المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌المجلس الثالثمجلس الإفتاء

‌المجلس الثالث

مجلس الإفتاء

(من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم). أحمد بن حنبل.

(تعظيم الفتيا، ابن الجوزي/ 40)

(التسليم للفقهاء سلامة في الدين). سفيان بن عيينة.

(نشوار المحاضرة، التنوخي/ 6/ 44)

(العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق). مالك بن أنس.

(المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي/ 2/ 275)

(فمن أقدم على ما ليس له أهلًا من فتيا أو قضاء أو تدريس أَثِمَ، فإن كان أكثر منه وأصرَّ واستمرَّ فَسَقَ، ولم يحلَّ قبول قوله ولا فتياه ولا قضاؤه. هذا حكم دين الإسلام، والسلام).

(صفة المفتي والمستفتي، ابن حمدان/ 142)

(لا بدَّ لكلِّ من المفتي والحاكم من نظر سديد واشتغال مديد).

(رسائل ابن عابدين/ 2/ 128)

(ولو كانت العامة يتبصَّرون فيمن يستفتون لكان الناس بخير).

(رسائل اليوسي/ 1/ 206)

(صحِّح المسألة حتى يصحَّ الجواب). خلف الأحمر.

(معجم الأدباء، ياقوت/ 5/ 2246)

ص: 131

مجلس الإفتاء مجلس عظيم تهيَّبه الراسخون في العلم من الأبرار والصالحين، وأخبارهم في تدافع الفتوى بينهم معلومة

(1)

؛ لأن مقام المفتي في الناس كمقام النبي الذي يبلغ شريعة رب العالمين إليهم. قال محمد بن المنكدر (ت 130 هـ): (إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عباده، فليطلب لنفسه المخرج)

(2)

، وقال مالك بن دينار (ت 130 هـ) لقتادة (ت 117 هـ):(أتدري أي علم رفعت؟ قمت بين الله وبين عباده، فقلت هذا يصلح وهذا لا يصلح)

(3)

، ولذا كانت حال المفتي متردِّدة بين رهبتين ورغبتين، فأما الرهبتان فرهبة كتمان العلم، ورهبة القول على الله بغير علم، وأما الرغبتان فرغبة التقدم في الدين وإمامة المتقين، ورغبة السلامة والعافية. وإنما تكون نجاة المفتي بشهوده لتلك الأحوال واستحضاره لمقامه بينها حال فتواه.

ولوظيفة الإفتاء شروط أفاض العلماء في بيانها، وحذَّروا من تقحُّم درجة الإفتاء دون اعتبار تحقُّقها، وذكروا أن التساهل في شرط المفتي يجرُّ إلى العاقبة الوخيمة. قال مالك (ت 179 هـ): أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ت 136 هـ) فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع

(1)

انظر: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب الزجر عن التسرع إلى الفتوى (708)، تعظيم الفتيان ابن الجوزي (35).

(2)

سنن الدارمي، باب من هاب الفتيا (139).

(3)

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (712).

ص: 132

لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق

(1)

.

فمن أهمل الشروط التي ذكرها الفقهاء ونصب نفسه للفتيا دون أن يكون أهلًا لها فقد ارتكب عظيمة من الخطايا. قال شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) في شأن من أهمل شرطًا واحدًا من شروط المفتي وهو العلم بأصول الفقه: (فالناس مهملون له إهمالًا شديدًا، ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج والإحاطة بها، فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات ولا بالتخصيصات من منقولات إمامه، وذلك لعب في دين الله تعالى وفسوق ممن يتعمده. أَوَ ما علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى؟! وأن من كذب على الله تعالى أو أخبر عنه مع عدم ضبط ذلك الخبر فهو عند الله تعالى بمنزلة الكاذب على الله؟! فليتق الله تعالى امرؤ في نفسه ولا يقدم على قول أو فعل بغير شرطه)

(2)

.

فيعلم من هذا أن مقام الفتيا مقام صعب زائد عن مجرد العلم بالمسألة أو الحكم، بل هو زائد عن درجة الفقيه الذي يحسن فهم المسألة وتكون به القدرة على أن يشرحها في مجالس الدرس، قال ابن عبد السلام (ت 749 هـ):(فتجد من يحفظ أصولًا كثيرة من الفقه ويفهمها ويعلمها غيره، وإذا سئل عن واقعة جزئية من مسائل الصلاة أو من مسائل الأيمان لا يحسن الجواب، بل لا يفهم مراد السائل عنها إلا بعد عسر)

(3)

.

ولذا فرَّق طوائف من الفقهاء بين فقه الفتيا وعلم الفتيا، كما فرَّقوا بين فقه القضاء وعلم القضاء، فقالوا: الفقه معرفة الأحكام الكلية، أما علم الفتيا والقضاء فهو العلم بتلك الأحكام الكلية مع العلم بكيفية تنزيلها على

(1)

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 1225).

(2)

الفروق (2/ 545).

(3)

منح الجليل، محمد عليش (4/ 137)، وهو في المعيار المعرب (10/ 80) مع اختلاف يسير.

ص: 133

النوازل والواقعات

(1)

.

فالفتيا وما أشبهها من فقه العمليات المفتقرة إلى التجربة والممارسة صناعةٌ يتخرج بها المتفقه تحت نظر شيخه حتى يجيزه بها، قال عيسى بن سهل (ت 486 هـ):(وكثيرًا ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول: الفتيا صنعة. وقد قاله قبله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله قال: الفتيا دربة، وحضور الشورى في مجلس الحكام منفعة وتجربة. وقد ابتليت بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سليمان بن أسود، وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن. ومن تفقد هذا المعنى من نفسه ممن جعله الله إمامًا يلجأ إليه ويعول الناس في مسائلهم عليه، وجد ذلك حقًّا، وألفاه ظاهرًا وصدقًا، ووقف عليه عيانًا وعلمه خبرًا، والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه)

(2)

.

والمفتي يستصلح بالفتيا أحوال الناس إلى ما هو خير مما هم عليه، وربما أفتى بالمرجوح فقهًا

(3)

، أو رخَّص في المحظور خشية مما هو أشدُّ منه، أو اعتبر عموم البلوى به

(4)

، وغير ذلك مما لا تتهيَّأ الفتيا فيه بمجرد العلم بأصل المسألة، إلا أن يكون معه حسن معرفة بأحوال الناس ليحسن تنزيل الأحكام الكلية عليها. قال ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ): (وليس هذا المقام ينال بالهوينا، أو يتسوَّر سوره الرفيع من حفظه وتلقَّف فروعًا لا يهتدي لفهمها ولا يدري مأخذها ولا يعلم ما قيل فيها، وإنما يجوز تسوُّر ذلك السور المنيع من خاض غمرات الفقه حتى اختلاط بلحمه ودمه، وصار فقيه النفس بحيث لو قضى برأيه في مسألة لم يطلع فيها على نقل لوجد ما قاله سبقه إليه

(1)

انظر: رسائل ابن عابدين (2/ 129)، فتاوى ابن رشد (3/ 1497)، المعيار المعرب، الونشريسي (10/ 78).

