلك؛ فمَن أين أتى للسّبكيّ أنّ هذه الحياة حياة حقيقيّة يقدر معها على التّصرّف التّامّ؟!

فقد علمتَ ـ بما قرّرناه ـ أن السّبكيّ لا حُجّة له بما أورده في هذا الباب على مقصوده من جواز الاستغاثة بالمخلوق الميّت أو الغائب.

وأمّا التّوسّل بالأنبياء والصّالحين في حياتهم وبعد مماتهم؛ فهو جائز ـ كما قدّمناه ـ؛ وقد عرفتَ الفرق بين التّوسّل والاستغاثة.

وللإمام الحافظ ابن القيّم كلام نفيس ذكره في نونيّته المسمّاة بـ «الكافية الشّافية في الانتصار لأهل الفرقة النّاجية» ؛ يتعلّق بما نحن فيه؛ أردنا أن نختم به الكلام على هذا الباب؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ ما نصّه:

ص: 383

فصل

في الكلام على حياة الأنبياء في قبورهم

ولأجل هذا رام ناصر قولكم

ترقيعه يا كثرة الخلقانِ

قال الرسول بقبره حيّ كما

قد كان فوق الأرض والرجمانِ

من فوقه أطياق ذاك الترب واللبنـ

ـات قد عرضت على الجدرانِ

أو كان حيًّا في الضّريح حياته

قبل الممات بغير ما فرقانِ

ما كان تحت الأرض بل [من] فوقها

والله هذي سنة الرّحمنِ

أتراه تحت الأرض حيًّا ثم لا

يفتيهم بشرائع الإيمانِ

ويريح أمته من الآراء

والخلف العظيم وسائر البهتانِ

أم كان حيًّا عاجزًا عن نطقه

وعن الجواب لسائل لهفانِ

وعن الحراك فما الحياة اللّات قد

أثبتموها أوضحها ببيانِ

* * *

ص: 384

هذا ولم لا جاءه أصحابه

يشكون بأس الفاجر الفتانِ

إذ كان ذلك دأبهم ونبيهم

حيّ يشاهدهم شهود عيانِ

هل جاءكم أثر بأن صحابه

سألوه فتيا وهو في الأكفانِ

فأجابهم بجواب حيّ ناطق

فأتوا إذًا بالحقّ والبرهانِ

هلا أجابهم جوابًا شافيًا

إن كان حيًّا ناطقًا بلسانِ

هذا وما شدت ركائبه عـ

ـن الحجرات للقاصي من البلدانِ

مع شدة الحرص العظيم له على

إرشادهم بطرائق التّبيانِ

أتراه يشهد رأيهم وخلافهم

ويكون للتبيان ذا كتمانِ

إن قلتم سبق البيان صدقتم

قد كان بالتكرار ذا احسانِ

* * *

هذا وكم من أمر أشكل بعده

أعنى على علماء كل زمانِ

أو ما ترى الفاروق ود بأنه

قد كان منه العهد ذا تبيانِ

بالجد في ميراثه وكلالة

وببعض أبواب الربا الفتانِ

قد قصّر الفاروق عند فريقكم

إذ لم يسله وهو في الأكفانِ

أتراهم يأتون حول ضريحه

لسؤال أمهم أعز حصانِ

ص: 385

ونبيهم حي يشاهدهم ويسـ

ـمعهم ولا يأتي لهم ببيانِ

أفكان يعجز أن يجيب بقوله

إن كان حيًّا داخل البنيانِ

يا قومنا استحيوا من العقلاء والمبعـ

ـوث بالقرآن والرحمنِ

والله لا قدر الرسول عرفتم

كلا ولا للنفس والإنسانِ

من كان هذا القدر مبلغ علمه

فليستتر بالصمت والكتمانِ

* * *

ولقد أبان الله أن رسوله

ميت كما قد جاء في القرآنِ

أفجاء أن الله باعثه لنا

في القبر قبل قيامة الأبدانِ

أثلاث موتات تكون لرسله

ولغيرهم من خلقه موتانِ

إذ عند نفخ الصور لا يبقى امرؤ

في الأرض حيًّا قط بالبرهانِ

أفهل يموت الرسل أم يبقوا إذا

مات الورى أم هل لكم قولانِ

فتكلموا بالعلم لا الدعوى وجيبـ

ـوا بالدليل فنحن ذو أذهانِ

