الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الأول
مجلس التعليم
قال الله جل جلاله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]
قال ابن عباس رضي الله عنه: (هم الفقهاء المعلِّمون).
(تفسير ابن أبي حاتم/2/ 691)
(ذهب العلماء فلم يبق إلا المتعلمون، ما المجتهد فيكم اليوم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم). مجاهد.
(تاريخ ابن أبي خيثمة/1/ 293)
(لا ينبغي لأحد عنده علم أن يترك التعليم). الإمام مالك.
(ترتيب المدارك، القاضي عياض/1/ 153)
(المدار على حصول غاية التعليم، وهي الوصول للمقصود من الهداية إلى ما الإنسان بصدده، لا كثرة الطلبة من غير وصول أحد منهم لذلك).
(ثبت الإمام ابن حجر الهيتمي/409)
(والإنسان بالتعلم والتكلف وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء يجود لفظه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم).
(البيان والتبيين، الجاحظ/1/ 86)
(والعرب كانوا إذا ما استولوا على مدينة صرفوا همَّهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيها).
(حضارة العرب، غوستاف لوبون/434)
(إذا ما سبَّ البحَّارة قبطانهم، وسبًّ المرضى طبيبهم، فإلى من عساهم يُصغون؟).
(التأملات، ماركوس أوريليوس/132)
مجلس التعليم رأس مجالس الفقه وتاجها، وزينتها وسراجها، وهو مجلس النبي الأعظم والرسول الأكرم والمعلم الأقدم صلى الله عليه وسلم، قال الله جل جلاله:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله لم يبعثني معنِّتًا ولا متعنِّتًا ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا))
(1)
، وروى ابن ماجه والدارمي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((وإنما بُعثت معلِّمًا))
(2)
، وقال قائل لسلمان الفارسي رضي الله عنه:(علمكم نبيِّكم صلى الله عليه وسلم كل شيء)
(3)
.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم خير المعلمين ومقدَّمهم، وأكثرهم علمًا وأحسنهم تعليمًا وتفهيمًا، وكان من كرامة الله جل جلاله له أن هيَّأ له من الأصحاب ثُلَّةً هم سادة الفقهاء من أمته، وآتاهم من الفهم والنجابة والذكاء والتقوى ما مكنهم به من أن يكونوا خير حملة لدينه الخاتم، فنهضوا يعلمون الأمة ويؤدبونها بآداب الشريعة ويفقهونها في دين الله تعالى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدهم بالعلم والفقه، ويعلمهم كيف يجتهدون ويستنبطون، وكيف يعلمون الناس من بعده،
(1)
صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية (1478).
(2)
سنن ابن ماجه، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (229)، سنن الدارمي، المقدمة، باب في فضل العلم والعالم (361).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة (262).
فكان صلى الله عليه وسلم خير المعلِّمين وكانوا خير المتعلمين رضي الله عنهم. قال أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ): (اعلم أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه ولازموه كانوا فقهاء)
(1)
. وقال أبو شامة المقدسي (ت 665 هـ): (والفقه كان شعار أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه ولازموه، ورُزقوا فهم ما تلقوه عنه وسمعوه)
(2)
.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده ويلتف حوله أصحابه رضي الله عنه على هيئة الحلقة التي هي كالهضبة الشماء، والذروة التي تفاخر بها الأرض السماء، وقد سبق من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه في حديث النفر الثلاثة:(فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا)
(3)
. وكان الصحابة رضي الله عنه يتنافسون في مجلسه صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11]، قال قتادة (ت 117 هـ):(كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلًا ضنُّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض)
(4)
. وقد كان له صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه رضي الله عنه من الجلالة والهيبة وعظم الشأن ونفوذ الأمر ما أغناه الله به عن تكلف هيئة سوى هيئة المتخشع
(5)
،
(1)
طبقات الفقهاء (35)، وانظر: تنمية مهارة الاستنباط الفقهي في المنهج التعليمي النبوي، د. أنور الشلتوني، ضمن أعمال ندوة (صناعة التميُّز وتنمية المهارات في السُّنَّة النبوية) بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي (1/ 233).
(2)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (64).
(3)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس (66)، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب من أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها (2176).
(4)
تفسير الطبري (22/ 477). والتفسير على إفراد (المجلس) وهي قراءة سوى عاصم (ت 127 هـ)، وقال مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) في تأويل قراءة عاصم:(قرأه عاصم بالجمع لكثرة مجالس القوم، فهو وإن أريد به مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فإن لكل واحد ممن هو في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا، فجُمع لكثرة ذلك). الكشف عن وجوه القراءات السبع (2/ 314).
(5)
روى أبو داود في كتاب الأدب، باب جلوس الرجل (4814) من حديث قليلة بنت مخرمة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المختشع-وفي لفظ: المتخشع-في الجلسة أُرعدتُ من الفرق.
فكان على أكمل هيئة يكون عليها معلِّم، كما كان أصحابه على أكمل هيئة يكون عليها متعلم. ومع ذلك فقد آتاه الله من حسن التعليم وأساليبه ووسائله، ومن حسن تربية أصحابه وتزكية نفوسهم وإصلاح أخلاقهم ما هو معلوم مشهور، وقد قال فيه معاوية بن الحكم رضي الله عنه:(فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه)
(1)
.