(2)

المعيار المعرب، الونشريسي (10/ 79)، وهو موجود في: ديوان الأحكام الكبرى، ابن سهل (25)، مع اختلاف يسير. وانظر: الفتوى في الشريعة الإسلامية، د. محمد الخنين (1/ 183).

(3)

انظر تفصيل ذلك في: الفتوى في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله الخنين (1/ 327)، مراعاة القول الضعيف في الفتوى لدى فقهاء الغرب الإسلامي، أسماء المخطوبي (37).

(4)

راجع أمثلة لذلك في: أسباب عدول الحنفية عن الفتيا بظاهر الرواية، د. لؤي الخليلي (364).

ص: 134

أحد من العلماء، فإذا تمكن الفقه فيه حتى وصل لهذه المرتبة ساغ له الآن أن يفتي، وأما قبل وصوله لهذه المرتبة فلا يسوغ له إفتاء، وإنما وظيفته السكوت عما لا يعنيه وتسليم القوس إلى باريها، إذ هي مائدة لا تقبل التطفل، ولا يصل إلى حومة حماها الرحب الوسيع إلا من أنعم عليه مولاه بغايات التوفيق والتفضل)

(1)

.

ومع ذلك فهو مأمور بحسن البيان للناس، وألا يستعمل معهم الإلغاز والمجاز كما قد يجري في مجالس التعليم امتحانًا للطلبة، وذلك أن المفتي يخاطب عامة الناس، والناس فيهم الكبير والصغير والعالم والجاهل والذكي والبليد. قال تقي الدين السبكي (ت 756 هـ):(والفقيه المصنف قد يستعمل من الألفاظ ما فيه مجاز لمعرفته أن الفقهاء يعرفون مراده ومخاطبته للفقهاء. وأما المفتي فغالب مخاطبته للعوام فلا يعذر في ذلك وعليه أن لا يتكلم بالمجاز ولا بما يفهم منه غير ظاهره)

(2)

.

وهذا المجلس الذي هو مجلس الإفتاء مجلس إخبار عن الحكم الشرعي خاصة، وما يتضمنه هذا المجلس من حديث في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والطب وعلوم الطبيعة والحياة فإنما يُنظر فيها باعتبار ما يراد معرفة الحكم الشرعي بشأنه منها، والرجوع إلى أهل الخبرة في ذلك واجب للتعرف على صورة المسائل ومعرفة الأوصاف الطردية والمؤثرة في محل الحكم. وكان الحسن (ت 110 هـ) إذا سئل عن فريضة أخبر بها، فإن قيل له: احسبها، قال: اذهب إلى البقالين يحسبونها

(3)

.

وينبغي التمييز في هذا المقام بين حال المستفتي الذي يسأل عن حكم

(1)

الفتاوى الفقهية الكبرى (4/ 192).

(2)

فتاوى السبكي (2/ 370). وانظر: أدب الفتوى، ابن الصلاح (94).

(3)

أخبار القضاة، وكيع (2/ 8). وبشأن الحساب خاصة فقد اشترط العلم بما يُحتاج إليه في الفقه منه جماعة من الفقهاء، انظر: أدب الفتوى، ابن الصلاح (38)، ولكن الغرض الإشارة إلى أصل المعنى المذكور. وانظر: الاستعانة بأهل الاختصاص في الاجتهاد، د. أحمد الضويحي، مجلة العدل، العدد الثاني والأربعون (23).

ص: 135

نازلة أو أمر عرض له مما هو بحاجة إلى معرفة الحكم الشرعي فيه ليعمل به، وبين مطلق السائل الذي قد يسأل عن معنى لفظة أو مسألة اشتبهت عليه أو عزب عنه فهمها في قراءة له أو درس حضره، أو الذي يسأل في مباحثة ولو مع شيخه عن وجه قول أو جواب حجة وما في معنى ذلك، ولكلٍّ من هؤلاء أدب مختلف للسؤال، سواء منهما السائل والمسؤول، قال البرزلي (ت 841 هـ): (لا يخلو السائل للعالم من أربعة أوجه: مسترشد واجب على العالم دلالته، وعلامة ذلك في السائل قبوله وتسليمه. ومستفهم واجب على العالم هدايته، وعلامة ذلك في السائل بحثه بالرفق وطلب الدليل بالوقار.

ومستخبر واجب على الإمام الإعراض عنه والتنزه عن الجدال والخصومة والتعريض بالله وبرسوله وبأئمة الدين للرد عليهم والتكذيب لهم. ومفتون بالدعوى مستدرج بالرؤية لحاله، واجب على العالم الصمت عنه)

(1)

.

(1)

سنن المهتدين، المواق (102). وانظر: الفتوى في الإسلام، د. عبد الله الدرعان (21)

ص: 136

مجلس الإفتاء مجلس إعمال للشرع، يفتي فيه العالم ويستفتي الجاهل، ولكلِّ منهما صفته وأدبه الذي يحصل بالتزامه الغرض من المجلس على أكمل وجه وأتمِّه. وجماع الحديث ههنا عن أغراض أربعة، وهي حال المفتي والمستفتي والفتيا ومجلس الفتيا، على نحو ما يأتي بيانه:

1 -

فأما المفتي فليعلم أنه في مجلس حقيق أن يهاب وأن يستعدَّ له الجالس فيه، وقد قال الإمام أبو حنيفة (ت 150 هـ):(لولا الفرق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحدًا، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر)

(1)

، وقال الإمام مالك (ت 179 هـ):(ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم)، وقال:(إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن)، وقال:(ربما وردت على المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي)

(2)

.

وقال سحنون (ت 240 هـ) يومًا: (إنا لله، ما أشقى المفتي والحاكم!) ثم قال: (هنذا يُتعلم مني ما تضرب به الرقاب، وتوطأ به الفروج، وتؤخذ به الحقوق، أما كنت عن هذا غنيًّا)

(3)

.

فإذا علم ذلك لم يجلس للفتيا إلا من علم أنه يقدم على أمر عظيم له

(1)

أخبار أبي حنيفة وأصحابه، الصيمري (45).

