الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الخامس
مجلس المناظرة
(وأما الفقه فلا يوصل إليه ولا يُنال أبدًا دون تناظر فيه وتفهم له).
(جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر/2/ 948)
(وقد وجدنا الأمة متفقة على حسن المناظرة في هذه المسائل وعقد المجالس بسببها).
(الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي/533).
(لا يناظر إلا أهل التقدم في العلوم). ابن الصائغ.
(الرد على من أخلد إلى الأرض، السيوطي/178)
(والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمة الشريفة لا بُدَّ فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة).
(شرح الإلمام، ابن دقيق العيد/1/ 23)
(وآداب الجدل تزين صاحبها، وترك الأب يشينه، وليس ينبغي أن ينظر إلى ما يتفق لبعض من تركه من الحظوة في الدنيا، فإنه إن كان رفيعًا عند الجهال، فإنه ساقط عند ذوي الألباب).
(الواضح، ابن عقيل/1/ 516)
(حجج الشرع أنوار، فضمُّ حجة إلى حجة كضمِّ سراج إلى سراج).
(أصول السرخسي/2/ 288)
المناظرة من النظر وهو تأمل الشيء بالبصر أو البصيرة، والمناظرة مفاعلة من النظر وهي أن تناظر أخاك في أمر إذا نظرتما فيه معًا كيف تأتيانه
(1)
. والمناظرة في (علم البحث والمناظرة) هي: النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارًا للصواب
(2)
، أو هي: المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كلٍّ منهما في ظهور الحق والاعتراف به عند ظهوره
(3)
.
وهل المناظرة والجدل شيء واحد؟ أم بينهما فرق في المعنى؟ بكلٍّ قالت طائفة، قال الجويني (ت 478 هـ):(ولا فرق بين المناظرة والجدال)
(4)
، وفرَّق بينهما جماعة في غرض كلٍّ منهما، فما كانت المدافعة فيه ليظهر الحق فهو مناظرة، وما كانت المدافعة فيه لإسكات الخصم فهو جدال
(5)
، وعلى أية حال فإنه ربما يجري في كلام أهل العلم استعمال أحد اللفظين بمعنى الآخر، والجدل منه محمود ومذموم، فالمحمود منه يوافق المناظرة في معنى ابتغاء الحق والانقياد إليه
(6)
، وقد ذكر الجدال في القرآن الكريم في تسعة وعشرين
(1)
انظر: لسان العرب، ابن منظور (6/ 4466)، تاج العروس، الزبيدي (14/ 245).
(2)
انظر: رسالة الآداب، طاشكبري زاده (38).
(3)
آداب البحث والمناظر، الشنقيطي (139)، ضوابط المعرفة، الميداني (371).
(4)
الكافية في الجدل (19).
(5)
انظر: شرح عبد الوهاب الآكدي على الولدية في آداب البحث والمناظرة لساجقلي زاده (7).
(6)
انظر: علم الجذل، الطوفي (7)، تاريخ الجدل، محمد أبو زهرة (6).
موضعًا، منها المحمود وأكثرها المذموم
(1)
.
والجدال من شأن الإنسان وطبيعته، ولم يزل الناس يتجادلون في عامة شؤونهم بالحق وبالباطل، وقد حكى لنا القرآن مجادلة الأنبياء لأقوامهم، ووصف الله تعالى الإنسان فقال:{كَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، وقال الله جل جلاله:{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل: 4]، قال ابن جرير (ت 310 هـ):(يبين عن خصومته بمنطقه ويجادل بلسانه، فذلك إبانته)
(2)
.
فالناس يتوسلون إلى الدفاع عن آرائهم وإقناع الآخرين بها بالجدال والمناظرة، ولكن عامة الناس يتكلمون بذلك على ما تقتضيه السجية من إرسال الكلام على ما يسمح به الخاطر دون استحضار قواعد وآداب للمناظرة، إلا ما تحمل عليه الملكة الفطرية واللغوية أو ما يلتزم به المرء مع غيره من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. غير أن العلماء وضعوا للمناظرة رسومًا وآدابًا يلتزم بها المتناظران، فمنها ما يعود إلى قواعد العلم وأصوله، ومنها ما يعود إلى أخلاقيات المناظرة وما يُسمح به في مجلس المناظرة وما لا يسمح.
فارتقت بذلك المناظرة من كونها طبعًا غريزيًّا إلى أن غدت علمًا له أصول وقواعد ورسوم وآداب يتعلمها الإنسان ويتدرب بها حتى تصير كالملكة المستحكمة. قال محيي الدين بن الجوزي (ت 656 هـ): (المراسم الجدلية تفصل بين الحق والباطل، وتميز المستقيم من السقيم، فمن لم يحط بها علمًا كان في مناظرته كحاطب ليل)
(3)
.
وقد كانت المناظرات في أول الإسلام زمن الصحابة رضي الله عنه فمن بعدهم على ما كانت عليه أحوالهم من البداهة واطراح التكلف، ثم أصبحت مما تتضمنه المجالس العلمية المختلفة كحلقات العلم ومجالس القضاء وغيرها، ثم
(1)
انظر تفصيل ذلك في: استخراج الجدل من القرآن الكريم، ناصح الدين بن الحنبلي (19).
(2)
تفسير الطبري (14/ 165)، وانظر: الجدل عند الأصوليين، د. مسعود فلوسي (18).
(3)
الإيضاح لقوانين الاصطلاح (5)، وانظر: فن المناظرة، د. محمد حسن مهدي بخيت (15).
انتقل الحال بعد ذلك حتى استقلت المناظرة بمجالس خصصت لها، وبات لها شروط ورسوم وفقهاء معنيون بها وطلبة يحرصون على حضورها وجمهور يشهد وقائعها، وحفلت مدائن العلم الكبرى في تاريخ المسلمين بمجالس مشهورة مشهودة يقصدها القُصَّاد من خارجها، ويلتقي المختلفون فيها فيتطارحون المسائل في أصول الفقه وفروعه.
ولما كانت هذه المناظرات تجري على ملأ من الناس مما يتطلب سرعة الرد فيها
(1)
، فقد كان هذا المقام دافعًا إلى ظهور بعض أخلاق المنافسة والمغالبة بين المتناظرين. والمنافسة متى صحَّت معها النية فإنها أمر فاضل يحفظ على نفوق سوق العلم ورواجه، وقد نقل الزركشي (ت 794 هـ) أن (التحاسد على العلم داعية التعلم، ومطارحة الأقران في المسائل ذريعة إلى الدراية، والتناظر فيها ينقح الخواطر والأفهام، والخجل الذي يحل بالمرء من غلطه يبعثه على الاعتناء بشأن العلم ليعلم ويتصفح الكتب، فيتسبب بذلك إلى بسط المعاني ويحفظ الكتب)
(2)
. ومع هذا فإن قيام المرء في مثل هذا المشهد مع كثرة الاعتراض والمراجعة والمناقشة ربما استخرج منه الحدة والخشونة، وقد قال الشافعي (ت 204 هـ) لمحمد بن الحسن (ت 189 هـ) في بعض مناظراتهما: أشترط ألا تحتدَّ علي ولا تقلق، فقال محمد: أما أن لا أحتد فلا أشترط ذلك، ولكن لا يضرك ذاك عندي
(3)
.
وهذه الحدة التي قد تعرض لبعض المتناظرين وإن كان لا تعلق لها بصحة القول وفساده غير أن عامة الناس تضيق أنفسهم ممن يحتد في المناظرة وربما حكموا لخصمه عليه مهما عزبت أفهامهم عن إدراك دقة مجال المناظرة ومسارها. قال الشافعي (ت 204 هـ): (كنت أرى إذا تناظر اثنان في مسألة وكان أحدهما يناظر ويضحك، ظنت العامة أنه هو المصيب، فقضوا له على
(1)
انظر: أمالي المرتضى (1/ 273).
(2)
المنثور (3/ 398). وانظر تنبيهًا مهمًا لأبي حامد الغزالي في هذا في: إحياء علوم الدين (1/ 178).
(3)
انظر: مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 191).
صاحبه!)
(1)
، وقال أبو حنيفة (ت 150 هـ) في بيان أخلاق جمهور المناظرة:(إذا ناظرتم فأظهروا الضحك يقضي عليكم الجمهور بالغلبة!)
(2)
.
فهذه المجالس يتم غرضها بالسكينة من الطرفين وحضورها بنفس راضية مطمئنة، فلا يتلبس المناظر بأخلاق الغضب ولا الكبر ولا التردد والخوف والوجل من المناظر أو غيره، بل يجلس منه مجلس الند للند والنظير للنظير، حتى يتداولا الحديث في المسائل على ما تقتضيه قواعد العلم والنظر، ولذا قيل: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتنناظرين حتى يكونا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والفهم والعقل والإنصاف
(3)
. وجاء في بعض وصايا أبي حنيفة (ت 150 هـ): (وإياك أن تتكلم في مجلس النظر على خوف أو وجل؛ فإن ذلك مما يورث الخلل في الخاطر والكلال في اللسان)
(4)
. وقال أبو المعالي الجويني (ت 478 هـ): (وإياك والكلام في مجالس الخوف والهيبة؛ فإنك عند ذلك في حراسة الروح على شغل من حراسة المذهب ونصرة الدين)
(5)
، وقال:(وتوقَّ في الكلام مجلس صدر هيبته تقطع خاطرك وتكدر قريحتك، فلن تجتمع الهيبة وصحة القريحة في قلب)
(6)
.
وقال أبو الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ): (وإذا كان المجلس مجلس عصبية على أحد الخصمين بالتخليط عليه، وقلَّ فيه التمكن من الإنصاف، فينبغي أن يحذر من الكلام فيه؛ فإنما ذلك إثارة للطباع وجلب للإفحاش، ويفضي إلى انقطاع
(1)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 198).
(2)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 198). وهل قال أبو حنيفة ذلك على وجه التعليم؟ أبو حنيفة رحمه الله أجل وأتقى لله من ذلك، إلا إن أراد بها موردًا خاصًا، كاستنكاف المناظر واستكباره عن قبول الحق، وقد جاء في المحيط البرهاني (8/ 127):(التمويه في المناظرة والحيلة فيها هل يحل؟ إن كان يكلمه متعلم مسترشد أو غيره على الإنصاف بلا تعنت: لا يحل، وإن كان يكلمه من يريد التعنت ويريد أن يطرحه: يحل، بل يحتال كل الحيلة لدفعه عن نفسه؛ لأن دفع التعنت مشروع بأي طريق يمكن الدفع). مع تصحيح بعض الكلمات من الفتاوى الهندية (5/ 378).
(3)
جامع بيان العلم، ابن عبد البر (2/ 972).
(4)
مناقب الإمام الأعظم، الموفق المكي (2/ 116).
(5)
الكافية (530)، وانظر: المنهاج، الباجي (10)، الواضح، ابن عقيل (1/ 509).
(6)
الكافية (531).
القوي المنصف بما يتداخله من الغضب والغم المانعين له من صحة النظر والصادين له من طريق العلم)
(1)
.
وإنما أكَّد أهل العلم على هذه المعاني لأن غرض المناظرة في أصل معناها شريف فاضل متى اجتنبت أخلاق السوء في المناظرة، فالمناظرة إنما يراد بها تداول الرأي بين الأكفاء ليظهر الحق ما بين ذلك فيصير إليه المتناظران، وينتقل المخالف بها من الخطأ إلى الصواب
(2)
. فهي بهذا المعنى مما يحمد ويطلب، وقد كان هذا الغرض غرض الأئمة الكبار في مناظراتهم، كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن اقتفى أثرهم. قال شيخ الإسلام بن تيمية (ت 728 هـ):(وقد كان العلماء من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين)
(3)
.
