الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد أول
في فضل مجالس الفقه
قال الله جل جلاله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].
روى الأوزاعي عن يحيي بن أبي كثير: مجالس الفقه.
(رياضة المتعلمين، ابن السني/191)
عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة).
(تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة/ 36)
عن عبد الله بن أبي موسى التستري قال: قيل لي: (حيثما كنت فكن قرب فقيه).
(التاريخ الكبير، ابن أبي خيثمة/3/ 250)
قال سهل بن عبد الله: (من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء).
(صفة الصفوة، ابن الجوزي/4/ 65)
عن سلمة بن سعيد قال: كان يقال: (العلماء سُرُجُ الأزمنة).
(الإبانة الكبرى، ابن بطة/1/ 57)
(وكان مجلسه-يعني: نظام الملك-عامرًا بالفقهاء والعلماء، بحيث يقضي معهم عامة أوقاته، فقيل له: إن هؤلاء قد شغلوك عن كثير من المصالح، فقال: هؤلاء جمال الدنيا والآخرة، ولو أجلستهم على رأسي ما استكثرت ذلك).
(البداية والنهاية، ابن كثير/16/ 126)
تعظيم مجالس العلم واحتفال عامة الناس بها وعمارتهم لها أمارة على حياة الأمة واشتعال الروح فيها، وعند استقراء كلام أهل التاريخ والأخبار في وصف حلقات العلم في المساجد والمجالس المختلفة يتعجب المرء من ذلك، حتى لكأن الأمة كلها معنية بالعلم ومشتغلة به. حتى لقد قال الأحنف بن قيس (ت 67 هـ):(كاد العلماء أن يكونوا أربابًا)، قالها في قوم تشاجروا في مسجد البصرة، والمسجد مشحون برجالات العرب، فرضوا بالحسن البصري (ت 110 هـ) وتحاكموا إليه
(1)
. ومرَّ الحسن بأبي عمرو بن العلاء (ت 154 هـ)، وحلقته متوافرة والناس عكوف، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو عمرو بن العلاء، فقال:(لا إله إلا الله، كاد العلماء أن يكونوا أربابًا)
(2)
.
من أجل ذلك كثرت الوصية بمجالسة العلماء ومزاحمة الناس عليهم وثني الركب بين أيديهم، وبيان أثر هذه المجالسة في صلاح العلم والعمل. وقد روى الشيخان عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه))
(3)
.
وجاء في "موطأ الإمام مالك" من وصية لقمان الحكيم لابنه: (يا بني
(1)
عيون الأخبار، ابن قتيبة (2/ 145).
(2)
ربيع الأبرار، الزمخشري (3/ 216).
(3)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس (66)، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب من أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها (2176).
جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله تعالى يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء)
(1)
، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة)
(2)
، وقال أيضًا رضي الله عنه:(ثلاث من كن فيه ملأ الله قلبه إيمانًا: صحبة الفقيه، وتلاوة القرآن، والصيام)
(3)
، ولما حضرت معاذًا رضي الله عنه الوفاة قال:(اللَّهُمَّ إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر)
(4)
، وقال عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ):(لأن يكون لي مجلس من عبيد الله-يعني: ابن عبد الله بن عتبة-أحبُّ إليَّ من الدنيا)
(5)
.
ومن ثمَّ كانت هذه المجالس مهيبة معظمة، وكان لها رهبة وجلالة في بلاد الإسلام بأسرها، وكانت المدائن تزدان بها كما تزدان السماء بكواكبها السيارة وبنجومها، حتى غدت لأصحابها مناقبَ ولبلدانهم مفاخرَ فلكأن عين الشمس ما دارت على مثلها، وكثر في الناس وصفها وشرح هيئتها والسعادة بها والافتخار بشهودها والاشتياق إليها والتحسر على فقدها.
كان قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري (ت 168 هـ) إذا جلس في مجلس القضاء يقضي بين الناس تمثَّل
(6)
:
لنا مجلس طيِّبٌ ريحه
…
به الجلُّ والآس والياسمين
وقال أبو الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) في وصف مجالسه ببغداد:
كم كان لي من مجلس لو شُبِّهت
…
حالاته لتشبَّهت بالجنَّةِ
كم كان لي من مجلس لو شُبِّهت
…
حالاته لتشبَّهت بالجنَّةِ
أشتاقه لما مضت أيامه
…
عُطلًا وتُعذر ناقة إن حنَّتِ
(1)
الموطأ برواية يحيي، كتاب الجامع، باب ما جاء في طلب العلم (2859).
(2)
المعجم الكبير، الطبراني (8553)، حلية الأولياء، أبو نعيم (1/ 134).
(3)
بهجة المجالس، ابن عبد البر (2//128).
(4)
حلية الأولياء، أبو نعيم (1/ 239).
(5)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 115).
(6)
انظر: أخبار القضاة، وكيع (2/ 112).
قال أبو شامة (ت 665 هـ): (أظن هذه الأبيات نظمها في أيام محنته إذ كان محبوسًا بواسط، فمعانيها دالة على ذلك).