أو لم يقل من قبلكم للرافعي الأ

صوات حول القبر بالنكرانِ

لا ترفعوا الأصوات حرمة عبده

ميتا كحرمته لدى الحيوانِ

ص: 386

قد كان يمكنهم يقولوا أنه

حي فغضوا الصوت بالإحسانِ

لكنهم بالله أعلم منكم

ورسوله وحقائق الايمانِ

ولقد أتوا إلى العباس يستـ

ـقون من قحط وجدب زمانِ

هذا وبينهم وبين نبيهم

عرض الجدار وحجرة النسوانِ

فنبيهم حي ويستسقون غـ

ـير نبيهم حاشا أولي الايمانِ

فصل

فيما احتّجوا على حياة الرّسل في القبور

فإن احتججتم بالشهيد بأنه

حيّ كما قد جاء في القرآنِ

والرسل أكمل حالة منه بلا

شك وهذا ظاهر التبيانِ

فلذاك كانوا بالحياة أحق من

شهدائنا بالعقل والبرهانِ

وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ

فنساؤه في عصمة وصيانِ

ولأجل هذا لم يحل لغيره

منهن واحدة مدى الأزمانِ

أفليس في هذا دليل أنه

حيّ لمن كانت له أذنانِ

أو لم ير المختار موسى قائمًا

في قبره لصلاة ذي القربانِ

أفميت يأتي الصلاة وإن ذا

عين المحال وواضح البطلانِ

أو لم يقل أني أرد على الذي

يأتي بتسليم مع الإحسانِ

أيرد ميت السلام على الذي

يأتي به هذا من البهتانِ

هذا وقد جاء الحديث بأنهم

أحياء في الأجداث ذا تبيانِ

ص: 387

وبأن أعمال العباد عليه تعـ

ـرض دائمًا في جمعة يومانِ

يوم الخميس ويوم الاثنين الذي

قد خص بالفضل العظيم الشأنِ

فصل

في الجواب عمّا احتجّوا به في هذه المسألة

فيقال: أصل دليلكم في ذاك

حجتنا عليكم وهي ذات تبيانِ

إن الشهيد حياته منصوصة

لا بالقياس القائم الأركانِ

هذا مع النهي المؤكد أننا

ندعوه ميتًا ذاك في القرآنِ

ونساؤه حل لنا من بعده

والمال مقسوم على السهمانِ

ص: 388

هذا وأن الأرض تأكل لحمه

وسباعها مع أمة الديدانِ

لكنه مع ذلك حيّ فارح

مستبشر بكرامة الرحمنِ

فالرسل أولى بالحياة لديه مع

موت الجسوم وهذه الأبدانِ

وهي الطرية في التراب وأكلها

فهو الحرام عليه بالبرهانِ

ولبعض أتباع الرسول يكون ذا

أيضًا وقد وجدوه رأي عيانِ

فانظر الى قلب الدّليل عليهم

حرفًا بحرف ظاهر التبيانِ

لكن رسول الله خص نساؤه

بخصيصة عن سائر النّسوانِ

خيرن بين رسوله وسواه فاخـ

ـترن الرّسول لصحة الايمانِ

شكر الإله لهنّ ذلك وربنا

سبحانه للعبد ذو شكرانِ

قصر الرسول على أولئك رحمة

منه بهن وشكر ذي الاحسانِ

وكذاك أيضًا قصرهن عليه معـ

ـلوم بلا شك ولا حسبانِ

زوجاته في هذه الدنيا وفي الأخـ

ـرى يقينًا واضح البرهانِ

فلذا حرمن على سواه بعده

إذ ذاك صون عن فراش ثانِ

لكن أتين بعدة شرعية

فيها الحداد وملزم الأوطانِ

ص: 389

* * *

هذا ورؤيته الكليم مصليًا

في قبره أثر عظيم الشانِ

في القلب منه حسيكة هل قاله

فالحق ما قد قال ذو البرهانِ

ولذاك أعرض في الصحيح محمّد

عنه على عمد بلا نسيانِ

والدّارقطني الإمام أعلّه

برواية معلومة التبيانِ

أنس يقول رأي الكليم مصليًا

في قبره فأعجب لذا الفرقانِ

فرواه موقوفا عليه وليس بالـ

ـمرفوع واشوقًا على العرفانِ