ولأجل أن تداول الآراء والحجج ونقدها ليظهر الحق من بينها هو الغرض في مجالس المناظرة فقد وُصفت هذه المجالس بأنها كانت (مؤسسة فحص علمي)
(4)
، فكان مفهومًا في ضوء ذلك أن يتبنى الفقيه المناظر في مجلس المناظرة قول غيره فيستدل له ويدافع عنه ما دام غرضه نقد الآراء والحجج الفاسدة. قال الطوفي (ت 716 هـ): (الخصم قد يناظر عن مذهب غيره إعانة لذلك الغير، كالحنبلي ينصر مذهب بعض الطوائف الثلاثة، وقد
(1)
الواضح (1/ 522).
(2)
انظر: المنهاج، الباجي (9)، الكافية، الجويني (23)، التحبير، المرداوي (7/ 3699)، علم الجذل، الطوفي (7)، الواضح، ابن عقيل (1/ 297).
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 172).
(4)
انظر: مجلس المناظرة كمؤسسة للفحص العلمي في الحضارة الإسلامية العربية، د. حمو النقاري (201)، ضمن بحوث ندوة (مؤسسات العلم والتعليم في الحضارة الإسلامية)، تنسيق: بناصر البعزاتي.
يكون مقصوده إفساد مذهب الخصم لا تصحيح مذهبه هو، فلا جرم يرجح أي مذهب كان ويقابل به مذهب خصمه، وبه يحصل مقصوده)
(1)
. ولذلك فالعلماء ينصون على أن آراء الفقهاء لا تتلقى عنهم من سياق المناظرة لأجل اعتبار هذا المعنى. قال ابن الوزير (ت 840 هـ): (وقد سلكت في هذا الجواب مسالك الجدليين فيما يلزم الخصم على أصوله، ولم أتعرض في بعضه لبيان المختار عندي، وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية، فليتنبه الواقف عليه على ذلك، فلا يجعل ما أجبت به الخصم مذهبًا لي)
(2)
.
ولأجل اعتبار هذا المعنى كذلك فقد كان أهل العلم ينهون عن الاحتجاج بالرجال عند المناظرة؛ لأن هذا عائق عن التوجه بالنظر والنقد إلى الحجج والأدلة بالوقوف بالتهويل عند أسماء من قال بها. قال ابن المبارك (ت 181 هـ): (لا تسموا الرجال عند الحِجَاج)
(3)
، وقال ابن الجوزي (ت 597 هـ): (ولقد كان جماعة من المحققين لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حاد عن الشريعة بل يوسعونه لومًا، فنقل عن أحمد أنه قال له المروذي: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: فقد قال إبراهيم. قال: فصاح بي وقال: جئتنا ببُنَيَّات الطريق؟
…
واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم، كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أن طلحة رضي الله عنه والزبير رضي الله عنه كانا على الباطل؟ فقال له: إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. ولعمري إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله لتعظيمهم في نفسه)
(4)
.
ولأجل ذلك أيضًا فقد ألفينا جماعة من أهل العلم يحكون مناظرات جرت لهم فلا يذكرون أسماء من ناظروهم؛ لئلا يكون في ذلك انتقاص من شأنهم في حكاية المناظرة، مع أن ذكر الأسماء لا تعلق له بالضرورة بغرض
(1)
علم الجذل (4).
(2)
العواصم والقواصم (1/ 225).
(3)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية الكوسج (9/ 4846).
(4)
صيد الخاطر (67).
المناظرة التي انعقدت لأجله. قال المعلمي (ت 1386 هـ): (من مكارم أخلاق الشافعي وكمال عقله وصدق إخلاصه أن غالب ما يسوقه من المناظرات لا يسمي من ناظره؛ لأن مقصوده إنما هو تقرير الحق ودفع الشبهات وتعليم طرق النظر، وتسمية المناظر يتوهم فيها حظ النفس، كأنه يقول: ناظرت فلانا المشهور فقطعته، وفيها غض من المناظر بما يبين من خطئه)
(1)
. وعلى ذلك حمل صنيع الإمام البخاري (ت 256 هـ) إذا قال في صحيحه عند نقد بعض الأقوال: (وقال بعض الناس) ثم لا يسميهم، مع أن من الناس من انتقد ذلك وحمله على التنقص إلا أن ترك البخاري لذكر المخالف فيه تلطف به وانصراف إلى المقصود بالحديث من ذكر الأقوال والحجج
(2)
.
فإذا استبان أن ظهور الحق هو الغرض من المناظرة، فإن الكُمَّل من الرجال لا يضيرهم ظهر الحق على يديهم أو يد من يناظرون، بل ربما نالهم من كمال الخُلُق والرأفة بالخَلق ما يكون معه ظهور الحق مع خصمهم أحبَّ إليهم، وهذا مشهور من سيرة الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) الذي قال فيه محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الحكم (ت 268 هـ):(لو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك)، وقال فيه أيضًا:(كنت إذا رأيت من يناظر الشافعي رضي الله عنه رحمته)
(3)
، ومع هذا فقد قال الشافعي:(ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة)، وقال:(ما ناظرت أحدًا قط إلا على النصيحة)، وقال:(ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ)
(4)
، وقال:(ما كلمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدًا قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه)
(5)
. ومع مثل هذه النية
(1)
التنكيل (1/ 707) من مجموع آثار الشيخ.
(2)
انظر: الاتباع، ابن أبي العز (29)، كشف الالتباس عما أورده البخاري على بعض الناس، الغنيمي (59)، مذهب الإمام البخاري، محمد إسماعيل السلقي (127).
(3)
انظر في جميع هذا: مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 208 - 209).
(4)
انظر: آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم (91)، مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 173) وما بعدها.
(5)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (475).
الصالحة فإن الله جل جلاله يوفق المرء ويسدده ويهديه لما اختلف فيه من الأمر بإذنه، وقد قال القاضي أبو يوسف (ت 189 هـ):(يا قوم أريدوا بعلمكم الله عز وجل، فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح)
(1)
.
أما إذا عقدت مجالس المناظرة ثم اختل فيها هذا المعنى، وكان الغرض منها إرادة العلو والغلبة على الخصم والظهور عليه لمجرد ذلك دون تطلّب حق يكشف أو شبهة تُحل ولا انقياد لحجة تلوح، فإن هذا من البغي المذموم، وقد قال الله جل جلاله:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. قال أبو الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ): (قال بعض مشايخنا المحققين: إذا كانت مجالس النظر التي تدَّعون أنكم عقدتموها لاستخراج الحقائق والاطلاع على عوار الشبه وإيضاح الحجج لصحة المعتقد مشحونةً بالمحاباة لأرباب المناصب تقربًا وللعوام تخونًا وللنظراء تعملًا وتجملًا، فهذا في النظر الظاهر. ثم إذا عولتم بالإنكار فلاح دليل يردكم عن معتقد الأسلاف والإلف والعرف ومذهب المحلة والمنشأ، خونتم اللائح وأطفأتم مصباح الحق الواضح إخلادًا إلى ما ألفتم، فمتى تستجيبون إلى داعية الحق؟ ومتى يرجى الفلاح في درك البغية من متابعة الأمر ومخالفة الهوى والنفس والخلاص من الغش؟ هذا والله هو الإياس من الخير، والإفلاس من إصابة الحق)
(2)
.
فمما مضى ذكره يعلم حكم المناظرة بين الفقهاء في مسائل الشريعة، وأنها مما يختلف حكمه بحسب ما يقوم بأصحابها من حضور داعي الإخلاص للحق أو غيابه، ومشروعيتها بالجملة أمر متفق عليه، قال ابن عبد البر (ت 463 هـ): (وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (474).
(2)
ذكره في الفنون، ونقله المرداوي في التحبير (7/ 3700)، وانظر: الفروع، ابن مفلح (11/ 117).
فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك)
(1)
. فإن كانت جارية على وجه الإنصاف وتحري الحق فعبادة مأمور بها، وقربة يتقرب الفقيه إلى الله جل جلاله بها؛ لما يحصل بها من بيان الحق وظهوره وتعلم الفقه وتعليمه
(2)
، ومن العلماء من ينص أنها بهذا المعنى من فروض الكفايات على المسلمين
(3)
.
وقد جرت المناظرات بهذا المعنى بين الجِلَّة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان حتى ليعجز العاد عن إحصائها
(4)
. قال القرطبي في تفسير قول الله جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]: (هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكًا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفي القرآن والسُّنَّة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68]؛ أي: من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة الأنبياء وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} الآيات، إلى قوله: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 31 - 35]. وكذلك مجادلة موسى عليه السلام مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين؛ لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في (آل عمران). وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم
(1)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 929)، وانظر: التحبير، المرداوي (7/ 3698).
(2)
انظر: حاشية ابن عابدين (6/ 421)، الكافية، الجويني (23)، التحبير، المرداوي (7/ 3698).
(3)
انظر: علم الجذل، الطوفي (7)، درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية (1/ 51)، آداب البحث والمناظرة، الشنقيطي (140).
(4)
انظر: جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 969).
بالحجة، وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفي قول الله عز وجل:{فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح سائغ لمن تدبر)
(1)
.
وأما المناظرة التي لا يراد بها ابتغاء الحق ولا الانقياد له عند ظهور حجته، بل يعمد فيه كل واحد من المتناظرين إلى دفع قول الخصم وإبطال أدلته وإسقاط كلامه كيفما كان، لأجل مقصد فاسد من طلب جاه أو تقدم في المجالس أو غرض من أغراض الدنيا فهذا من الجدل المذموم المحرم
(2)
.
وذلك أن المناظرة يقصد بها-كما تقدم-الرغبة في ظهور الحق والانقياد إليه، فإذا انتفى منها هذا المعنى بقيت صورة المنازعة والمخالفة بلا طائل، وقد قال الإمام مالك (ت 179 هـ):(إن العلم ليس كالتحرش بين البهائم والديكة)
(3)
.
قال عز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ): (إن قيل: هل يثاب المتناظران على المناظرة أم لا؟ قلنا: إن قصد كل واحد منهما بمناظرته إرشاد خصمه إل ما ظهر له من الحق، فهما مأجوران على قصدهما ومناظرتهما؛ لأنهما متسببان إلى إظهار الحق. وإن قصد كل واحد منهما أن يظهر على خصمه ويغلبه، سواء أكان الحق معه أم مع خصمه فهما آثمان. وإن قصد أحدهما الإرشاد وقصد الآخر العناد، أُجِر قاصد الإرشاد، وأثم قاصد العناد)
(4)
.
ولأن جنوح المتصدر في مجالس المناظرة إلى ما تميل إليه النفوس من
(1)
الجامع لأحكام القرآن (4/ 290).
(2)
انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح، ابن هبيرة (9/ 52)، الكافية، الجويني (22)، إحياء علوم الدين، الغزالي (1/ 169)، الواضح، ابن عقيل (1/ 517)، علم الجذل، الطوفي (7).
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 222).
(4)
القواعد الكبرى (1/ 196).
حب الجاه والشهرة كثير حصوله، فقد أفاض الفقهاء في ذم ما يجري من ذلك، وربما أطلق بعضهم ذم مجالس النظر لما عاينه من استيلاء حب التصدر على جملة من المتناظرين، وقد جاء في بعض وصايا سفيان الثوري (ت 161 هـ):(وإياك وحب الرياسة فإن من الناس من تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة)
(1)
. ولهذا فقد انتقد جماعة من أهل العلم المتناظرين بأنهم يشتغلون بمفضول العلم عن فاضله؛ لأجل التفنن والتزين به في مجالس النظر، فانتقد أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) من يشتهرون بالمناظرة اشتهار المتبحرين حتى إذا سئلوا عن واضح المذهب ضلت أفهامهم، فيقصدون من العلم ما يشتهرون به من مسائل الجدل، ويتعاطون علم ما اختلف فيه دون ما اتفق عليه!