ولما مات الموفق بن قدامة (ت 620 هـ) رثاه موسى بن خلف (ت 643 هـ) فقال:
وتعطَّلت تلك المجالس وانقضت
…
تلك المحافل ليتها لو ترجع
(1)
ولك أن تتصور مثلًا في نيسابور مجلسًا تدور دارته على كرسيٍّ عليه مثل أبي المعالي الجويني (ت 478 هـ)، وبين يديه من المعيدين أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) والكيا الهراسي (ت 504 هـ) وأمثالهما، فإذا تفهمت ذلك وتأملت الأثر الذي يحدثه مثل هذا المجلس، علمت سبب اشتهار قرى صغيرة حول نيسابور لكثرة من ينتسب من الفقهاء والعلماء إليها
(2)
. فلقد كان هؤلاء العلماء كالغيث الذي تحيا به البلاد، وكانت الأمصار تنتظم بهم، وتختل لفقدهم، وقد قال عمر رضي الله عنه لما خرج معاذ رضي الله عنه إلى الشام:(لقد أخلَّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى عليَّ وقال: رجل أراد وجهًا يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه وفي بيته، عظيم الغنى عن مصره)
(3)
، وقال علي رضي الله عنه في أصحاب ابن مسعود رضي الله عليه في الكوفة:(أصحاب عبد الله سرج هذه القرية)
(4)
. ولما زار الأمير الموفق بالله العباسي (ت 278 هـ) الإمام الحافظ أبا داود صاحب السنن (ت 275 هـ) بعد إخماده لفتنة الزنج، سأله الانتقال إلى البصرة بعد خرابها، وقال له:(تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنًا؛ ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى من محنة الزنج)
(5)
. ولما
(1)
الذيل على الروضتين (25)، وانظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 507).
(2)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 301).
(3)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 286).
(4)
الطبقات الكبرى، ابن سعد (2/ 348).
(5)
الطبقات الكبرى، ابن سعد (6/ 10).
همَّ عبد الله بن عضيب الناصري النجدي الحنبلي (ت 1161 هـ) بالخروج من عُنيزة لسبب اقتضى ذلك، قال له أميرها:(كُنَّا أمواتًا فأحيانا الله بك، ونحن محتاجون لعلمك وتعليمك، فكيف تفارقنا؟)
(1)
.
ولأجل هذا المعنى رأينا طوائف من أهل الضلال ممن قصدوا إلى اختلال أمور المسلمين يعمدون إلى فقهائهم وعلمائهم، فينالونهم بالأذى والقتل والتشريد، كما جرى من العبيديين لما ظهروا في بلاد المغرب فقتلوا ما لا يحصى من العلماء والفقهاء، ثم كانت تلك عادتهم في البلدان التي يتغلبون عليها، قال القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ) عن رئيسهم الباطني عبيد الله المتسمِّي بالمهدي (ت 322 هـ):(وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة ملة الإسلام. أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق)
(2)
، وقال فيه أبو شامة (ت 665 هـ):(وكان زنديقًا خبيثًا عدوًّا للإسلام، متظاهرًا بالتشيع متسترًا به، حريصًا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود)
(3)
، وقال:(وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرشهم)
(4)
، بل ذكر أبو الحسن القابسي (ت 403 هـ) أن عبيد الله هذا وبنيه من بعده قتلوا في المهدية أربعة آلاف في
(1)
السحب الوابلة، ابن حميد (2/ 606).
(2)
تاريخ الإسلام، الذهبي (24/ 23).
(3)
كتاب الروضتين (2/ 215).
(4)
كتاب الروضتين (2/ 218)، وبالمقابل فانظر صنيع الملك الناصر صلاح الدين لما أراد استرجاع البلاد المصرية من العبيديين، وكيف توسل إلى ذلك بالتدرج؛ لأن (هذا الأمر إن لم يؤخذ على التدريج وإلا فسدت أحواله) كما اعتذر بذلك الملك الناصر لما استعجله نور الدين بقطع الخطبة للعبيديين وإقامتها للعباسيين، ثم انظر كيف قطع دابر مذهبهم ببناء المدارس في مصر والشام، وتعيين القضاة والخطباء من أهل السُّنة، حتى استوثق أمر السُّنَّة في تلك البلاد، وغدا ما أكره العبيديون عليه الناس من الباطل كأمس الذاهب، قال ابن شداد (ت 632 هـ):(هذا كله وهو وزير متابع للقوم، لكنه مقوِّ لمذهب السُّنَّة، غارسٌ في أهل البلاد العلمَ والفقه والتصوف والدين) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (81)، وراجع في ذلك:((كتاب الروضتين)) لأبي شامة المقدسي، و ((التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية)) لعز الدين بن الأثير، و ((الحياة العلمية في دمشق في العصر الأيوبي)) لناصر الحازمي، و ((المدارس في بيت المقدس في العصرين الأيوبي والمملوكي)) للدكتور عبد الجليل حسن، و ((المدارس الأيوبية في حلب والقاهرة)) للدكتور وليد الأخرس، و ((التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك)) للدكتور عبد الغني عبد العاطي، و ((الحياة الفكرية في مصر خلال العصر الأيوبي)) للدكتور شوكت الأتروشي.