فهذه الحال التي كان عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في التعليم كانت أكمل الأحوال، فإن من الناس من يكون غزير العلم تام المعرفة جليل الحكمة، غير أنه ليس له من أدوات البيان ما يتمكن به من توريث علمه، أو لا يتهيأ له من طلبة العلم من يكونون بإزاء تعليمه وتفهيمه، وقد روي من كلام الليث بن سعد (ت 175 هـ):(ما هلك عالم قط إلا ذهب ثلثا علمه ولو حرص الناس)
(2)
. ومتى اجتمع في المعلِّم العلم الراسخ مع البيان التام، وتوافر في أصحابه الفهم والحرص والنجابة وحسن النية أفلح التعليم ورشد، ولم تجتمع هذه الهيئة قط كما اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كالغيث الذي أغاث الله جل جلاله به الأرض، وكان أصحابه رضي الله عنه كالأودية التي تجري في الأرض فتحيا بها البلاد والعباد. قال شهاب الدين القرافي (ت 684 هـ) واصفًا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (كانوا بحارًا في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم الباطنة والظاهرة
…
مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرأوا كتابًا، ولا تفرغوا من الجهاد وقتل الأعداء، ومع ذلك فإنهم كانوا على هذه الحالة
(1)
صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة (537). وراجع في كمالاته وأساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم كتاب ((الرسول المعلم))، د. عبد الفتاح أبو غدة. واقرأ في وصف مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم مقالًا مهيبًا للطاهر بن عاشور بعنوان ((مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم) في: جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور (2/ 663).
(2)
ربيع الأبرار، الزمخشري (3/ 295). ويشبه هذا المعنى قول إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس (ت 132 هـ):(يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتي السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتي الناطق من سوء فهم السامع)، قال أبو عثمان الجاحظ (ت 255 هـ):(أما أنا فأستحسن هذا القول جدًّا).
البيان والتبيين (1/ 87).
ببركته صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته)
(1)
. ثم إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مجلس التعليم من مجالس الكمال في الإفتاء والقضاء والإصلاح والنصيحة والتأديب وسائر مراتب الرسالة ما هو فيه أسوة لأمته وقدوة لهم
(2)
. والعلماء والفقهاء بعده تبع له صلى الله عليه وسلم وورثة في تبليغ الدين وحمله والجلوس في مجالس الفقه المختلفة في أغراضها ومقاصدها.
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم ساروا في الأرض بعد النبي صلى الله عليه وسلم مسار الرياح اللواقح المبشِّرات، فكانوا يلقون حيث حلوا من البلاد من حملة العلم والفقه من يتلقى عنهم ما تحملوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والإيمان، فظل يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له، وقامت سوق العلم وعمرت مجالس الفقه أمصار المسلمين في كل أرض بلغتها خيولهم.
وكان طالب الفقه يجالس الفقيه ويلزمه، ويصبر على ما يلقاه من التعب والنصب، ويحتمل الخوض في دقائق العلم وعويص المسائل، ولا يترك ملازمة الفقهاء حتى يفقه مثلهم. فقد روي أنه اجتمع إبراهيم الحربي (ت 285 هـ) وأحمد بن يحيي ثعلب (ت 291 هـ) فقال ثعلب لإبراهيم: متى يستغنى الرجل عن ملاقاة العلماء؟ فقال له إبراهيم: إذا علم ما قالوا، وإلى أي شيء ذهبوا فيما قالوا
(3)
. وقيل لأبي حنيفة (ت 150 هـ): في المسجد حلقة ينظرون في القه. فقال: لهم رأس؟ قالوا: لا. قال: لا يفقه هؤلاء أبدًا
(4)
.
فملازمة المتفقه للفقيه ضرورة تعليمية لا يمكن أن يتفقه طالب الفقه بدونها، فإن العلماء ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة بملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أخذوا عنه العلم والإيمان والعمل والتقوى فكان أسوة لهم في شأنهم كله، وهم في تفقههم وتعلمهم من النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتعلمون من كلامه وسكوته وقوله وفعله
(1)
الفروق (4/ 1305).
(2)
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور (212).
(3)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (6/ 533).
(4)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (565).
ومدخله ومخرجه وسمته وهديه وتصريحه وتلميحه وإشارته ومن شأنه كله، وكذلك العلماء الذين هم ورثته صلى الله عليه وسلم ليس الأخذ عنهم يقتصر على حفظ المسائل ونقلها، بل في مجالس الفقه إلحاق للأواخر بالأوائل، ووصل لخلف الأمة بسلفها في العلم والعمل والفقه والأدب واليقين.
ولا يضير المعلم في ذلك أن يكون المتعلم أعلم منه، فإن المتعلم ربما كان كذلك، قال أبو عثمان بن الحداد (ت 302 هـ):(المتعلم قد يكون أعلم من المعلم وأفقه وأفضل)
(1)
، ومع ذلك فإن الشيخ ربما كان معه من الحكمة ومعرفة وجوه العلم ما هو مفتقر إلى طول الاشتغال وامتداد الزمان وكثرة التجارب، فيكون أقعد بالعلم وإن كان بعض طلبته أكثر منه علمًا. وقد سمع الأحنف (ت 67 هـ) رجلًا يقول:(التعلم في الصغر كالنقش في الحجر) فقال الأحنف: (الكبير أكبر عقلًا، ولكنه أشغل قلبًا)
(2)
. ومعاودة العلم ومراجعته مما يتجدد به الفهم مع تطاول الزمان، ويبدو لصاحبه منه بالتفكر فيه وبانضمام غيره إليه، والتفطن لشواهده وأمثاله ونظائره ما كان عازبًا عن ذهنه أول أمره، فيكون للكبير بذلك فضل على الصغير وإن فاقه معرفة. قال ابن سينا (ت 428 هـ) واصفًا دراسته للعلم:(فلما بلغت ثمانية عشر عامًا من العمر فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء)
(3)
.