بين السياق الى السياق تفاوت

لا تطرحه فما هما سيانِ

لكن تقلد مسلمًا وسواه ممـ

ـن صحّ هذا عنده ببيانِ

فرواته الأثبات أعلام الهدى

حفاظ هذا الدين في الأزمانِ

لكن هذا ليس مختصًّا به

والله ذو فضل وذو إحسانِ

فروى ابن حبان الصدوق وغيره

خبرًا صحيحًا عنده ذا شانِ

فيه صلاة العصر في قبر الذي

قد مات وهو محقق الايمانِ

ص: 390

فتمثل الشمس الذي قد كان ير

عاها لأجل صلاة ذي القربانِ

عند الغروب يخاف فوت صلاته

فيقول للملكين هل تدعاني

حتى أصلي العصر قبل فواتها

قالا ستفعل ذاك بعد الآنِ

هذا مع الموت المحقق لا الذي

حكيت لنا بثبوته القولانِ

* * *

هذا وثابت البنانيّ قد دع الرّ

حمن دعوة صادق الايقانِ

أن لا يزال مصليًا في قبره

إن كان أعطى ذاك من إنسانِ

* * *

لكن رؤيته لموسى ليلة المعـ

ـراج فوق جميع ذي الأكوانِ

يرويه أصحاب الصحاح جميعهم

والقطع موجبة بلا نكرانِ

ولذاك ظن معارضا لصلاته

في قبره اذ ليس يجتمعانِ

وأجيب عنه بأنه أسرى به

ليراه ثم مشاهدًا بعيانِ

فرآه ثم وفي الضريح وليس ذا

بتناقض إذ أمكن الوقتانِ

هذا ورد نبيّنا التّسليم من

يأتي بتسليم مع الإحسانِ

ص: 391

ما ذاك مختصًّا به أيضًا كما

قد قاله المبعوث بالقرآنِ

من زار قبر أخ له فأتى بتسـ

ـليم عليه وهو ذو إيمانِ

رد الإله عليه حقًّا روحه

حتى يرد عليه رد بيانِ

وحديث ذكر حياتهم بقبورهم

لما يصح وظاهر النكرانِ

ص: 392

فانظر إلى الإسناد تعرف حاله

إن كنت ذا علم بهذا الشأنِ

* * *

هذا ونحن نقول هم أحياء لـ

ـكن عندنا كحياة ذي الأبدانِ

والترب تحتهم وفوق رؤوسهم

وعن الشمائل ثم عن أيمانِ

مثل الذي قد قلتوه معاذنا

بالله من إفك ومن بهتانِ

بل عند ربهم تعالى مثل ما

قد قال في الشهداء في القرآنِ

لكن حياتهم أجل وحالهم

أعلى وأكمل عند ذي الإحسانِ

* * *

هذا وأما عرض أعمال العبا

د عليه فهو الحق ذو إمكانِ

وأتى به أثر فإن صح الحـ

ـديث به فحق ليس ذا نكرانِ

لكن هذا ليس مختصًّا به

أيضا بآثار روين حسانِ

فعلى أبي الإنسان يعرض سعيه

وعلى أقاربه مع الإخوانِ

ان كان سعيًا صالحًا فرحوا به

واستبشروا يا لذة الفرحانِ

أو كان سعيًا سيّئًا حزنوا وقا

لوا ربّ راجعه إلى الإحسانِ

ولذا استعاذ من الصحابة من روى

هذا الحديث عقيبه بلسانِ

يا ربّ إني عائذ من خزية

أخزي بها عند القريب الداني

ص: 393

ذاك الشهيد المرتضى ابن روا

حة المحبوّ بالغفران والرضوانِ

ص: 394

لكن هذا ذو اختصاص والذي

للمصطفى ما يعمل الثقلانِ

* * *

هذي نهايات لأقدام الورى

في ذا المقام الضنك صعب الشانِ

والحق فيه ليس تحمله عقو

ل بني الزمان لغلظة الأذهانِ

ولجهلهم بالروح مع أحكامها

وصفاتها للألف بالأبدانِ

فارض الذي رضي الإله لهم به

أتريد تنقض حكمة الديانِ

هل في عقولهم بأن الروح في

أعلى الرفيق مقيمة بجنانِ

وترد أوقات السلام عليه من

أتباعه في سائر الأزمانِ

وكذاك إن زرت القبور مسلمًا

ردت لهم أرواحهم للآنِ

فهم يردون السلام عليك لـ