العذاب من عالم وعابد ليردوهم عن الترضي عن الصحابة فاختاروا الموت
(1)
.
والمراد بيانه من مثل هذا أن هؤلاء الفقهاء والعلماء كان لهم الأثر الكبير في بقاء الإسلام ونشره، وأن مجالسهم العامرة في بث العلم وإحيائه وتعليم الناس وإفتائهم، كان لها بلاؤها في تثبيت الناس وحفظ أصول الديانة، ولذا فقد كانت تلك المجالس معظمة عند الخاصة والعامة، وكان يحضرها الفقهاء والأكابر، فكان ابن عمر رضي الله عنه يحضر مجلس عبيد بن عمير (ت 74 هـ)
(2)
، وكان عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) يجلس إلى قاصِّ العامة بعد الصلاة
(3)
، وكان يحضر مجلس أبي حامد الإسفراييني (ت 406 هـ) ثلاثمائة فقيه
(4)
، وكان الفقهاء يحضرون مجالس الموفق بن قدامة (ت 620 هـ)
(5)
، وكان هو نفسه يحضر مجالس سبط ابن الجوزي (ت 654)
(6)
، وحضر أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ) مجلس الوعظ لأبي القاسم القشيري (ت 514 هـ)
(7)
، وكان لأبي عثمان الصابوني (ت 449 هـ) مجالس في التذكير يحضرها أبو إسحاق الإسفراييني (ت 418 هـ) وابن فورك (ت 406 هـ) وأبو الطيب الصعلوكي (ت 404 هـ)
(8)
، وهذا أمر معروف مشهور.
وربما حضر الأكابر مجالس من هم في طبقة تلامذتهم، أو ألزموهم الدرس بحضرتهم على جهة الامتحان، كحضور جماعة من الفقهاء الكبار لأول مجلس لأبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) بعد أن أُذن له في الجلوس في جامع المنصور ببغداد
(9)
، وكمُعمَّر بن يحيي السراج (ت 897 هـ) الذي ألزمه شيخه أن يدرس المنهاج بحضرته
(10)
، والأمثلة في هذا ونحوه كثيرة يطول شرحها.
(1)
انظر: معالم الإيمان، الدباغ (3/ 34)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (15/ 145).
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (4/ 157).
(3)
انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (5/ 271).
(4)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (1/ 72).
(5)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 285).
(6)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 284).
(7)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 208).
(8)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 274).
(9)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 465).
(10)
انظر: الضوء اللامع، السخاوي (10/ 163).
وكان الفقهاء يعظمون هذه المجالس بالطهارة لها والتطيب وأخذ الزينة.
قال الإمام مالك (ت 179 هـ): (ما أدركت فقهاء بلدنا إلا وهم يلبسون الثياب الحسان)
(1)
، وقال إسماعيل بن أبي أويس (ت 226 هـ): سألت خالي مالكًا عن مسألة، فقال لي: قِرَّ، ثم توضأ، ثم جلس على السرير، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان لا يفتي حتى يقولها
(2)
. وكان البغوي (ت 516 هـ) لا يلقي الدرس إلا على طهارة
(3)
، وما رويت الحديث، ولا عقدت المجلس، ولا قعدت للتدريس قط، إلا على الطهارة)
(4)
. وقال ابن جماعة (ت 733 هـ): (إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الحدث والخبث، وتنظف وتطيب، ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصدًا بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة)
(5)
.
وما كان لهذه المجالس أن يكون لها في الناس مثل هذا التعظيم والإجلال لولا ما عاينوا من آثارها الجميلة وثمارها، فلقد كان مثلها كمثل شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وإذا كان لنا أن نجمل هذه الآثار فيمكن تلخيصها في أمور ثلاثة: بث العلم ونشره، وتربية الناس وتزكية أخلاقهم الظاهرة والباطنة، وحراسة الشريعة مما ليس منها، وبيان ذلك فيما يأتي وصفه:
1 -
كانت هذه المجالس مراكز لبث علم الشريعة ونشره في الناس وتجديده والتذكير به، وتعاهد تلامذته، بحيث يتصل سند آخر هذه الأمة
(1)
انظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي (1/ 156).
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (8/ 66)، وقد عقد القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 144 - 156) بابًا في صفة مجلس الإمام مالك، فتكلم فيه عن طرف من جلالة مجلسه ورهبته وهيبته، وعن تعظيمه للعلم وصيانته الشديدة له، حتى إن هارون الرشيد قعد بين يديه، ثم قال له بعد مدة:(تواضعنا لعلمك فانتفعنا به).
(3)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (7/ 75).
(4)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 275).
(5)
تذكرة السامع والمتكلم (65).
بأولها، ويتلقى كل قرن من قرون هذه الأمة عمن قبله العلم والعمل والإيمان، فالأمة لم ترث علم الشريعة بأفرادها بل بمجموعها، وما من جيل من أجيالها إلا وعلم الشريعة ظاهر فيه بمجموعه، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة.