وقد جرت لأبي يوسف (ت 182 هـ) مع شيخه أبي حنيفة (ت 150 هـ) حكاية مشهورة، حيث مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أبو حنيفة مرارًا فلما رآه ثقيلًا استرجع وقال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم إن أبا يوسف رزق العافية وخرج من العلة، وأُخبر بقول أبي حنيفة فيه، فارتفعت نفسه وانصرفت وجوه الناس إليه،
(1)
رياض النفوس، المالكي (2/ 87)، سير أعلام النبلاء، الذهبي (14/ 211).
(2)
البيان والتبيين، الجاحظ (1/ 257).
(3)
تاريخ الإسلام، الذهبي (29/ 222)، الطبقات السنية، الغزي (3/ 139).
فعقد لنفسه مجلسًا في الفقه وقصَّر عن لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأُخبر أنه قد عقد لنفسه مجلسًا وأنه بلغه كلامك فيه، فبعث إليه أبو حنيفة رجلًا كأنه سائل يسأله عن مسألة، فقصَّر أبو يوسف فيها وراح إلى أبي حنيفة يسأله عنها، فعاتبه أبو حنيفة وقال له:(من ظنَّ أنه يستغني عن التعليم فليبك على نفسه)
(1)
.
فكان من هدي المتفقه ملازمة الشيخ حتى يتفقه به وينتفع بطول صحبته، قال أبو الدرداء رضي الله عنه:(من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه ومجلسه مع أهل العلم)
(2)
، وسئل أبو حنيفة (ت 150 هـ): من أين لك هذا الفقه؟ فقال: (كنت في معدن العلم والفقه، فجالست أهله، ولزمت فقيهًا من فقهائهم يقال له حماد فانتفعت به)
(3)
، وقال:(لقد لزمت حمادًا لزومًا ما أعلم أن أحدًا لزم أحدًا مثل ما لزمته)
(4)
، وقال:(قدمت البصرة فظننت أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبت عنه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي أن لا أفارق حمادًا حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة)
(5)
، وقال الإمام مالك (ت 179 هـ):(كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه)
(6)
. وقال: (انقطعت إلى ابن هرمز (ت 148 هـ) سبع سنين- وفي رواية: ثماني سنين-لم أخلطه بغيره، وكنت أجعل في كمِّي تمرًا وأناوله صبيانه، وأقول لهم: إن سألكم أحد عن الشيخ، فقولوا: مشغول)
(7)
، وسئل مالك:
(1)
انظر تمام الحكاية في: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (496). وذكر ابن نجيم في الأشباه والنظائر (512) أن أبا حنيفة بعث السائل بخمس مسائل، حتى قال أبو حنيفة لأبي يوسف كلمته المشهورة:(تزببت قبل أن تحصرم). وقالها أيضًا أبو علي الفارسي (ت 377 هـ) لتلميذه أبي الفتح بن جني (ت 392 هـ) لما فارقه فاجتاز به في حلقته والناس حوله يشتغلون عليه، فقال له:(زببت وأنت حصرم)، فترك حلقته وتبعه ولازمه حتى تمهر. انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 246).
(2)
حلية الأولياء، أبو نعيم (1/ 211)، جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 510).
(3)
مناقب الإمام الأعظم، الموفق المكي (1/ 56).
(4)
مناقب الإمام الأعظم، الموفق المكي (1/ 58). وانظر حكايته مع الشعبي في (1/ 59).
(5)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (15/ 457).
(6)
حلية الأولياء، أبو نعيم (6/ 320).
(7)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 108).
أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ فقال: لا
(1)
. وقال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ): (ولا بد للمتفقه من أستاذ يدرس عليه، ويرجع في تفسير ما أشكل إليه، ويتعرف منه طرق الاجتهاد، وما يفرق به بين الصحة والفساد)
(2)
.
وهكذا كان الفقهاء يتلقون علم الفقه في سلسة كريمة تصل المتفقِّه بأسلافه في العلم، ومن أمثلة ذلك تلك السلسة الكريمة التي ساق فيها النووي (ت 676 هـ) أسلافه في الفقه فقال:(فصلٌ في سلسلة التفقه لأصحاب الشافعي رحمة الله عليه، منهم إلى الشافعي رحمه الله ثم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من المطلوبات المهمات والنفائس الجليلات التي ينبغي للمتفقه والفقيه معرفتها وتقبح به جهالتها؛ فإن شيوخه في العلم آباء في الدين، وصلة بينه وبين رب العالمين، وكيف لا يقبح جهل الإنسان والوصلة بينه وبين ربه الكريم الوهاب، مع أنه مأمور بالدعاء لهم وبرهم وذكر مآثرهم والثناء عليهم وشكرهم، فأذكرهم مني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يعرف من كان في عصرنا وبعده طريقه باجتماعها هي وطريقتي قريبًا. فأما أنا فأخذت الفقه قراءة وتصحيحًا وسماعًا وشرحًا وتعليقًا عن جماعات، أولهم شيخي الإمام المتفق على علمه وزهده وورعه وكثرة عبادته وعظم فضله وتميزه في ذلك على أشكاله، أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثم المقدسي (ت 650 هـ) رضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيني وبينه وبين سائر أحبابنا في دار كرامته مع من اصطفاه، ثم شيخنا أبو محمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي (ت 654 هـ)، الإمام العارف الزاهد العابد الورع المتقن مفتي دمشق في وقته رحمه الله، ثم شيخنا أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الرَّبِعي بفتح الباء الأربلي (ت 689 هـ)، الإمام المتقن رضي الله عنه، ثم شيخنا أبو الحسن سلار بن الحسن الأربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي (ت 670 هـ)،
(1)
إسعاف المبطأ، السيوطي (2/ 296). مطبوع بذيل الموطأ.