(2)
. كما انتقد أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) اشتغال المتناظرين بالمسائل الكبار التي يتسع فيها مجال الكلام، وربما لم يعرفوا الحكم فيما تعم به البلوى من المسائل. وانتقد أيضًا إيثار المتناظرين للجدال حول الأقيسة دون الأحاديث ليتسع لهم مجال النظر فيها، مع أن الأدب حاكم بتقديم الاستدلال بالأحاديث
(3)
.
أما أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) فقد تكلم عن آفات المناظرات فأفاض في ذلك، وانتقد آفات مجالس المناظرة في زمانه، وقد كان مشتغلًا بها حتى كفَّ عنها لمكان الآفات التي ذكرها
(4)
، ونصح تلميذه بذلك في نصيحته المشهورة (أيها الولد)
(5)
. فمن كلامه في ذلك قوله: (والمشتغلون بالمناظرة
(1)
الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (1/ 88)، حلية الأولياء، أبو نعيم (6/ 377).
(2)
انظر: أدب الدين والدنيا (90).
(3)
انظر: تلبيس إبليس (119).
(4)
انظر كلامه عن نفسه في هذا في: المنقذ من الضلال (119)، وانظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (6/ 196)، وراجع كلامه في آفات المناظرات في الباب الرابع من كتاب العلم من ((إحياء علوم الدين)) (1/ 155 - 180)، والذي سماه (الباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشروط إباحتها).
(5)
انظر: أيها الولد (66).
مهملون لأمور هي فرض عين بالاتفاق)
(1)
، وقوله:(فانظر إلى مناظري زمانك اليوم كيف يسودُّ وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه، وكيف يخجل به، وكيف يجهد في مجاحدته بأقصى قدرته، وكيف يذم من أفحمه طول عمره، ثم لا يستحي من تشبيه نفسه بالصحابة رضي الله عنه في تعاونهم على النظر في الحق)
(2)
، وقال في موضع آخر:(والغالب أنهم يحترزون من مناظرة الفحول والاكابر؛ خوفًا من ظهور الحق على ألسنتهم، فيرغبون فيمن دونهم؛ طمعًا في ترويج الباطل عليهم)
(3)
.
فأما إذا ابتغى الفقيه المناظر بقوله وعمله وجه الله جل جلاله والدار الآخرة، ورجا موعود الله وما عنده من الكرامة السابغة والأجر العظيم لمن نهج طريقة الأنبياء في نشر الحق والدعوة إليه والجدال عنه، مع الإخلاص لله تعالى في ذلك فهو من ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد روى الدارمي (ت 255 هـ) وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:(كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض)
(4)
.
(1)
إحياء علوم الدين (1/ 160).
(2)
إحياء علوم الدين (1/ 165).
(3)
إحياء علوم الدين (1/ 167).
(4)
سنن الدارمي، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه (262).
كانت مجالس المناظرة تعقد في الأماكن العامة والخاصة، وكان منها ما يتفق عفوًا في الأماكن المختلفة، ومنها ما يعقد في مجالس مخصصة للمناظرة، وقد أُجريت المناظرات في عامة مسائل الشريعة، وفي أبواب الفقه كلها، وبين المذاهب جميعها
(1)
، فكان ثمَّ مجالس خاصة تدعى (مجالس النظر) أو (حلق المناظرين)، ونحو ذلك
(2)
. ومن الفقهاء من يكون له مجلس دائم للمناظرة، ومنهم من تعقد له المجالس في البلدان التي يرتحل إليها فيشهده فقهاؤها ويناظرونه في مسائل الفقه في الأصول والفروع
(3)
.
وكانت هذه المناظرات ربما جرت في المساجد وساحاتها ورحباتها، قال أبو الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ):(ولا بأس بالمناظرة في مسائل الفقه والاجتهاد في المساجد إذا كان القصد طلب الحق، فإن كان مغالبة ومنافرة دخل في حيِّز الملاحاة والجدال فيما لا يعني ولم يجز في المساجد)
(4)
. وقد
(1)
انظر: مقدمة ابن خلدون (5/ 209).
(2)
من التسميات الطريفة المعبرة وصف الزجاجي (ت 337 هـ) لمجلس المناظرة بـ (حلبة التناظر)، انظر: الإيضاح في علل النحو (39).
(3)
انظر على سبيل المثال: الطبقات السنية في تراجم الحنفية، الغزي (2/ 61)، ترتيب المدارك، القاضي عياض (3/ 388) وفي (4/ 139)، طبقات الشافعية الكبرى، السبكي (4/ 71) وفي (3/ 231) وفي (4/ 387) وفي (5/ 168)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 24) وفي (3/ 64)، وفيات الأعيان، ابن خلكان (1/ 73) وفي (3/ 169) وفي (4/ 204) وفي (4/ 225).
(4)
ذكره في الفصول، ونقله عنه ابن مفلح في: الآداب الشرعية (4/ 30).
كان الشافعي (ت 204 هـ) يجتمع مع بعض فقهاء مكة في المسجد الحرام للمذاكرة، فيأتيهم محمد بن الحسن (ت 189 هـ) ويناظرهم
(1)
. ومن الجوامع التي اشتهرت بعقد مجالس المناظرة فيها جامع القصر ببغداد
(2)
، حيث يجتمع فيه الفقهاء من سائر المذاهب للمناظرة، وممن كانت لهم حلقة مناظرة هناك الفقيه الشافعي أبو منصور البروي (ت 567 هـ) وكان يحضر عنده المدرسون والأعيان
(3)
. ومنهم أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) الذي كان يجلس في دكة الحنابلة في الجامع، فربما ناظر الفقهاء حتى تمتلئ الرحبة بالحاضرين
(4)
.
ومنهم غلام ابن المنِّيِّ (ت 610 هـ) الذي كانت له حلقة بالجامع يحضرها الفقهاء، وكان جيد الكلام في المناظرة، حتى أجمعت الطوائف على فضله وعلمه
(5)
.
وربما جرت المناظرة في المدارس، وقد وصف لنا ابن بدران (ت 1346 هـ) مشهدًا من مشاهد المناظرة في المدارس فقال: (ثم إنه كان لكل مدرسة مدرس خصوصي، ينتخب من الأفاضل الكبار. وكان لهؤلاء المدرسين مواعيد، فإذا كان يوم ميعاد مدرسة جلس المدرس في موضع الميعاد، وأحدق به غالب الفقهاء والعلماء، فيذكر مسألة ويأخذ في تفصيلها وبيان دلائلها، ويشاركه العلماء في البحث على طريقة فن الجدل، ويتكلم الواحد منهم بما عنده وتطول ذيول المناظرة، ويأخذ الحنفي مثلًا في الانتصار لقول إمامه، فيعارضه الشافعي مدليًا بحجته، ويشاركهما المالكي والحنبلي والظاهري
(1)
انظر: مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 181).
(2)
وهو اليوم جامع الخلفاء الواقع في شارع الجمهورية ببغداد، بناه المكتفي بالله بين عامي (289 هـ-295 هـ) شرقيَّ قصره، وكان أحد الجوامع الكبيرة الثلاث عظيمة الشأن ببغداد مع جامع المنصور والرصافة، وقد لحقه إفساد المغول ثم أعيد ترميمه، ثم هدم وأعيد بناؤه لاحقًا، وكان الجامع كبيرًا، وله رحبة واسعة جدًا، فكانت تعقد فيه حلق العلم والمناظرة. انظر: تاريخ مساجد بغداد وآثارها، محمود شكري الألوسي (39)، خير الزاد في تاريخ مساجد وجوامع بغداد، السيد محمد الراوي (201)، مباحث عراقية في الجغرافية والتاريخ والآثار وخطط بغداد، يعقوب سركيس (1/ 157).
(3)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (4/ 225).
(4)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 475).
(5)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 141).
والنحوي والمنطقي والبليغ. وإذا كان ثمَّ أحد من العلماء غريبًا أخذ في المذاكرة معهم، ولم يزالوا كذلك حتى فراغ الميعاد، ثم ينتقلون فيما بعد إلى ميعاد ثان في مدرسة ثانية. وحرصًا على أن لا يغلب المدرس على أمره من أحد غريب؛ كان المتميزون في العلم يجلسون إلى يمينه وشماله ليكونوا عونًا له إذا سئل ولم يستحضر جوابًا)
(1)
. وهذه المناظرات في المدارس كان لها أثرها الكبير على الطلبة المتفقهين داخل المدرسة وخارجها، ويصف القاضي أبو بكر بن العربي (ت 543 هـ) أثر أحد هذه المجالس عليه فيقول: (وحين صليت بالمسجد الأقصى فاتحة دخولي له، عمدت إلى مدرسة الشافعية بباب الأسباط
(2)
، فألفيت بها جماعة علمائهم في يوم اجتماعهم للمناظرة عند شيخهم القاضي الرشيد يحيى-يعني: ابن الصائغ (ت 534 هـ) -الذي كان استخلفه عليهم شيخنا الإمام الزاهد نصر بن إبراهيم النابلسي المقدسي (ت 490 هـ)، وهم يتناظرون على عادتهم، فكانت أول كلمة سمعتها من شيخ من علمائهم يقال له مجلي (ت 550 هـ): بقعة لو وقع القتل فيها لاستوفى القصاص بها، وكذلك إذا وقع في غيرها أصله الحل. فلم أفهم من كلامه حرفًا، ولا تحققت منه نكرًا ولا عرفًا، وأقمت حتى انتهى المجلس، فكررت راجعًا إلى منزلي وقد تأوَّبني حرصي القديم، وغلبني على جدي في التحصيل والتعليم، فقلت لأبي رحمة الله عليه: إن كانت لك نية في الحج، فامض لعزمك، فإني لست برائم عن هذه البلدة حتى أعلم علم من فيها، وأجعل ذلك دستورًا للعلم وسلمًا إلى مراقيها، فساعدني حين رأى جدي، وكانت صحبته لي من أعظم أسباب جدي. ونظرنا في الإقامة بها وخزلنا أنفسنا عن صحبة كنا نظمنا بهم في المشي إلى الحجاز، إذ كانوا في غاية الانحفاز.
ومشيت إلى شيخنا أبي بكر الفهري رحمة الله عليه-يعني:
(1)
منادمة الأطلال (105).
(2)
هي المدرسة النصرية المنسوبة إلى الشيخ نصر المذكور، وقد درَّس بها أجلة منهم أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)، وأبو عمرو بن الصلاح (ت 643 هـ)، وغيرهما. انظر: المدارس في بيت المقدس، د. عبد الجليل حسن (1/ 356).
الطرطوشي (ت 520 هـ) -، وكان ملتزمًا من المسجد الأقصى-طهره الله-بموضع يقال له (الغوير) بين باب الأسباط ومحراب زكريا عليه السلام فلم نلقه به، واقتفينا أثره إلى موضع منه يقال له (السكينة) فألفيناه بها، فشاهدت هديه وسمعت كلامه، فامتلأت عيني وأذني منه، وأعلمه أبي بنيتي فأناب، وطالعه بعزيمتي فأجاب، وانفتح لي به إلى العلم كل باب، ونفعني الله به في العلم والعمل، ويسر لي على يديه أعظم أمل، فاتخذت بيت المقدس مباءة، والتزمت فيه القراءة، لا أقبل على دنيا، ولا أكلم إنسيًّا، نواصل الليل بالنهار فيه، وخصوصا بقبة السلسلة، منه تطلع الشمس على الطور وتغرب على محراب داود، فيخلفها البدر طالعًا وغاربًا على الموضعين المكرمين، وأدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم لحضور التناظر بين الطوائف، لا تلهينا تجارة، ولا تشغلنا صلة رحم، ولا تقطعنا مواصلة ولي، وتقاة عدو.