أرأيت كيف حفظ الله كتابه الكريم بعموم الأمة دون أفرادها حتى لم يختلَّ منه حرف؟ فكذلك حفظت الشريعة فلم يضع منها شيء.
فمجالس العلم ومجامعه كالينابيع التي يغترف منها الناس فيستقلون ويستكثرون، ثم يعود الوالدان بالتعليم والتربية على أولادهما، وذو الفضل على أهل فضله، وحامل الفقه إلى من هو أفقه منه، فيأخذ الناس العلم بالتعلم أو المحاكاة، قال ابن خلدون (ت 808 هـ):(البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب والفضائل تارة علمًا وتعليمًا وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة)
(1)
.
ولما قال صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم: ((وصلوا كما رأيتموني أصلي))
(2)
، فإن أصحابه رضي الله عنهم تلقوا عنه علم الصلاة قيامها وركوعها وسجودها وخشوعها وتعظيمها، وتلقى عنهم من بعدهم ذلك. حتى روى الإمام أحمد (ت 241 هـ) في مسنده فقال:(حدثنا عبد الرزاق، قال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء، وأخذها عطاء من ابن الزبير رضي الله عنه، وأخذها ابن الزبير رضي الله عنه من أبي بكر رضي الله عنه، وأخذها أبو بكر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم. ما رأيت أحدًا أحسن صلاة من ابن جريج)
(3)
. ولما سئل أبو المثنى رياح بن الحارث النخعي الكوفي: أليس قد رأيت عبد الله رضي الله عنه؟ قال: (بلى، وحججت مع عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين ثلاث حجات وأنا رجل، قال: وكان عبد الله رضي الله عنه وعلقمة يصفَّان الناس صفين عند أبواب كندة، فيقرئ عبد الله رجلًا ويقرئ علقمة رجلًا، فإذا فرغا تذاكرا أبواب المناسك وأبواب الحلال والحرام، فإذا رأيت علقمة فلا يضرك ألَّا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتًا وهديًا، وإذا رأيت
(1)
مقدمة ابن خلدون (3/ 226).
(2)
صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر (631).
(3)
المسند (73).
إبراهيم النخعي فلا يضرك ألا ترى علقمة، أشبه الناس به سمتًا وهديًا)
(1)
.
فالعلم كالغيث الذي يصيب الأرض فيحيا به نباتها وأشجارها، فيخضر عودها، ويطيب ريحها، وتزهو ثمارها، فلا يختص بالخير منها ناحية دون غيرها، فكذلك العلم يُبذل للناس كافة. قال جعفر بن برقان: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ): (أما بعد، مر أهل العلم والفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله عز وجل في مجالسهم ومساجدهم)
(2)
، فبذل العلم والتصدي لنشره والصبر على ما ينال الإنسان في سبيل ذلك من اللأواء والنصب من أعظم الوسائل إلى الله وأقربها إليه زلفى، وما أعده الله جل جلاله في دار كرامته للعلماء الذين يعلمون الناس الخير من الأجر العظيم ليس ينال بالعزلة وطول الشكاية من قلة الطلبة وانصراف الناس وفساد الزمان، بل ينال بجدٍّ في بذله يشبه الجِدَّ في طلبه، وقد قال ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ):(ما صبر أحد على العلم صبري، ولا نشره أحد نشري)
(3)
، وكان ربما خرج إلى الأعراب يفقههم
(4)
، وقال البخاري (ت 256 هـ) في صحيحه:(باب كيف يقبض العلم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسمل، ولْتُفشوا العلم ولْتَجلسوا حتى يُعَلَّمَ من لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا)
(5)
، وقد تمثل عمر بن عبد العزيز ذلك فكان يرسل الفقهاء إلى الأمصار يعلمون أهلها ويفقهونهم، كما أرسل عشرة من التابعين يفقِّهون أهل إفريقية ويعلمونهم أمر دينهم وقد فشا الجهل فيهم، حتى ذُكر أن الخمر كانت حلالًا عندهم حتى جاءهم الفقهاء الذين بعثهم عمر فعرفوهم من ذلك ما كانوا يجهلون
(6)
. وقال فقيه الشام سعيد بن
(1)
انظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (41/ 163)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (4/ 55).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب جامع لنشر العلم (788).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب جامع لنشر العلم (795).
(4)
انظر: تاريخ الإسلام، الذهبي (8/ 247).
(5)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم.
(6)
انظر: طبقات علماء إفريقية، أبو العرب التميمي (20 - 21).
عبد العزيز (ت 167 هـ): (لم يكن عندنا أعلم بالقضاء من يزيد بن أبي مالك، لا مكحول ولا غيره، وقد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى بني نمير، يفقههم ويقرئهم)
(1)
.