(2)
الفقيه والمتفقه (656). وانظر في أهمية صحبة الشيوخ المتحققين بالعلم وفائدة ملازمتهم: الموافقات، الشاطبي (1/ 139)، معالم إرشادية لصناعة طالب العلم، محمد عوامة (159).
المجمع على إمامته وجلالته وتقدمه في علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي رضي الله عنه. وتفقَّه شيوخنا الثلاثة الأولون على شيخهم الإمام أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح (ت 643 هـ)، وتفقه هو على والده (ت 618 هـ)، وتفقه والده في طريقة العراقيين على أبي سعيد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن أبي عصرون الموصلي (ت 585 هـ)، وتفقه أبو سعيد على القاضي أبي علي الفارقي (ت 528 هـ)، وتفقه الفارقي على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ)، وتفقه الشيخ أبو إسحاق على القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (ت 450 هـ)، وتفقه أبو الطيب على أبي الحسن محمد بن على بن سهل بن مصلح الماسرجسي (ت 384 هـ)، وتفقه الماسرجسي على أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي (ت 340 هـ)، وتفقه أبو إسحاق على أبي العباس أحمد بن عمر بن سريج (ت 306 هـ)، وتفقه ابن سريج على أبي القاسم عثمان بن بشار الأنماطي (ت 288 هـ)، وتفقه الأنماطي على أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيي المزني (ت 264 هـ)، وتفقه المزني على أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه (ت 204 هـ)، وتفقه الشافعي على جماعات، منهم أبو عبد الله مالك بن أنس (ت 179 هـ) إمام المدينة، ومالك على ربيعة (ت 136 هـ) عن أنس رضي الله عنه، وعلى نافع (ت 117 هـ) عن ابن عمر رضي الله عنه، كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. والشيخ الثاني للشافعي رحمه الله سفيان بن عيينة (ت 198 هـ) عن عمرو بن دينار (ت 126 هـ) عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنه. والشيخ الثالث للشافعي رضي الله عنه أبو خالد مسلم بن خالد (ت 180 هـ) مفتي مكة وإمام أهلها، وتفقه مسلم على أبي الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت 150 هـ)، وتفقه ابن جريج على أبي محمد عطاء بن أسلم أبي رباح (ت 114 هـ)، وتفقه عطاء على أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وأخذ ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب وعلى وزيد بن ثابت وجماعات من الصحابة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما طريقة أصحابنا الخراسانيين، فأخذتها عن شيوخنا المذكورين، وأخذها شيوخنا الثلاثة عن أبي عمرو (ت 643 هـ) عن والده (ت 618 هـ) عن أبي القاسم بن البزري
الجزري (ت 560 هـ) عن أبي الحسن علي بن محمد بن على الكيا الهراسي (ت 504 هـ) عن أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف إمام الحرمين (ت 478 هـ) عن والده أبي محمد (ت 438 هـ) عن أبي بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير (ت 417 هـ)، وهو إمام طريقة خراسان، عن أبي زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي (ت 371 هـ) عن أبي إسحاق المروزي (ت 340 هـ) عن ابن سريج (ت 306 هـ) كما سبق. وتفقه شيخنا الإمام أبو الحسن سلار على جماعات، منهم الإمام أبو بكر الماهاني، وتفقه الماهاني على ابن البزري بطريقه السابق، فهذا مختصر السلسلة. ومعلوم أن كل واحد من هؤلاء أخذ عن جماعة بل جماعات، لكن أردت الاختصار وبيان واحد من شيوخ كل واحد، وذكرت أجلهم وأشهرهم له)
(1)
. ومن البرِّ الجميل في سيرة السادة الفقهاء والأئمة العلماء إكبارهم لشيوخهم الذين تلقَّوا عنهم العلم ممن وقعوا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في تلقي علم الشريعة، فمن ذلك أن النووي (ت 676 هـ) عندما يرد ذكر بعض شيوخه المذكورين في سلسة التفقه يصفهم بأنهم (أجداده)، كما في قوله:(وقال الشيخ أبو إسحاق (ت 476 هـ) في ((الطبقات)): كان مسلم بن خالد مفتي مكة بعد ابن جريج، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة، وقيل: سنة ثمانين ومائة. قال: وأخذ عنه الشافعي رضي الله عنه الفقه. قلت: ومسلم رضي الله عنه أحد أجدادنا في سلسلة الفقه المتصلة منا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
. وقوله: (ومن أجلِّ من تفقَّه عليه الماسرجسي أبو إسحاق المروزي، ومن أجلِّ من تفقه على الماسرجسي القاضي أبو الطيب الطبري، وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
. وقريب منه قول ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) بعد ذكره لسلسلته في الفقه من طرق عدَّة: (فبيننا وبين الشافعي رضي الله عنه من
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 17).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 93).