(2)

انظر كل ذلك في: ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 136).

(3)

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 1127).

ص: 137

شرط جليل يعلم أنه أهل له، أو يشهد له الناس بذلك

(1)

، وأخذ الإذن بالإفتاء من الشيوخ من العمل القديم الذي درج عليه أهل العلم. قال الإمام مالك:(ليس كلُّ من أحبَّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلًا جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك)

(2)

. وقال: (ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل يراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك) فقال له رجل: يا أبا عبد الله، لو نهوك؟ قال:(كنت أنتهي. لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه)

(3)

. وقال ابن وهب (ت 197 هـ): جاء رجل يسأل مالكًا عن مسألة، فبادر ابن القاسم (ت 191 هـ) فأفتاه، فأقبل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت على أن تفتي يا عبد الرحمن؟ يكررها عليه، ما أفتيت حتى سألت: هل أنا للفتيا موضع؟ فلما سكن غضبه قيل له: من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي

(4)

. وكان مالك يكتب إلى ابن وهب في المسائل: إلى عبد الله بن وهب المفتي، ولم يكن يفعل هذا مع غيره

(5)

. وجرت مرةً حادثة استفتاء في مجلس مالك (ت 179 هـ)، وكان الشافعي (ت 204 هـ) حاضرًا وهو فتى يومها، فأفتى الشافعي السائل وناقشه مالك في ذلك في قصة يطول ذكرها، فضرب مسلم بن خالد الزنجي (ت 180 هـ) بين كتفي الشافعي وقال: أفتِ فقد والله آن لك أن تفتي

(6)

. وقيل لسحنون (ت 240 هـ) في موسى بن معاوية الصمادحي (ت 225 هـ): إن موسى جلس في الجامع يفتي الناس، فقال سحنون: ما جلس

(1)

انظر: المدونة (5/ 149)، البحر المحيط، الزركشي (6/ 309).

(2)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 115).

(3)

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (690)، وانظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 115).

(4)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 115).

(5)

وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 36).

(6)

مناقب الشافعي، البيهقي (2/ 238).

ص: 138

في الجامع منذ ثلاثين سنة أحق من موسى بالفتوى

(1)

.

وعلى ذلك جرت سنة العلماء في إجازة المتأهلين من طلبتهم للإفتاء والإذن لهم فيه

(2)

. قال القلقشندي (ت 821 هـ): (جرت العادة أنه إذا تأهل بعض أهل العلم للفتيا والتدريس أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرس ويكتب له بذلك)

(3)

.

وكان خلق من الفقهاء مع كمال أهليتهم للفتيا يتهيبونها عندما يُكفون بغيرهم، لا سيما بحضرة من يرونه فوقهم في العلم والفقه. قال البراء بن عازب رضي الله عنه:(رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما فيهم رجل إلا وهو يحب الكفاية في الفتوى)

(4)

. وسأل رجل الشعبي (ت 104 هـ): كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير وقعت، كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم، فلا يزال حتى يرجع إلى الأو

(5)

ل. وسئل ابن المبارك (ت 181 هـ) بحضور سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) عن مسألة، فقال: إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا

(6)

. وكان أبو إسحاق المروزي (ت 340 هـ) لا يفتي بحضرة الإصطخري (ت 328 هـ) إلا بإذنه

(7)

.

وقد كان لأهل العلم حلقات للإفتاء، ينتصبون فيها لخدمة الناس ويتحرون الصواب في فتاويهم، فيستقبلون الأسئلة والرقاع ويجيبون عليها، ولم

(1)

رياض النفوس، المالكي (1/ 376).

(2)

انظر على سبيل المثال: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (3/ 43)، الديباج المذهب، ابن فرحون (1/ 245)، طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (9/ 155)، الأنس الجليل، العليمي (2/ 196) وفي (2/ 391)، نزهة النفوس والأبدان، الخطيب الجوهري (2/ 121)، الضوء اللامع، السخاوي (1/ 298) وفي (1/ 358) وفي (10/ 31)، تاريخ القضاء والإفتاء في بيت المقدس، بشير بركات (318)، المدارس في بيت المقدس، د. عبد الجليل حسن (1/ 156).

(3)

صبح الأعشى (14/ 322)، وانظر فيه نماذج من هذه الإجازات، ومنها إجازة سراج الدين بن الملقن للمؤلف بالتدريس والإفتاء.

(4)

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (708).

(5)

تاريخ دمشق، ابن عساكر (25/ 365).

(6)

سير أعلام النبلاء، الذهبي (8/ 420).

(7)

طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (3/ 231).

ص: 139

يعب الواحد منهم أن يقول فيما لا يدريه إنه لا يدريه، ولما سئل الشعبي (ت 104 هـ) عن مسألة فقال: لا أدري، قيل له: فبأي شيء تأخذون رزق السلطان؟ فقال: لأقول فيما لا أدري لا أدري

(1)

. قال أبو علي اليوسي (ت 1102 هـ): (وليس يزيل اسم العلم عن العالم تقصيره في الجواب عن مسألة يُسأل عنها أو أكثر، بل ولا جهله بذلك رأسًا)

(2)

. وربما سئل المفتي عن مسألة فأرجأ الجواب عنها حتى يتأملها. قال ابن عبد الحكم: كان مالك (ت 179 هـ) إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها.

فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم

(3)

.

ولما كان إلحاح المستفتين على المفتين كثيرًا تواطأت الوصية من أهل العلم بوجوب التريث، وأن ينظر المفتي في خلاص نفسه قبل خلاص غيره.

قال ابن عمر رضي الله عنه: (إنكم تستفتوننا استفتاء قوم كأنا لا نُسأل عما نفتيكم به)

(4)

. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ت 136 هـ): قال لي ابن خلدة-وكان نعم القاضي-: (يا ربيعة، أراك تفتي الناس، فإذا جاءك رجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همتك أن تتخلص مما سألك عنه)

(5)

.

وقال ابن هرمز (ت 148 هـ): (ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه، إذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري)

(6)

.

وقال ابن عون (ت 151 هـ): كنت عند القاسم بن محمد (ت 107 هـ) إذ جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه. فجعل الرجل يقول:

(1)

نشوار المحاضرة، التنوخي (4/ 7).

(2)

رسائل اليوسي (1/ 148).

(3)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 136).

(4)

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (713).

(5)

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (714).

(6)

المعرفة والتاريخ، الفسوي (1/ 655).