فالخلوص إلى عامة الناس وبث العلم والفقه فيهم من هدي الأنبياء، وليس مما يترفع عنه الفقهاء والأئمة فضلًا عمن دونهم، بل كان من هدي أئمة الهدى والفقه في الدين تعليم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والأصم والأبكم والأعمى، وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أبواب الصدقة:((وتَهدي الأعمى، وتُسمع الأصم والأبكم حتى يفقه))
(2)
، قال ابن السُنِّي (ت 364 هـ):(وإن كان فيهم أصم لا يسمع فليسمعوه.. وإن حضرهم ضرير فليكتب له بعضهم.. وكذلك إن كان فيهم أبكم أفهموه)
(3)
.
وكذلك الصبيان فلا يترفع العالم عن تعليمهم وقد علَّمهم من هو خير منه صلى الله عليه وسلم، بل يعلمهم ويبلوهم فيما أخذوه عنه، وقد روى الإمام أحمد (ت 241 هـ) وغيره عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنه: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أذكر أني أخذت تمرة من تمر الصدقة، فألقيتها في فمي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعابها، فألقاها في التمر، فقال له رجل: ما عليك لو أكل هذه التمرة؟ قال: ((إنا لا نأكل الصدقة))، قال: وكان يقول: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة))، قال: وكان يعلمنا هذا الدعاء: ((اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنه لا يذل من واليت))، وربما قال:((تباركت ربنا وتعاليت))
(4)
.
وكذلك كان علماء المسلمين وأئمتهم لا يترفعون عن تعليم الكبير والصغير.
(1)
تاريخ الإسلام، الذهبي (8/ 309).
(2)
المسند (21484).
(3)
رياضة المتعلمين (125).
(4)
المسند (1723)، وانظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (135).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون، منهم أبو صالح صاحب الكلبي كان يعلم الصبيان، وأبو عبد الرحمن السلمي وكان من خواص أصحاب علي رضي الله عنه، وقال سفيان بن عيينة: كان الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث يعلمان الصبيان فلا يأخذان أجرًا، ومنهم قيس بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الكريم أبو أمية، وحسين المعلم وهو ابن ذكوان، والقاسم بن عمير الهمداني، وحبيب المعلم مولى معقل بن يسار، ومنهم علقمة بن أبي علقمة وكان يروي عنه مالك بن أنس، وكان له مكتب يعلم فيه، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلَّام الإمام المجمع على إمامته وفضله)
(1)
. وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي الحنبلي (ت 612 هـ) عن الإمام الحافظ الكبير أبي موسي المديني الشافعي (ت 581 هـ): (وكان فيه من التواضع بحيث إنه يقرئ الصغير والكبير، ويُرشد المبتدئ، رأيته يُحفِّفظ الصبيان القرآن في الألواح)
(2)
.
فهذه المجالس نفعها عام للخاص والعام، سواء كان الذي يحضرها فقيهًا أو متفقِّهًا أو عاميًّا يتعلم الشيء فالشيء من أمر دينه، وقد قال أبو الوليد الباجي (ت 474 هـ):(والمجالسة للعلماء إذا كانت قربة فإنما تكون على وجهين: أحدهما لمن ليس في قدرته تعلم العلم، فإنه يجالسهم تبركًا بمجالستهم وانحيازًا إليهم ومحبة فيهم، وربما جرى من أقوالهم ما يحتاج إليه، فتحمله حاجته إليه على أن يعيه ويحفظه، أو يستثبت فيه حتى يفهمه، وربما سألهم عن مسألة مما لا يسعه جهله فيأخذها عنهم، وأما من كان في قوَّته تعلم العلم ورزق عونًا عليه ورغبة في تعلمه، فيجالسهم ليأخذ عنهم ويتعلم من علمهم)
(3)
.
2 -
كان لهذه المجالس الفقهية الشريفة دورها في تزكية أخلاق المسلمين وتربيتهم على حسن التأله لله جل جلاله وحسن المعاملة مع الناس، لم
(1)
منهاج السُّنَّة (8/ 543).
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (21/ 156).
(3)
المنتقى (7/ 326).
تكن مجالس تنظير مجرَّد لرمي المسائل والمواعظ والفتاوى على الناس، دون تعاهد لهم بحسن التخلق والتأدب بآداب الديانة في الظاهر والباطن، والخاص والعام. والتأثر بما يعاينه المرء من الأخلاق الفاضلة ويراه واقعًا أمامه لا مجرد خيالات تحكي، من أعظم ما يحمل الإنسان على التخلق بالأخلاق الكريمة والتطبع بها، ولقد كانت هذه الأخلاق مما يتلقاه الناس من أكابرهم وأهل الفضل فيهم كما يتلقون العلم عن علمائهم. قال الأحنف بن قيس (ت 67 هـ):(لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم رضي الله عنه في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه)
(1)
، وقال ابن سيرين (ت 110 هـ):(كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم)
(2)
، وقال حبيب بن الشهيد (ت 145 هـ) لابنه:(يا بني، إيت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلى لك من كثير من الحديث)
(3)
. بل لقد كانوا يرحلون فيها كما يرحلون في مسائل العلم، فهذا رجل جاء إلى قاضي البصرة سوَّار بن عبد الله (ت 156 هـ) فقال له: رجل جاء من خراسان يسألك عن مسألة ليس من حلال ولا حرام، فأذن له فدخل، فقال: اختلفنا في المروءة ما هي ونحن بخراسان، فقالوا لي: أنت تريد الحج فاجعل طريقك بالبصرة، وائت سوار بن عبد الله فاسأله. فقال له سوار: قد سألت، فإذا أردت الخروج فأتني. فأتاه حين أراد الخروج، فقال له سوار:(يا فتي أتعييني؟ المروءة إنصافك الناس من نفسك)
(4)
.