(3)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 213).
الطريقة الأولى خمسة عشر أبًا)
(1)
. وقال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) عندما ذكر جماعة من الأئمة المتقدمين الذين تتصل بهم أسانيده العلمية: (لأنهم رأس مالي، وإلى علمهم مآلي)
(2)
.
فكانوا يجلونهم ويوقرونهم ويعرفون لهم فضلهم ويحفظون لهم حقهم، وروي أن أبا حنيفة (ت 150 هـ) قال:(ما مددت رجلي نحو دار أستاذي حماد؛ إجلالًا له)، وكان بين داره وداره سبع سكك
(3)
. وقال: (ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والديّ، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علمًا أو علمته علمًا)
(4)
. وقال القاضي أبو يوسف (ت 182 هـ: (إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبويّ، ولقد سمعت أبا حنيفة يقول: إني لأدعو لحماد مع أبويّ)
(5)
. وقال الإمام أحمد (ت 241 هـ) لأبي عثمان محمد بن محمد بن إدريس الشافعي (ت: بعد 240 هـ): (أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم في السحر)
(6)
، وسأله سائل يومًا فكان يجيبه ويلتفت إلى ابن الشافعي ويقول:(هذا مما علمنا أبو عبد الله)؛ يعني: أباه
(7)
.
فكانوا يعلمون أن هؤلاء الأئمة الذين سبقوهم بالعلم والإيمان لهم فضل عليهم، وهم الذين قاموا بالكفاية قبلهم، وصمدوا إلى علم الشريعة نقلًا وضبطًا وفقهًا وتحريرًا، فحُرست بهم الملة، وحُفظت بهم أصول الديانة وفروعها وآدابها، ولولا أن قيَّض الله أولئك الأئمة لحفظ دينه لانمحت رسومه وعفت آثاره، فهم يُقرُّون لهم بالفضل والسابقة والنصيحة في الدين، ويدعون لهم بدعوة الصالحين قبلهم:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
(1)
ثبت الإمام شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي (237).
(2)
الفقيه والمتفقه (549).
(3)
الطبقات السنية، الغزي (1/ 114).
(4)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (15/ 457).
(5)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (15/ 466).
(6)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (4/ 325).
(7)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (4/ 325).
وكذلك أهل العلم والفقه في كل عصر ومصر، بهم يقيم الله جل جلاله دينه ويحفظ شريعته، فيعلِّمون الناس كيف يتعبدون الله تعالى في شأنهم كله، ويبصِّرونهم في إصلاح عامة شؤونهم في الدين والدنيا على ما يحبه الله ويرضاه. ويتحملون في ذات الله ما ينالهم في سبيل ذلك من التعب والنصب، ويحتسبون الأجر والثواب عنده يوم يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب.
ويتصدَّون لتعليم العامة والخاصة، فأما العامة فيعلمونهم العلم ليعبدوا الله على بصيرة، ويعلم كل إنسان ما له وما عليه من الأحكام والحقوق والآداب والمكارم، وأما الخاصة فعليهم من ذلك ما على غيرهم، ثم إنهم حملة للعلم لسواهم ولمن جاء بعدهم.
وبهذه المجالس التي هي في الأرض كالضياء يتخرج المفتي والقاضي والواعظ والمحتسب والمرابط في الثغور، ولولا مجالس العلماء ما عرف المفتي كيف يفتي، ولا القاضي كيف يقضي، ولا المصلح كيف يصلح، ولا الواعظ بم يعظ، ولا الآمر بم يأمر، ولا الناهي عمَّ ينهي، ولا المرابط علام يرابط، ولاختلَّت أمور الناس ودهمهم في الدين اختلاف كبير. ولذا كان تعليم العلم خير أعمال الناس وأسدَّها وأرشدها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ):(أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا مما يخفي على أحد ممن نشأ بديار الإسلام)
(1)
. ومن أجل ذلك صبر علماء المسلمين على تعلم العلم وتعليمه ذلك الصبر الذي راح مضرب المثل، ونظموا شرق البلاد بغربها في رواية حديث أو سماع مسألة أو تحصيل حكمة أو تبليغ شيء من ذلك، ولسان الواحد منهم ينطق بنحو قول أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ):(ما كنت أُجوِّز في ديني أن أقف عن الدعوة، ومنفعة الطالبين بالإفادة)
(2)
.
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (30/ 204).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (6/ 210). ولك أن تطالع لمعرفة طرف مما لاقاه علماء الإسلام من الشدة في تحصيل العلم: الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لعبد الفتاح أبو غدة.
فكانوا يحتسبون ذلك دينًا عند الله تعالى، ولا يألون نفع الناس ما استطاعوا، وينتصبون لتعليم الناس في كل وقت، ويكون ذلك همهم الدائم وشغلهم الشاغل، ويتألفون الطلبة للعلم وربما أنفقوا عليهم من أموالهم، وأخذوهم بالرحمة والشفقة والتعاهد لهم ولأهليهم، وشأنهم في ذلك أكبر من أن ينبَّه على مثله أو تذكر شواهد له، وكتب التراجم والسير حافلة من ذلك بما لا يمكن أن يخفى على أحد.