ـكن لست تسمعه بذي الأذنانِ

هذا وأجواف الطيور الخضر

مسكنها لدى الجنات والرضوانِ

من ليس يحمل عقله هذا فلا

تظلمه واعذره على النكرانِ

للروح شأن غير ذي الأجسام لا

تهمله شأن الروح أعجب شانِ

ص: 395

وهو الذي حار الورى فيه فلم

يعرفه غير الفرد في الأزمانِ

هذا وأمر فوق ذا لو قلته

بادرت بالإنكار والعدوانِ

فلذاك أمسكت العنان ولو أرى

ذاك الرفيق جريت في الميدانِ

هذا وقولي أنها مخلوقة

وحدوثها المعلوم بالبرهانِ

هذا وقولي أنها ليست كما

قد قال أهل الإفك والبهتانِ

لا داخل فينا ولا هي خارج

عنا كما قالوه في الديانِ

والله لا الرحمن أثبتم ولا

أرواحكم يا مدعي العرفانِ

عطلتم الأبدان من أرواحها

والعرش عطّلتم من الرحمنِ

انتهى ما أردتُ نقله من هذا الكتاب بحروفه. وهو وحده كافٍ لردّ [ما أ] ورده السّبكيّ وغيره في هذا الباب.

قلتُ: وقد توسّع بعض الغلاة في حياة الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ والشّهداء ـ رضي الله تعالى عنهم ـ؛ ولم يقصر الحياة على ما ذكره؛ بل قال بحياة الأولياء في قبورهم، وأنّهم يخرجون منها فيقضون للنّاس المستغيثين بهم حوائجهم ثم يعودون!

انظر ـ إن شئتَ الوقوف على هذا ـ في حاشية الشّيخ إبراهيم الباجوريّ على «جوهرة التّوحيد» للقاني، عند قوله:

............................................

وأثبتن للأولياء الكرامة

ص: 396

وقد عزى ذلك إلى الشّيخ عبد الوهّاب الشّعرانيّ. ولو أردنا ذكر جميع ما قيل من هذا القبيل؛ لطال الكتاب بما لا فائدة فيه. فنسأله ـ تعالى ـ العافية مما ابتلى كثيرًا من خلقه، آمين.

ثم إنّ الإمام السّبكيّ ذكر بعد هذا الباب بابًا آخر ـ وهم المتمّم لعشرة أبواب ـ؛ فقال:

ص: 397

الباب العاشر

في إثبات الشّفاعة له صلى الله عليه وسلم، واستغاثة النّاس به يوم القيامة

رتّبه على فصول، وكلّها في هذا المعنى.

وجوابه أن يُقال: نحن وشيخ الإسلام ابن تيميّة وسائر طوائف أهل السُّنّة قد أثبتوا الشّفاعة له صلى الله عليه وسلم، ولم ينكرها غير المعتزلة؛ فأيّ فائدة في ذكر هذا الباب هنا؟! فإن كان مقصود إيهام العوام بأنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة ينكر الشّفاعة؛ فكلّا ثم كلّا! بل قد أثبتها في عدّة كتب من كتبه؛ وكيف ينكر أمرًا متواترًا؛ وردت به صحاح الأخبار، وتواترت عن النّبيّ المختار؟! فلا ينكرها إلَّا كلّ جاهل مختال، وأثيم مضلال؛ فنعوذ بالله من هذا الحال. وقد أطال الكلام على أحاديث الشّفاعة شيخُ الإسلام في كتابه «التّوسّل والوسيلة» وغيره من مصنّفاته رضي الله عنه.

وإن أراد ثبوت الاستغاثة بما ورد في بعض ألفاظ هذه الأحاديث؛ فنقول له: هذا صحيح لا مرية فيه، ولكن أين هذا ممّا نحن فيه؟!

لأنّا نقول: الممنوع طلب الحوائج والاستغاثة بالميّت والغائب، وأمّا الحي الموجود بين ظهرانينا الذي نراه ونشاهده بأبصارنا؛ فلا خلاف بين أحد من المسلمين ـ بل وغيرهم ـ في جواز الاستغاثة به في الشّيء الذي يقدر عليه.

