الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأمّا
الشّرك الأصغر
فكيسير: الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلَّا الله وأنتَ، وأنا متوكّل على الله وعليك، ولولا أنتَ لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.
ثم قال ابن القيّم رحمه الله في ذلك الكتاب، بعد فراغه من ذكر الشّرك الأكبر والأصغر والتّعريف لهما:
ومن أنواع الشّرك: سجود المريد للشّيخ.
ومن أنواعه: التّوبة للشّيخ؛ فإنّها شرك عظيم.
ومن أنواعه: النّذر لغير الله، والتوكّل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذّلّ لغير الله، وابتغاء الرّزق من عند غير الله، وإضافة نعمة إلى غيره.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتّوجّه إليهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإنّ الميّت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عمّن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشّافع والمشفوع عنده؛ فإنّ الله ـ تعالى ـ لا يشفع عنده أحد إلَّا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه؛ وإنّما السّبب [لإذنه] كمال التّوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.
والميّت محتاج إلى مَن يدعو له؛ كما أوصانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحّم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا؛ وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تُعبد؛ فجمعوا بين الشّرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التّوحيد، ونسبتهم إلى التّنقّص بالأموات، وهم قد تنقّصوا الخالق بالشّرك، وأولياءه الموحّدين بذمّهم ومعاداتهم، وتنقّصوا مَن أشركوا به غاية التّنقّص؛ إذ ظنّوا أنّهم راضون منهم بهذا، وأنّهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرّسل في كلّ زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم، ولله درّ خليله إبراهيم؛ حيث يقول:{واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ربّ إنّهنّ أضللن كثيرًا من النّاس} ، وما نجا من شرك هذا الشّرك الأكبر إلَّا مَن جرّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرّب بمقتهم إلى الله. انتهى كلام ابن القيّم [ـ رحمه الله تعالى ـ] .
فانظر كيف صرّح بأنّ ما يفعله هؤلاء المعتقدون في الأموات هو شرك أكبر، بل
أصل شرك العالم، وما ذكره من المعاداة لهم فهو صحيح؛ {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون مَن حادّ الله ورسوله} ، {يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} إلى قوله:{كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده} .
وقال شيخ الإسلام تقيّ الدِّين ـ في الإقناع ـ: إنّ مَن دعا ميّتًا ـ وإن كان من الخلفاء الراشدين ـ؛ فهو كافر، وإنّ مَن شكّ في كفره فهو كافر.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل ـ في «الفنون» ـ: لما صعبت التّكاليف على الجهّال والطّغام؛ عدلوا عن أوضاع الشّرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها؛ فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، و [هم] عندي كفّار بهذه الأوضاع؛ مثل: تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرّقاع فيها: يا مولاي؛ افعل لي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر؛ اقتداء بمَن عبد اللات والعزى. انتهى.
وقال ابن القيّم رحمه الله، في «إغاثة اللهفان» ، في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنّف بعض غلاتهم كتابًا سماه «مناسك المشاهد» ، ولا يخفى أنّ هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبّاد الأصنام. انتهى. وهذا الذي أشار إليه هو: ابن المفيد.
وقال في «النّهر الفائق» : اعلم أنّ الشّيخ قاسم
قال في شرحه [ «شرح] درر البحار» : إنّ النّذر الذي يقع من أكثر العوامّ بأن يأتي إلى قبر بعض الصّلحاء قائلًا: يا سيدي فلان؛ إن رُدّ لي غائبي أو عُوفي مريضي؛ فلك من الذّهب والفضّة، أو الشّمع، أو الزّيت، أو الشّياه كذا؛ باطل إجماعًا؛ لوجوه. إلى أن قال: ومنها: ظنّ أنّ الميّت يتصرّف في الأمر، واعتقاد هذا كفر. انتهى.
وهذا القائل هو من أئمّة الحنفيّة، وتأمّل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النّذر المذكور، وأنّه كفر عنده مع ذلك الاعتقاد.
وقال صاحب «الرّوضة» : إنّ المسلم إذا ذبح للنّبيّ صلى الله عليه وسلم كفر. انتهى. وهذا القائل من [أئمّة] الشّافعيّة، وإذا كان الذّبح لسيّد الرّسل كفرًا عنده؛ فكيف بالذّبح لسائر الأموات؟!
وقال ابن حجر في «شرح الأربعين» له: «مَن دعا غير الله فهو كافر» . انتهى.