ثم إذا علم ذلك فإن مجلس المعلِّم مجلسُ الشارح للعلم بحيث تتضح مسائله للمتعلم فلا يصعب عليه شيء منها، ويترقى به في مراتب العلم من مقدِّماته وواضحاته إلى دقائقه وغوامضه، ومن صغاره إلى كباره، وقد قال الله جل جلاله:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، قال الإمام البخاري (ت 256 هـ):(ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره)
(1)
، قال الشُرَّاح: أي: الذي يربي الناس بجزئيات العلم قبل كلياته، أو بفروعه قبل أصوله، أو بمقدماته قبل مقاصده، أو ما وضح من مسائله قبل ما دق منها
(2)
. فالمعلم في مجلسه يترقى بطلبته من المقدمات إلى الغايات، آخذًا بهم من العلم إلى العمل والتزكية وحسن التخلق بالعلم مع الله تعالى ومع الناس، وقد كانت العرب تقول للعالم العامل المعلِّم: الشارع الرباني
(3)
.
وهو في مجلسه هذا ليس بالقاضي الذي يحكم بين الناس، وقد روي أنه لما وجَّه عمر رضي الله عنه ابن مسعود رضي الله عنه إلى الكوفة قال له:(إني وجَّهتك معلِّمًا ليس لك سوط ولا عصا)
(4)
. وليس مقامه مقام المفتي الذي يفتي في الواقعات؛ فإن نظر هذين متوجِّه إلى الجزئيات وفيه ملاحظة لأحوال الخصوم
(1)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
(2)
انظر: عمدة القاري، العيني (2/ 43)، إرشاد الساري، القسطلاني (1/ 168).
(3)
ربيع الأبرار، الزمخشري (3/ 208).
(4)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 188). وانظر حكاية الشافعي مع أبي ثور لما قال له:(نحن حكام أو معلمون؟) في: مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 222).
والمستفتين، بخلاف المعلم الذي يشرح صور المسائل والاختلاف والحجج فيها. وليس مقام المعلِّم بالمناظر الذي ينتصر لقول دون قول في حلق المناظرة، إلا أن يجري شيء مما تقدم على جهة التعليم والتدريب للطلبة في حلقات العلم والدرس، وسيأتي مزيد بيان وتمثيل لذلك في الحديث عن كل مجلس من هذه المجالس الشريفة.
لم يزل من شأن الفقهاء التفاضل في صناعة التعليم، ولم يزل منهم من هو أقعد بها من غيره، حتى لربما جاء في ترجمة الفقيه الإشارة إلى مهارته في التعليم، أو كثرة تلامذته وعموم الانتفاع به، كما قيل في ترجمة أبي محمد الجويني (ت 438 هـ) والد إمام الحرمين:(وكان ماهرًا في إلقاء الدروس)
(1)
، وقال العز بن عبد السلام (ت 660 هـ) واصفًا الآمدي (ت 631 هـ):(ما سمعت أحدًا يلقي الدرس احسن منه)
(2)
. وقال الموفق (ت 620 هـ) لما سئل عن شيخه أبي الفتح بن المنِّي (ت 583 هـ): (شيخنا أبو الفتح كان رجلًا صالحًا حسن النية والتعليم، وكانت له بركة في التعليم؛ قلَّ من قرأ عليه إلا انتفع، وخرج من أصحابه فقهاء كثيرون منهم من ساد. وكان يقنع بالقليل وربما يكتفي ببعض قرصه، ولم يتزوج، وقرأت عليه القرآن، وكان يُحبُّنا ويجبر قلوبنا، ويظهر منه البشر إذا سمع كلامنا في المسائل)
(3)
. وقال ابن رجب (ت 795 هـ) في ترجمة الشريف أبي جعفر (ت 470 هـ): (وكان مختصر الكلام مليح التدريس)
(4)
. وقال القاضي عياض (ت 544 هـ) في سيرة سحنون (ت 240 هـ): (قال ابن عجلان الأندلسي: ما بورك لأحد بعد أصحاب
(1)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (5/ 74).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (8/ 307).
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 359).
(4)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 32).
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بورك لسحنون في أصحابه، إنهم في كل بلد أئمة)
(1)
. وقال ابن خلكان (ت 681 هـ) في سيرة أبي القاسم الفوراني (ت 461 هـ): (وانتهت إليه رئاسة الطائفة الشافعية، طبَّق الأرض بالتلامذة)
(2)
. وقال أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ): (خرجت إلى خراسان، فما دخلت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي)
(3)
.
وصناعة التعليم صناعة كسائر الصناعات التي تتجدد ويزداد إحكامها بمرِّ الزمان بما يبقى مع الأيام من تجارب المهرة ووصايا الحكماء. قال أبو بكر الرازي (ت 311 هـ): (الصناعات لا تزال تزداد وتقرب من الكمال على الأيام، وتجعل ما استخرجه الرجل القديم في الزمان الطويل للذي جاء من بعده في الزمان القصير، حتى يُحكمه ويصير سببًا يُسهِّل له استخراج غيره به، فيكون مثل القدماء في هذا الموضع مثل المكتسبين، ومثل من يجيء من بعد مثل المورَّثين المسهَّل لهم ما ورثوا اكتسابًا أكثر وأكثر)
(4)
. وليس يلزم من ذلك أن يكون من تأخر أحسن تعليمًا ممن تقدم، فقد استقرَّ في الأفهام أن سادة علماء الشريعة وخير معلِّميها إنما كانوا في الزمان الأول، بل يجتهد المتأخرون في التعرف على طرائقهم والاقتداء برسومهم وأخلاقهم، وتدارك ما فات من الجد والحرص والبيئة المساعدة بما تسعف به أحوال الزمان من هيئات التعليم ووسائل الترغيب والترهيب، كما يستنبط المتأخرون قواعد الفقه وأصول الاستنباط ممن مضوا وإن كانوا أقعد بالفقه وأعلم به ممن تأخر. قال حماد بن زيد (ت 179 هـ): قيل لأيوب (ت 131 هـ): العلم اليوم أكثر أم قلَّ اليوم؟ قال: (الكلام اليوم أكثر، والعلم كان قبل اليوم أكثر)
(5)
.