ص: 140

إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم:(والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به)

(1)

. وسأل رجل عمرو بن دينار (ت 126 هـ) عن شيء فلم يجبه، فقال: إن في نفسي منها شيئًا فأجبني. فقال عمرو: (والله لأن يكون في نفسك مثل أبي قبيس أحب إلي من أن يكون في نفسي منها مثل الشعرة)

(2)

.

وقال عبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ): جاء رجل إلى مالك بن أنس (ت 179 هـ) يسأله عن شيء أيامًا ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله إني أريد الخروج، وقد طال التردد إليك. قال: فأطرق طويلًا ثم رفع رأسه فقال: (ما شاء الله، يا هذا، إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه)

(3)

. وقال ابن وهب (ت 197 هـ): وسمعته-يعني: مالكًا-عندما يُكثر عليه بالسؤال يكف ويقول: حسبكم، من أكثر أخطأ

(4)

. والآثار في هذا المعنى كثيرة جدًّا

(5)

.

ولأن من المفتين من قد يضطره إلحاف المستفتين إلى سرعة الجواب كان المفتي على خطر من صنيعه ذلك. قال أبو عثمان بن الحداد (ت 302 هـ): (القاضي أيسر مأثمًا وأقرب إلى السلامة من الفقيه؛ لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنَّى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة)

(6)

.

(1)

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 837).

(2)

المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 274).

(3)

المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 274).

(4)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 142).

(5)

انظر: جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، باب ما يلزم العالم إذا سئل عما لا يدريه من وجوه العلم (2/ 826)، الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، باب ما جاء في الإحجام عن الجواب إذا خفي على المسؤول وجه الصواب (716).

(6)

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 1128).

ص: 141

2 -

وأما حال المستفتي فعليه أن يحفظ الأدب مع المفتي وأن يُجلَّه في سؤاله وخطابه

(1)

، وأن يكون عارفًا بما يقول، سائلًا عما به حاجة إليه، مريدًا للجواب ليعمل به، وأن تكون لديه الأهلية لفهم الفتوى، فإن نقص شيئًا من ذلك كان للمفتي أن يُصحِّح سؤاله، أو أن يتلطف معه لصرفه إلى ما هو أصلح له، وله أن يؤدبه الأدب اللائق بمثله إذا احتاج إلى شيء من الأدب.

قال عكرمة (ت 105 هـ): قال لي ابن عباس رضي الله عنه: (انطلق فأفت الناس، فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس)

(2)

. وقال حماد بن زيد (ت 179 هـ): (كان إذا سأل السائل أيوب (ت 131 هـ) عن شيء، قال له: أعده. فإن جاء به كما سأل أجابه، وإلا لم يجبه)

(3)

. وقال ابن شبرمة (ت 144 هـ): (من المسائل مسائل لا يجوز للرجل أن يسأل عنها، ولا للمسؤول أن يجيب فيها)

(4)

. وقال له رجل: أسألك؟ فقال: (إن كانت مسألتك لا تُضحك الجليس ولا تُزري بالمسؤول فسل)

(5)

.

وسأل رجل الإمام مالك (ت 179 هـ) عن مسألة مستعدة فلم يجبه مالك، فقال الرجل: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال مالك: لو سألت عما تنتفع به لأجبتك

(6)

. وسأله رجل عمن قال لآخر: يا حمار؟ قال: يُجلد. قال: فإن قال له: يا فرس؟ قال: تجلد أنت! ثم قال: يا ضعيف، وهل سمعت أحدًا يقول لآخر يا فرس؟

(7)

. وسأل المروزي (ت 274 هـ) الإمام أحمد (ت 241 هـ) عن شيء من أمر العدل، فقال: لا تسأل عن هذا فإنك لا تدركه

(8)

.

(1)

انظر: أدب الفتوى، ابن الصلاح (150).

(2)

المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 281).

(3)

المعرفة والتاريخ، الفسوي (2/ 234).

(4)

الإبانة، ابن بطة (1/ 174)، أخبار القضاة، وكيع (3/ 88).

(5)

الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 175)، وانظر: أخبار القضاة، وكيع (1/ 358).

(6)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 142).

(7)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 238).

(8)

شرح الكوكب المنير، ابن النجار (4/ 586).

ص: 142

قال ابن بطة (ت 387 هـ) معلِّقًا على قصة عمر رضي الله عنه مع صبيغ: (وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم؛ ليتفقهوا في دينهم ويزدادوا بصيرة في إيمانهم، ويتعلموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم، فلما بلغ عمر رضي الله عنه قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد إلى إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر رضي الله عنه أن مسائله غير هذا، علم من قبل أن يلقاه أنه رجل بطال القلب خالي الهمة عما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن والتنقير عما لا يهتدي عقله إلى فهمه فيزيغ قلبه فيهلك، فأراد عمر رضي الله عنه أن يكسره عن ذلك)

(1)

.

والمفتي يقابل كلَّ مستفت بما يلائم غرضه، ويعلم أن من الناس من يريد الاحتيال بالفتوى إلى ما يريد فلا يجعل المفتي نفسه سبيلًا له إلى مقاصد السوء، ويكون فيه من حسن البديهة والفطنة في النظر إلى حال السائل ما يحمله على ترك الاسترسال وراءه إلى سوء مراده. قال ابن عابدين (ت 1252 هـ):(فإنا نرى الرجل يأتي مستفتيًا عن حكم شرعي، ويكون مراده التوصل بذلك إلى إضرار غيره، فلو أخرجنا له فتوى عما سأل عنه نكون قد شاركناه في الإثم؛ لأنه لم يتوصل إلى مراده الذي قصده إلا بسببنا)

(2)

.

ويحكى أن أعرابيًّا أتى ابن أبي ذئب (ت 159 هـ) فسأله عن مسألة طلاق، فأفتاه بطلاق زوجته، فقال: انظر حسنًا. قال: نظرت وقد بانت منك.

فولى الأعرابي وهو يقول

(3)

:

أتيت ابن ذئب أبتغي الفقه عنده

فطلق حتى البتِّ بُتَّت أنامله

(1)

الإبانة (1/ 181).

(2)

رسائل ابن عابدين (2/ 131).

(3)

أدب الدين والدنيا، الماوردي (134).

ص: 143

أطلِّق في فتوى ابن ذئب حليلتي

وعند ابن ذئب أهله وحلائله

ويروى أن امرأة جاءت إلى فقيه فقالت: إن زوجي تزوج امرأة أخرى، فهل يجوز لي أن أتزوج زوجًا آخر؟ قال: لا. قالت: فإني قد تزوجت وجاز لي. قال: فلم تسألينني حين جاز عندك؟!

(1)

.