وقال شيخ الإسلام تقيّ الدّين ـ رحمه الله تعالى ـ في «الرّسالة السّنيّة» : إنّ كلّ مَن غلا في نبيّ أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهيّة؛ مثل: أن يقول: يا سيدي فلان؛ أغثني، أو: ارزقني، أو: اجبرني، وأنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال؛ فكلّ هذا شرك وضلال؛ يُستتاب صاحبه؛ فإن تاب وإلَّا قُتل؛ فإنّ الله إنّما أرسل الرّسل وأنزل الكتب
ليُعبد وحده، لا يُجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى ـ مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام ـ لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النّبات؛ وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى؛ {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، فبعث الله رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال ـ تعالى ـ:{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضّرّ عنكم ولا تحويلًا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب} الآية. قال طائفة من السّلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة.
ثم قال في ذلك الكتاب: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدّين، وهو التّوحيد الذي بعث الله به الرّسل وأنزل به الكتب؛ قال الله ـ تعالى ـ:{ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوت} ، وقال ـ تعالى ـ:{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلَّا نوحي إليه أنّه لا إله إلَّا أنا فاعبدون} ، وكان صلى الله عليه وسلم يحقّق التّوحيد ويعلّمه أُمّته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئتَ؛ قال: «أجعلتني لله ندًّا؟ بل: ما شاء الله وحده» ، ونهى عن الحلف بغير الله، [و] قال:«مَن حلف بغير الله فقد أشرك» ، وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته:«لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يحذّر ما فعلوا، وقال صلى الله عليه وسلم:[ «اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد» ، وقال صلى الله عليه وسلم] : «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلّوا علىّ حيث ما كنتُم؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» .
ولهذا اتّفق أئمّة الإسلام على أنّه لا يُشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصّلاة عندها؛ وذلك [لأنّ] من أكثر الأسباب لعبادة الأوثان كانت تعظيم القبور؛
ولهذا اتّفق العلماء على أنّ مَن سلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند قبره أنّه لا يتمرّغ بحُجرته ولا يقبّلها؛ لأنّه إنّما يكون لأركان بيت الله فلا يشبّه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كلّ هذا لتّحقيق التّوحيد الذي هو أصل الدِّين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملًا إلَّا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمَن تركه؛ [كما] قال الله ـ تعالى ـ:{إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومَن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا} ؛ ولهذا كانت كلمة التّوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي:{الله لا إله إلَّا هو الحيّ القيّوم} ، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَن كان آخر كلامه (لا إله إلَّا الله) دخل الجنّة» ، والإله هو الذي يألهه القلب عبادة له واستغاثة به ورجاء له وخشية وإجلالًا. انتهى.
وقال أيضًا شيخ الإسلام تقيّ الدّين بن تيميّة رحمه الله، في كتابه «اقتضاء الصّراط المستقيم» ، في الكلام على قوله:{وما أُهِلّ به لغير الله} : وإنّ ظاهره: أنّه ما ذُبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أنّ ما ذبحناه متقرّبين به إلى الله كان أزكى ممّا ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله؛ فإنّ عبادة الله بالصّلاة والنّسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرّبًا إليه يحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأُمّة، وإن كان هؤلاء مرتدّين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذّبيحة
مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذّبح للجنّ.
ثم قال في موضع آخر من هذا الكتاب: إنّ العلّة في النّهي عن الصلاة عند القبور: ما يفضي إليه ذلك من الشّرك؛ ذكر ذلك الإمام الشّافعيّ ـ رحمه الله تعالى ـ وغيره، وكذلك الأئمّة من أصحاب أحمد ومالك ـ كأبي بكر الأثرم ـ علّلوا بهذه العلة. انتهى.
وكلامه في هذا الباب واسع جدًّا، وكذلك كلام غيره من أهل العلم.
وقد تكلّم جماعة من أئمّة أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ ومن أتباعهم رحمهم الله في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتّسع المقام لبسطه، وآخر مَن كان منهم نكالًا على القبوريّين وعلى القبور الموضوعة على غير الصّفة الشّرعيّة مولانا الإمام المهديّ العبّاس بن الحسين بن القاسم رحمه الله؛ فإنّه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتّنة للنّاس وسببًا لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهي النّاس عن الاجتماع والعكوف عليها؛ فهدمها، ومَن كان في عصره من أكابر العلماء ترسّلوا إليه برسائل، وكان ذلك هو الحامل له على نصرة الدّين بهدم طواغيت القبوريّين.
وبالجملة؛ فقد رسدنا من أدِلّة الكتاب والسُّنّة ـ فيما سبق ـ ما لا يحتاج معه إلى الاعتضاد بقول أحد من أهل العلم، ولكنّا ذكرنا ما حرّرناه من أقوال أهل العلم مطابقة [لما طلبه السّائل ـ كثّر الله فوائده ـ.