ونحن مطالبون بأن يعاون بعضنا بعضًا؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} ، وكما قال حكاية عن نبيّه موسى:{واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} ، وقوله ـ تعالى ـ:{سنشدّ عضدك بأخيك} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا» ، وقوله في الحديث

ص: 398

الآخر: «المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى» ـ أو كما قال ـ.

وما ذكره السّبكيّ من استغاثة النّاس به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ فهو من هذا الباب؛ فلا يدلّ على مقصوده، وإن أراد به شيئًا آخر غير ما ذكرناه؛ فالله أعلم بما أراد.

ثم ذكر بعد ذلك فصلًا في تفسير (المقام المحمود) ، ولكن لم يستوفِ الكلام فيه؛ فإنّ الذي تركه هو أعظم وأقرّ لعين نبيّنا صلى الله عليه وسلم ممّا ذكره؛ وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يجلس معه نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم على العرش يوم القيامة؛ كما جاء ذلك عن غير واحد من الصّحابة والتّابعين.

ومثله لا يُقال من قبل الرّأي؛ بل لا بُدّ فيه من التّوقيف. فممّن روى ذلك مجاهد وغيره، وناهيك به؛ كما قال الشّافعي والبخاريّ رضي الله عنهما:«إذا جاءك التّفسير عن مجاهد فحسبك» .

ولكن لمّا لم يوافق هذا أهواءهم وآراءهم؛ عدلوا عنه؛ زاعمين أن هذا يفضي إلى القول بالتّجسيم، كما تركوا غيره من نصوص الصّفات، وأخذوا يشنّعون على شيخ الإسلام ـ حيث ذكر هذا في كتاب «العرش» له ـ.

وأنا اطّلعتُ على كتاب «العرش» هذا؛ فلم أجد فيه هذا الكلام، ولو ذكره؛ فأيّ لوم يلحقه على ذلك.

وقد ذكره كثير من المفسّرين عند قوله ـ تعالى ـ: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} ؛

ص: 399

فممّن ذكره في تفسيره: الإمام أبو جعفر ابن جرير الطّبريّ في تفسيره «جامع البيان» ، ومنهم: الإمام الشّيخ علي البغداديّ ـ المعروف بالخازن ـ، ومنهم: الإمام الحافظ جلال الدّين السّيوطيّ في تفسيره «الدّر المنثور في التّفسير بالمأثور» ، ومنهم الشّهاب الخفاجيّ في حاشيته على «الشّفا» ، وعزاه إلى الدّارقطنيّ.

فبالله عليكَ؛ بعد نقل هؤلاء الأئمّة كلّهم؛ يليق للنّبهانيّ أن يشنّع على شيخ الإسلام ـ لو ثبت عنه ذكر هذه المسألة ـ؟! ولولا أنّ هذه التّفاسير التي عزوتُ لها هذه المسألة كلّها مطبوعة؛ لنقلتُ في هذا الكتاب جميع ما قالوه؛ ولكن اكتفيتُ بالعزو لها عن نقلها روم الاختصار. والله الموفّق والهادي، وعليه اتّكالي واعتمادي.

ص: 400

فصل

ولعلّك إذا اطّلعتَ على كتابي هذا؛ يحوك في صدرك شيء منه؛ من أجل أنّ بعض ما فيه من الفوائد مخالف لكثير ممّا عابه بعض الخلف!

فأقول لك: اعلم ـ يا أخي ـ أنّي ما ذكرتُ في كتابي هذا إلَّا ما تظاهرت به النّصوص من الكتاب والسُّنّة وأقوال سلف الأُمّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة المجتهدين وأهل الحديث أجمعين، لا خلاف بينهم في حرف ممّا ذكرناه في هذا الكتاب من العقائد.

وإليك نبذة ممّا عثرتُ عليه من ذلك، أقتصر فيها على ما ورد عن الأئمّة الأربعة ـ أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد ـ (رضوان الله عليهم أجمعين) ؛ حيث إنّ النّاس في هذا الزّمان قد قصروا أحكام الدّين على ما ورد عنهم؛ فإذا كانوا قد ارتضوهم في أحكام الدّين؛ فلِمَ لم يرضوهم في أصوله؟! فهل يكونون عدولًا وأمناء في الفقه دون العقائد؟! فهذا لا يقول به أحد عرف قدرهم.