فلم تمر بنا إلا مدة يسيرة حتى حضر عندنا بالغوير ونحن نتناظر فقيه الشافعية عطاء المقدسي، فسمعني وأنا أستدل على أن مُدَّ عجوة ودرهمًا بمُدَّي عجوة لا يجوز، وقلت: الصفقة إذا جمعت مالَي ربًا ومعهما أو مع أحدهما ما يخالفه في القيمة سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، فإن ذلك لا يجوز؛ لما فيه من التفاضل عند تقدير التقسيط والنظر والتقويم في المقابلة بين الأعواض، وهذا أصل عظيم في تحصيل مسائل الربا. فأعجب الفهري ذلك، والتفت إلى عطاء وقال له: قبضت فراخُنا! فقال له عطاء: بل طارت!. وذلك في الشهر الخامس أو السادس من ابتداء قراءتي)
(1)
. فانظر كيف كان مجلس المناظرة الذي شهده القاضي سببًا لقطعه الرحلة إلى الحجاز وبقائه لتحصيل ما لدى أولئك الشيوخ في بيت المقدس، حتى أتقن ذلك في بضعة أشهر وأعجب به شيوخه.
كما قد تجري المناظرة أيضًا في بيوت الفقهاء أنفسهم
(2)
، وفي الأربطة
(1)
قانون التأويل (91 - 95).
(2)
انظر: الحياة العلمية في العراق خلال عصر نفوذ الأتراك، زيني الحازمي (1/ 152)، الحياة العلمية في نيسابور، محمد الفاجالو (297)، الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية، د. علي مفتاح (165)، علماء خراسان في بغداد وأثرهم في الحركة الفكرية، د. رفاه تقي الدين (119)، المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (85).
والزوايا والخوانق، حيث يجتمع الفقهاء والمتفقهون المقيمون فيها والواردون عليها من شتى الأمصار، فيتناظرون ويتناقشون ويحمل كلٌّ عن الآخر علم بلده
(1)
.
ومن الأماكن التي تعقد المناظرات فيها كذلك مجالس الخلفاء والأمراء. وفي خلفاء المسلمين وملوكهم جمٌّ غفير لهم اهتمام بالعلم وإدمان للبحث والمطالعة والمجالسة مع العلماء والفقهاء، في مسائل العلم عامة، وفيما تمس حاجتهم إليهم لتدبير الناس وسياستهم خاصة، وكثيرًا ما تحتوي قصورهم على مكتبات خاصة تكون عونًا ومرجعًا لمثل تلك المجالس
(2)
، وربما حضروا مجالس المناظرة بين الفقهاء أو عقدوها في الأماكن العامة كالجوامع والمدارس، وقد مضى ذكر المناظرات بين الإمام مالك (ت 179 هـ) وتلاميذه مع القاضي أبي يوسف (ت 182 هـ) بحضرة هارون الرشيد (ت 193 هـ) في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم
(3)
، ويصف المقريزي (ت 845 هـ) مجلسًا للمناظرة عقده السلطان المؤيد (ت 824 هـ) في جامعه بالقاهرة بمناسبة إجلاس قاضي القضاة شمس الدين الديري الحنفي (ت 855 هـ) على سجادة مشيخة الصوفية وتدريس الحنفية، فيقول:(ثم استدعي الديري وألبس خلعة واستقر في المشيخة وتدريس الحنفية، وجلس بالمحراب، والسلطان وولده عن يساره، والقضاة عن يمينه، ويليهم مشايخ العلم وأمراء الدولة، فألقى درسًا تجاذب فيه أهل العلم أذيال المناظرة حتى قرب وقت الصلاة ثم انفضوا)
(4)
.
(1)
انظر: الأربطة في مكة المكرمة منذ البدايات حتى نهاية العصر المملوكي، د. حسين شافعي (254) الحركة الفكرية في خراسان في القرن السادس الهجري، د. منيرة سالم (165)، خانقاوات الصوفية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، د. عاصم رزق (1/ 30).
(2)
انظر: الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية، د. علي مفتاح (163)، المجالس العلمية، د. خلود الجنابي (213)، المكتبات في الإسلام، د. محمد ماهر حمادة (86).
(3)
انظر على سبيل المثال: ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 222)، المستوعب لتاريخ الخلاف العالي ومناهجه عند المالكية، د. محمد العلمي (1/ 141).
(4)
السلوك لمعرفة دول الملوك (ج 4، ق 1/ 509).
وبالجملة فقد كانت هذه المناظرات تجري حيث يلتقي الفقهاء من الأماكن العامة والخاصة، حتى كانت تعقد في المكتبات العامة ودور الورَّاقين
(1)
، بل من الطريف الذي يذكر أن هذه المناظرات ربما جرت في مجالس العزاء، فتكون مداولة مسائل الفقه من خير ما تقضي به الأوقات ويغتنم اجتماع الفقهاء فيها، ويحكي أبو الوليد الباجي (ت 474 هـ) مناظرة حضرها لما توفيت زوجة أبي الطيب الطبري (ت 450 هـ) فيقول:(العادة ببغداد أن من أصيب بوفاة أحد ممن يكرم عليه قعد أيامًا في مسجد رَبَضِه يجالسه فيها جيرانه وإخوانه، فإذا مضت أيام عزوه وعزموا عليه في التسلي والعودة إلى عادته من تصرُّفه. فتلك الأيام التي يقعد فيها في مسجده للعزاء مع إخوانه وجيرانه لا تقطع في الأغلب إلا بقراءة القرآن، أو بمناظرة الفقهاء في المسائل، فتوفيت زوجة القاضي أبي الطيب الطبري وهو شيخ الفقهاء ذلك الوقت ببغداد وكبيرهم، فاحتفل الناس بمجالسته، ولم يكد يبقى أحد منتم إلى علم إلا حضر ذلك المجلس، وكان ممن حضر ذلك المجلس القاضي أبو عبد الله الصيمري (ت 436 هـ)، وكان زعيم الحنفية وشيخهم، وهو الذي كان يوازي أبا الطيب في العلم والشيخوخة والتقدم، فرغب جماعة من الطلبة إلى القاضيين أن يتكلما في مسألة من الفقه يسمعها الجماعة منهما وتنقلها عنهما، وقلنا لهما: إن أكثر من في المجلس غريب قصد إلى التبرك بهما والأخذ عنهما، ولم يتفق لمن ورد منذ أعوام جمة أن يسمع تناظرهما إذ كانا قد تركا ذلك منذ أعوام، وفوَّضا الأمر في ذلك إلى تلاميذهما، ونحن نرغب أن يتصدقا على الجمع بكلامهما في مسألة يُتجمل بنقلها وحفظها وروايتها. فأما القاضي أبو الطيب فأظهر الإسعاف بالإجابة، وأما القاضي أبو عبد الله فامتنع من ذلك، وقال: من كان له تلميذ مثل أبي عبد الله يريد الدامغاني (ت 478 هـ) لا يخرج إلى الكلام، وها هو حاضر من أراد أن يكلمه فليفعل، فقال القاضي
(1)
انظر: موسوعة الوراقة والوراقين، د. خير الله سعيد (1/ 387)، الورق والوراقون في العصر العباسي، هالة شاكر (237).
أبو الطيب عند ذلك: وهذا أبو إسحاق (ت 476 هـ) من تلامذتي ينوب عني) ثم شرع في حكاية المناظرة، وأبو إسحاق هو الشيرازي
(1)
.
ومن الملاحظ لمن تتبع مجالس المناظرات أن العناية بها في المشرق أعظم وأكثر من العناية بها المغرب، والكثير مما هنالك نقله أمثال أبي الوليد الباجي (ت 474 هـ) والقاضي أبي بكر بن العربي (ت 543 هـ) بعد رحلتهما إلى المشرق
(2)
، والمعوَّل عند المالكية قبلهما في الحجاج والمناظرة والجدال عن مذهبهم على مالكية العراق، كالقاضي إسماعيل (ت 282 هـ) وأبي بكر الأبهري (ت 375 هـ) والقاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403 هـ) والقاضي عبد الوهاب بن نصر (ت 422 هـ)، وسبب ذلك أن المدافعة بين الفقهاء في المشرق أكثر، فالمذاهب موفورة في مختلف الأقاليم، والفقهاء هناك يلتقون فيتناظرون ويتناقشون
(3)
، بخلاف المغرب الذي ظهر عليه مذهب الإمام مالك (ت 179 هـ) حتى غلب على فقهائه، فانمحى مذهب الأوزاعي (ت 157 هـ) الذي حمله جند الشام إلى الأندلس منها بدخول زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون (ت 204 هـ) ويحيى بن يحيى الليثي (ت 234 هـ) وعيسى بن دينار (ت 212 هـ) وأضرابهم، ولم يبق فيها كبير مزاحم إلا ما كان من أمر الظاهرية، لا سيما زمن أبي محمد بن حزم (ت 456 هـ) الذي اشتهرت مناظراته مع أبي الوليد الباجي (ت 474 هـ) في جزيرة ميورقة شرقيَّ الأندلس بدعوة من والي الجزيرة
(4)
. وأما إفريقية فكان أكثر الفقهاء أول الأمر فيها على مذهب
(1)
نقلها تاج الدين السبكي في: طبقات الشافعية الكبرى (4/ 245).
(2)
انظر: مقدمة ابن خلدون (5/ 203).
(3)
انظر: المستوعب لتاريخ الخلاف العالي ومناهجه عند المالكية، د. محمد العلمي (1/ 163)، الجدل الفقهي عند مالكية بغداد، د. محمد العلمي، ضمن بحوث ملتقى القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي (2/ 120).
(4)
انظر استعراضًا سريعًا لمناظرات ابن حزم مع مالكية الأندلس ثم مع أبي الوليد الباجي الذي عاد من رحلته إلى المشرق متقنًا للجدل في: مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي، د. عبد المجيد تركي (53)، الظاهرية والمالكية وأثرهما في المغرب والأندلس في عهد الموحدين، د. عبد الباقي عبد الهادي (49).
الكوفيين
(1)
، حتى دخلها تلامذة مالك كعلي بن زياد (ت 183 هـ) والبهلول بن راشد (ت 183 هـ) وعبد الله بن غانم (ت 190 هـ) وأسد بن الفرات (ت 213 هـ) ثم جاء بعدهم سحنون (ت 240 هـ) وتولى قضاءها ونشر علم مالك فيما هنالك. ومع ذلك فقد ظل مذهب أبي حنيفة (ت 150 هـ) ظاهرًا ثَمَّ حتى جاء المعز بن باديس (ت 454 هـ) فحمل أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك، وحسم مادة الخلاف في المذاهب واستمر الحال على ذلك الشأن
(2)
.
والمقصود من ذكر مثل ذلك أن الحافز على انبعاث مجالس المناظرة في هذه الأقاليم التي غلب عليها مذهب واحد، أقل منه في أقاليم المشرق التي تزاحمت فيها المذاهب، فكان من أثر ذلك انصراف فقهاء المالكية هناك إلى جانب التفريع والتطبيق كالعمليات والماجريات والوثائق والأقضية والنوازل
(3)
، وظلَّت المناظرة في أحوال كثيرة باقية عندهم في مذهب مالك نفسه، وتعقد لأجل ذلك المجالس ويجتمع لها الفقهاء، كما جرى من إقامة المنصور بن أبي عامر (ت 392 هـ) لمجلس يجتمع له الفقهاء في قرطبة للمناظرة في الموطأ، فكان يحضره ابن العطار (ت 399 هـ) فيقصِّر أكثرهم عن شأوه في تدقيق معانيه وغريبه
(4)
. ومن ذلك مجالس القاضي أبي الوليد بن رشد (ت 520 هـ) مع أصحابه للمناظرة في المدونة، حيث قال في فاتحة كتابه ((المقدمات
(1)
انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 85).
(2)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (5/ 234). وانظر في شأن انتشار مذهب مالك في إفريقية وما وراءها: نفح الطيب، المقري (2/ 45)، المذهب المالكي بالغرب الإسلامي، نجم الدين الهنتاتي (37)، المدخل لدراسة الفقه المالكي، أحمد ذيب (219)، المذهب المالكي النشأة والموطن، د. محمد الغرياني (22).