وبالجملة؛ فإخلاص التّوحيد هو الأمر الذي بعث الله
لأجله الرّسل، وأنزل] به كتبه، وفي هذا الإجمال ما يغني عن التّفصيل، ولو أراد رجل أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسُّنّة؛ لكان مجلّدًا ضخمًا.
انظر فاتحة الكتاب التي تتكرّر في كلّ صلاة مرّات من كلّ فرد من الأفراد، ويفتتح بها التالي لكتاب الله والمتعلّم له؛ فإنّ فيها الإرشاد إلى إخلاص التّوحيد في مواضع:
1ـ فمن ذلك: {بسم الله الرحمن الرحيم} ؛ فإنّ علماء المعاني والبيان ذكروا أنّه يقدّر المتعلّق متأخّرًا ليفيد اختصاص البداية باسمه ـ تعالى ـ لا باسم غيره؛ وفي هذا ما لا يخفى من إخلاص التّوحيد.
2ـ ومنها: [في] قوله: {الحمد لله ربّ العالمين} ؛ فإنّ التّعريف يفيد أنّ الحمد مقصور على الله، واللّام في (لله) تفيد أنّ اختصاص الحمد له؛ ومقتضى هذا أنّه لا حمد لغيره أصلًا، وما وقع منه لغيره فهو في حكم العدم. وقد تقرّر أنّ الحمد هو الثّناء باللّسان على الجميل الاختياري لقصد التّعظيم؛ فلا ثناء إلَّا عليه، ولا جميل إلَّا منه، ولا تعظيم إلَّا له، وفي هذا من إخلاص التّوحيد ما ليس عليه مزيد.
3ـ ومن ذلك: قوله: {مالك يوم الدّين} أو {ملك يوم الدّين} ـ على القراءتين السّبعيّتين ـ؛ فإنّ كونه المالك ليوم الدّين يفيد أنّه لا مُلك لغيره؛ فلا ينفذ إلَّا تصرّفه، لا تصرّف أحد من خلقه، من غير فرق بين نبيّ مرسل وملك مقرّب وعبد صالح، وهكذا معنى كونه مَلِك يوم الدّين؛ فإنّه يفيد أنّ الأمر أمره، والحكم حكمه؛ ليس لغيره معه أمر ولا حكم، كما أنّه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم ـ ولله المثل الأعلى ـ. وقد فسّر الله هذا المعنى الإضافيّ المذكور في فاتحة الكتاب
في موضع آخر من كتابه العزيز؛ فقال: {وما أدراك ما يوم الدّين * ثم ما أدراك ما يوم الدّين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} ؛ ومَن كان يفهم كلام العرب ونكته وأسراره؛ كفته هذه الآية عن غيرها من الأدِلّة، واندفعت لديه كلّ شبهة.
4ـ ومن ذلك: {إيّاك نعبد} ؛ فإنّ تقديم الضّمير قد صرّح أئمّة المعاني والبيان وأئمّة التّفسير: أنّه يفيد الاختصاص؛ فالعبادة لله ـ سبحانه ـ، ولا يشاركه فيها غيره ولا يستحقّها، وقد عرفتَ أنّ الاستغاثة والدُّعاء والتّعظيم والذّبح والتّقرّب من أنواع العبادة.
5ـ ومن ذلك: قوله {وإيّاك نستعين} ؛ فإنّ تقديم الضّمير ههنا يفيد الاختصاص ـ كما تقدّم ـ؛ وهو يقتضي أنّه لا يشاركه غيره في الاستعانة به في الأمور التي لا يقدر عليها غيره.
فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب؛ [يفيد كلّ واحد منها: إخلاص التّوحيد. مع أنّ فاتحة الكتاب] ليست إلَّا سبع آيات؛ فما ظنّك بما في سائر الكتاب العزيز؛ فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أنّ في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسّر الإحاطة به.
6ـ وممّا يصلح أن يكون موضعًا سادسًا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب: قوله
{ربّ العالمين} ؛ وقد تقرّر ـ لغةً وشرعًا ـ أنّ (العالَم) ما سوى الله ـ سبحانه ـ، وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب المعاني والبيان والتّفسير والأصول؛ بلغت ثلاث عشرة صيغة فصاعدًا، ومَن شكّ في هذا؛ فليتتبّع «كشّاف» الزّمخشريّ؛ فإنّه سيجد فيه ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان؛ كالقلب؛ فإنّه جعله من مقتضيات الحصر ـ ولعلّه ذكر ذلك عند تفسيره للطّاغوت ـ، وغير ذلك ممّا لا يقتضي المقام بسطه، ومع الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة؛ تكثر الأدِلّة الدّالّة على إخلاص التّوحيد وإبطال
الشّرك بجميع أقسامه.