والآثار مستفيضة مشهورة عن السلف والأئمة في بيان التلازم بين العلم والعمل، وفي بيان الطبيعة الأخلاقية للفقه، وأن الفقيه الحقيقي هو من يستبين الناس أثر علمه في عمله وهديه ودلِّه وسمته، وقد قال علي رضي الله عنه: (ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في
(1)
عيون الأخبار، ابن قتيبة (1/ 411).
(2)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (1/ 79).
(3)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (1/ 80).
(4)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 86).
معاصي الله، ولم يؤمنهم مكر الله، ولم يترك القرآن إلى غيره)
(1)
، ولما سئل ابن المبارك (ت 181 هـ): هل للعلماء علامة يعرفون بها؟ قال: (علامة العالم من عمل بعلمه، واستقلَّ كثير العلم من نفسه، ورغب في علم غيره، وقبل الحق من كل من أتاه به، وأخذ العلم حيث وجده، فهذه علامة العالم وصفته). قال أبو بكر المروذي (ت 275 هـ): فذكرت ذلك لأبي عبد الله-يعني: أحمد بن حنبل-فقال: هكذا هو
(2)
. وقال داود الطائي (ت 162 هـ): (أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقي الحرب، أليس يجمع آلته؟ فإذا أفني عمره في الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفني عمره في جمعه فمتى يعمل؟)
(3)
.
وقال أبو تمام حبيب بن أوس (ت 231 هـ)
(4)
:
ولم يحمدوا من عالم غير عاملٍ
…
خلاقًا ولا من عامل غير عالم
رأوا طرقات العجز عُوجًا قطيعةً
…
وأقطع عجز عندهم عجز حازم
ولأجل هذا فقد كان أثر مجالسة العلماء ظاهرًا في الأخلاق والسلوك والإيمان، وليس مقصورًا على المعرفة الذهنية المجردة. قال ميمون بن مهران (ت 117 هـ):(بنفسي العلماء، هم ضالتي في كل بلدة، وهم بغيتي إذا لم أجدهم، وجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء)
(5)
.
ولك أن تتصور صبيًّا بلغ سنَّ الجدِّ في الطلب، فشهد مجالس الفقهاء وعاين أثر العلم فيهم، فرأى شيخًا له لا يفتر في مجلسه عن ذكر الله جل جلاله، كما جاء في وصف عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ)، فقد قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: (ما رأيت مفتيَّا خيرًا من عطاء بن أبي رباح إنما كان مجلسه ذكر الله لا يفتر وهم يخوضون، فإن تكلم أو سئل عن
(1)
أخلاق العلماء، الآجري (73).
(2)
انظر: طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلي (3/ 268)، وانظر آثارًا أخرى في المعنى في: سنن الدارمي (باب من قال العلم الخشية وتقوى الله)، الفقيه والمتفقه للخطيب (باب ما جاء في ورع المفتي وتحفظه)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 265 - 269).
(3)
اقتضاء العلم العمل، الخطيب البغدادي (45).
(4)
شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي (3/ 259).
(5)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب جامع في فضل العلم (239).
شيء أجاب وأحسن الجواب)
(1)
. أو رأي شيخًا له يتج لله البكاء من خشية الله أثناء درسه، كما قال القاضي الحسين (ت 462 هـ) في ذلك:(كان القفال (ت 417 هـ) في كثير من الأوقات في الدرس يقع عليه البكاء ثم يرفع رأسه ويقول: ما أغفلنا عما يراد بنا)
(2)
. أو يرى شيخًا له إذا عظمت حلقته قام كراهية الشهرة كما كان يفعل خالد بن معدان (ت 103 هـ)
(3)
. أو يفتقد شيخه ذات صباح فإذا به قد انتقل من مقاعد التدريس إلى مقاعد الرباط، كما جرى من ابن شاس (ت 610 هـ) لما دخل الفرنجة دمياط، فانتقل إليها وتوفي مرابطًا فيها
(4)
. أو يرى من شيخه أخلاق التواضع واطراح التكبر، كما جرى من قاضي القيروان أبي العباس بن طالب (ت 275 هـ) حين يذكر تنازع فقهاء المالكية في المسائل، فربما ذكر في المسألة خمسة أقوال أو ستة، ثم تسيل دموعه ويضع خده على الأرض ويقول:(يا فتى، أردت أن يقال فقيه! فهل معك عمل صالح تنجو به من عذاب الله؟ وإلا فما يغني هذا عنك؟)
(5)
. وكان أحمد بن عبد الله ناضرين المكي الشافعي (ت 1370 هـ) ربما قال لطلبته: (هذه مسألة ما فهمتها، اسألوا فيها غيري)
(6)
.