3 -

وأما الفتيا فلا بدَّ أن تكون دقيقة ملاقية للسؤال حقًّا بعد التثبت من فهمه، واستعلام السائل عن مراده، واستعادة السؤال منه إن لزم، دون إيغال في استفصال يكون من شأنه تعطيل مصالح المستفتين وتأخير فتاوى الناس، بل متى غلب على ظنه حسن إدراك مراد السائل أجابه. قال ابن القيم (ت 751 هـ):(ومن تأمل أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم رآه يستفصل حيث تدعو الحاجة إلى الاستفصال، ويتركه حيث لا يحتاج إليه، ويحيل فيه مرة على ما عُلم من شرعه ودينه من شروط الحكم وتوابعه)

(2)

، وقال البهوتي (ت 1051 هـ):(ولم تزل العلماء يجيبون بحسب ما يظهر لهم من المتبادر إلى الفهم)

(3)

. ثم تأتي الفتيا بعد هذا مزيلة للإشكال، على وجه يناسب فهم السائل واستعداده

(4)

.

وهل تكون الفتيا موجزة أو مطوَّلة؟ قال بكلٍّ من أهل الفقه طائفة، فمنهم من قال: يختصر في جوابه لتفهمه العامة، ويكتفي فيه بأن يقول: يجوز أو لا يجوز، أو حق أو باطل، ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج. قال أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ):(ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرِّسًا، ولكل مقام مقال). وقد كان من الفقهاء من يوجز غاية الإيجاز، كسلامة بن صدقة الحراني (ت 627 هـ) الذي كانت أجوبته في الفتاوى غالبًا (نعم) أو (لا)

(5)

، والحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) حيث قال فيه

(1)

حدائق الأزاهر، ابن عاصم (155).

(2)

إعلام الموقعين (6/ 99).

(3)

كشاف القناع (15/ 54).

(4)

انظر: الإحكام، القرافي (236).

(5)

أدب الفتوى، ابن الصلاح (109)، وانظر: المجموع، النووي (1/ 49).

ص: 144

السخاوي (ت 902 هـ): (وأما فتاويه فإليها النهاية في الإيجاز مع حصول الغرض، لا سيما المسائل التي لا نقل فيها)

(1)

.

ومن الفقهاء من قال: يجيبه بأكثر من السؤال

(2)

، وجاء وصف بعض المفتين بأنه يفتي الفتيا الواسعة

(3)

. وعلى أية حال فإن المستفتي ربما احتاج إلى البيان فكان الإيجاز مانعًا له من حسن التفهم، فيكون الأليق بمثل حال العامة الإيجاز المبين، فأما إن كان مخِّلًا فالشرح في حقه أولى. قال ابن الصلاح (ت 643 هـ):(الاقتصار على (لا) أو (نعم) لا يليق بعيِّ العامة، وإنما يحسن بالمفتي الاختصار الذي لا يخل بالبيان المشترط عليه دون ما يخل به، فلا يدع إطالة لا يحصل البيان بدونها)

(4)

.

وعلى المستفتي أن يتثبت من جواب الشيخ، وأن يستفهم منه إن التبس عليه أمر الفتيا، كما أن على المفتي أن يتثبت في جوابه تثبت من يعلم أنه مسؤول عن علمه، فإذا أفتى بشيء ثم تبين له خلافه أعلم أصحابه برجوعه عنه

(5)

.

فقد روي أن رجلًا تزوج امرأة من بني شمخ، فرأى بعدُ أمها فأعجبته، فذهب إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إني تزوجت امرأة لم أدخل بها ثم أعجبتني أمها، فأطلق المرأة وأتزوج أمَّها؟ قال: نعم فطلقها وتزوج أمَّها. فأتى عبد الله رضي الله عنه المدينة، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا يصلح. ثم قدم فأتى بني شمخ، فقال: أين الرجل الذي تزوج أم المرأة التي كانت تحته؟ قالوا: ههنا. قال: فليفارقها. قالوا: وقد نثرت له بطنها؟ قال: فليفارقها؛ فإنها حرام من الله عز وجل

(6)

.

(1)

الجواهر والدرر (2/ 614)، وانظر بقية الكلام فيه.

(2)

انظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (6/ 45).

(3)

انظر على سبيل المثال: طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى (3/ 273)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 71).

(4)

أدب الفتوى (110)، وانظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (6/ 91).

(5)

انظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (234).

(6)

المعرفة والتاريخ، الفسوي (1/ 439).

ص: 145

وقال الإمام مالك (ت 179 هـ): كان ابن هرمز (ت 148 هـ) رجلًا كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الكلام قليل الفتيا شديد التحفظ، وكان كثيرًا ما يفتي الرجل، ثم يبعث في أثره من يرده إليه، حتى يخبره بغير ما أفتاه

(1)

.

ويُذكر أن إسحاق بن منصور الكوسج (ت 251 هـ) بلغه أن أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) رجع عن تلك المسائل التي علَّقها عنه، فجمع إسحاق تلك المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلًا إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة استفتاه فيها، فأقرَّ له بها ثانيًا، وأعجب أحمد بذلك من شأنه

(2)

.

واستُفتي الحسن بن زياد اللؤلؤي (ت 204 هـ) في مسألة فأخطأ، فلم يعرف الذي أفتاه، فاكتري مناديًا فنادى: إن الحسن بن زياد استُفتي يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ، فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه، فمكث أيامًا لا يفتي حتى وجد صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب كذا وكذا

(3)

.

وحكى بعض مشايخ بلخ قال: دخلت بغداد وإذا على الجسر رجل ينادى ثلاثة أيام يقول: ألا إن القاضي أحمد بن عمرو الخصاف (ت 261 هـ) استُفتي في مسألة كذا، فأجاب بكذا وكذا، وهو خطأ، والجواب كذا وكذا، رحم الله من بلَّغها صاحبها

(4)

.

وهذا التحفظ في الفتيا والتثبت فيها صنيع من يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه فسائله عما علم وعلَّم وأفتى، فمن كان كذلك كان حريًّا بالتوفيق، وأن يلهمه الله ويسدِّده. لا كمن يفتي بالجهل ويتقحم في دين الله العظائم، وقد حكى أبو محمد بن حزم (ت 456 هـ) فقال: (ولقد أذكرنا هذ مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلًا، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان كان مدار الفتيا عليهما

(1)

المعرفة والتاريخ، الفسوي (1/ 652).

(2)

طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى (1/ 306).

(3)

أخبار أبي حنيفة وأصحابه، الصيمري (135).

(4)

الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (1/ 231).

ص: 146

في ذلك الوقت، فكان يكتب تحت فتياهما: أقول بما قاله الشيخان، فقضي أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا، قال له بعض من حضر: إن الشيخين اختلفا! فقال: وأنا أختلف باختلافهما)

(1)

.

4 -

وأما حال مجلس الفتيا فأكثر مجالس الفتيا للفقهاء إنما كانت في المساجد

(2)

، لمكان اجتماع عامة الناس فيها في الصلوات وغيرها، لا سيما في الأمكنة التي تزداد فيها حاجتهم إليها كالبلدان الكبيرة، أو الحرمين الشريفين أيام المناسك

(3)

، أو الأزمنة التي يزداد فيها حضورهم واجتماعهم كالجمعة، حيث يجتمع الفقهاء وتتعدد حلقاتهم للإفتاء والوعظ والمناظرة وغيرها، قبل الصلاة وبعدها

(4)

.

وكان وفود الفقهاء من خارج البلد فرصة لتعليم الناس وإفتائهم، وربما طلب منه أهل البلد ذلك أو تنازل له بعض الفقهاء عن مجلسه. قال عبد ربه بن أبي راشد: قمت بمكة على حلقة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو يُسأل عن الفتاوى ويجيبهم، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال: أهل البصرة خير من أهل الكوفة

(5)

. وقد كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس رضي الله عنه، وكان يفتي في المسجد الحرام مسندًا ظهره إلى الكعبة، وهو أول من أفتى فيها بهذه الهيئة

(6)

، وبعد ابن عباس كانت حلقة الفتيا

(1)

الإحكام (6/ 77).

(2)

الحديث ههنا عن مجالس الفتيا، أما سؤال المفتي الذي بذل وقته للناس فهو حاصل في المساجد وغيرها، وفي تبويب البخاري:(باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها)، قال ابن بطال (ت 449 هـ):(العالم يجوز سؤاله راكبًا وماشيًا وواقفًا وعلى كل أحواله). شرح صحيح البخاري (1/ 165).

(3)

انظر: الحياة العلمية في الحجاز خلال العصر المملوكي، خالد الجابري (329).

(4)

انظر على سبيل المثال: ديوان الأحكام الكبرى، ابن سهل (622) حيث عقد فصلًا في المتحلقين للمسائل يوم الجمعة في الجوامع، وانظر: الديباج المذهب، ابن فرحون (1/ 343)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 405) وفي (2/ 279) وفي (3/ 288).

(5)

الإرشاد، الخليلي (2/ 484).

(6)

أخبار مكة، الفاكهي (3/ 217)، وانظر: النشاط العلمي في مكة والمدينة خلال مواسم الحج في العصر الأموي، د. إبراهيم الجميح (94).

ص: 147

لعطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ)

(1)

.

ولما دخل أبو محمد عبدان بن محمد المروزي (ت 293 هـ) نيسابور في طريقه إلى الحج أخذ ابن خزيمة (ت 311 هـ) ينفذ إليه برقاع الفتاوى، ويقول: أنا لا أفتي ببلدة أستاذي فيها

(2)

. وكذلك لما دخل العز بن عبد السلام (ت 660 هـ) القاهرة ترك الحافظ المنذري (ت 656 هـ) الفتيا وقال: حيث دخل الشيخ عز الدين لا حاجة بالناس إليَّ

(3)

.

وهكذا يكون في كل بلد مُفتون، وربما دارت الفتيا في البلد على فقيه فاق أقرانه فيها

(4)

. وربما كان للمفتي أكثر من حلقة للإفتاء في البلد، كابن البناء البغدادي الحنبلي (ت 471 هـ) الذي كان له حلقتان ببغداد، حلقة بجامع المنصور والأخرى بجامع القصر

(5)

.

وقد بيَّن أهل العلم أن المفتي عليه أن يكون على حالة مستقرة مناسبة للجلوس للفتيا، فلا يفتي في كل حالة تُغيِّر خلقه وتشغل قلبه وتمنعه من التثبت والتأمل، من غضب أو جوع أو عطش أو حزن أو فرح غالب أو نعاس أو ملالة أو مرض، فإذا أحس باشتغال قلبه بشيء من ذلك وشبهه أمسك عن الفتوى، وللفقهاء تفصيل في صحة الفتيا منه في مثل هذه الأحوال

(6)

. وقد سُئل الإمام أحمد (ت 241 هـ) يوم مات بشرٌ (ت 227 هـ) عن مسألة، فقال: ليس هذا يوم جواب، هذا يوم حزن

(7)

.

كما تكلم العلماء في الآداب التي يلتزمها المفتي والمستفتي في مجلس الفتيا وأسهبوا في شرحها وتوضيح أحوالها، كتقديم الأول فالأول من

(1)

صفة الصفوة، ابن الجوزي (2/ 212).

(2)

طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة (1/ 79).

(3)

طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (8/ 261).

(4)

انظر على سبيل المثال: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 198) وفي (6/ 397) وفي (7/ 125) وفي (7/ 277).

(5)

الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 71).

(6)

انظر: أدب الفتوى، ابن الصلاح (68)، صفة المفتي والمستفتي، ابن حمدان (195).

(7)

الفروع، ابن مفلح (3/ 403).

ص: 148

المستفتين إلا أن يأذنوا لغريب ونحوه، وألا يخاطب عامة الناس في الفتوى بأصول العلم وغوامضه، وإذا سأله السائل عما يطول جوابه أن يأمره بالجلوس، وأن يسارَّ المستفتي إذا كان السؤال أو الجواب مما يستوجب ذلك أو مما تختلف فيه الفتيا، وقد روي عن أبي حنيفة (ت 150 هـ) أنه أتاه رجل في مسألة طلاق فأجابه، ثم استوى فقال: أكان هذا بعدُ؟ فقالوا: نعم، فطلب من السائل أن يأتيه حتى يفتيه

(1)

.

ومجلس الإفتاء مجلس فخم يتوجب فيه تفخيم الشريعة وتعظيمها

(2)

، ولذا قال الفقهاء إن على المفتي أن يعتني بمظهره ولباسه، فقال الإمام مالك (ت 179 هـ):(حسن السمت وحسن الزي جزء من كذا كذا جزءًا من النبوة)

(3)

، وقال شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ):(ينبغي للمفتي أن يكون حسن الزي على الوضع الشرعي؛ فإن الخلق مجبولون على تعظيم الصور الظاهرة، ومتى لم يعظم في نفوس الناس لا يُقبلون على الاهتداء به والاقتداء بقوله)

(4)

.

وعلى المفتي عند تلقِّي الفتوى أن يكثر اللجأ والاستعانة بالله جل جلاله ويستمد الصواب منه سبحانه، وأن يتواضع بعلمه ويعلم أنه قليل الحيلة إن لم يتداركه الله بلطفه، وروي عن مكحول (ت 113 هـ) أنه كان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله

(5)

، ومن الكلمات التي كان يلزمها الإمام مالك في فتواه أن يقول: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله

(6)

. وقال ابن القيم (ت 751 هـ): (وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه، إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فرَّ

(1)

أخبار القضاة، وكيع (1/ 259). وانظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (126 - 130)، الإحكام، القرافي (264)، المجموع، النووي (1/ 50).

(2)

انظر: عرف البشام فيمن ولي فتوى دمشق الشام، المرادي (9).

(3)

أخبار القضاة، وكيع (1/ 256).

(4)

الإحكام (253).

(5)

أدب الفتوى، ابن الصلاح (106).

(6)

ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 136).

ص: 149

منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجأ إليه واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وُفِّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه حقيقة وقصدًا فقد أعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)

(1)

.

(1)

إعلام الموقعين (6/ 67)، وراجع كلامه في (6/ 197).

ص: 150

لمجلس الإفتاء ثمرات وفوائد جليلة، يمكن إيجاز أهمها فيما يأتي بيانه:

1 -

مجالس الفتيا سبيل إلى تجديد الشريعة ودوامها ورسوخها بتجديد الاجتهاد فيها، وإدمان البحث والنظر في مسائلها، فالفقه ينمو بنموِّ الحياة ويخمد حيث تخمد، ولهذا كانت مجالس الفتيا في المدن والأمصار الكبيرة أعظم منها في غيرها، بل كان الفقهاء يضيقون ذرعًا في المدن التي لا يجدون فيها سائلًا للعلم أو مستفتيًا. ومن ذلك أن سفيان الثوري (ت 161 هـ) قدم عسقلان فمكث ثلاثًا لا يسأله أحد في شيء، فقال:(اكتر لي أخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم)

(1)

. ومن الفقهاء (من كان يستحب أن يُسأل ويقول: سلوني)، كما بوَّب بذلك ابن أبي شيبة (ت 235 هـ)، وقال علي رضي الله عنه:(ألا رجل يسألني فينتفع وينتفع جلساؤه؟)

(2)

، وكان عكرمة (ت 105 هـ) يقول:(ما لكم لا تسألوننا؟ أفْلَستُم؟!)

(3)

. وكان عروة (ت 94 هـ) يقول: (ائتوني فتلقَّوا مني)

(4)

. وقد قال الإمام أحمد (ت 241 هـ): (سبيل العلم مثل

(1)

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 609)، مع تصحيح لفظةٍ منه من: مختصر جامع بيان العلم وفضله للمحمصاني (147)، وبنحوه في: ربيع الأبرار، الزمخشري (3/ 269).

(2)

مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب، باب من كان يستحب أن يُسأل (26947).

(3)

مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب، باب من كان يستحب أن يُسأل (26941).

(4)

مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب، باب من كان يستحب أن يُسأل (26944).

ص: 151

سبيل المال، إن المال إذا زاد زادت زكاته)

(1)

. وقال ابن المعتز (ت 296 هـ): (وإنما عمر الإنسان كالبضاعة التي لا ينبغي أن ينفقها إلا في علم يزداد بالإنفاق)

(2)

.

فالمفتي مبلِّغ لأحكام الشريعة، ومرجع الناس في معرفة الحلال والحرام إليه، ولذا عظم شأن المفتين في بلدان المسلمين متى عرف منهم الناس العلم الراسخ والصدق والأمانة والنصيحة في الدين للقريب والبعيد والعام والخاص، والوقوف مع الناس في السراء والضراء، ولو مسَّهم من تبعات ذلك من الضُّرِّ ما مسَّهم، ونالهم من الأذى ما نالهم

(3)

.

2 -

مجالس الفتيا سبب لاستقرار أحوال الناس، متى كانت تلك الأحوال على وجه صالح مستقيم لا تأباه الشريعة، ولذا تواطأت وصية الفقهاء بترك أهل كلِّ بلد وما سبق إليهم من وجوه الفتيا في عباداتهم ومعاملاتهم، وقد جرت بذلك سنة الفقهاء في عامة الأمصار. قال أبو مسهر (ت 218 هـ):(ينبغي للرجل أن يقتصر على علم بلده وعلى علم عالمه، فلقد رأيتني أقتصر على سعيد بن عبد العزيز (ت 167 هـ) فما أفتقر معه إلى أحد)

(4)

. وكان زيد بن بشر (ت 242 هـ) من كبار أصحاب ابن وهب (ت 197 هـ) في تونس، وكان أهل المغرب يسألونه في بعض مسائلهم فيأبى أن يجيب، ويقول لهم: عليكم بأئمة

(1)

طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى (2/ 23).

(2)

القول في علم النجوم، الخطيب البغدادي (197).

(3)

يمكن الرجوع إلى ((كتاب المحن)) لأبي العرب التميمي (ت 333 هـ) للاطلاع على طرف مما ابتلي به أئمة المسلمين وفقهاؤهم وما تحملوه من قتل وحبس وضرب ونفي وتشريد جرَّاء ثباتهم وتصُّلبهم فيما ظهر لهم أنه الحق. وبصبرهم هذا ويقينهم تبوءوا في الأمة مقاعد الصدق والإمامة، وكان لهم في الناس المنزلة العظيمة. ومن ذلك أن سلطان السعديين لما حاصر مدينة فاس واستعصت عليه قيل له: لا يبايعك أهلها إلا إذا بايعك ابن الونشريسي (ت 955 هـ) فبعث إليه سرًّا ووعده ومنَّأه، فأبى الشيخ وقال:(بيعة هذا السلطان-يعني: سلطان الوطاسيين-في رقبتي، ولا يحل لي خلعها إلا لموجب شرعي وهو غير موجود)، وتأبَّى عليه، فدسَّ عليه جماعة من المتلصصة ليحملوه إليه، فقتلوه بعد فراغه من درسه في جامع القرويين. انظر: الاستقصا، الناصري (5/ 22)، دوحة الناشر، الشفشاوني (53). وانظر فيه: في (55) حكاية الشيخ عبد الوهاب الزقاق كذلك.

(4)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 421).

ص: 152

بلدكم

(1)

. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (ومن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين أو استفتى فقيهًا معينًا أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك، وهذا غلط)

(2)

. وقال تاج الدين السبكي (ت 771 هـ): (الرأي السديد لمن رأى قواعد البلاد مستمرة على شيء غير باطل أن يجري الناس على ما يعهدون)

(3)

.

3 -

مجالس الفتيا مجالس تدريب للمتفقهين، بما تشتمل عليه من جوانب تطبيقية لما درسوه في مجالس العلم، بل هي مجالس دربة للفقيه المتأهل الذي لم يمارس الفتوى بعد. قال الأعمش (ت 148 هـ):(لما سمعت الحديث قلت: لو جلست إلى سارية أفتي الناس، قال: فجلست إلى سارية، فكان أول ما سألوني عنه لم أدر ما هو)

(4)

.

وقد كان طلبة الفقه يشهدون هذه المجالس، ويسألون الشيوخ في المسائل حتى يتلقوا عنهم طريقتهم في الفتيا. فمن ذلك ما روي عن أبي العالية (ت 93 هـ) قال: سألت ابن عباس رضي الله عنه عن شيء، فقال: يا أبا العالية، أتريد أن تكون مفتيًا؟ فقلت: لا، ولكن لا آمن أن تذهبوا ونبقى، فقال: صدق أبو العالية

(5)

. بل كان الشيوخ يتعاهدونهم فيتخرج هؤلاء المفتون بهم.

قال عكرمة (ت 105 هـ): قال لي ابن عباس رضي الله عنه: (انطلق فأفت الناس وأنا لك عون)

(6)

.

فمجرد معرفة طلبة الفقه بالمسائل لا يخولهم بالجلوس في مجلس الفتيا حتى يتدربوا ويتمرسوا عليها في مثل هذه المجالس التطبيقية. وقد سئل أبو

(1)

التسمية والحكايات، السرقسطي (132).

(2)

مجموع الفتاوى (29/ 315).

(3)

طبقات الشافعية الكبرى (8/ 321).

(4)

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (563).

(5)

سنن الدارمي، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (563). وانظر: الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية، د. علي مفتاح (189).

(6)

المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 281). وقد مضت الإشارة إلى إجازات الشيوخ لتلامذتهم بالإفتاء إذا تأهلوا له.

ص: 153

الحسن القابسي (ت 403 هـ) عمن يحفظ المدونة هل تسوغ له الفتيا؟ فقال: إن ذاكر الشيوخ فيها وتفقَّه جاز، وإن لم يذاكر فيها فلا يفعل

(1)

.

ولذلك كانت هذه الفتاوى ثروة تشريعية يحرص الفقهاء على تدوينها، فالكثير من مدونات الفتيا كانت أجوبة في مجالس الإفتاء بعد كتابتها وتحريرها، فتجمع تحت اسم (الفتاوى) أو (الأجوبة) أو (النوازل) أو (المسائل) أو (الأحكام)، سواء كانت للمفتي نفسه أو كانت لغيره

(2)

. ومن ذلك على سبيل المثال (الفتاوى الأسعدية) حيث كانت جمعًا للفتاوى التي أجاب عنها مفتي المدينة أسعد الأسكداري (ت 1116 هـ) في حلقته في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليها التعويل في الحجاز عند الحنفية

(3)

. وهذه الفتاوى والأجوبة تشتمل على الجوانب التطبيقية، وتضج بشرح أحوال المستفتين ومعايشهم وأعرافهم وظروف حياتهم ومعاملاتهم، ولذا كانت مصدرًا خصبًا لتاريخ الحقبة التي دوِّنت فيها

(4)

. ومطالعة مثل هذه الكتب وطول التأمل فيها مما يعين على اكتساب الملكة والدربة على الإفتاء. قال محمد بن الحسن الحجوي (ت 1376 هـ): (وكذلك على المفتي الإكثار من مطالعة كتب الفتاوى والنوازل الواقعية؛ ليعرف منها كيفية تطبيق الأحكام الكلية على القضايا الجزئية)

(5)

.

4 -

في مجالس الفتيا تربية للناس واستصلاح لهم وتزكية لأخلاقهم، والواجب على أهل الفتيا ملاحظة أحوال الناس واعتبارها في تنزيل الأحكام الكلية عليها، وأن يرتقوا بالناس إلى ما يطيقونه من أحوال الصلاح الخير واجتناب أسباب الفساد، ومن الإشارات ذات المغزى العميق في هذا المعنى

(1)

فتاوى البرزلي (1/ 63).

(2)

انظر: فتاوى الشاطبي، مقدمة المحقق: د. محمد أبو الأجفان (84).

(3)

سلك الدرر، المرادي (1/ 222).

(4)

انظر: فتاوى الشاطبي، مقدمة المحقق: د. محمد أبو الأجفان (84)، كتب الفتاوى وأثرها في الفقه الإسلامي، د. هيثم عبد السلام (90).

(5)

الفكر السامي (4/ 245). وانظر: مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده (2/ 557).

ص: 154

قول الإمام أحمد (ت 241 هـ): (إنما ينبغي أن يؤمر الناس بالأمر البين الذي لا شك فيه، وليت الناس إذا أُمروا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه)

(1)

. فالمفتي ليس مدرِّسًا يعلم تلامذته وجوه الفقه وأدلته، بل هو ناظر في الجزئيات مستصلح لأحوال الخلق بمقتضى النظر فيها بحسب ما يطيقونه من مراتب الصلاح، وهو قريب من المستفتين كالطبيب الذي يعالج أدواءهم. ولما سئل الشاطبي (ت 790 هـ) في شأن دفع الوسواس في الطهارة كتب جوابًا جاء فيه:(وصلني كتابكم فيما به الوسواس، فهذا أمر عظيم في نفسه، وأنفع شيء فيه المشافهة، وأقرب ما أجد الآن أن تنظروا من إخوانكم من تدلون عليه وترضون دينه، ويعمل بصلب الفقه ولا يكون فيه وسوسة فتجعلونه إمامكم، على شرط أن لا تخالفوه، وإن اعتقدتم أن الفقه عندكم بخلافه، فإذا فعلتموه رجوت لكم النفع)

(2)

. ولأجل هذا قال بعض الفقهاء إن المفتي يجوز له أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو أنفع له منه، وهذا من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه

(3)

، فيكون في تلقيه السؤال وجوابه عنه مستصلحًا للسائل ومرشدًا له، وقد روي أن الحسن (ت 110 هـ) سئل عن أضحية مسروقة، فقال: لا تذبح ولا تسرق

(4)

.

(1)

الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 155).

(2)

نيل الابتهاج، التنبكتي (51).

(3)

انظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (6/ 43).

(4)

أخبار القضاة، وكيع (2/ 69).

ص: 155