(3)
انظر: الوثائق والأحكام بالمغرب والأندلس في القرنين الرابع والخامس الهجريين، د. إدريس السفياني (1/ 11)، الجدل الفقهي عند مالكية بغداد، د. محمد العلمي، ضمن بحوث ملتقى القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي (2/ 119). ولا يعني هذا بحال انصراف مالكية المغرب والأندلس التام عن المناظرة والجدل، ولكنها مقارنة في الاهتمام والعناية بينهم وبين الفقهاء في المشرق، ولمزيد اطلاع في ذلك يمكن الرجوع إلى كتاب د. محمد العلمي ((المستوعب لتاريخ الخلاف العالي ومناهجه عند المالكية)).
(4)
انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 202).
الممهدات)): (فإن بعض أصحابنا المجتمعين إلى المذاكرة والمناظرة في مسائل كتب المدونة، سألني أن أجمع له ما أمكن مما كنت أورده عليهم عند استفتاح كتبها وفي أثناء بعضها، مما يحسن المدخل به إلى الكتاب)
(1)
.
فمما تقدم ذكره يعلم أن الداعي إلى المناظرة مما تختلف به الأمصار، وربما اشتهر قطر من الأقطار أو ناحية من النواحي بكثرة النظار فيها؛ لمحلهم من الاشتغال بالمناظرة وإدمانهم الحضور في مجالسها ومجامعها، فبزُّوا غيرهم من الفقهاء الذين ربما كانوا أمكن في العلم منهم. وقد اشتهر طوائف من الفقهاء بالمناظرة حتى بات الناس يتعلمون منهم رسومها وشروطها وآدابها، ومن هؤلاء الإمام الشافعي (ت 204 هـ) كما مضت الإشارة إلى ذلك، وقد حكى الربيع بن سليمان (ت 270 هـ) فقال:(كنا جلوسًا في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابي فسلم ثم قال لنا: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي رحمه الله، فبكى بكاء شديدًا، وقال: توفي رحمه الله وغفر له، فلقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوهًا مسودَّة، ويوسع الرأي أبوابًا منسدة. ثم انصرف)
(2)
. وقال النووي (ت 676 هـ) واصفًا براعة الشافعي: (ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله مكنه الله تعالى من أنواع العلوم، حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون، واعترف بتبريزه وأذعن الموافقون والمخالفون في المحافل الكثيرة المشهورة المشتملة على أئمة عصره في البلدان، وهذه المناظرات موجودة في كتبه وكتب العلماء معروفة عند المتقدمين والمتأخرين. وفي كتاب الأم للشافعي رحمه الله من هذه المناظرات جمل من العجائب والنفائس الجليلات والقواعد المستفادات، وكم من مناظرة واقعة فيه يقطع كل من وقف عليها وأنصف وصدق أنه لم يُسبق إليها)
(3)
. ومنهم أشهب بن عبد العزيز
(1)
المقدمات الممهدات (1/ 9). وانظر أيضًا في المناظرة في المدونة: فهرس ابن عطية (125)، التعريف بالقاضي عياض، محمد بن عياض (10).
(2)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (492).
(3)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 50).
(ت 204 هـ) الذي قال فيه سحنون (ت 240 هـ): (ما كان أحد يناظر أشهب إلا اضطره بالحجة حتى يرجع إلى قوله، ولقد كان يأتينا في حلقة ابن القاسم (ت 191 هـ) فيتكلم في أثول العلم ويفسر ويحتج، وابن القاسم ساكت ما يرد عليه حرفًا)
(1)
.
ومن الفقهاء الذين اشتهروا بالمناظرة كذلك أبو العباس بن سريج (ت 306 هـ) الذي كان يناظر أبا بكر محمد بن داود بن علي الظاهري (ت 297 هـ) فلا يكادان ينقطعان عن المناظرة، وتناظرا ذات مرة فقال أبو بكر لأبي العباس، وقد أكثر عليه في السؤال: أبلعني ريقي، فقال ابن سريج: قد أبلعتك دجلة والفرات. فلما مات أبو بكر حزن له أبو العباس وجلس للتعزية وقال: ما آسى إلا على تراب أكل لسان محمد بن داود
(2)
. ومن الفقهاء المناظرين شمس الأئمة السرخسي (ت 490 هـ) الذي وصف بأنه كان أنظر أهل زمانه، وناظر أقرانه حتى ظهر اسمه وشاع خبره
(3)
. وأبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ) الذي وُصف بأنه كان (عظيم الجدل)، وله مناظرات مشهورة، ومجالس محفوظة
(4)
. وأبو حامد الإسفراييني (ت 406 هـ) الذي روي عنه أنه كان يقول: ما قمت من مجلس النظر قط فندمت على معنى ينبغي أن يذكر فلم أذكره!
(5)
. ومن المشهورين بالمناظرة سيف الدين الآمدي (631 هـ) الذي دخل مصر والشام وعقدت له المناظرات وحضرها الأكابر من كل مذهب، وقال فيه عز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ): ما عرفنا قواعد البحث إلا من الشيخ سيف الدين
(6)
. وممن اشتهر بالمناظرة كذلك فخر الدين الرازي (ت 606 هـ) الذي كان يُطوِّف الآفاق وتعقد له فيها مجالس المناظرة، وحكى عن نفسه أنه لما انتهى إلى بلاد ما وراء النهر دخل بخاري وسمر قند وغزنة
(1)
انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 481).
(2)
انظر: تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (3/ 163)، حدائق الأزاهر، ابن عاصم (54).
(3)
انظر: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (3/ 78).
(4)
انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 135).
(5)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (1/ 73).
(6)
انظر: الوافي بالوفيات، الصفدي (21/ 341 - 343).
وغيرها من البلاد، فعقدت له فيها المناظرات والمجادلات مع من كان فيها من الأفاضل والأعيان، فناظر الفقهاء في بخاري في مسائل كثيرة، فمنها مناظرته حول كتاب ((شفاء العليل)) لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ)، ومناظرته في خيار المجلس، والتكليف بما لا يطاق، كما ناظر في صومعة الغزالي في طوس حول كتاب ((المستصفى)) لأبي حامد، وغير ذلك
(1)
. وكذلك علاء الدين الباجي (ت 714 هـ) كان له في المناظرة الباع الواسع، و (كان إليه مرجع المشكلات ومجالس المناظرات)، وبه تخرَّج تقي الدين السبكي (ت 756 هـ)، وكان تقي الدين بن دقيق العيد (ت 702 هـ) وشيخ الإسلام بن تيمية (ت 728 هـ) يعظمانه ويجلانه، وذُكر أنه كان يقول لابن تيمية: تكلم نبحث معك، فيقول له: مثلي لا يتكلم بين يديك، أنا وظيفتي الاستفادة منك
(2)
. ومن المناظرين أبو بكر الدينوري البغدادي (ت 532 هـ) الذي برع وتقدم في المناظرة على أبناء جنسه، حتى قال فيه شيخ الشافعية أسعد الميهني (527 هـ):(ما اعترض أبو بكر الدينوري على دليل أحد إلا ثلم فيه ثلمة)
(3)
. وقيل مثل ذلك في ترجمة سيف الدين المقدسي (ت 586 هـ) الذي وصفه الموفق (ت 620 هـ) بأنه كان (حسن الكلام في المناظرة) مع صغر سنه ووفاته في شبيبته
(4)
. والأمثلة على هذا من فقهاء المذاهب لا تحصى كثرة، ومن الملاحظ الذي لا تخطئه عين المستقريء لأخبار الفقهاء وتراجمهم أن وصف الفقيه بأنه من أهل المناظرة يرتبط في أحوال كثير جدًا مع وصفه بالبراعة والتقدم في الفقه، وما ذاك إلا لما مضت الإشارة إليه من أن المناظرة من شأن المتقدمين في الفقه والنظر
(5)
.
(1)
انظر: مناظرات فخر الدين الرازي في بلاد ما وراء النهر (7).
(2)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، السبكي (10/ 339).
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 428).
(4)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 381).
(5)
انظر على سبيل المثال: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (2/ 129) وفي (3/ 52)، الديباج المذهب، ابن فرحون (1/ 167)، طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (5/ 151) وفي (6/ 64) وفي (7/ 101) وفي (7/ 127)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 32) وفي (1/ 392) وفي (1/ 448) وفي (2/ 40) وفي (3/ 150).
وكان هؤلاء المناظرون تتفاوت بهم الحال فيما يستعملونه في المناظرة، فإذا عرف بعض الفقهاء ببراعتهم في النظر العقلي واستعمال الأقيسة، فإن منهم من كان يبزُّ أقرانه في معرفة الحديث والاستشهاد به. فذكر مثلًا في ترجمة الكيا الهراسي (ت 504 هـ) أنه كان يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسه، وكان يقول:(إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح)
(1)
.
فالمقصود أن الفقهاء كان لهم بالمناظرات عناية بالغة واشتغال بيِّن لا يخفى على عامة الناس فضلًا عن خاصتهم، وكانت ميدانًا له فرسانه ورجاله، حتى كان الفقيه إذا قعد مقعد شيخه في المناظرة فربما أصابته الهيبة وغشيته الرهبة، ومن أولئك أبو الحسن القابسي القروي المالكي (ت 403 هـ) الذي تمثَّل في أول مجلس له للمناظرة:
لعمر أبيك ما نُسب المعَّلى
…
إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت
…
وصوَّح نبتها رعي الهشيم
ثم بكى حتى بكى الناس، وقال: أنا الهشيم أنا الهشيم، والله لو أن في الأرض خضراء ما رُعيت أنا
(2)
.
وهذه البراعة في المناظرات لم تكن لتتهيأ لهؤلاء السادة وتتطور في أدواتها ومعارفها، لو لم يكن لها طرائق علمية ومنهجية معلومة يتعلمها المناظر عن شيوخه ويتخرج بها عليهم
(3)
. فكانوا يتعلمون الجدل والمناظرة وآداب البحث عن شيوخهم، ثم يشهدون حلق المناظرة ومجالسها فيتدربون فيها، وكانوا يسألون شيوخهم عقد المجالس لها ويتطلبونها من المقدَّمين فيها.
قال ابن السني (ت 364 هـ): (ولا بأس أن يتحاوروا بحضرة العالم في
(1)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 287).
(2)
انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 321)، والبيتان لأبي علي البصير، راجع ديوانه (36).
(3)
انظر: خطاب المناظرة في التراث العربي الإسلامي، د. عبد اللطيف عادل (142)، بواسطة: خطاب المناظرة في الأدب الأندلسي، د. محمد أبحير (75).
أصناف العلم، ويناظر بعضهم بعضًا)
(1)
. وقال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ): (أستحبُّ أن يخص يوم الجمعة بالمذاكرة لأصحابه في المسجد الجامع وإلقاء المسائل عليهم، ويأمرهم بالكلام فيها والمناظرة عليها)
(2)
، ثم أسهب في ذكر آداب الترقي بالمتفقه في درجات المناظرة. وكان هذا الترقي يجري بإشراف ومتابعة من الأساتذة وتعاهد منهم لطلبتهم. قال أبو الحسن البيهقي (ت 565 هـ) متحدثًا عن نفسه:(ثم مات والدي في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وخمسمائة، فانتقلت في ذي الحجة سنة ثمان عشرة إلى مرو، فقرأت على تاج القضاة أبي سعد يحيى بن عبد الملك بن عبيد الله بن صاعد، وكان ملكًا في صورة إنسان، وعلّقت من لفظه كتاب الزكاة والمسائل الخلافية ثم سائر المسائل على غير الترتيب، وخضت في المناظرة والمجادلة سنة جرداء، حتى رضيت عن نفسي فيه ورضي عني أستاذي)
(3)
.
وجاء في ترجمة القاضي أبي بكر بن زرب القرطبي (ت 381 هـ) أنه كان عليه مدار طلبته في المناظرة
(4)
. ومثل ذلك قيل في أبي جعفر بن رزق الأموي القرطبي (ت 477 هـ)
(5)
. ووُصف قطب الدين النيسابوري (ت 578 هـ) بأنه كان معروفًا بالفصاحة والبلاغة وتعليم المناظرة
(6)
.