(1)
ترتيب المدارك (2/ 99).
(2)
وفيات الأعيان (3/ 132).
(3)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 216).
(4)
كتاب الشكوك على جالينوس (42). وقد ذكر تاج الدين السبكي في ترجمة والده تقي الدين كتابًا له سمَّاه: ((إحياء النفوس في صنعة إلقاء الدروس)). انظر: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 310).
(5)
المعرفة والتاريخ، الفسوي (2/ 232).
والحديث عن مجالس التعليم مما يطول شأنه جدًّا؛ لأن الحديث عنه حديث عن مجموعة من العوامل المؤثرة في مقام التعليم برمَّته، حيث يستدعي الكلام عن المعلِّم والمتعلِّم والمادة التعليمية وبيئة التعليم ونظامه
(1)
، وقد عني المتقدمون والمحدثون عناية بالغة بالدراسات الوصفية التي تصف الحالة العلمية في مدينة أو بلد ما، فمن المصنفات التي هي مظنة لذلك عند المتقدمين:
1 -
كتب التواريخ العام، كـ ((تاريخ الطبري)) (ت 310 هـ)، وابن الجوزي (ت 597 هـ)، وابن الأثير (ت 630 هـ)، وسبط ابن الجوزي (ت 654 هـ)، والذهبي (ت 748 هـ)، وابن كثير (ت 774 هـ)، وغيرهم.
2 -
تواريخ المدن والبلدان، كـ ((أخبار مكة)) للأزرقي والفاكهي، و ((التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة)) للسخاوي (ت 902 هـ)، و ((أخبار أصبهان)) لأبي نعيم (ت 430 هـ)، و ((تاريخ مدينة السلام)) للخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، و ((السياق في تاريخ نيسابور)) لعبد الغافر الفارسي (ت 529 هـ)، و ((تاريخ بيهق)) لعلي بن زيد البيهقي (ت 565 هـ)، و ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (ت 571 هـ)، و ((التدوين في أخبار قزوين)) للرافعي (ت 623 هـ)، و ((بغية الطلب في تاريخ حلب)) لابن العديم (ت 660 هـ)، و ((الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل)) للعليمي (ت 927 هـ)، وغيرها.
2 -
كتب التراجم بعامة، وطبقات الفقهاء والقضاة والمفتين بخاصة، وفي كل مذهب من ذلك جملة وافرة.
3 -
كتب الرحلات، كـ ((رحلة ابن جبير الأندلسي)) (ت 614 هـ)، وابن بطوطة الطنجي (ت 779 هـ)، والحسن بن محمد الوزَّان الفاسي المعروف بـ (ليون الإفريقي) (ت: بعد 957 هـ)، وغيرهم من الرحالة الذين طوَّفوا الأمصار ودخلوا عواصم العلم، فوصفوا مشاهداتهم في الحرمين الشريفين، وجوامع
(1)
انظر: مدخل إلى تاريخ التربية الإسلامية، د. مصطفى متولي (26)، مكونات العملية التعليمية في الفكر التربوي الإسلامي، د. محمد البوزيري (13).
المسلمين الكبرى، والمدارس المشهورة ومجالس العلم المختلفة، مما تأتي الإشارة إلى بعضه.
4 -
كتب البرامج والفهارس والأثبات، وهي فوق الحصر.
5 -
كتب تاريخ المدارس، ومما أُلِّف في ذلك أو تضمنه: كتاب ((الدارس في تاريخ المدارس)) للنعيمي الدمشقي (ت 978 هـ)، و ((المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)) للمقريزي (ت 845 هـ)، وغير ذلك.
أما المعاصرون فكتاباتهم في تاريخ الحركة العلمية في الإسلام ووصف مجالس العلماء كثيرة وذات أغراض مختلفة، ومن ذلك ما يأتي:
1 -
الكتب التي تصف الحركة العلمية وتاريخ التعليم في مكان وزمان محددين، وهي في مجملها رسائل علمية في الجامعات، وهي كثيرة جدًّا حتى تكاد تستوعب الحركة العلمية في سائر البلدان الإسلامية وفي كافة الأزمنة.
2 -
الكتب التي تتناول تاريخ الجوامع والمساجد، ويكون في ضمن ذلك حديث عن الحركة العلمية فيها، لا سيما في الجوامع الكبرى التي كانت أشبه بالجامعات العلمية، ومن ذلك ما يأتي:
أ- الحرمان الشريفان، والمؤلفات فيهما كثير جدًّا.
ب- الجامع الأموي، وفيه من المؤلفات:((الجامع الأموي في دمشق)) لعلي الطنطاوي، و ((الجامع الأموي درة دمشق)) لحسن الصواف، وغير ذلك.
