الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
كان لمجالس الفقه في الأمة شأن عظيم؛ لأن الفقيه قائم في مجلسه مقام وارث علم النبوة والمبلِّغ لهداياتها ومكارمها. وتلك المجالس لم تكن على هيئة واحدة، بل كانت على هيئات بينها اختلاف في طبيعتها وعوائدها وآدابها. ومعرفة تلك العوائد ضرورة في فهم كلام أهل العلم، كما أن دخول النقص على المتفقه في العلم بها مما يورث الغلط في التصورات والأحكام، وربما اجترأ على الأئمة بما لم يحسن فهمه من كلامهم وسياق حديثهم.
وقد كان للعلماء مجالس تدريس يقصدون بها تبليغ العلم ونقله وضبطه وحسن تفهيمه بحيث يتصل السند العلمي في هذه الأمة، كما كان لهم مجالس قضاء يحكمون فيها بين الناس في خصوماتهم بالبينات الظاهرة التي لا تنضبط الحقوق إلا بمراعاتها واعتبارها، ولهم مجالس إفتاء ينهون فيها إلى الناس أحكام ما يستفتونهم فيه ويكلونهم في الأخذ بها إلى ديانتهم وهم في هذا وذاك يسوسونهم إلى ما به استصلاح لهم في أمر دينهم ودنياهم. ولهم مجالس مذاكرة ومباحثة يراد بها حفظ العلم الذي تلقوه في مجلس الدرس ونحوه، كما يراد به تثوير العلم والتفقه فيه والغوص في دقائقه وغوامضه مع الشيوخ والأقران والطلبة، ولهم مجالس مناظرة يتحاورون فيها مع المخالفين في مسائل الفقه لأجل أن يظهر الصواب في غمرة ذلك الجدل، ولهم بعد ذلك مجالس وعظ تكون سبيلًا إلى تذكير النفوس بالرغبة والرهبة إلى الاستعصام بالأمر والنهي من أحكام الشريعة.
وكلُّ واحد من هذه المجالس له سمته وهديه، وله فقهاء يكاد يكون لهم اختصاص به أكثر من غيره، وربما وُصف الفقيه بالبراعة في (صناعة التدريس)،
أو التقدم في (صناعة الوعظ) أو (صناعة الجدل) أو (صناعة القضاء) أو (صناعة الإفتاء). وكلُّ ذلك قيل في طائفة من السادة الفقهاء. و (الصناعة) من الصناعات منها ما هو معدود في المواهب الإلهية التي هي من فضل الله تعالى عل من يشاء من عباده، ومنها ما هو مكتسب يحصِّله المرء بالتعلم والمحاكاة والتجارب وملازمة المهرة فيه والمختصين به، ومما هو مفيد في حركة العلم أن تحفظ قوانين هذه الصناعات فلا تضيع بذهاب أهلها، فغنه متى كانت مخرجات تلك الصناعات صالحة ومثمرة وجب الاعتناء بها ورعايتها وتقديمها على الكثير من التشقيقات والتفريعات النظرية التي يطيل فيها المتأخرون والمحدثون.
وفي تنوع هذه المجالس الفقهية نفع للعامة والخاصة، وتقريب للعلم إلى كل طائفة من الناس بما هو أنسب لها، وفي هذا التنوع كذلك نفع للفقيه المتلبس بها بما يقوم في نفسه من اختلاف جهات النظر في الفقهيات، وفي ذلك استكمال للملكة واستحكام لشأنها، مما يلمح إلى فضل الاستفادة من اختلاف هذه المقامات في الجانب التعليمي ذاته، مما كان قائمًا في مجالس التعليم الخاصة والعامة عند السادة الفقهاء، بحيث يكتسب المتفقه المهارة تحت إشراف شيخه ورعايته ويتخرج به.
وهذه الأعراف والقوانين العلمية التي جرى عليها أمر الفقهاء في مجالسهم بحاجة إلى استخراج وترتيب لتكون قريبة المتناول دانية المأخذ من المهتمين بشأن التربية والتعليم، الأمر الذي يستدعي مشاركة والتفاتًا ومعاونة وتعاضدًا من أصحاب التخصصات المختلفة، وهذا التعاون ضرورة علمية في البحث العلمي، وقبل ذلك هو ضرورة في فهم كلام العلماء السابقين في أي جانب من جوانب العلم والمعرفة.
نسأل الله تعالى الهدى والسداد، وأن يلهمنا رشدنا ويؤتينا تقوانا، وأن يجعلنا ممن يعقل عنه ويتفكر في آياته، وأن يلهمنا حسن القول وحسن العمل.
(اللَّهُمَّ ما مننت به فتممه، وما أنعمت به فلا تسلبه، وما سترته فلا تهتكه، وما علمته فاغفره)
(1)
.
(1)
قال ابن خلكان (ت 681 هـ): (وقال الحافظ أبو طاهر السِّلَفي: كان أبو الحسن الخِلَعي إذا سُمع عليه الحديث يختم مجالسه بهذا الدعاء). وفيات الأعيان (3/ 318).