واعلم أنّ السّائل ـ كثّر الله فوائده ـ ذكر في جملة ما سأل عنه: أنّه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين مشهور بالصّلاح، ووقف لديه وأدّى الزّيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميّت [لديه] من المنزلة؛ هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميّت، ويصدق عليه أنّه دعا غير الله، وأنّه قد عبد غير الرّحمن، وسُلِبَ عنه اسم الإيمان؟! ويصدق على هذا القبر أنّه وثن من الأوثان، ويحكم بردّة ذلك الدّاعي، والتّفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويُعامل معاملة المرتدّين؟ أو يكون فاعلًا معصيّة كبيرة أو مكروهًا؟
وأقول: إنّا [قد] قدّمنا في أوائل هذا الجواب: أنّه لا بأس بالتّوسّل بنبيّ من الأنبياء أو وليّ من الأولياء أو عالم من العلماء، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه؛ فهذا الذي جاء إلى القبر زائرًا، أو دعا الله وحده، وتوسّل بذلك الميّت؛ كأن يقول:«اللهمّ إنّي أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسّل إليك بما لهذا العبد الصّالح من العبادة لك والمجاهدة فيك والتعلّم والتّعليم خالصًا لك» ؛ فهذا لا تردّد في جوازه.
لكن؛ لأيّ معنى قام يمشي إلى القبر؟ فإن كان لمحض الزّيارة، ولم يعزم على الدُّعاء والتّوسّل إلَّا بعد تجريد القصد إلى الزّيارة؛ فهذا ليس بممنوع؛ فإنّه إنّما جاء ليزور، وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور؛ بحديث:«كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ [ألا] فزوروها» ـ وهو في «الصّحيح» ـ، وخرج لزيارة الموتى ودعا لهم، وعلّمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم؛ وكان يقول: «السّلام عليكم [أهل دار قوم مؤمنين] ، وإنّا بكم إن شاء الله
لاحقون، وأتاكم ما تُوعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية» ـ وهو أيضا في «الصّحيح» بألفاظ وطرق ـ؛ فلم يفعل هذا الزّائر إلَّا ما هو مأذون به ومشروع، لكن بشرط أن لا يشدّ راحلته، ولا يعزم على سفر ولا يرحل؛ كما ورد تقييد الإذن بالزّيارة للقبور بحديث: «لا تُشَدّ الرّحال إلَّا لثلاثة
…
» ، وهو مُقيّد لمطلق الزّيارة، وقد خُصّص بمخصّصات؛ منها: زيارة القبر الشّريف النّبويّ المحمّديّ ـ على صاحبه أفضل الصّلاة والسّلام ـ، وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتُحن بسببها من امتُحن، وليس ذكر ذلك ههنا من مقصودنا.
وأمّا إذا لم يقصد مجرّد الزّيارة؛ بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدُّعاء عنده فقط، وجعل الزّيارة تابعة لذلك، أو مشى [لمجموع الزّيارة] والدُّعاء؛ فقد كان يغنيه أن يتوسّل إلى الله بذلك الميّت من الأعمال الصّالحة من دون أن يمشي إلى قبره.
فإن قال: إنّما مشيتُ إلى قبره لأشير إليه عند التّوسّل به!
فيُقال له: إنّ الذي يعلم السّر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه، ويطّلع على خفيّات الضّمائر، وتنكشف لديه مكنونات السّرائر؛ لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنّها الحاملة لك على قصد القبر والمشي إليه، وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميّت باسمه [العلم] ، أو بما تميّز به عن غيره؛ فما أراك مشيتَ لهذه الإشارة؛ فإنّ الذي تدعوه في كلّ مكان مع كلّ إنسان، بل مشيت لتسمع الميّت توسّلك به، وتعطف قلبه عليك، وتتّخذ عنده يدًا بقصده، وزيارته والدُّعاء عنده والتّوسّل به، وأنتَ إذا
رجعتَ إلى نفسك وسألتَها عن هذا المعنى؛ فربّما تقرّ لك به، وتصدقك الخبر؛ فإن وجدتَ عندها هذا المعنى الدّقيق الذي هو بالقبول منك حقيق؛ فاعلم أنّه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عبّاد القبور، ولكنّك قهرت هذه النّفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشر ما انطوت عليه من محبّة ذلك القبر والاعتقاد فيه، والتّعظيم [له] ، والاستغاثة به؛ فأنت مالك لها من هذه الحيثيّة، مملوك لها من الحيثيّة التي أقامتك من مقامك، ومشت بك إلى فوق القبر!