فإن كنتَ ـ يا أخي ـ لا ترضى لنفسك إلَّا التّقليد؛ فها أنا أسرد كلّ عقائدهم، وإن كنتَ ممّن يقول: إنّ العقائد لا يجوز فيها التّقليد بحال؛ بل لا بُدّ فيها من النّظر والاستدلال؛ قلنا لك: بيننا وبينك كتاب الله وسُنّة رسوله وأقوال أصحابه؛ وكلّها تنادي بأعلى صوت يسمعه القريب والبعيد: بأنّ الله سبحانه وتعالى على عرشه، وعرشه فوق سبع سماواته، وأنّه ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا، وأنّ الملائكة يعرجون إليه، وأنّ له يدان، وله عين ونفس وقدم وساق، وأنّه يأتي يوم القيامة، وأنّه يغضب ويرضى، ويحبّ ويبغض ويكره، ويعجب ويفرح، ويرحم ويحسن، وغير ذلك من الصّفات التي ورد بها الكتاب والسُّنّة الصّحيحة، وأنكرها كثير من الخلف، ولم ينكروا ورود لفظها؛ لأنّه لا سبيل لهم إلى إنكار لفظها؛ بل عمدوا إلى تحريفها وتأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ فعند التّحقيق هو إنكار للفظها، ولكن تستّروا بالتّأويل والتّحريف؛ فوقعوا في التّعطيل؛ وقالوا: إنّنا أردنا الرّدّ على الفلاسفة والملاحدة، فلا لعدوّهم كسروا ولا للإسلام نصروا! ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله العليّ العظيم.

ص: 401

فصل

فإن قيل: هل يمكن إيراد شيء من الأدِلّة القرآنيّة والسُّنّيّة على صحّة هذه العقائد التي خالفها كثير من الخلف، قبل ذكر أقوال الأئمّة الأربعة.

فالجواب: نعم؛ قد ورد في ذلك أدِلّة كثيرة من الكتاب والسُّنّة وأقوال الصّحابة والتّابعين والأئمّة المجتهدين، وأهل الحديث أجمعين، وأهل اللّغة والفقهاء والمفسّرين، وأهل التّصوّف المحقّقين؛ نشير إلى بعض ذلك بأدنى إشارة وأوجز عبارة؛ فنقول ـ وبالله التّوفيق ـ:

أمّا الدّليل على استوائه ـ تعالى ـ على عرشه: فهو مذكور في الكتاب العزيز في سبعة مواضع:

الأوّل: من سورة الأعراف في قوله ـ تعالى ـ: {إنّ ربّكم الله الذي خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام ثم استوى على العرش} .

الموضع الثّاني: في أوّل سورة يونس عليه السلام.

الثّالث: في أوّل سورة الرّعد.

الرّابع: في أوّل سورة طه.

الخامس: في آخر سورة الفرقان.

السّادس: في أوّل سورة {الم} السّجدة.

ص: 402

السّابع: في أوّل سورة الحديد.

وأمّا الدّليل على علوّه ـ تعالى ـ فوق جميع المخلوقات من القرآن: فقوله ـ تعالى ـ: {وهو العليّ العظيم} ، {وهو القاهر فوق عباده} ـ في موضعين ـ، {يخافون ربّهم من فوقهم} ، {وهو العليّ الكبير} ، {إنّه عليّ حكيم} .

وأمّا الدّليل على كونه سبحانه وتعالى في السّماء من القرآن: فقوله ـ تعالى ـ: {أأمنتم مَن في السّماء} ـ في موضعين ـ، وقوله ـ تعالى ـ:{يدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} ، وقوله:{تعرج الملائكة والرّوح إليه} ، وقوله ـ تعالى ـ:{إليه يصعد الكلم الطّيب} ـ والعروج والصّعود لا يكونان إلَّا مِن أسفل إلى أعلى ـ، وقوله ـ تعالى ـ لعيسى عليه السلام:{إنّي متوفّيك ورافعك إليّ} ، وقوله ـ تعالى ـ ردًّا على اليهود حين ادّعوا قتل عيسى عليه السلام وصلبه:{وما قتلوه يقينًا * بل رفعه الله إليه} ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن فرعون:{يا هامان ابن لي صرحًا لعلّي أبلغ الأسباب * أسباب السّموات فأطّلع إلى إله موسى} ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنه في سورة القصص:{فأوقد لي يا هامان على الطّين فاجعل لي صرحًا لعلّي أطّلع إلى إله موسى} ، وقوله ـ تعالى ـ في سورة المؤمن:{رفيع الدّرجات ذو العرش} .