وهذا التعليم كان له جانبان: علمي وأخلاقي، ولكل منهما جانبان: تنظيري وتطبيقي، فيتعلم المتفقه آداب البحث والمناظرة، ثم يكتسب الدربة في مجالس شيوخه ونظرائهم ويتخلق بأخلاقهم. وقد أفاض العلماء في بيان آداب المناظرة وأخلاق مجالسها، وإن كان ارتسام قانونها على الوجه الأكمل مما يعز وجوده. قال نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ): (ولا يقدر اليوم أحد على
(1)
رياضة المتعلمين (179).
(2)
الفقيه والمتفقه (651).
(3)
معجم الأدباء، ياقوت (4/ 1760).
(4)
انظر: ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 183).
(5)
انظر: الصلة، ابن بشكوال (1/ 109).
(6)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، السبكي (7/ 298).
تقرير الأسئلة والجواب عنها في مسألة على قواعد الجدل واصطلاح أهله، ولم أر ذلك إلا في الكتب الجدلية والطرائق الخلافية، وسبب ذلك ضعف مواد الأكثر عن تحقيقه، وحرصهم على ترجيح قولهم بغير طريقة)
(1)
. بل قال أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ): (والمشاغب المناظر في أكثر الأمر إذا أفحم استمر على اعتقاده وأحال بالقصور على نفسه، وقال: لو كان صاحب مذهبي حيًّا وحاضرًا لقدر على الانفصال عنه، وأكثر ما ذكره المتكلمون في مناظراتهم مع الفرق جدليات، وهكذا ما يجري في مناظرات الفقه. ولذلك لا تنكشف مناظرة عن تنبُّهٍ برجوعه عن مذهبه إلى غيره)
(2)
.
ومع هذا فقد انتهى إلينا من أخبار الفقهاء المناظرين من أخلاق الكمال في مجالس المناظرة ما يشرح الصدر ويبهج الخاطر، مما يحفز المتفقهين للاقتداء بهم والاهتداء بجميل آدابهم.
وقد تقدم غير مرة ذكر سبق الإمام الشافعي (ت 204 هـ) وعنايته البالغة في مجال المناظرة، حتى كان يعلم أصحابه ويدربهم عليها، بل قال فيه محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم (ت 268 هـ):(ما علَّم الناس الحجاج إلا الشافعي)
(3)
، وقال فيه يونس بن عبد الأعلى (ت 264 هـ):(كان يناظر الرجل فلا يزال يناظره حتى يقطعه، ثم يقول لمناظره: تقلَّد أنت الآن قولي وأتقلد قولك. فيتقلد المناظر قوله ويتقلد الشافعي قول المناظر، فلا يزال يناظره حتى يقطعه)، ولما ناظر محمد بن الحسن (ت 189 هـ) بمكة قال له محمد:(يا أبا عبد الله، إن ناظرتني بقولك خصمتني، وإن ناظرتني بقولي خصمتني)
(4)
.
واشتهر الشافعي بذلك حتى قال له الفضل بن الربيع (ت 208 هـ) وزير الرشيد مرة: أحب أن أسمع مناظرتك للحسن بن زياد اللؤلؤي (ت 204 هـ)، فقال الشافعي: ليس اللؤلؤي في هذه الجهة، ولكن أحضر بعض أصحابي يكلمه
(1)
علم الجذل (7).
(2)
ميزان العمل (353).
(3)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 208).
(4)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 179 - 180).
بحضرتك، فقال: أو ذاك
(1)
.
وكذلك أبو حنيفة (ت 150 هـ) من قبل كان يدرب أصحابه على المناظرة ويعلمهم إياها، وهذا أمر مشهور في سيرته وتعليمه، ومن أمثلة ذلك ما رواه محمد بن الحسن (ت 189 هـ) قال: كان أبو حنيفة قد حمل إلى بغداد، فاجتمع أصحابه جميعًا وفيهم أبو يوسف (ت 182 هـ) وزفر (ت 158 هـ) وأسد بن عمرو (ت 190 هـ) وعامة الفقهاء المتقدمين من أصحابه، فعملوا مسألة أيدوها بالحجاج وتنوَّقوا في تقويمها وقالوا: نسأل أبا حنيفة أول ما يقدم، فلما قدم أبو حنيفة كان أول مسألة سئل عنها تلك المسألة، فأجابهم بغير ما عندهم، فصاحوا به من نواحي الحلقة: يا أبا حنيفة، بلدتك الغربة! فقال لهم: رفقًا رفقًا، ماذا تقولون؟ قالوا: ليس هكذا القول، قال: بحجة أم بغير حجة؟ قالوا: بل بحجة، قال: هاتوا، فناظرهم فغلبهم بالحجاج حتى ردهم إلى قوله، وأذعنوا أن الخطأ منهم، فقال لهم: أعرفتم الآن؟ قالوا: نعم، قال: فما تقولون فيمن يزعم أن قولكم هو الصواب وأن هذا القول خطأ؟ قالوا: لا يكون ذلك، قد صح هذا القول، فناظرهم حتى ردهم عن القول، فقالوا: يا أبا حنيفة، ظلمتنا والصواب كان معنا، قال: فما تقولون فيمن يزعم أن هذا القول خطأ والأول خطأ والصواب في قول ثالث؟ فقالوا: هذا ما لا يكون، قال: فاستمعوا واخترع قولًا ثالثًا، وناظرهم عليه حتى ردهم إليه، فأذعنوا وقالوا: يا أبا حنيفة، علمنا، قال: الصواب هو القول الأول الذي أجبتكم به لعله كذا وكذا، وهذه المسألة لا تخرج من هذه الثلاثة الأنحاء، ولكل منها وجه في الفقه ومذهب، وهذا الصواب فخذوه وارفضوا ما سواه
(2)
.
ومن الحكايات التي تصف مجلسًا من مجالس تعليم المناظرة ما حكاه تاج الدين السبكي (ت 771 هـ) من أن بعض الفقهاء اجتمعوا إليه وسألوه أن يطلب من أبيه الشيخ تقي الدين (ت 756 هـ) أن يسمعهم المناظرة على طريق
(1)
انظر المناظرة في: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (2/ 80).
(2)
فضائل أبي حنيفة، ابن أبي العوام (111).
الجدل، حيث قال: (واجتمعنا ليلة أنا والحافظ تقي الدين أبو الفتح والأخ المرحوم جمال الدين الحسين والشيخ فخر الدين الأقفهسي وغيرهم، فقال لي بعض الحاضرين: نشتهي أن نسمع مناظرته، وليس فينا من يدل عليه غيرك.
فقلت له: الجماعة يريدون سماع مناظرتك على طريق الجدل. فقال: بسم الله.
وفهمت أنه إنما وافق على ذلك لمحبته فيَّ وفي تعليمي. فقال: أبصروا مسألة فيها أقوال بقدر عددكم، وينصر كل منكم مقالة يختارها من تلك الأقوال، ويجلس يبحث معي. فقلت أنا: مسألة الحرام. فقال: بسم الله، انصرفوا فليطالع كل منكم ويحرر ما ينصره. فقمنا وأعمل كل واحد جهده، ثم عدنا وقد كاد الليل ينتصف، وهو جالس يتلو هو وشيخنا المسند أحمد بن علي الجزري الحنبلي رحمه الله، فقال: عبد الوهاب هات، حسين هات. هكذا يخصني أنا وأخي بالنداء، فابتدأ واحد من الجماعة، فقال له: إن شئت كن مستدلًا وأنا مانع، وإن شئت بالعكس. فحاصل القضية أن كلًا منا صار يستدل على مقالته، وهو يمنعه ويبين فساد كلامه إلى أن ينقطع، ويأخذ في الكلام مع الآخر، حتى انقطع الجميع. فقال له بعضنا: فأين الحق؟ فقال: أنا أختار المذهب الفلاني الذي كنت يا فلان تنصره. ونصره إلى أن قلنا: هو الحق، ثم قال: بل أختار المذهب الذي كنت يا فلان تنصره. وهكذا أخذ ينصر الجميع، إلى أن قال له بعضنا: فأين الباطل؟ فقال: الآن حصحص الحق، المختار مذهب الشافعي، وطريق الرد على المذهب الفلاني كذا، والمذهب الفلاني كذا، والمذهب الفلاني كذا، وقرر ذلك كله إلى أن قضينا العجب، وكل منا يعرف أن أقل ما يكون للشيخ الإمام عن النظر في مسألة الحرام سنين كثيرة)
(1)
.
ولئن كان السادة الفقهاء يدربون المتفقهين في مجالسهم هذه على علم النظر، فلقد حكي عنهم من أخلاقهم ما جمعوا به مع حسن القول حسن العمل. فمن ذلك الرجوع إلى الصواب متى استبان لهم، ومن شواهد هذا ما
(1)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (10/ 203).
يرويه عبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ) من أن عبد الواحد بن زياد (ت 177 هـ) قال لزفر (ت 158 هـ): صرتم حديثًا في الناس وضحكة. قال: وما ذاك؟ قال: تقولون في الأشياء كلها: ادرؤوا الحدود بالشبهات، ادرؤوا الحدود بالشبهات. فصرتم إلى أعظم الحدود، فقلتم: يقام بالشبهات! قال: وما ذاك؟ قال عبد الواحد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقتل مؤمن بكافر))، وقلتم: يقتل به. قال: إني أشهدك أني قد رجعت عنه الساعة. قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) معلِّقًا على ذلك: (كان زفر بن الهذيل من أفاضل أصحاب أبي حنيفة، فلما حاجه عبد الواحد في مناظرته، وفتَّ في عضده بحجته، أشهده على رجعته؛ خيفةً من مدع يدعي ثباته على قوله الذي سبق منه بعد أن تبين له انه زلة وخطأ، وكذلك يجب على كل من احتُجَّ عليه بالحق أن يقبله ويسلم له، ولا يحمله اللجاج والجدل على التقحم في الباطل مع علمه به، قال الله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]
(1)
.
ومن الأخلاق الجميلة المحكية عن أئمة الهدى في مناظراتهم ما رواه العباس بن عبد العظيم العنبري (ت 246 هـ) قال: كنت عند أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وجاءه علي بن المديني (ت 234 هـ) راكبًا على دابة، قال: فتناظرا في الشهادة وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة، وعليٌّ يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه
(2)
.
ومن أخلاق الكمال في المناظرة ما حكاه أبو محمد بن حزم (ت 456 هـ) فقال: (ناظرت رجلًا من أصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء،
(1)
الفقيه والمتفقه (526). وحديث: ((لا يقتل مؤمن بكافر)). رواه أحمد (959) وغيره، من حديث علي رضي الله عنه وغيره.
(2)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 968). ومسألة الشهادة المذكورة يراد بها الشهادة بالجنة لمن شهد بدرًا والحديبية أو من جاء فيه أثر مرفوع.
فتطلبتها في بعض الكتب فوجدت برهانًا صحيحًا يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرَّفته بذلك، ثم رآني قد علمت على المكان من الكتاب، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل وأني راجع إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت، وقال لي: وتسمح نفسك بهذا! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخرته إلى غد. واعلم أن مثل هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله. ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب، أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيسًا وضيعًا جدًّا وسخيفًا البتة وساقط الهمة)
(1)
.