فما بالك بهذا الفتى الذي يسلك طريق العلم عند هؤلاء الشيوخ وأمثالهم، فيرى العلم والعمل والخشية والأدب في سياق واحد، كيف سيكون أثر العلم فيه؟ ومن ثمَّ كان العلماء يؤكدون أن التأثر بالقدوة أعظم من التأثر بالقول المجرد، بل يرد الكلام من مثل هؤلاء فيقع في نفوس الناس مواقعه.
ولما وصف ابن النجار (ت 643 هـ) الموفق بن قدامة (ت 620 هـ) قال في وصفه: (وكان ثقة حجة نبيلًا غزير الفضل كامل العقل شديد التثبت دائم السكوت حسن السمت نزهًا ورعًا عابدًا على قانون السلف، على وجهه النور
(1)
انظر: التاريخ الكبير، ابن أبي خيثمة (1/ 208).
(2)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (5/ 55).
(3)
انظر: تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر (16/ 197)، صفة الصفوة، ابن الجوزي (4/ 215).
(4)
انظر: الديباج المذهب، ابن فرحون (1/ 443).
(5)
انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 315).
(6)
انظر: تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع، محمود سعيد بن محمد ممدوح الشافعي (1/ 191).
وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه)
(1)
. فما يتلقاه المتفقه من مثل أولئك يكون أثره راسخًا في نفسه، ظاهرًا في أخلاقه. قال سفيان الثوري (ت 161 هـ) واصفًا شيخه عمرو بن قيس:(هو الذي أدبني وعلمني قراءة القرآن وعلمني الفرائض، فكنت أطلبه في سوقه فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته إما يصلي وإما يقرأ في المصحف كأنه يبادر أمورًا تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من بعض زوايا المسجد كأنه سارق قاعدًا يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعدًا ينوح على نفسه)
(2)
. وقال أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في استحضار مهيب لسمت أشياخه: (ولقيت عبد الوهاب الأنماطيَّ (ت 538 هـ) فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان وأنا صغير السن حينئذ يعمل بكاؤه في قلبي ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي (ت 540 هـ) فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا محققًا، وربما سئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت. فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول)
(3)
.
فهذه المجالس التي هي بهذه الشاكلة من العلم والدين والأدب مجالس فضل وخير، وآثارها في الناس عظيمة جليلة، ولما نزل الحافظ عبد الغني المقدسي (ت 600 هـ) مصر كان الناس يبكون في مجلسه، حتى قال بعض المصريين: ما كنا إلا مثل الأموات حتى جاء الحافظ فأخرجنا من القبور
(4)
.
وقال أبو حازم الأعرج (ت 133 هـ): (لقد رأيتُنا في مجلس زيد بن أسلم
(1)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 284).
(2)
انظر: حلية الأولياء، أبو نعيم (5/ 101).
(3)
صيد الخاطر (259).
(4)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 13).
(ت 136 هـ) أربعين فقيهًا، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت فيه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا)
(1)
.
وأخلاق الخشية هذه إنما حمل الفقهاء عليها فضل علمهم ومعرفتهم بالله جل جلاله وأنه سائلهم عن علمهم. قال أبو بكر الآجري (ت 360 هـ): (فإن قال قائل: ولم داخل العلماء هذا الإشفاق الشديد، وخافوا من علمهم هذا الخوف كله؟ قيل له: علموا أن الله عز وجل يسألهم عن علمهم ما عملوا فيه؟ فجعلوا مساءلة الله نصب أعينهم، فألزموا أنفسهم شدة الحذر، وأخذوا بالثقة في كل أمرهم)
(2)
.
3 -
كانت هذه المجالس دواوين لحراسة الشريعة وصيانتها من كل زيف دخيل، فالعلم إذا فشا ارتفع الجهل، وإذا فتر العلم نجم الجهل وفشا، حتى يتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فيَضلُّون ويُضلُّون. ومن أعظم وجوه البلايا التي تدخل على الناس أن ينحازوا عن عالم مقصِّر في العمل إلى جاهل غرَّهم منه نسكه وصلاحه فيأخذوا علم الشريعة منه، فيختل بذلك نظام الشريعة، فيقدمون ما أخرته الشريعة ويؤخرون ما قدمته، حتى يظن الجاهل أنه على شيء وليس هو على شيء. قال ضرار بن عمرو (ت 200 هـ):(إن قومًا تركوا العلم ومجالسة أهل العلم، واتخذوا محاريب فصاموا وصلوا، حتى بلي جلد أحدهم على عظمه، وخالفوا السُّنَّة فهلكوا، فلا والذي لا إله غيره ما عمل عامل قط على جهل إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح)
(3)
. وقال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في شكاية عارف: (وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته)
(4)
. فعلاج الجهل إنما يكون بإفشاء العلم، وجهاد البدع إنما يتهيأ بإظهار السنن.
(1)
انظر: طبقات المفسرين، الداودي (1/ 176).