وأمّا الدّليل على إثبات إتيانه يوم القيامة من القرآن: فقوله ـ تعالى ـ: {هل ينظرون إلَّا أن

ص: 403

يأتيهم الله} ـ في سورة البقرة وفي سورة الأنعام ـ، وفي قوله ـ تعالى ـ في سورة الفجر:{وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} .

وأمّا الدّليل على أنّه سبحانه وتعالى يَسمع عبادُه صوته، من القرآن العزيز: فقوله ـ تعالى ـ {ويوم يناديهم} ـ في عدّة مواضع ـ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى:{وناديناه من جانب الطّور الأيمن} ، {فلمّا جاءها نُودي أن بورك مَن في النّار ومَن حولها} ، وقوله ـ تعالى ـ:{فلمّا أتاها نُودي من شاطئ الوادِ الأيمن} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة العين: فقوله ـ تعالى ـ لموسى عليه السلام: {ولتصنع على عيني} ، وقوله ـ تعالى ـ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم:{واصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا} ، وقوله ـ تعالى ـ:{تجري بأعيننا} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة النّفس: فقوله ـ تعالى ـ: {ويحذّركم الله نفسه} ـ في موضعين ـ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام:{تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} ، وقوله ـ تعالى ـ لموسى عليه الصلاة والسلام:{واصطنعتُك لنفسي} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة اليدين: فقوله ـ تعالى ـ ردًّا على اليهود: {بل يداه مبسوطتان} ، وقوله ـ تعالى ـ لإبليس اللّعين:{ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديّ} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة السّاق: فقوله ـ تعالى ـ في سورة (نون) : {يوم يُكشف عن ساق} .

ص: 404

وأمّا الدّليل على إثبات صفة الرّحمة: فقوله ـ تعالى ـ: {وهو أرحم الرّاحمين} ، {يعذّب مَن يشاء ويرحم مَن يشاء} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة الحبّ له ـ تعالى ـ: فقوله: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله} .

وأمّا الدّليل على إثبات حبّ عباده له: فقوله ـ تعالى ـ: {ومن النّاس مَن يتّخذ من دون الله أندادًا يحبّونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله} ، وقوله ـ تعالى ـ:{فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة الرّضا له: فقوله ـ تعالى ـ: {إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة الغضب له ـ سبحانه ـ: فقوله ـ تعالى: {ألم تر إلى الذين تولّوا قومًا غضب الله عليهم} ، وفي الآية الثّانية:{يا أيّها الذين آمنوا لا تتولّوا قومًا غضب الله عليهم} ، وفي موضع ثالث:{والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصّادقين} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة التّعجّب له ـ تعالى ـ: فقوله ـ جلّ ذكره ـ في سورة (الصّافّات) : {بل عجبت ويسخرون} ـ على قراءة مَن قرأ بضم التّاء؛ وهما: حمزة والكسائيّ ـ.

ص: 405

وأمّا الدّليل على إثبات صفة السّخط: فقوله ـ تعالى ـ: {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون} ، {ذلك بأنّهم اتّبعوا ما أسخط اللهَ وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} .

وأمّا الدّليل على إثبات صفة الرّأفة له ـ تعالى ـ: فقوله سبحانه وتعالى: {إنّ الله بالنّاس لرءوف رحيم} ، {وإنّ الله بكم لرءوف رحيم} .

وغير ذلك من الصّفات التي ورد بها القرآن. فكلّ ذلك قد نصبوا له منجنيق التّأويل؛ فلم ينجُ منه شيء إلَّا وأصابه!

وقالوا: هذه كلّها ظواهر لا يجوز أن نثبتها لله ـ تعالى ـ؛ لئلّا نقع في التّجسيم والتّشبيه!