وبالرغم مما ذكر من كثرة توكيد العلماء على ضرورة التزام الآداب في مجالس النظر إلا أن انكفاف النفس عن بعض حدتها وانتصارها في مشاهد المغالبة عزيز، ولذا كره المناظرة من كرهها، ونأى بنفسه أو بغيره عنها من نأى؛ لأنه يتباعد بفضله عن المضايق التي ربما اضطرته إلى ما لا يرضاه لنفسه أو لغيره من الاستطالة. ومن الأمثلة على هذا ما روي من سؤال بعض الشافعية لأبي عمران الفاسي (ت 430 هـ) عن الحجة فيما يقوله في مجلس ضمه مع القاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403 هـ) ببغداد، فأطرق الشيخ أبو عمران، فرفع رأسه شاب من أهل بغداد من المالكية فقال للسائل: أصلحك الله، هذا شيخ من كبار شيوخنا، ومن الجفاء أن تكلفه المناظرة من أول وهلة، ولكن أنا أخدمه في نصرة هذه المسألة وأنوب عنه فيها
(2)
. وقال الشافعي (ت 204 هـ) لمحمد بن الحسين (ت 189 هـ) أوَّل ما سأله المناظرة: إني أجلك عن المناظرة
(3)
. وألح عليه في المناظرة يومًا في مسجد الخيف من
(1)
التقريب لحد المنطق من: رسائل ابن حزم (4/ 337).
(2)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 260).
(3)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 107).
مني، فقال له الشافعي: لا نريد ذلك؛ فإن المناظرة تنكت في القلب، ولك صداقة
(1)
. وقال عبد الله بن حسن (ت 145 هـ) في هذا المعنى: (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة)
(2)
. ولذا فإنه كثيرًا ما يعرض للمتصفح لأخبار الفقهاء أن يجد فقيهين من الفقهاء الكبار يُذكر (بينهما من المنافرة في المناظرة ما يكون بين الأقران)
(3)
.
وهذا مما يفسر سبب اعتزال جماعة من كبار الفقهاء لمجالس المناظرة بعدما كانوا واسطة العقد منها، وانصرافهم إلى التنسك والتعبد لله تعالى، كأبي يعقوب يوسف بن وهرة الهمذاني (ت 535 هـ) الذي تفقه بأبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ) حتى برع وفاق أقرانه خصوصًا في علم النظر (ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة وخلا بنفسه، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى ودعوة الخلق إليها وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم)
(4)
. وأبي الفتح الأسمندي (ت 552 هـ) الذي كان مناظرًا بارعًا من فحول فقهاء الحنفية، ثم إنه (تنسك وترك المناظرة واشتغل بالخير إلى أن توفي إلى رحمة الله)
(5)
.
وتقي الدين السبكي (ت 756 هـ) الذي تقدم وبرع وناظر، ثم (أعرض عن كثرة البحث والمناظرة، وأقبل على التلاوة والتأله والمراقبة)
(6)
.
وإنما انصرف هؤلاء وأمثالهم عن مجالس المناظرة للآفات التي عاينوها وتفطنوا لها، فإن هذه الآفات إن لم يتداركها علم وورع فإن صاحبها على خطر مما قد تفضي به إلى مآل السوء. ولهذا نبّه أهل العلم إلى التعامل بحذر مع المناظرات التي يحكيها أهل كل مذهب عن علمائهم، فإن الراوي ربما
(1)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 200).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 952).
(3)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (3/ 129).
(4)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (7/ 79).
(5)
الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (3/ 209).
(6)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (10/ 203).
تزيَّد في حكاية المناظرة ليظهر قدوته بمظهر الغالب، وربما كان مغلوبًا في نفس الأمر، ولذا فإن المناظرة الواحدة ربما حكاها أصحاب كل واحد من المتناظرَين، فنسب كل منهم صاحبه إلى الغلبة، وهذا كثير في المناظرات، مما يوجب الحيطة والتأني في نسبة الأقوال أو الأدلة كما قد تقدم ذكره
(1)
.
(1)
راجع في هذا المعنى: أصول الجدل والمناظرة، د. حمد العثمان (337).
تقدم في بيان معنى المناظرة أنها لاستخراج الصواب وإظهار الحق، وهذا بلا ريب غرض شريف من أغراضها، غير أن فائدة مجالس البحث والنظر غير مختصة بهذا المعنى، بل لها فوائد وثمرات كثيرة تكلم الفقهاء فيها وحثوا على الاعتناء بها، فمن ذلك ما يأتي بيانه:
1 -
استخرج ملكة التفقه:
فالتفقه لا يكون بالمطالعة ولا بالسماع المجردين، بل بالمناظرة والمناقشة والمخاوضة والمدافعة، فبذلك يستنبط الفقه من القلوب كما يستنبط الماء من أغواره، ولم تزل تلك جادة الفقهاء في تعليم الفقه وتفهيمه. وقد كان أبو حنيفة (ت 150 هـ) يتفقه بذلك، وكان كثيرًا ما يراجع شيخه حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) ويناظره
(1)
. بل قال الزرنوجي (ت 591 هـ): (وإنما تفقه أبو حنيفة رحمه الله تعالى بكثرة المطارحة والمذاكرة في دكانه حين كان بزازًا)
(2)
. كما كان يُفقِّه أصحابه بذلك، حيث روى سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) فقال: مررت بأبي حنيفة في المسجد، وإذا أصحابه حوله قد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة، ألا تنهاهم عن رفع الصوت في
(1)
انظر: فضائل أبي حنيفة وأخباره، ابن أبي العوام (107).
(2)
تعليم المتعلم طريق التعلم (19).
المسجد؟ فقال: دعهم فإنهم لا يتفقهون إلا هكذا
(1)
.
وكان قاضي القيروان أبو العباس بن طالب (ت 275 هـ) مشغوفًا بالمناظرة متطلعًا إليها، وكان يجمع في مجلسه بين المختلفين ويغري بينهما في المناظرة ويصل أهلها بالصلات الجزلة
(2)
.
فالمناظِر مع خصمه لا يكاد يرى الواحد منهما في حجة الآخر وهنًا إلا انقضَّ عليه من جهته، فيستفز خصمه إلى إحكام قوله وضبطه أو الرجوع عنه، وهذا مما تستحكم به مريرة المتفقه، ويتدرب عليه في مجالس المناظرة والمطارحة حتى يشتدَّ عوده، ومن لم يكن من أهل التحقيق والغوص في أصول المسائل ومبانيها دخل عليه الوهن ولم يثبت في المناظرة إلا باللجاج والمكابرة. فكان للمناظرة بذلك فضل التفهم والتأمل الذي يخرج بصاحبه عن جدِّ الاكتفاء بظاهر الخلاف، والاكتفاء بظاهر الخلاف دون فقه لمبانيه ومتعلقاته ضعف وعجز. قال أبو القاسم بن محرز القروي المالكي:(من لم يبلغ فكره إلى معرفة المعنى يفزع إلى الاستراحة من إتعاب فكره إلى التعلق بظاهر الاختلاف)
(3)
. والمتفقه لا يزال في جهدٍ من ذلك وعناء يتطلب منه كثرة المباحثة والمراجعة، حتى يعود ذلك له كالسجية والملكة التي استخرجها طول التعاهد والتدرب. قال أبو سليمان المنطقي (ت 371 هـ):(المناظرات دُربةٌ وتجربة)
(4)
.
2 -
تنظيم فكر المتفقه وتدريبه على الانضباط الفقهي والأصولي:
وذلك أن المناظرة لها أصولها وقواعدها التي من خرج عنها خرج من الضبط العلمي المنهجي إلى العبث والشغب، ولذا قال الفخر الرازي (ت 606 هـ) لإنسان ناظره فأخذه اللجاج: (إنك الآن خرجت عن قانون البحث
(1)
فضائل أبي حنيفة، ابن أبي العوام (108).
(2)
طبقات علماء إفريقية، الخشني (136).
(3)
سنن المهتدين، المواق (105).
(4)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (4/ 144).
والنظر وشرعت في تشغيب العوام والجهال)
(1)
.
فلابد للمتناظرين أن يفقه كلٌّ منهما حقيقة قوله وحجته ووجوه الدلالة منها ويدرك مبناها ومآلها وما يرد من الاعتراض عليها، ثم يلتزم مع ذلك بآداب البحث والنظر العلمية والأخلاقية، فإذا اختلَّ ذلك لم تُعرف مزية العالم على الجاهل. قال المزني (ت 264 هـ) لبعض مخالفيه في الفقه: من أين قلتم كذا وكذا؟ ولم قلتم كذا وكذا؟ فقال له الرجل: قد علمت يا أبا إبراهيم أنا لسنا لمِّية، فقال المزني: إن لم تكونوا لمية فأنتم إذن في عمِّية
(2)
.
ولهذا كان الفقهاء يعلِّمون طلبتهم ومناظريهم ضرورة الانضباط للخروج من المناظرة بنتيجة تعود على المتناظرين بالفائدة. ومثال ذلك نصيحة الإمام مالك (ت 179 هـ) للمغيرة (ت 186 هـ) بعد مناظرته لأبي يوسف (ت 182 هـ) حيث سأله المغيرة: كيف رأيت مناظرتي للرجل؟ فقال: رأيتك مستعليًا عليه، غير أنك كنت تترك شيئًا. قال: وما هو؟ قال: كنت إذا ظهرت عليه في مسألة فضاقت به، أخرجك إلى غيرها وتخلص منك بذلك، وكان ينبغي لك ألا تفارقه فيها حتى تفرغ منها
(3)
. وكان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة عدا منها إلى غيرها قال له: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد
(4)
. وقال أبو محمد بن حزم (ت 456 هـ): (واعلم أن من ترك ما هو فيه مع خصمه من المناظرة وخرج إلى مسألة أخرى، فجاهل مشغب منقطع، كمثل ما شاهدنا كثيرًا ممن ترك ما هما بسبيله، وجعل يتعقب لحن خصمه في كلامه، ولسنا نقول هذا نصرًا للحن ولكن نصرًا للحق وتركًا للاشتغال بغير ما شرعا فيه)
(5)
.
والفقيه أثناء المناظرة ربما نبَّهه خصمه إلى أمر لم يكن منه بحسبان، فأدرك من سياق الجدل مواضع الوهاء فيما يحتج به وله، فاستدرك الضعف
(1)
مناظرات فخر الدين الرازي في بلاد ما وراء النهر (20).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 968).
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 221)، مع تصحيح بعض الكلمات من طبعة أخرى للمدارك.
(4)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 197).
(5)
رسائل ابن حزم (4/ 330).
وأحكم القول، وبذلك تتمحص الآراء ويمتاز القوي من الضعيف، وفي هذا المعنى يقول محيي الدين بن الجوزي (ت 656 هـ) في فائدة الجدل:(ولولاه لاشتبه التحقيق في المناظرة بالمكابرة، ولو خُلِّي كل مدَّعٍ ودعوى ما يرومه على الوجه الذي يختاره، ولو مُكِّن كل مانع من ممانعة ما يسمعه متى شاء، لأدَّى ذلك إلى الخبط وعدم الضبط)
(1)
.
ومن الأمثلة على ذلك ما قاله أبو بكر قاضي القضاة الشامي الشافعي (ت 488 هـ) لما عقد له مجلس ببغداد، وناظره الغزالي (ت 505 هـ) واحتج عليه بأن الإجماع منعقد على خلاف ما عملت به، فقال الشامي: إذا كنت أنا الشيخ في هذا الوقت أخالفكم على ما تقولون، فبمن ينعقد الإجماع؟ بك وبأصحابك؟
(2)
.
3 -
تصور الحقائق والتعريف بمآلات الأقوال:
فالمناظرة لها غرض لا بد من المحافظة عليه، ولا سبيل إلى المحافظة إلا بمعرفة ما هو الأصل، ومعرفة كيفية البناء على ذلك الأصل
(3)
. فإن اعترضت شبهة في المعنى تمنع من تصوره (فينبغي أن يزيل تلك الشبه عن نفسه بالسؤال والنظر؛ ليصل إلى تصور المعنى وإدراك حقيقته. ولذلك قال بعض العلماء: لا تخل قلبك من المذاكرة فيعود عقيمًا، ولا تعف طبعك من المناظرة فيصير سقيمًا)
(4)
.
ويروى عن زفر (ت 158 هـ) أنه قال: إني لست أناظر أحدًا حتى يقول: لقد أخطأت، ولكن أناظره حتى يجن. قيل: فكيف يجن؟ قال: يقول بما لم يقله أحد
(5)
.