(2)
أخلاق العلماء (76).
(3)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (18).
(4)
اقتضاء العلم العمل، الخطيب البغدادي (18). وقريب من هذا المعنى ما جاء في ربيع الأبرار للزمخشري (3/ 207):(قطع ظهري من الناس اثنان: عالم فاسق يصد عن علمه بفسقه، وجاهل ناسك يدعو إلى جهله بنسكه).
قال الحافظ الذهبي (ت 748 هـ): (فوالله لولا الحفاظ الأكابر، لخطبت الزنادقة على المنابر، ولئن خطب خاطب من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السُّنَّة، وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأكمل أحوال الناس التي تُفتح لهم فيها أبواب التوفيق، أن يقيض الله جل جلاله لهم عالمًا عاملًا ربانيًّا يأخذهم بالعلم والعمل، فتنتظم أمورهم في ذلك كله على السداد، ثم لا تكون بهم حاجة إلى غيره ممن انتقص علمه أو عمله.
وقد روى القاضي أبو الوليد بن رشد الجد (ت 520 هـ) في ذلك حكاية عن فقيه الأندلس يحيي بن يحيي الليثي (ت 234 هـ) حيث قال: خرج معنا فتى من طرابلس، فكنا لا ننزل منزلًا إلا وعظنا فيه، حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب بذلك منه، فلما أتينا المدينة إذا هو قد أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بنا، فرأيته في سماط أصحاب السقط وهو قائم يحدثهم وقد لهوا عنه، والصبيان يحصبونه ويقولون له: اسكت يا جاهل، فوقفت معجبًا لما رأيت. فدخلنا على مالك (ت 179 هـ) فكان أول شيء سألناه عنه بعد ما سلمنا عليه ما رأينا من الفتي، فقال مالك: أصاب الرجال إذ لهوا عنه، وأصاب الصبيان إذ ذكروا عليه باطله. قال يحيي: وسمعت مالكًا يكره القصص، فقيل له: يا أبا محمد، فإذ تكره مثل هذا فعلى ما كان يجتمع من مضى؟ فقال: على الفقه. وكان يأمرهم وينهاهم
(2)
. وقال أبو بكر المرّوذي (ت 275 هـ): سمعت أبا عبد الله-يعني: الإمام أحمد- يقول: جاءني الأرمينيون بكتاب ذكر الوسواس والخطرات وغيره. قلت: فأي شيء قلت لهم؟ قال: قلت: هذا كله مكروه.
وقال في موضع آخر للمروذي: عليك بالعلم عليك بالفقه
(3)
.
فالوظائف الدينية من تعليم وإفتاء وقضاء وخطابة ووعظ تستقيم مع الفقه وتختل بفقده ونقصه، وقد روى الإمام مالك (ت 179 هـ) في الموطأ أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان: (إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه،
(1)
سير أعلام النبلاء (11/ 82).
(2)
البيان والتحصيل (17/ 297).
(3)
الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 179).
تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة ويقصرون الخطبة، يُبَدُّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن وتُضيَّع حدوده، كثير من يسأل قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يُبَدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم)
(1)
.
وعلى أية حال فأثر هذه المجالس أمر يطول شرحه وبيانه، ولكنها لم تزل من وجوه الفخار التي تتجمل بها الأمصار الإسلامية وتتفاضل بها فيما بينها، وكان لها رهبة تدعو من يحل بالبلد من الفقهاء إلى التحرز والتوقي والحذر ليعرف منزلته من العلم في أهلها، ويروي ناصح الدين بن الحنبلي (ت 634 هـ) أنه سمع ابن نُجيَّة الأنصاري الدمشقي الحنبلي (ت 599 هـ) يقول:(أول مجلس جلسته في بغداد في جامع المنصور، فنزلت سحرًا إلى الجامع متنكرًا، حتى أرى هيئة المجلس وأسمع ما يقال، وإذا رجل أعمى قد جلس على درج المنبر، فذكر من الفصول من كلام التميمي (ت 488 هـ) وابن عقيل (ت 513 هـ) وغيرهما جميع ما قد حررته للمجلس وتعبت عليه! قال: فأصابني همٌّ وما بقي لي زمن أحفظ غير ذلك، فاستخرت الله تعالى، ثم جلست وتكلمت، وذكرت حكاية طاب بها المجلس)
(2)
. ويصف فقيه القيروان وعالمها أبو عمران الفاسي (ت 430 هـ) أول حضوره لمجلس القاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403 هـ) فيقول: (رحلت إلى بغداد وكنت قد تفقهت بالمغرب والأندلس عند أبي الحسن القابسي (ت 403 هـ) وأبي محمد الأصيلي (ت 392 هـ) وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر، ورأيت كلامه في الأصول والفقه مع المؤلف والمخالف، حقرت نفسي وقلت: لا أعلم من العلم شيئًا، ورجعت عنده كالمبتدئ)
(3)
.
(1)
الموطأ برواية يحيي، كتاب الصلاة، باب جامع الصلاة (479).
(2)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 530).
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 136).