وقد علمتَ ـ ممّا مرّ ـ أنّ صفاته ـ تعالى ـ ليست كالصّفات، كما أنّ ذاته ـ تعالى ـ ليست كذاتنا؛ فالمجسّم والممثّل يعبد صنمًا، والمعطّل والنّافي يعبد عدمًا، والمثبت المنزّه يعبد حيًّا قيومًا واحدًا لا شريك له في ذاته وصفاته؛ فتعالى الله عمّا يقول الظّالمون النّافون والمشبّهون علوًّا كبيرًا.

ص: 406

فصل

وأمّا الدّليل من السُّنّة على ما أثبتناه من الصّفات: فشيء كثير جدًّا؛ يزيد على خمسين حديثًا:

فمنها: حديث الجارية ـ المرويّ في «الصّحيح» ـ؛ فعن معاوية بن الحكم أنّه قال: كانت لي جارية ترعى غنمًا لي

وذكر القصّة بطولها، حتى قال: فجئتُ بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» فقالت الجارية له: في السّماء ـ وفي رواية: فأشارت بأصبعها إلى السّماء ـ، ثم قال لها:«مَن أنا؟» ؛ فقالت: أنتَ رسول الله؛ فقال له: أعتقها؛ فإنّها مؤمنة.

وهذا الحديث موافق لقوله ـ تعالى ـ: {أأمنتم مَن في السّماء} .

ومنها: حديث زينب بنت جحش؛ أنّها كانت تفتخر على نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فتقول: «أنتَ زوّجكنّ أهاليكُنّ، وأنا زوّجني الله من فوق عرشه» .

ص: 407

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق عرشه» .

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا تأمنوني؛ وأنا أمين مَن في السّماء» .

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح: «يتعاقب فيكم ملائكة» ، وفيه:«ثم يعرجون فيسألهم ربّهم ـ وهو أعلم بهم ـ: ماذا تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون، وجئناهم وهم يصلّون» .

ومنها: حديث عروج الملائكة بروح المؤمن حتى ينتهوا بها إلى السّماء التي فيها الله، الحديث رواه الإمام أحمد في «مسنده» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس من حديث البراء بن عازب؛ فإنّ المذكور في حديث البراء: حتى تأتي السّماء السّابعة، ولكن قد ذكر الحافظ ابن القيّم هذه اللّفظة في حديث البراء بن عازب، ولم أجدها في

ص: 408

حديثه؛ بل وجدتُها في حديث أبي هريرة ـ كما تقدّم ـ، والله أعلم.

ومنها: حديث الأوعال ـ الذي رواه أبو داود ـ، وفيه:«والله فوق العرش، وإنّه ليئظ به أطيط الرّحل بالرّاكب» ، وفيه:«وأنّه فوقه مثل القبّة» . نثبته كما جاء، ونكل معناه

ص: 409

إلى الله ورسوله.

ومنها: حديث الإسراء ـ المتّفق عليه عند كافّة المسلمين ـ، وفيه: أنّه صلى الله عليه وسلم عُرِج به إلى السّماء، ورأى ربّه وكلّمه وأدناه منه، وفرض عليه خمس صلوات في اليوم واللّيلة.

أفهذا كلّه لا يثبت أنّ الله في السّماء؟! بلى؛ هذه كلّها أدِلّة ظاهرة قاطعة بأنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ في السّماء على عرشه، بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد. فبعدًا لقوم لا يؤمنون!

ومنها: حديث: «إنّ قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرّحمن» .

ومنها: الحديث المرويّ في «الصّحيح» : «إنّ الله يضع السّماوات على أصبع، والأرضين على أصبع

» الحديث.

ومنها: حديث: «المقسطين على منابر من نور عن يمين الرّحمن، وكلتا يديه يمين» .

ومنها: الحديث المتّفق على صحّته: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا؛ فينادي: هل من

ص: 410

سائل، هل من مستغفر

» الحديث.

ومنها: حديث: «ضحك ربّنا من ثلاث» ؛ فقال الصّحابيّ: أيضحك ربّنا يا رسول الله؟! فأجابه: نعم؛ فقال الصّحابيّ: لا عُدمنا خيرًا من ربّ يضحك.

ومنها: الحديث الصّحيح: «إنّ الله ـ تعالى ـ لأفرح بتوبة عبده

» .

ص: 411