(1)
الإيضاح (5).
(2)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 34).
(3)
الكافية، الجويني (540).
(4)
أدب الدين والدنيا، الماوردي (105).
(5)
أخبار أبي حنيفة وأصحابه، الصيمري (110).
فالمناظرة تبصِّر أطرافها بحقيقة قولهم، كما تُعرِّفهم بمآلات قولهم ولوازم مذهبهم وتبعات استرسالهم في معناه، فربما اضطرتهم المكابرة إلى التزام ذلك حتى يقولوا بما هو خارج عن كلام العقلاء، إلا أن يكون لهم من ذلك مخرج صحيح أو رجوع عن مذهبهم الذي بصرتهم المناظرة بمآلاته.
4 -
معرفة أقدار الفقهاء ومراتبهم والتفاضل بينهم:
ومن ذلك أن مناظرة الفقهاء الواردين على البلد من قبل فقهائه كانت سبيلًا إلى معرفة فضلهم ورتبتهم في العلم والفقه، وهذا كثير في الأخبار والسير، كأبي سعيد البوشنجي (ت 536 هـ) الذي دخل نيسابور وحضر مجالس النظر فارتضاه الأئمة الفقهاء
(1)
. وربما تولى بذلك خطة من خطط البلد من قضاء أو إفتاء ونحوه، كأبي معمر الروياني (ت 531 هـ) الذي دخل مرو وناظر فيها حتى فوَّض إليه وزيرها قضاءها
(2)
.
والتصرف في مضايق النظر في المجالس بحضرة الفقهاء بمقال سديد وجواب حاضر لا يكون إلا من ذوي الفهم الراسخ والمكابدة الطويلة للعلم ومسائله، قال ابن عبد البر (ت 463 هـ):(ليس كل عالم تتأتى له الحجة ويحضره الجواب ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجة، ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة ومذاكرة، والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم)
(3)
. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (وليس كل من وجد العلم قدر على التعبير عنه والاحتجاج له، فالعلم شيء، وبيانه شيء آخر، والمناظرة عنه وإقامة دليله شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفه شيء رابع)
(4)
.
وحسبك لتعلم فضل مثل هذا أن ترى في الناس مثل ذلك الذي حكى
(1)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (7/ 49).
(2)
التحبير في المعجم الكبير، السمعاني (1/ 476).
(3)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 968).
(4)
جواب الاعتراضات المصرية (44).
عنه أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) فقال: (ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلًا يناظر في مجلس حفل وقد استدل الخصم عليه بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال: هذه دلالة فاسدة، ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه! فأمسك عنه المستدل تعجبًا؛ لأن شيخه كان محتشمًا. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل رأي هذا الجاهل، ثم أقبل المستدل عليَّ وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله. وصار سائر الناس المبرَّئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب، ومستعيذ بالله من جهل مُغرب)
(1)
.
فمثل هؤلاء يصدق عليهم قول العز بن عبد السلام (ت 660 هـ): (فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه! ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح.
فسبحان الله! ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته.
وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم)
(2)
.
5 -
التكامل العلمي:
فالمناظرة داعية إلى الاشتغال بعلوم لا تستقيم المناظرة بدونها، وربما دخل النقص في المناظرة من جهة فقدانها أو نقصانها، والمتفنن في العلوم أقدر على التخوض في المعاني المشتركة وكثرة الإيراد على الخصوم من العري من ذلك. بلى ربما كان الخصم راسخًا في فنه رسوخ المتمكن الذي يتسلط بعلمه ووفور عقله على إيرادات خصمه، غير أن الجامع بين الأمرين أكمل وأمكن من غيره. قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ): (ما ناظرت قط رجلًا مفنَّنًا في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد من العلم
(1)
أدب الدين والدنيا، الماوردي (122).
(2)
قواعد الأحكام (2/ 275).
إلا غلبني فيه)
(1)
.
وكان ابن فارس اللغوي (ت 395 هـ) إذا وجد فقيهًا أو متكلمًا أو نحويًّا أمر أصحابه بسؤاله، وناظره في مسائل من جنس العلم الذي يتعاطاه، فإن وجده برعًا جدلًا جرَّه في المجادلة إلى اللغة فيغلبه عليها، وكان يحث الفقهاء دائمًا على اللغة ويلقي عليهم مسائل ذكرها في كتاب سماه (فتيا فقيه العرب) ويخجلهم بذلك؛ ليكون الخجل دعاية لهم إلى حفظ اللغة
(2)
.
6 -
نضج الآراء واستحكامها وظهور الصواب:
وقد مضى ذكر ذلك وأنه الغرض من المناظرة. قال ابن الجوزي (ت 597 هـ): (المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب، وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق، وقد كانوا ينتقلون من دليل إلى دليل وإذا خفي على أحدهم شيء نبهه الآخر؛ لأن المقصود كان إظهار الحق)
(3)
. وقال الزرنوجي (591 هـ): (ولا بد لطالب العلم من المذاكرة والمناظرة والمطارحة، فينبغي أن يكون بالإنصاف والتأني من المباحثة والإنصاف، ولا يحصل ذلك بالشغب والغضب)
(4)
. وقد تجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صار الحق في أهله
(5)
.
ولا يلزم لظهور الحق إذعان الخصم له، بل يكفي انقطاعه وذهاب حجته، فأما التسليم والانتقال إلى قول الآخر فهو حاصل كثيرًا في مناظرات الفقهاء، غير أنه ليس بلازم في ظهور الصواب، فالمشتغلون بالعلم فضلًا عن
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 973).
(2)
انظر: فتيا فقيه العرب (456)، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء الأول، المجلد الثالث والثلاثون (1377 هـ).
(3)
تلبيس إبليس (120).
(4)
تعليم المتعلم (18).
(5)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (2/ 959).
العلماء يميزون بين المناظرة والمكابرة، وقد قال الملك الناصر صلاح الدين (ت 589 هـ) واصفًا بعض مجالس النظر:(كان المجير الفقيه يتكلم مع الجمال الحنفي، فكان الجمال يبقبق، والمجير يحقق)
(1)
. وقال القاضي أبو يوسف (ت 189 هـ): (إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب)
(2)
.
وقال الشافعي (ت 204 هـ): (لا يمكن أحدًا من الخلق يكلم أحدًا وإن كان نبيًّا مرسلًا حتى يذهب لسان الآخر، ولكن بحسبك أن يستبين عند ذوي الأقدار أنه قد قام بالحجة)
(3)
. وقال ابن حزم (ت 456 هـ): (واقنع من خصمك بالعجز عن أن ينصر قوله، ولا تطالبه بالإقرار بالغلبة، فليس ذلك من فعال أهل القوة. وهذا باب لا ينتج شيئًا إلا العداوة وأن توصف بلؤم الظفر)
(4)
.
7 -
رسوخ العلم وبقاؤه وثباته:
فإن المناظرة فيها مزيد بحث ونظر وتدقيق من شأنه أن يثبت العلم ويوثقه، وفائدتها أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيها تكرارًا وزيادة
(5)
.
والذي ينهض للجدال في مسألة منتصرًا لها وذابًا عن حجتها أثبت فيها ممن قنع من ذلك بالدرس المجرد، وإدمان المناظرة مع الأقران على جهة التعلم أمكن للعلم في قلوب المتناظرين، وكان هذا من دأب الفقهاء في تحصيلهم للفقه ومذاكرتهم له، حتى ذكر عن الإسبيجابي (ت 535 هـ) أنه لم يترك وشريكه في المناظرة الجلوس لها كل يوم حتى تمَّ لهما اثنتا عشرة سنة على ذلك
(6)
.
قال الوزير ابن هبيرة (ت 560 هـ): (فأما هذا الجدل الذي يقع بين أهل المذاهب فإنه أرفق ما يحمل الأمر فيه بأن يخرج مخرج الإعادة والدرس؛
(1)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 427).
(2)
البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي (8/ 23).
(3)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 128).
(4)
رسائل ابن حزم (4/ 339)، وانظر صور الانقطاع في: الجدل عند الأصوليين، د. مسعود فلوسي (256).
(5)
انظر: تعليم المتعلم، الزرنوجي (18).
(6)
تعليم المتعلم (21).
ليكون الفقيه به متعبدًا محفوظه ودارسًا ما يعلمه)
(1)
.
8 -
التعليم بالمناظرة وبعث الهمة على التعلم:
قال الإمام مالك (ت 179 هـ): (إنما يناظر العالم ليتعلم الناس فيما بينهم، أو عالم يتعلم الناس منه)
(2)
. وذلك أن المناظرة فيها شرح للخلاف على صورة المحاورة بين المختلفين، فيذكران الأقوال والأدلة ويحتج كل منهما لمذهبه، وهذه الصورة داعية إلى حسن الفهم إن جرت على مقتضى أفهام الحضور، وما يتفق فيها من براعة الاحتجاج والاعتراض والتمكن من قواعد الشرع وفروعه والغوص في معانيه مما يستفز المتعلم إلى الاقتداء بأهل البحث والنظر. قال تاج الدين السبكي (ت 771 هـ):(ما يقع في المغالطات والمغالبات في مجالس النظر يحصل به من تعليم إقامة الحجة ونشر العلم وبعث الهمم على طلبه ما يعظم في نظر أهل الحق)
(3)
. وقال الخليل بن أحمد (ت 170 هـ): (واجعل مناظرة المتعلم تنبيهًا على ما ليس عندك)
(4)
.
وكان هذا من سبيل أهل العلم في مناظراتهم، فكما يقصدون بها تحري الصواب والرد على المخالف فيه، فكذلك كان من همتهم فيها تعليم من حضرها وجوه الاحتجاج والاستدلال والرد والاعتراض. ومن ذلك ما روى الحارث بن سريج النقال (ت 236 هـ) فقال: دخلت على الشافعي (ت 204 هـ) يومًا وعنده أحد بن حنبل (ت 241 هـ)، والحسين القلَّاس، وكان الحسين أحد تلاميذ الشافعي المقدَّمين في حفظ الحديث، وعنده جماعة من أهل الحديث، والبيت غاص بالناس، وبين يديه إبراهيم بن إسماعيل بن علية (ت 218 هـ)، وهو يكلمه في خبر الواحد، فقلت: يا أبا عبد الله، عندك وجوه
(1)
الإفصاح (9/ 52)، ولعلها (متعيِّدًا) بالياء لا الباء كما هي مثبتة، وفي المسودة (541) نقلًا عن الوزير:(فإنه أوفق ما يحمل الأمر فيه بأن يخرج مخرج الإعادة والتدريس، فيكون الفقيه به معيدًا محفوظه ودارسًا ما يعلمه).
(2)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 220).
(3)
طبقات الشافعية الكبرى (4/ 62).
(4)
البيان والتبيين، الجاحظ (1/ 274).
الناس، وقد أقبلت على هذا المبتدع تكلمه! فقال لي وهو يتبسَّم: كلامي لهذا بحضرتهم أنفع لهم من كلامي لهم، قال: فقالوا: صدق
(1)
.
وأثر مجالس المناظرات في حفز همة الطلاب وتهييجهم على البحث والنظر أمر مشهور وأمثلته لا تحصى، حتى إن أبا حامد الغزالي (ت 505 هـ) وهو الذي اعتزل المناظرة ونبَّه على آفاتها قال في شأنها: (بل أقول: إن كان الناس لا يرغبون في تعلم العلم لله، فينبغي أن يدعوهم إلى نوع من العلم يستفاد به الرياسة بالإطماع في الرياسة، حتى يستدرجهم بعد ذلك إلى الحق.
ولهذا رؤي الرخصة في علم المناظرة في الفقهيات؛ لأنها بواعث على المواظبة لطلب المباهاة أولًا، ثم بالآخرة يتنبه لفساد قصده ويعدل عنه إلى المنهج القويم)
(2)
.
(1)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (6/ 512).
(2)
ميزان العمل (365).