فإن تداركتَ نفسك بعد هذه؛ وإلَّا كانت المستولية عليك، المتصرّفة فيك، المتلاعبة بك في جميع ما تهواه مما قد وسوس به لها الخنّاس، الذي يوسوس في صدور النّاس، من الجنّة والنّاس.
فإن ادّعيتَ أنّك قد رجعتَ إلى نفسك؛ فلم تجد عندها شيئًا من هذا، وفتّشتها فوجدتها صافية عن ذلك الكدر؛ فما أظنّ الحامل لك على المشي إلى القبر إلَّا أنّك سمعتَ النّاس يفعلون شيئًا ففعلتَه، ويقولون شيئًا فقلتَه!
فاعلم أنّ هذه أوّل عقدة من عقود توحيدك، وأوّل محنة من محن تقليدك، فارجع تُؤجر، ولا تتقدّم تُنحر! فإنّ هذا التّقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة؛ سيحملك على أخواتها؛ فيقف على باب الشّرك أوّلًا، ثم تدخل منه ثانيًا، ثم تسكن فيه وإليه ثالثًا! وأنتَ في ذلك كلّه تقول: سمعتُ النّاس يقولون شيئًا فقلتُه، ورأيتُهم يفعلون أمرًا ففعلتُه.
وإن قلتَ: إنّك على بصيرة في عملك وعلمك، ولستَ ممّن ينقاد إلى هوى نفسه كالأوّل، ولا ممّن يقهرها، ولكنّه يقلّد النّاس كالثاني، بل أنتَ صافي السّر، نقيّ الضّمير، خالص الاعتقاد، قويّ اليقين، صحيح التّوحيد، جيّد التّمييز، كامل العرفان، عالم بالسُّنّة والقرآن؛ فلا لمراد نفسك اتبعتَ، ولا في هوّة التّقليد وقعتَ.
فقل لي بالله: ما الحامل لك على التّشبّه بعبّاد القبور، والتّغرير على مَن كان في عداد سليمي الصّدور؟!
فإنّه يراك الجاهل والخامل، ومَن هو عن علمك وتمييزك عاطل؛ فيفعل كفعلك
يقتدي بك، وليس له بصيرة مثل بصيرتك، ولا قوّة في الدّين مثل قوّتك؛ فيحكى فعلك صورة، ويخالفه حقيقة، ويعتقد أنّك لم تقصد هذا القبر إلَّا لأمر، ويغتنم إبليس اللّعين غربة هذا المسكين الذي اقتدى بك واستنّ بسُنّتك؛ فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد. فرحم الله امرءًا هرب بنفسه من غوائل التّقليد، وأخلص عبادته للحميد المجيد.
وقد ظهر بمجموع هذا التّقسيم أنّ مَن يقصد القبر ليدعو عنده؛ هو أحد ثلاثة:
1ـ إن مشى لقصد الزّيارة فقط، وعرض له الدُّعاء، ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير؛ فذلك جائز.
2ـ وإن مشى بقصد الدُّعاء فقط أوّله مع الزّيارة، وكان له من الاعتقاد ما قدّمنا؛ فهو على خطر الوقوع في الشّرك، فضلًا عن كونه عاصيًا.
3ـ وإذا لم يكن له اعتقاد في الميّت على الصّفة التي ذكرنا؛ فهو عاصٍ آثم، وهذا أقلّ أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله.
وفي هذ المقدار كفاية لمَن له هداية، والله وليّ التّوفيق.
انتهى ما أردتُ نقله على مسألة الاستعانة والتّوسّل، وقد استرسلتُ في هذه المسألة زيادة على غيرها من مسائل الكتاب؛ لأنّها هي بيت القصيد وروح الكتاب، وهذ القدر الذي نقلتُه فيها إنّما هو بعض ما قاله العلماء المحقّقون؛ ولو أخذتُ أذكر جميع ما قيل فيها لطال الكتاب جدًّا؛ فرأيتُ من الصّواب أن أقتصر على ما حرّره هذا الإمام في هذه المسألة؛ لأنّه سلك منهج الإنصاف، وتجنّب طريق الاعتساف، وكتابه هذا مشتمل على بيان بدع كثيرة ابتدعها النّاس؛ فزيّفها وقضى عليها بالنّقض والإبطال؛ بأقوم حُجّة وأقوى سلطان وأعظم برهان؛ فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جازى به مَن ذبّ عن سُنّة سيد ولد عدنان، عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسَلين أفضل الصّلاة والسّلام.
ثم قال السّبكيّ بعد هذا: