الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الرابع
مجلس المباحثة والمذاكرة
(ليس الفقه إلا حلَّ الإشكال). البغوي.
(طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي/7/ 180)
(المذاكرة بالعلم قربة).
(الحاوي، الماوردي/3/ 493)
(وكم من بيِّن لا يعتني به، ثم تعثر فيه الأئمة عند مغافصة الأسئلة).
(نهاية المطلب، الجويني/1/ 71)
(وإنما يتباحث الفقهاء ليُعرف الصواب). ابن قدامة.
(الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب/3/ 262)
(غائلة العلم النسيان وترك المذاكرة). الحسن البصري.
(جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر/1/ 444)
(على قدر السائل يكون الجواب). الجنيد.
(الكواكب الدرية، المناوي/1/ 382)
(قيل لفيلسوف: فيم السرور؟ قال: في إيضاح حق قد التبس بباطل، وإزالة باطل قد جار على الحق).
(البصائر والذخائر، التوحيدي/3/ 86)
(الحكمة في العلم قد يخلقها الله تعالى على لسان من لا يظن به معرفتها).
(البهجة في شرح التحفة، التسولي/2/ 702)
المذاكرة مفاعلة من الذِّكر، والذكر حفظ ما يقتنيه الإنسان من المعرفة فهو بخلاف النسيان، ثم حُمل عليه الذكر باللسان، ولذا قيل: الذِّكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ
(1)
. فكأن المتذاكرين بالعلم يجريانه على ألسنتهما ليحفظاه بذلك في قلوبهما.
أما المباحثة فمفاعلة من البحث وهو الكشف والطلب والتفتيش والسؤال والاستخبار عن الشيء، ويقال: باحثه في الشيء إذا بحث معه فيه، وتباحثا؛ أي: تبادلا البحث
(2)
.
فالمذاكرة والمباحثة مختلفان في معناهما وغرضهما، فغرض المذاكرة مدارسة العلم بين اثنين فأكثر حتى يثبت في الذهن فلا يُنسى، أما المباحثة فأن يبحث اثنان فأكثر عن الشيء لا يعلمانه حتى يعلمه من كان به جاهلًا.
فإن قيل: فإن كان غرضهما مختلفًا فلم كان الحديث عنهما في سياق واحد؟ قيل: لأنهما كانا كذلك في مجالس أهل العلم، فغالب مجالس الفقه بين الأقران إما مذاكرة أو مباحثة أو مناظرة، فأما المناظرة فبابها مختلف؛
(1)
انظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب (328)، مقاييس اللغة، ابن فارس (2/ 358)، تاج العروس، الزبيدي (11/ 376).
(2)
انظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب (108)، الصحاح، الجوهري (1/ 273)، تاج العروس، الزبيدي (5/ 163)، المعجم الوسيط (40).
لأن كل طرف قد ذهب مذهبًا يجادل عنه، وجلس مع مناظره كمجلس الخصم من خصمه، فكان لذلك المجلس آداب ورسوم مباينة لمجالس المباحثة والمذاكرة، وسيأتي الكلام في هذا. فأما المباحثة والمذاكرة فبابهما تثبيت العلم الذي سبق تعلمه في مجلس الدرس أو غيره، أو التفتيش عما هو غير معلوم للمتباحثين وقت البحث، وسياق هذين الأمرين واحد من حيث المعنى أولًا؛ لأن مدارسة الفقه ومذاكرته كثيرًا ما تفضي إلى السؤال الذي يدفع إلى البحث، ومن حيث حقيقتهما في مجالس الفقهاء في نفس الأمر ثانيًا؛ فإن الفقهاء لا سيما الأقران منهم إذا اجتمعوا في الفقه كان حديثهم مشتملًا على المذاكرة والمباحثة معًا، وإلى هذا أشار بدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ) فقال:(وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سياتي إن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم؛ ليثبت في أذهانهم ويرسخ في أفهامهم ولأنه يحثهم على استعمال الفكر ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق)
(1)
.
فإن قيل: فهل هذه المعاني متحصلة على جهة البتِّ والقطيعة؟ قيل: بل هي جارية على الاعتبار والتقريب لتباين أغراضها في نفس الأمر، فأما تباينها في الوجود فقد يتفق وقد لا يتفق. ولذا فإن جماعة من الباحثين ربما ذكروا المناظرة والمباحثة في أسماء المذاكر
(2)
ة، أو جعلوا المذاكرة والمباحثة في أسماء المناظرة
(3)
. وأما ذكر (الأقران) في مجلس المباحثة والمذاكرة فليس على وجه الاشتراط بل جرى مجرى الغالب لا غير، فقد عُلم أن كلًا من المذاكرة والمباحثة قد يجريان بين التلميذ وأستاذه، فإن كان الجواب متحصِّلًا في ذهن الأستاذ فهو تعليم بصورة المباحثة، كما قد يتفق التعليم بصورة المناظرة. أما إن صحب ذلك مدافعة ومراجعة من التلميذ فهي مباحثة للوصول إلى الصواب. وعلى أية حال فإن هذه المعاني اعتبارية لا يطلب فيها تكلف
(1)
تذكرة السامع والمتكلم، تحقيق: محمد العجمي (76).
(2)
انظر على سبيل المثال: فن المذاكرة عند المحدثين، د. محمد العشماوي (27).
(3)
انظر على سبيل المثال: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، د. طه عبد الرحمن (69).
المفاصلة إلا أن يتبين الغرض وتُحفظ الرسول والآداب المطلوبة في كل حال، وربما سمي كل واحد من هؤلاء باسم الآخر إذا تحصَّلت المعاني.
والمذاكرة والمباحثة ضرورتان علميتان في تنمية الفقه وتثبيته، والوصية بهما مستفيضة متواترة في كلام أهل العلم؛ لئلا يضيع العلم أو ينسى
(1)
.
فالعلم يجري على أسماع الناس ويحضرون مجالسه، غير أن فصل ما بين العالم وغيره وكثرة المذاكرة والمعاهدة وإدمان النظر والمباحثة والمساءلة، و (لولا النسيان لكان العلم كثيرًا) كما قال الحسن (ت 110 هـ)
(2)
. وقد كان فقهاء الأمة وساداتها الكبار يوجزون سبيل التعلم فيقولون: أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر
(3)
.
قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) بعد ذكره لشروط من يصلح للفتوى: (فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة ومساءلتهم وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ودرسها ودوام مطالعتها. والدليل على ما ذكرناه أن الله تعالى لما أراد إعلام الخلق أن ما أتى به نبينا صلى الله عليه وسلم من القصص والأخبار الماضية والسير المتقدمة معجزٌ أعلمهم أنه لا يُعرف بلقاء الرجال ودراسة الكتب وخطِّه بيمينه؛ ليصدق قوله إنه إعلام من الله، فدل على أن محصول ذلك في العادة بالملاقاة والبحث والدرس، ووجوده بخلاف ذلك خرق عادة صار به معجزًا، ولو لم يكن ذلك كذلك لم يكن لنفيها عنه معنى)
(4)
.
وروى الطبراني وغيره عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (جالسوا الكبراء
(1)
انظر: تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (199)، المعيد في أدب المفيد والمستفيد، العلموي (122).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 448).
(3)
ورد ذلك ونحوه عن ابن المبارك وسفيان والفضيل وغيرهم، انظر: جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 476).
(4)
الفقيه والمتفقه (696).
وخالطوا الحكماء وسائلوا العلماء)
(1)
، وجاء في وصف الزهري (ت 124 هـ) أنه كان يأتي المجالس من صدورها ولا يأتيها من خلفها، ولا يبقى في المجلس شاب إلا ساءله، ولا كهل إلا سائله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يبقى فيها شاب إلا ساءله، ولا كهل إلا ساءله، ولا فتى إلا ساءله، ولا عجوز إلا ساءلها، ولا كهلة إلا ساءلها، حتى يحاور ربات الحجال
(2)
.
ولقد كانت هذه المجالس التي يتذاكر فيها الفقه عامة مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو سعيد رضي الله عنه فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا كان حديثهم يعني الفقه، إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلًا أن يقرأ سورة
(3)
. وبوّب البخاري (ت 256 هـ) في كتاب مواقيت الصلاة: (باب السَّمَر في الفقه والخير بعد العشاء). وروى محمد بن الحسن (ت 189 هـ) في الآثار عن طلحة رضي الله عنه قال: تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم، والنبي صلى الله ليه وسلم نائم، فارتفعت أصواتنا فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:((فيم تنازعون؟)) فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم، فأمرنا بأكله. قال محمد:(وأراهم في هذا الحديث قد تنازعوا في الفقه فارتفعت أصواتهم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فلم يعبه عليهم)
(4)
.
وكذلك كانت عامة مجالس الفقهاء إذا اجتمعوا فلا تكاد تخلو محادثتهم في الفقه أن تكون مذاكرة أو مباحثة، وللفقهاء ولع وشغف بذلك؛ لما فيه من الأجر الجزيل والثواب العظيم لمن ابتغى الله والدار الآخرة، ولما فيه من تثبيت العلم ونمائه. قال وهب بن منبِّه (ت 114 هـ):(مجلس يتنازع فيه العلم أحب إلي من قدره صلاة)
(5)
. وروي عن الإمام مالك (ت 179 هـ) أنه قال:
(1)
المعجم الكبير (22/ 133).
(2)
الفقيه والمتفقه، الخطيب (697).
(3)
المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي، باب مذاكرة العلم والجلوس مع أهله (2/ 2).
(4)
الآثار (1/ 350).
(5)
سنن الدارمي، باب في فضل العلم والعالم (334).
(المذاكرة في الفقه أفضل من الصلاة)
(1)
. قال العدوي (ت 1189 هـ) شارحًا: (مفاعلة تقتضي متعددًا؛ أي: تذكر الفقه من متعدد، بيان لما هو الأولى؛ لما فيه من نماء العلم وزيادته وشدة التوثق، وهو يشمل إفادته للمتعلمين وتفهمه من المتساوين)
(2)
. وفي مسائل إسحاق من منصور (ت 251 هـ): (قلت لأحمد (ت 241 هـ): من قال: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها؟ قال: العلم الذي ينتفع به الناس في أمر دينهم. قلت: في الوضوء والصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا؟ قال: نعم. قال إسحاق-يعني: ابن راهويه- (ت 238 هـ): كما قال)
(3)
.
فالفقه إن لم يتعاهده المتفقه بالمذاكرة مع أصحابه الذين يحضرون معه الدرس أو غيرهم ذهب به النسيان كلَّ مذهب
(4)
، قال النووي (ت 676 هـ):(وليذاكر بمحفوظاته وليدم الفكر فيها، ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد، وليرافق بعض حاضري حلقة الشيخ في المذاكرة)
(5)
.
والله جل جلاله يقول في التنزيل: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] قال طلحة بن مصرف (ت 112 هـ): مدارسة الفقه. وقال أبو رزين (ت 85 هـ): مذاكرة الفقه
(6)
، كانوا يتذاكرون الفقه كما نتذاكره نحن
(7)
. فالمذاكرة سبب النفع وبقاء العلم، وقد قيل: فهم سطرين خيرٌ من حفظ، وقرينٌ ومذاكرةُ اثنين خير من هذين
(8)
.
ولما حجَّ الأوزاعي (ت 157 هـ) أتى المدينة فدخل المسجد، فلما بلغ ذلك مالكًا (ت 179 هـ) أتاه فسلَّم عليه وظلَّا يتذاكران الفقه من الظهر حتى
(1)
الذخيرة، القرافي (13/ 347).
(2)
حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (4/ 466).
(3)
مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه برواية إسحاق بن منصور الكوسج (2/ 528).
(4)
انظر: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (645).
(5)
المجموع (1/ 38).
(6)
رواه ابن السني في رياضة المتعلمين (292).
(7)
تفسير ابن أبي حاتم (2/ 693).
(8)
انظر: البهجة في شرح التحفة، التسولي (2/ 702).
غابت الشمس
(1)
، فالدرس والمذاكرة هما (الفاتحان لأبواب القرائح، والناقبان عن الأسرار، والمقربان للدلالة على المعنى بالألفاظ الوجيزة والعبارة البليغة)
(2)
.
ثم إن المتأمل في مجالس المذاكرة يجدها على إحدى هيئتين، هيئة يجلس فيها المتذاكرون لمدارسة العلم وحفظه وإتقانه، لا سيما المتفقهون في بداياتهم، فهذه الهيئة يعتني أصحابها أكثر ما يعتنون بالضبط والحفظ دون أن يقصدوا إلى التحرير والتحقيق، أما الهيئة الثانية فهي الهيئة التي تقدَّم أصحابها في العلم ونالوا منه طرفًا صالحًا، فإذا التقى النفر منهم فتذاكروا في الفقه هيجتهم المذاكرة على المباحثة والتحرير والتدقيق.
فإذا تقرَّر هذا علم أن التحرير والتحقيق ليس من أغراض المجلس الأول، ولذا فإنه ربما جرى في كلام أهل العلم ضعف الاكتراث بالكلام الذي يجري في المجالس التي تلك هيئتها، فلا يحمل ما فيها أو يتلقى عن المتذاكرين فيها على محمل التحقيق. ولأجل ذلك فإن الفقهاء كثيرًا ما يصرحون عند ذكر بعض مسائل الفقه أنها أثبتت على جهة المذاكرة
(3)
، منبِّهين بذلك أنها ليست من المذهب المحرر المنضبط، بل ربما خالف الواحد من الفقهاء مذهب أصحابه في المذاكرة، أو تكلم فيما لم يتكلموا فيه. كالذي نقله ابن شاس (ت 616 هـ) عن أبي الطاهر بن بشير عند الكلام عن المصلي الذي عجز عن جميع حركات الصلاة ولم يبق له سوى النية بالقلب، فقال
(1)
انظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (35/ 169).
(2)
الواضح، ابن عقيل (1/ 527).
(3)
انظر على سبيل المثال: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (2/ 80)، الطبقات السنية، الغزي (3/ 161)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 293) وفي (3/ 388)، شرح الخرشي على مختصر خليل (1/ 118) وفي (5/ 298)، العدة في شرح العمدة، البهاء المقدسي (1/ 492). وذكر تقي الدين السبكي في شروط المؤرخ: ألا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة وكتبه بعد ذلك. انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (2/ 23). وأما التساهل في المذاكرة عند المحدثين وعدم حملها على محمل الرواية والتحمل عن الشيوخ فمشهور معلوم، انظر على سبيل المثال: تاريخ بغداد، الخطيب (1/ 335) وفي (5/ 563).
حاكيًا: (ثم قال: وقد طال بحثنا عن مقتضى المذهب في هذه المسألة، والذي عوَّلنا عليه في المذاكرة موافقة مذهب الشافعي مع العجز عن نص يقتضيه في المذهب. ورأى أنه الاحتياط. وأن مذهب أبي حنيفة مقتضاه الرجوع إلى براءة الذمة، ثم قال: ولا يبعد أن يختلف المذهب في هذه المسألة)
(1)
.
فأما مجالس الهيئة الثانية فشأنها مختلف عن ذلك، بل يعتني بها النقلة وربما حُرِّرت الكتب بها وفيها ومنها. قال السرخسي (ت 490 هـ):(فأما الكتب المصنفة التي هي مشهورة في أيدي الناس، فلا بأس لمن نظر فيها وفهم شيئًا منها وكان متقنًا في ذلك أن يقول: قال فلان كذا، أو: مذهب فلان كذا، من غير أن يقول: حدثني أو أخبرني؛ لأنها مستفيضة بمنزلة الخبر المشهور. وبعض الجهال من المحدثين استبعدوا ذلك، حتى طعنوا على محمد رحمه الله في كتبه المصنفة، وحكي أن بعضهم قال لمحمد بن الحسن رحمه الله: أسمعت هذا كله من أبي حنيفة؟ فقال: لا، فقال: أسمعته من أبي يوسف؟ فقال: لا، وإنما أخذنا ذلك مذاكرة. فقال: كيف يجوز إطلاق القول بأن مذهب فلان كذا أو قال فلان كذا بهذا الطريق؟. وهذا جهل؛ لأن تصنيف كل صاحب مذهب معروف في أيدي الناس مشهور، كموطأ مالك رحمه الله، وغير ذلك. فيكون بمنزلة الخبر المشهور يوقف به على مذهب المصنف وإن لم نسمع منه، فلا بأس بذكره على الوجه الذي ذكرنا بعد أن يكون أصلًا معتمدًا يؤمن فيه التصحيف والزيادة والنقصان)
(2)
. وقال أمير بادشاه (ت 972 هـ) في خطبة شرحه للتحرير لكمال الدين بن الهمام (ت 861 هـ): (فصرفت خيار عمري في حل مشكلاته، وبذلك كمال جهدي في فتح مغلقاته، وبالغت في التنقيح والتوضيح، واكتفيت فيما يتبادر بالتلويح، واقتصدت بين الإيجاز
(1)
عقد الجواهر الثمينة (1/ 138).
(2)
أصول السرخسي (1/ 378)، وانظر الحكاية التي ذكرها أبو الوليد بن رشد في: فاتحة كتابه ((البيان والتحصيل)) وسيأتي ذكر طرف منها.
والإطناب، احترازًا عن الإملال والإسهاب، وكررت فيه من التغيير والتبديل، لإصلاح الخلل وقصد التسهيل. فكان ذلك عند المذاكرة والمدارسة، بمحضر جمع من الحذَّاق في المباحثة والممارسة)
(1)
.
(1)
تيسر التحرير (1/ 3).
كان للفقهاء والمتفقهين مجالس يلتقون فيها فيتذاكرون الفقه ويتباحثون مسائله، وكان أمر هذه المجالس في الجملة مبنيًّا على التبسط، فليس فيها من الشرائط كالتي تكون في مجالس التعليم بين يدي الشيوخ، مع حفظ مقامات الكبراء في كل مجلس من مجالس العلم الخاصة والعام. وكانت هذه المجالس ربما ضمت الكبير والصغير والخاص والعام، ومنها ما يكون له موعد راتب، ومنها ما يتفق على العفو وبداهة اللقيا والاجتماع العارض بين الأقران والنظراء أو غيرهم.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلتقون في المذاكرة في الفقه فتطول مذاكرتهم، فمن ذاك ما روي أن أبا موسى رضي الله عنه أتى عمر رضي الله عنه بعد العشاء الآخرة، فقال: ما جاء بك يا أبا موسى الساعة؟ قال: نتذاكر الفقه، قال: فجلسنا ليلًا طويلًا نتذاكر، فقال أبو موسى: الصلاة-يعني: قيام الليل-، فقال عمر: إنا في صلاة. فتذاكرا حتى كان قريبًا من الفجر
(1)
.
وكذلك كان هدي الفقهاء بعدهم، فذكر عن جماعة من فقهاء الكوفة كابن شبرمة (ت 144 هـ) والمغيرة بن مقسم (ت 133 هـ) والحارث العكلي والقعقاع بن يزيد أنهم كانوا يسمرون في الفقه حتى تنار الغداة، فمرَّ بهم أبو المغيرة فقال: بهذه الساعة؟ ما يكفيكم ما يكون منكم بالنهار حتى تذكروه
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (646).
هذه الساعة؟
(1)
.
وقال مسعر (ت 155 هـ): كنت أنظر إلى أبي حنيفة (ت 150 هـ) رضي الله عنه يصلي الغداة، ثم يجلس في مذاكرة العلم إلى العصر ولا يحدث وضوءًا ولا طعامًا ولا شرابًا، ثم يجلس بعد صلاة العصر إلى المغرب، ثم يجلس في مذاكرة العلم إلى عشاء الآخرة
(2)
.
وحكي أن أبا يوسف (ت 182 هـ) كان يذاكر الفقه مع الفقهاء بقوة ونشاط، وكان صهره عنده يتعجب في أمره ويقول: أنا أعلم أنه جائع منذ خمسة أيام، ومع ذلك يناظر بقوة ونشاط
(3)
.
وبالجملة فقد كان الأئمة إذا التقوا لم يفرطوا بالمذاكرة في الفقه، كما جرى من أبي حنيفة (ت 150 هـ) ومالك (ت 179 هـ)، حيث روي أنهما جعلا يتذاكران ويتدارسان بعد صلاة العشاء الآخرة حتى صليا الغداة في مجلسهما ذلك
(4)
. وكذلك الشافعي (ت 204 هـ) وابن الماجشون (ت 213 هـ) الذين كانا يتذاكران فلا يعرف الناس كثيرًا مما يقولان لفصاحتهما
(5)
.
وذُكر في سيرة أبي العباس بن طالب (ت 275 هـ) أنه لم يكن شيء أحب إليه من المذاكرة في العلم
(6)
. ومثل ذلك قيل في أبي العباس الإبياني (ت 352 هـ) الذي وُصف بأنه كان يُفصِّل المسائل كتفصيل الجزار الحاذق اللحم، وربما دخل عليه أصحابه وهو ملتاث فإذا أخذوا في المذاكرة زال التياثه وظهر نشاطه، وكان ابن اللباد (ت 333 هـ) إذا ذاكره يضجر لكثرة معارضته ودقة فهمه، فيصبر له أبو العباس
(7)
.
(1)
أخبار القضاة، وكيع (3/ 79).
(2)
أخبار أبي حنيفة وأصحابه، الصيمري (53).
(3)
تعليم المتعلم، الزرنوجي (21).
(4)
فضائل أبي حنيفة وأخباره، ابن أبي العوام (103).
(5)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 166).
(6)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 306).
(7)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (3/ 299).
وكان أبو بكر بن محرز (ت 655 هـ) فقيهًا متفنِّنًا، واشتُغل عليه اشتغال التحصيل والتعليم والتبيين والتفهيم، فلا يخلو له وقت عن الاشتغال بالعلم إما الرواية وإما التدريس وإما المقابلة وإما عرض المسائل على سبيل المذاكرة
(1)
.
وقال عبد الغافر الفارسي (ت 529 هـ) في وصف مجالس الجويني (ت 478 هـ) في المذاكرة والمباحثة: (وكم من مجمع للتدريس حاو للكبار من الأئمة وإلقاء المسائل عليهم والمباحثة في غورها رأيناه، وحصلنا بعض ما أمكننا منه وعلقناه، ولم نقدر ما كنا فيه من نضرة أيامه وزهرة شهوره وأعوامه حق قدره، ولم نشكر الله عليه حق شكره، حتى فقدناه وسلبناه. وسمعته في أثناء كلام يقول: أنا لا أنا ولا آكل عادةً، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلًا كان أو نهارًا، وآكل إذا اشتهيت الطعام أي وقت كان. وكان لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أيِّ نوعٍ كان)
(2)
.
وقال ابن الجوزي (ت 597 هـ) في وصف أبي الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ): (وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيت بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، اعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره)
(3)
.
ووصف السخاوي (ت 902 هـ) شيخه أبا السعادات سعد الدين بن الديري الحنفي (ت 867 هـ) بانه كان إمامًا علامة جبلًا في استحضار مذهبه قوي الحافظة حتى بعد كبر سنه، وكان شديد الرغبة في المباحثة في العلم والمذاكرة به مع الفضلاء والأئمة، وكان يتذاكر مع الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ)، فلما مات الحافظ كان ابن الديري يترحم عليه ويذكر أنه صار غريبًا فريدًا بعده
(4)
.
(1)
عنوان الدراية، الغبريني (286).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (5/ 179).
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 324).
(4)
الذيل على رفع الإصر (130).
وكان من الفقهاء من يبرع في المذاكرة واستحضار مسائل الفقه وأبوابه، وكثيرًا ما ترى في تراجم الفقهاء وصف الفقيه بأنه كان (حسن المذاكرة) أو (حلو المذاكرة)
(1)
، بل كان من الفقهاء من يخصص مجلسًا للمذاكرة يأتيه من شاء من تلامذته أو من غيرهم، بل ربما استدعاهم وفرح بهم. فكان أبو عمران الفاسي (ت 430 هـ) يجلس للمذاكرة كل يوم من غدوةٍ إلى الظهر إلى أن مات
(2)
. وكان محمد بن أحمد اللؤلؤي (ت 350 هـ) -الذي وُصف بأنه أحفظ أهل زمانه لمذهب مالك-ربما استدعى بعض طلبته للمذاكرة، فكتب ذات يوم من أيام الشتاء إلى ابن مسرَّة، وكان من وجوه تلامذته
(3)
:
هلمَّ إن اليوم يومُ دَجْنِ
إلى محلٍّ كالضمير الوكن
ساكنه كطائر في وكن
لعلَّنا نحكم أدنى فنِّ
في مجلس مرفرف ذي كنِّ
فأنت عند الظن أمشى مني
وأنت في سنك دون سني
وكانت مسائل العلم في مجالس المذاكرة ربما جرت على نظام، كما في مدارسة النظراء ممن يترافقون في حلقة بعض شيوخهم، وربما جرت على غير نظام كعادة الناس في حديثهم، فيتذاكر أصحاب المجلس مسائل الفقه والمشكل منها، وأخبار كتبه ومصنفاته وأحوال الفقهاء ومراتبهم. ومن ذلك ما حكاه القاضي عبد الوهاب بن نصر (ت 422 هـ) فقال: تذاكرت مع أبي حامد الإسفراييني الشافعي (ت 406 هـ) في أهل العلم، وجرى ذكر أبي الحسن بن
(1)
انظر على سبيل المثال: الطبقات السنية، الغزي (1/ 142)، طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة (2/ 168) وفي (3/ 18)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (4/ 311)، وفيات الأعيان، ابن خلكان (4/ 130).
(2)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 262).
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (3/ 365).
القصار (ت 397 هـ) وكتابه في الحجة لمذهب مالك، فقال لي: ما ترك صاحبكم لقائل ما يقول
(1)
.
والعناية بمذاكرة الفقه في تلك المجالس لم تكن خاصة بفئة من الناس، بل كان يحضرها الكبير والصغير، وكانت وسيلة إلى تمييز النابهين كما سيأتي.
كما كان الخلفاء والملوك والأمراء والسلاطين محتفين بها ومعنيِّين بأمرها، ويستدعون الفقهاء للمذاكرة في مجالسهم، سواء كانوا من فقهاء البلد أو من الواردين عليه، وهذا أمر مشهور جدًّا في سيرهم وأخبارهم. وعناية الخلائف في صدر الإسلام وفي دولة بني أمية وبني العباس بمجالس الفقه ومجالسة الفقهاء أمر معلوم مستفيض متواتر، والكثير منهم كانوا علماء، أو مشاركين في العلم ودرسوه على أهله صغارًا وكبارًا
(2)
. واستمر ذلك الشأن في المسلمين بعد أولئك في ملوك دول الإسلام المختلفة. كأمير المرابطين يوسف بن تاشفين (ت 500 هـ) الذي كان مؤثرًا لأهل العلم كثير المشورة لهم، حتى ذُكر أن أبا حامد الغزالي (ت 505 هـ) عزم على التوجه إليه ثم رجع عن ذلك لما بلغه خبر وفاته
(3)
.
وكالملك الكامل الأيوبي (ت 635 هـ) الذي كانت تبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فن، وهو معهم كواحد منهم
(4)
.
وكملوك بني مرين في المغرب، حيث كانوا مقرِّبين للعلماء مختصِّين بهم، حتى وصف بعض المؤرخين دولتهم بأنها دولة العلم
(5)
.
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 150).
(2)
بالإمكان مطالعة طرف من ذلك في: مجالس العلماء والأدباء والخلفاء للدكتور يحيى الجبوري، والمجالس العلمية في عصري ما قبل الإسلام والرسالة والعصور الراشدية والأموية والعباسية للدكتورة خلود الجنابي، ورعاية الخلفاء العباسيين للعلم والعلماء للدكتورة أنيسة المشهداني.
(3)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (7/ 125).
(4)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (5/ 81).
(5)
انظر: النبوغ المغربي، عبد الله كنون (1/ 185).
وكسلاطين المماليك في مصر الذين كانت لهم بالعلم عناية كبيرة مشهورة، وقد أمست مصر قبلة العلماء في وقتهم بعد هجمات التتار والصليبيين على العراق والشام، وقبل ذلك حرص الأيوبيون على دعوة العلماء إلى مصر لمواجهة آثار العهد العبيدي الزائل، فاتفق في مصر في أيامهم من العلماء والفقهاء ما لا يكاد يتفق في غيرها، حتى قال ابن خلدون (ت 808 هـ):(سألت صاحبنا كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقَّري (ت 759 هـ) مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عزَّ الإسلام)
(1)
، فعني سلاطينها جدًّا بمجالسة الفقهاء وبناء الجوامع والمدارس والأوقاف
(2)
.
أما ملوك الأندلس فشأنهم في العناية بالفقه وحضور مجالس الفقهاء وتعظيم أهلها مما يجري مجرى الأمثال، حتى قال شهاب الدين المقَّري (ت 1041 هـ) واصفًا أهل الأندلس:(وللفقه رونق ووجاهة، ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه؛ لأنها عندهم أرفع السمات)
(3)
.
وعلى كل حال فتتبع هذا الأمر مما يطول شرحه وبيانه، وقد كان لعناية هؤلاء الملوك والسلاطين بالعلم أثر بالغ في نشره والإقبال عليه. قال ابن سمرة الجعدي (ت: بعد 586 هـ): (وللدول في طيِّ العلوم ونشرها وإظهارها تأثيرات معجزة في تمكينات موجزة)
(4)
.
(1)
تاريخ ابن خلدون (7/ 649).
(2)
بالإمكان مطالعة طرف من ذلك في: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك للدكتور عبد الغني عبد العاطي، وصور من الحضارة العربية الإسلامية في سلطنة المماليك للدكتورة حياة الحجي.
(3)
نفح الطيب (1/ 221).
(4)
طبقات فقهاء اليمن (98).
وكانت مجالس المذاكرة هذه تزدهي وتتنشر عند التقاء الفقهاء من البلاد المختلفة في مكة والمدينة في مواسم الحج، أو عند ورود فقيه كبير إلى بلد فيجتمع إليه فقهاؤه، أو في الأربطة والزوايا التي يجتمع فيها الفقهاء وطلبة الفقه من أمصار شتى، فيحصل في هذه المجالس اتصال علمي واسع، ثم تأتي الرحلات التي يقوم بها الفقهاء من سائر الأقاليم للحج أو العمرة أو بغية لقاء فقيه مشهور في بعض البلاد، فإذا دخلوا بلدًا اتصلوا بفقهائه وشهدوا مجالسهم، وألقوا إليهم المسائل التي ارتحلوا بها من حيث أتوا لتنال نصيبها من المباحثة والمداولة، فيتعارف فقهاء الأمصار، وينتظم فقه أهل المشرق بفقه أهل المغرب
(1)
.
ومن مجالس المذاكرة ما يكون خاصًّا بحيث تجري فيه المباحثات بين الفقهاء والمتقدمين في الفقه، أو تكون من مجالس العلم والدرس التي ينتخب لها الفقيه خواصَّ تلامذته، فيقرؤون الفقه قراءة بحث وتحرير وتدقيق.
كمباحثات ابن الفخر البعلي (ت 699 هـ) مع شيخ الإسلام بن تيمية (ت 728 هـ) التي ذكر الذهبي (ت 748 هـ) أنه حضرها
(2)
. وكالقاضي أبي عبد الله بن صمغان قاضي بجاية الذي كان يقرأ عليه بعض طلبته الموطأ قراءة تفهُّم، وكان له مجلس دراسة بعلوِّ سقيفة داره فيجتمع إليه خواص الطلبة
(3)
. وكابن الونشريسي (ت 955 هـ) الذي كان له مجلس خاص لا يحضره إلا الفحول من الفقهاء
(4)
.
وقد جرت عادة الفقهاء المتأخرين بتقييد هذه القراءات وضبطها، وتمييز قراءة البحث عن غيرها، فمن ذلك ما يأتي ذكره:
(1)
انظر: الإعلان بالتوبيخ، السخاوي (292)، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (186)، الحركة الفكرية في خراسان في القرن السادس الهجري، د. منيرة سالم (164)، الحياة العلمية في الحجاز خلال العصر المملوكي، د. خالد الجابري (429)، الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية من الفتح الإسلامي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. علي مفتاح (310)، المسجد الحرام، د. عبد الوهاب أبو سليمان (1/ 280).
(2)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (4/ 307).
(3)
عنوان الدراية، الغبريني (214).
(4)
دوحة الناشر، الشفشاوني (54).
1 -
قال شمس الدين السخاوي (ت 902 هـ) في ترجمة علي بن الزين عبد الرحمن بن حسين المدني الشافعي (ت 754 هـ): (ولازم النجم الواسطي بن السكاكيني حتى قرأ عليه من أول المنهاج إلى الجراح قراءة بحث وإتقان وتدقيق معنى وإمعان، سائلًا عما فيه من المشكلات والمسائل الغوامض، مع سماعه كذلك من النكاح منه إلى آخر الكتاب، ومن أوله إلى الزكاة)
(1)
.
2 -
وقال السخاوي أيضًا في ترجمة قاضي مكة أحمد بن ظهيرة المكي الشافعي (ت 885 هـ): (وأخذ الفقه عن أبيه والكمال الأسيوطي، بحث عليه جلَّ الحاوي، وأكثرُ ذلك بقراءته، وقال إنها قراءة بحث وإجادة وإتقان وإفادة، وأذن له في إقرائه وتدريسه بعد التحرير والمراجعة والتثبت والمطالعة)
(2)
.
3 -
قال أبو الفضل المرادي (ت 1206 هـ) في ترجمة مصطفي بن عبد الفتاح النابلسي الحنفي (ت 1183 هـ): (وقرأ على السيد علي العقدي البصير المصري من أول الكنز إلى كتاب الحجر قراءة بحث وتحقيق)
(3)
.
4 -
قال أحمد بابا التنبكتي (ت 1036 هـ) في ترجمة شيخه محمد بن محمود بن أبي بكر الونكري التنبكتي (ت 1002 هـ): (لازمته أكثر من عشر سنين فقرأت عليه بلفظي مختصر خليل وفرعي ابن الحاجب قراءة بحث وتحقيق وتحرير ختمتها عليه، أما خليل فمرارًا عديدة نحو عشر مرات أو ثمان بقراءتي وقراءة غيري، وحضرت عليه التوضيح كذلك لم يفتني منه إلا اليسير من الوديعة إلى الأقضية عليه، وختمت عليه الموطأ قراءة تفهم، وحضرته كثيرًا في المنتقى والمدونة بشرح المحلي ثلاث مرات)
(4)
.
5 -
قال ابن حميد الحنبلي (ت 1295 هـ) في ترجمة فوزان بن نصر الله (ت 1149 هـ): (كتب إليَّ بعض فضلاء نجد أنه رأى إجازة شيخه الشيخ أحمد بن محمد القصير له، ونصها بعد الصدر: وبعد فقد قرأ علي الأخ في الله
(1)
التحفة اللطيفة (3/ 239).
(2)
الضوء اللامع (2/ 191).
(3)
سلك الدرر (4/ 184).
(4)
نيل الابتهاج (602).
الذكي الفاضل التقي، والحبر الكامل الألمعي، الشيخ فوزان بن نصر الله الحنبلي، بلَّغه الله من قصبات العلم مقاصده، ورحمه ورحم والده، غالب كتاب ((المنتهى)) قراءة بحث وتحرير وتروِّ في مواضعه المشكلة، وتدقيق في أماكنه المقفلة، قراءة كافية بلغ فيها الغاية، وانتهى فيها إلى أقصى النهاية)
(1)
.
وقد ذكر العلماء لمباحثة الطلبة لشيوخهم وسؤالهم لهم أحوالًا وآدابًا عليهم أن يرتسموها معهم، ولا تحملهم المباسطة على الإخلال بها، فمن ذلك اغتنام أوقات فراغهم وسكون جأشهم، وأن يتقوا منهم حال الغضب والهمِّ وشغل القلب وشدة الفرح وغيره من العلل التي تغلب على العقل، ولا يسأله إذا كان حاقنًا أو جائعًا أو ناعسًا أو منصرفًا إلى حاجة له، ولا يسأله وهو في حديث حتى يتمَّه أو يقطعه، ولا يفجؤه بالسؤال حتى يؤنسه، إلى غير ذلك من الآداب التي شرحها العلماء، مما يلزم السائل في العلم أن يعرفها ويأخذ بها
(2)
. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ما سألني رجل عن مسألة إلا عرفت فقيه هو أو غير فقيه)
(3)
. وقال محمد بن عجلان (ت 148 هـ): ما هبت أحدًا قط هيبتي زيد بن أسلم (ت 136 هـ). وكان زيد يقول له: اذهب تعلَّم كيف تسأل ثم تعال
(4)
. وكذلك كان يقول إذا جاءه إنسان يسأله فخلَّط عليه
(5)
.
(1)
السحب الوابلة (2/ 815).
(2)
انظر: رياضة المتعلمين، ابن السّني (216 - 225).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب، باب من كان يستحب أن يُسأل (26942).
(4)
الجامع، ابن أبي زيد (149).
(5)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (487).
لمجالس المذاكرة والمباحثة بين الفقهاء فوائد جمة وآثار شريفة، فمنها ما يأتي بيانه:
1 -
مذاكرة الفقه سبيل إلى ضبطه وإتقانه وقلة نسيانه، وهذا من المقاصد الأولى للمذاكرة. قال ابن المعتز (ت 296 هـ):(من أكثر مذاكرة العلماء لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم)
(1)
. وقد بوَّب البخاري (ت 256 هـ) في كتاب العلم: (باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم)، قال المهلب (ت 435 هـ):(معنى طرح المسائل على التلاميذ؛ لترسخ في القلوب وتثبت؛ لأن ما جرى منه في المذاكرة لا يكاد ينسى)
(2)
، وقيل: مطارحة ساعة خير من تكرار شهر
(3)
.
وهذا أمر معلوم مجرَّب، فمن ترك المذاكرة نسي العلم، ومن ترك المذاكرة في شيء من العلم او باب من أبوابه نسي منه بحسب ما ترك من المذاكرة فيه، وكم عالم اعتزل الناس وترك مجالس الفقه حتى ذهب علمه.
فهذا عبد الرحمن بن عطاء (ت 143 هـ) كان ممن يختلفون إلى ربيعة الرأي (ت 136 هـ) ثم إنه خرج من المدينة لكثرة ما رأى فيها من العلماء، ونزل
(1)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي (2/ 276).
(2)
شرح صحيح البخاري، ابن بطال (1/ 141).
(3)
مفتاح السعادة، طاش كبري زاده (1/ 35).
أسوان أراد أن يحيي بها السنن وشرائع الإسلام، ولم يكن هنالك عالم ينافسه، فكان يقول لهم: سلوني عن الفرائض والسنن، وعن الأحكام ومغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقولون له: عندك حديث إرم ذات العماد؟ عندك حديث القياصرة والأكاسرة؟ عندك حديث داحس والغبرء؟ فأضاع علمه هناك، حتى قال فيه مالك (ت 179 هـ): غرَّب نفسه وأضاع علمه
(1)
. وأخبر القاضي بهاء الدين القفطي (ت 697 هـ) عن نفسه فقال: أعرف عشرين علمًا أنسيت بعضها لعدم المذاكرة
(2)
.
وقال الوزير ابن هبيرة (ت 560 هـ): (حكى لي الشيخ محمد بن يحيى (ت 555 هـ) رحمه الله عن أبي يعلى الفراء (ت 458 هـ) رضي الله عنه، أنه قصده فقيه من ميَّافارقين ليقرأ عليه مذهب أحمد رضوان الله عليه، فسأله عن بلده فأخبره، فقال: إن أهل بلدك كلهم يقرِّرون مذهب الشافعي رضي الله عنه، فلماذا عدلت أنت عنه؟ قال له: غنما عدلت عن المذهب رغبة فيك أنت. فقال له: إن هذا لا يصلح؛ فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد وباقي أهل البلدة على مذهب الشافعي لم تجد أحدًا يُعيد معك ولا يدارسك، وكنت خليقًا أن تثير خصومة أو توقع نزاعًا، بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك عليه أولى)
(3)
.
وقال أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ): (فإذا عقل الكلام بسمعه فهم معانيه بقلبه، وإذا فهم المعاني سقط عنه كلفة استخراجها، وبقي عليه معاناة حفظها واستقرارها؛ لأن المعاني شوارد تضل بالإغفال، والعلوم وحشية تنفر بالإرسال، فإذا حفظها بعد الفهم أنست، وإذا ذكرها بعد الأنس رَسَت)
(4)
.
وما أحسن ما نقله الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) عن بعض الفقهاء إذ قال: (والعلم إذا لم يستعمل ولم يُذاكر به كالمسك إذا طال مكثه في الوعاء
(1)
التسمية والحكايات، السرقسطي (81).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (8/ 392).
(3)
الإفصاح (9/ 53)، م تصحيح كلمة اقتضاها السياق من: المسودة، ابن تيمية (541).
(4)
أدب الدين والدنيا (95).
ذهب ريحه، وكالماء الصافي إذا طال مكثه نشَّفته الأوعية والهواء وغيِّرته وذهبت بأكثره أو بكلِّه وتغير ريحه وطعمه، وكالبئر تُحفر فتجري فيها عين، فإن حصل له طريق حتى ينتشر صار نهرًا وكثر ونفع وعاش به الحيوان، وإن حبس وترك قل نفعه وربما غار، فكذلك العلم إذا لم يذاكر به ولم يبحث عنه، وإذا ذاكرت بالعلم ونشرته صار كالنهر الجاري دائم النفع غزير الماء، إن قلَّ مرة لعارض زاد أخرى، وإن تكدر وقتًا لعلَّةٍ صفا في ثانٍ، وتحيا به الأرض والزرع والحيوان)
(1)
.
2 -
المباحثة في مسائل الفقه وسيلة إلى تجلية الصواب فيها، ومعرفة الآراء والأدلة ونقدها، وتمييز القوي من الضعيف، ومعرفة الصحيح والسقيم، وربما استضعف الفقيه رأيًا أو دليلًا فلم يجترئ عليه لمكان صاحبه في العلم والفقه، فإذا اعتضد بموافقة فقيه آخر في مجلس مذاكرة أو مباحثة أقدم على ما كان محجمًا عنه، وبهذا تتمحص الآراء وتعرف درجاتها.
ولم يزل الفقهاء يتباحثون ويراجع بعضهم بعضًا ويستفهم بعضهم من بعض حتى يلوح لهم الصواب. كما في مراجعة عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة، حتى ظهر له وجه الصواب بتلك المراجعة وقال:(فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق)
(2)
. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(3)
. وروى البخاري (ت 256 هـ) في التاريخ الكبير عن مالك (ت 179 هـ) قال: كان عبد الله بن يزيد بن هرمز (ت 148 هـ) ترك اللحم إذا قدمت غنم الصدقة وإبلها؛ لأنهم لا يضعونها مواضعها. فسأل محمد بن عجلان (ت 148 هـ) ابن هرمز، فأفتاه فلم يعجبه، فلم يزل ابن هرمز يخبره
(1)
الفقيه والمتفقه (443).
(2)
متفق عليه من حديث أبي هريرة، رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1400)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (20).
(3)
تاريخ دمشق، ابن عساكر (73/ 185)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (3/ 344).
حتى فهم فقام ابن عجلان فقبل رأسه
(1)
.
والفقيه ليس هو بالذي يجمع الأقوال والأدلة ويحشدها ثم لا يميز قويها من ضعيفها، بل إن الاستقصاء في الجمع دون إعمال للبصيرة ونقد لوجوه الاستدلال سبيل إلى الحيرة، والفقيه الناظر في مصنفات الفقهاء إن لم يكن معه عقل راجح يديم به النظر فيها كان كثرة الاختلاف الذي يطالعه في تلك الكتب سببًا في انقطاعه. قال الجويني (ت 478 هـ):(إن أكثر العمايات في العلوم إنما جاءت من أخذ الحجج مسلَّمة من غير امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها)
(2)
. وقال الحسن بن الهيثم (ت 430 هـ) في كلام شريف: (الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب، والطريق اليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس. فالناظر في كتب العلماء اذا استرسل مع طبعه، وجعل غرضه فهم ما ذكروه وغاية ما أوردوه حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها والغايات التي أشاروا اليها. وما عصم الله العلماء من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل، ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور، والوجود بخلاف ذلك. فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخل والنقصان. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويُجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه، فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له
(1)
التاريخ الكبير (5/ 224).
(2)
شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل (33).
الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشُّبه)
(1)
.
فمذاكرة الفقه والمباحثة في مسائله مع الشيوخ والأقران يتأتىَّ معها من إعمال العقل فيه والنفاذ إلى أسراره ما لا يتهيَّأ بالدرس المجرد. قال بدر الدين بن جماعة (ت 733 هـ): (فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه؛ ليعلق ذلك على خاطره؛ فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء بسواء، وقلَّ أن يفلح من يقتصر على الفكر والتعقل بحضرة الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده)
(2)
. وقد قال عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ): (رأيت ملاحاة الرجال تلقيحًا لألبابهم)، وقال:(ما رأيت أحدًا لاحي الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم)، قال يحيى بن مزين (ت 259 هـ): يريد بالملاحاة ههنا المخاوضة والمراجعة على وجه التعليم والتفهم والمذاكرة والمدارسة
(3)
. ولما دفع عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ) بأولاده إلى الشعبي (ت 104 هـ) ليؤدبهم قال له: (وجالس بهم علية الرجال يناقضوهم الكلام)
(4)
.
وهذه التحريرات البديعة والنكت العالية الرفيعة في كتب الفقهاء لم تكن عفو الخاطر كما يرتجل المرء الكلام، بل ربما تخوَّضت فيها عقول العلية من الفقهاء في مجالسهم، وأطالوا التأمل فيها في خلواتهم، حتى أشبعوها بحثًا وتحريرًا. قال أبو زيد الدبوسي (ت 430 هـ):(وكان الواحد من السلف رحمهم الله تعالى يتفكر زمانًا طويلًا، فلا يجد لما ابتلي به من علم الحكم إلا قياسًا أو قياسين. ولهذا صارت أئمة السلف رحمهم الله تعالى أصحاب المذاهب كأنهم أصحاب شرائع؛ لأن الخلف اعتمدوا الطرد، وهو ليس بحجة يجب العمل به، فلم يستغنوا معه عن اتباع أئمتهم وتقليد سلفهم)
(5)
. وقال
(1)
الشكوك على بطليموس (3).
(2)
تذكرة السامع والمتكلم (201).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 972).
(4)
الأدب المفرد، البخاري، باب من قال: إن من البيان سحرًا (873).
(5)
تقويم أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع (3/ 402).
القاضي أبو يوسف (ت 182 هـ): (كان أبو حنيفة إذا عمل القول من أبواب الفقه راضه سنةً لا يخرجه إلى أحد من أصحابه، فإذا كان بعد سنة وأحكمه خرج إلى أصحابه، وإذا تكلم في الاستحسان همّه مناظرة نفسه)
(1)
، وقال أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ):(كنت أعيد كلَّ قياس ألف مرة، فإذا فرغت منه أخذت قياسًا آخر وهكذا، وكنت أعيد كلَّ درس ألف مرة)
(2)
. ولما خرَّج ابن الصيرفي الحنبلي (ت 678 هـ) جواز دفع الرشوة إلى القاضي الظالم لدفع ظلمه على عامل الخراج ذاكر بذلك شيخه أبا البقاء العكبري (ت 616 هـ) فلم يُصوِّبه، قال: ثم رأيته ابن عقيل (ت 513 هـ) في فنونه صرَّح بما خرَّجتُه
(3)
.
وكان أبو سحاق الشاطبي (ت 790 هـ) كثير المذاكرة والمباحثة مع شيوخ زمانه، ويشير إلى ذلك في كتبه
(4)
، وقال فيه أحمد بابا التنبكتي (ت 1036 هـ):(اجتهد وبرع وفاق الأكابر والتحق بكبار الأئمة في العلوم وبالغ في التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم كالقباب (ت 778 هـ) وقاضي الجماعة الفشتالي (ت 777 هـ) والإمام ابن عرفة (ت 803 هـ) والولي الكبير أبي عبد الله بن عباد (ت 792 هـ) وجرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها وقوة عارضته وإمامته، منها: مسألة مراعاة الخلاف في المذهب. له فيها بحث عظيم مع الإمامين القباب وابن عرفة، وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر)
(5)
.
3 -
بمباحثة الفقه مع أهله يطَّلع الفقيه والمتفقه على مواضع الإشكال ومواطن الاشتباه والسؤال، ومعرفة الإشكال فنٌّ في نفسه وله فائدة لا تخفى؛ إذ هو يستدعي البحث ويهيِّج عليه. قال ابن سعدي (ت 1376 هـ) في جملة
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (457).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 218).
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 238).
(4)
انظر على سبيل المثال: الموافقات (1/ 159) و (4/ 13).
(5)
نيل الابتهاج (49).
جواب له: (ونحن ممنونون في كل ما يقع لكم من الإشكالات؛ لأنها قد تصير سببًا لبحث أمور لم تخطر على البال ومراجعة محالِّها، وهذا من طرق العلم، فلا تحرمونا ذلك)
(1)
. وكان بعض الطلبة يقرؤون على أبي الوليد بن رشد (ت 520 هـ) بعض مسائل العُتبيَّة (المستخرجة) التي أشكلت عليهم، فبينَّها وكشف موطن الإشكال منها، فسُرُّوا بذلك وقالوا له: والله لقد ظهرت المسألة وارتفع الإشكال منها، وكم من مسألة عويصة في العتبية لا يُفهم معناها وتحمل على غير وجهها، فلو استخرجتَ المسائل المشكلات منها وشرحتها وبيَّنتها، لأبقيت بذلك أثرًا جميلًا يبقى عليك ذكره، ويعود عليك ما بقيت الدينا أجره. قال أبو الوليد:(فقلت لهم: وأيُّ المسائل هي المسائل المشكلات منها المفتقرة إلى الشرح والبيان، من الجليات غير المشكلات التي لا تفتقر إلى كلام ولا تحتاج إل شرح وبيان؟! فقلَّ مسألة منها وإن كانت جلية في ظاهرها، إلا وهي مفتقرة إلى التكلم على ما يخفى من باطنها)
(2)
، ثم كان ذلك سببًا في شروعه في كتابة (البيان والتحصيل).
4 -
مذاكرة الفقه سبب في تثوير العلم وداعية إلى التفتيش فيه. قال الزهري (ت 124 هـ): (العلم خزائن ومفاتيحها السؤال)
(3)
، وقال الخليل (ت 170 هـ):(ولا تجزع بتفريع السؤال؛ فإنه ينبهك على علم ما لم تعلم)
(4)
. وثمرة ذلك مما يشترك به السائل والمسؤول ومن حضر مجلس السؤال، فلا يختص بفائدته بعضهم دون بعض، وكلما كان السائل أشدَّ ممارسة للعلم عادت جدوى سؤاله على شيخه بالفضل الكبير والمنفعة. قال ثعلب (ت 291 هـ): (إنما يتسع علم العالم بحسب حذق من يسأله، فيطالبه بحقائق الكلام، وبمواضع النكت؛ لأنه إذا طالبه بحقائق الكلام احتاج إلى البحث والتنقير والنظر والفكر، فيتجدَّد حفظه، وتتسع معرفته، وتقوى
(1)
الفتاوى السعدية (117).
(2)
البيان والتحصيل (1/ 27).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 379).
(4)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 381).
قريحته، ويتذكر ما تقدم)
(1)
.
5 -
مباحثة الفقه سبب كذلك في استخراج ملكة التفقه، فإن الفقه لا يأتي بحفظ المسائل دون تنقير فيها وتمعن في استمدادها وأصولها التي تُخرَّج منها وما قد يرد من الاعتراض عليها، ولذلك كان الفقهاء يلقون المسائل إلى تلامذتهم على وجه المباحثة لتمرينهم ورياضة أذهانهم، وقد بوَّب الخطيب البغدادي (ت 463 هـ):(إلقاء الفقيه المسائل على أصحابه)
(2)
، وقال ابن سعدي (ت 1376 هـ):(وينبغي للمعلم أن يصبر على التعليم، ويبذل جهده في تفهيم كل طالب ما يتحمله ذهنه، ولا يشغله بكثرة القراءات أو بما لا يتحمله ذهنه، وأن ينشطه على الدوام ويكثر من سؤاله وامتحانه، ويمرِّنه على المباحثة وتصوير المسائل وبيان حكمتها ومآخذها، ومن أيِّ الأصول الشرعية أُخذت، فإن معرفة الأصول والضوابط واعتبارها بالمسائل والصور من أنفع طرق التعليم، وكلما ذاق طالب العلم لذة فهمه وحسن مأخذه ازدادت رغبته وقوي فهمه. وكذلك ينبغي له أن يوقظ فهمه بكثرة البحث والسؤال والجواب، ويريه السرور إذا أورد عليه سؤالًا أو إشكالًا أو عارضه بما قاله؛ فإن القصد النفع والوصول للحق، لا الانتصار للقول الذي يقوله والمذهب الذي يصير إليه، بل إذا أرشده من دونه إلى خلل بما قاله شكره عليه، وبحث معه بحثًا يقصد منه الوصول إلى الحقيقة، لا نصر ما هو عليه من الطريقة)
(3)
.
وأنشد ابن الأعرابي (ت 231 هـ)
(4)
:
فسل الفقيه تكن فقيهًا مثله
…
من يسع في عمل بفقهٍ يَمهَرِ
وتدبَّر الأمر الذي تُعني به
…
لا خير في عمل بغير تدبُّر
6 -
مجالس المذاكرة والمباحثة مجالس يتمايز فيها الحاضرون، فيتقدمون أو يتأخرون بما معهم من العلم والفقه، ولذا فقد كانت مجالًا لمعرفة
(1)
الجواهر والدرر، السخاوي (2/ 697).
(2)
الفقيه والمتفقه (651).
(3)
الفتاوى السعدية (113).
(4)
عيون الأخبار، ابن قتيبة (2/ 147).
مراتب الفقهاء واصطفاء النابهين من المتفقهين، وكانت وسيلة للمتفقهين إلى التقرب إلى شيوخهم، ومعرفة المقدَّم منهم.
قال سحنون (ت 240 هـ): (كنت أول طلبي إذا انغلقت عليَّ مسألة من الفقه آتي ابن أبي حسان (ت 227 هـ) فكأنما في يده مفتاح لما انغلق)
(1)
. وقال القصري في فقيه القيروان يحيى بن عمر (ت 289 هـ): (كنت أسأله عن الشيء من المسائل فيجيبني، ثم أسأله بعد ذلك بزمان عنها فلا يختلف قوله عليَّ، وكان غيره يختلف عليَّ قوله)
(2)
. وقال أبو البركات الجصاص (ت 557 هـ): (دخلنا يومًا على الإمام إبراهيم بن أحمد المروالروذي (ت 536 هـ) فقعدنا ساعة عنده، وعرَّفت نفسي عنده وقلت له: أنا قرأت الفرائض والحساب وأعرف ذلك العلم. فأكرمني، ثم قلت له: تسألني مسألة؟ فقال: في وقت آخر. فألححت وقلت: لا بُدَّ أن تسألني عن مسألة من الفرائض؛ حتى تعرف أني تعبت في تحصيل ذلك العلم. فسألني مسألة فما أحسنت جوابها، فخجلت فقلت له: يا سيدي، كانت لي فائدة في هذه المذاكرة والمسألة.
وقال لي الإمام إبراهيم: وما تلك الفائدة؟ قلت: كنت أظن أني أعرف علم الفرائض، وعلمت أني لا أعلمها، فتبسم وأعجبه قولي هذا)
(3)
. وقريب من هذا قول أشهب (ت 204 هـ): (ربما نظرت في المسألة من قول مالك (ت 179 هـ) فنحتج عليها لا شكَّ في أنَّا قد أصبنا فيها قول مالك، ثم نلقاه بها فنسأله عنها ونحتج لما قلنا، فيقول فيها مالك خلاف ما قلنا ويبطل حجتنا، فكأنَّا صبيان عند معلم)
(4)
.
كما كان الشيوخ يعرفون بالسؤال والمباحثة مراتب تلامذتهم، فيقربون النابه ويختصونه بمزيد اهتمام وعناية، فإن مجالس الدرس في الجملة ليست مما يظهر به فقه الطالب وحسن فهمه، إلا أن تتضمن شيئًا من هذه المعاني.
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 511).
(2)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 345).
(3)
التحبير في المعجم الكبير، ابن السمعاني (1/ 459).
(4)
التسمية والحكايات، السرقسطي (110).
قال أبو الفتح بن ملامس (ت: بعد 420 هـ) حاكيًا مذاكرته مع أبي حامد الإسفراييني (ت 406 هـ) بمكة: (وحضرت معه مجلس مذاكرة، فألقى عليَّ ستين مسألة ما أخطأت القولين من الوجهين ولا وجهين إلى قولين، ثم استأذنته في الإلقاء عليه فأذن لي، فألقيت عليه فصار يجيبني بأحد القولين أو بأحد الوجهين، تارة بنص وتارة بنظر. فلما فطن أني استقصرت حفظه قال لي: ما أنت إلا ذكيٌّ فاهم فطن تصلح لطلب العلم، فهل لك في الرواح معي إلى بغداد، وأجعلك ملقي مدرستي وأكبر أصحابي عندي؟ فلم أزد على شكره وتحسين قوله؛ إجلالًا للعلم وأهله، واعتذرت بأني لم أخرج من اليمن على هذه النية)
(1)
.
ومن أجل هذا جاءت الوصية من أهل العلم بإدمان المباحثة مع كل أحد؛ لأن الحكمة ربما تحصلت عند من لا يظن به الحكمة. قال أبو الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ): (من أكبر ما يُفوِّت الفوائد ترك التلمح للمعاني الصادرة عمن ليس بمحل للحكمة. أترى يمنعني من أخذ اللؤلؤة وجداني لها في مزبلة؟ كلا)
(2)
.
(1)
طبقات فقهاء اليمن، الجعدي (108).
(2)
الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 215).