ج- جامع الأزهر، وفيه مؤلفات كثيرة جدًّا، ككتاب ((الأزهر في ألف عام)) لعبد المنعم خفاجي، و ((الأزهر وأفريقيا)) لمحمود عباس، و ((تاريخ الجامع الأزهر)) لمحمد عنان، و ((الأزهر جامعًا وجامعة)) لعبد العزيز الشناوي، و ((الأزهر الشريف والسودانيون)) لمحمد الخولي، و ((دور الأزهر السياسي في مصر إبان الحكم العثماني)) لعبد الجواد إسماعيل، وغير ذلك.
د- جامع الزيتونة، وفيه من المؤلفات:((تاريخ جامع الزيتونة)) لمحمد الحشائشي، و ((التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة)) للطاهر الحداد، و ((الزيتونة والزيتونيون في تاريخ تونس المعاصر)) لمختار العياشي،
و ((الزيتونيون دورهم في الحركة الوطنية التونسية)) لعلي الزيدي، وغيرها.
هـ- جامع القرويين بفاس، وفيه من المؤلفات:((جامع القرويين)) لعبد الهادي التازي، و ((جامع القرويين والفكر السلفي)) لمحمد العلوي، وغيرها.
و- ((تاريخ جامع الإمام الأعظم ومساجد الأعظمية)) لهاشم الأعظمي.
بالإضافة إلى مؤلفات عديدة تتناول جوامع ومساجد بلد أو مدينة، ويأتي الحديث فيها ضمنًا عن حركة العلم فيها وما قد يلحق بها من المدارس ونحوها، ومن ذلك:((مساجد مصر وأولياؤها الصالحون)) لسعاد ماهر، و ((جوامع الموصل)) لأبيّ الديوه جي، و ((مساجد ودول)) لسنية قراعة، وغير ذلك.
3 -
الكتب التي تتناول تاريخ المدارس، وعناية المحدثين والمعاصرين بهذا فاقت عناية السابقين، ومن المؤلفات في ذلك:((منادمة الأطلال)) لابن بدران الدومي الحنبلي، و ((مدارس بغداد في العصر العباسي)) لعماد رؤوف، و ((تاريخ علماء المستنصرية)) لناجي معروف، و ((المدرسة المستنصرية)) لكوركيس عواد ومصطفى جواد، و ((مدرسة القاضي المخرمي في بغداد)) لعبد الستار علي، و ((الجواهر اللؤلؤية في تاريخ الظاهرية)) لخلدون زين الدين، و ((مدرسة الإمام أبي حنيفة)) لوليد الأعظمي، و ((المدارس في مكة خلال العصرين الأيوبي والمملوكي)) لفوز الدهاس، و ((المدرسة المرجانية في بغداد)) لخالد حمودي، و ((المدرسة الصادقية)) لأحمد عبد السلام، و ((تاريخ المدرسة النصرية بغرناطة)) لرشيد العفاقي، و ((دور العلم في الموصل)) لسعيد الديوه جي، و ((مدارس سوس العتيقة)) لمحمد المختار السوسي، و ((المدارس في بيت المقدس في العصرين الأيوبي والمملوكي)) لعبد الجليل حسن، و ((المدارس الأيوبية في حلب والقاهرة)) لوليد الأخرس، و ((المدارس العتيقة وإشعاعها الأدبي والعلمي بالمغرب)) للمهدي السعيدي، و ((المدارس الإسلامية في اليمن)) للقاضي إسماعيل الأكوع، و ((معاهد العلم في بيت المقدس)) لكامل العسلي، و ((مدارس دمشق في العصر الأيوبي)) لحسن شميساني، و ((المدرسة النظامية)) لعامر السامرائي، وغيرها.
4 -
المصادر التي تتناول تاريخ المؤسسات المساندة للعملية التعليمية، وربما اشتملت على جانب من الجوانب التعليمية ذاتها، كتاريخ المكتبات والأربطة والتكايا والزوايا والخوانق وغيرها.
5 -
المصادر التي تتحدث عن النظم التعليمية في الجوامع والمدارس في مكان محدد أو حقبة تاريخية محددة، ومن ذلك: أليس الصبح بقريب للطاهر بن عاشور، ونظام الدراسة بالجامع الأزهر في عصر السيوطي لمجاهد الجندي، وغير ذلك.
فهذه المراجع وغيرها كثير جدًّا مما لم يذكر نوعًا ولا اسمًا، يفيد الرجوع إليها في تصور طبيعة الحركة العلمية وما كانت عليه مجالس التعليم هيئة ونظامًا في الأمصار والأعصار المختلفة، والواقع أننا بأدنى مطالعة لهذه المصادر ندرك مدى التنوع الحافل والاختلاف الكبير الذي كانت عليه مجالس الفقه التعليمية في سائر البلدان، وأن بينها تفاوتًا كبيرًا لا يخفي في أنظمتها وتراتيبها، ومع ذلك فللعلم والتعليم مناهج وقوانين لا يمكن تخطيها بحال، وليجر الحديث ههنا عن خمسة أغراض يتضح بمجموع الكلام عنها بعض هذا المعنى، وهي: أماكن التعليم، والمعلم، والمتعلم، والمادة التعليمية، وهيئة مجلس التعليم.
أولًا: أماكن التعليم:
أ- الجوامع والمساجد:
أكثر وأعظم مجالس تدريس الفقه كانت في الجوامع والمساجد، لا سيما قبل نشأة المدارس في أواخر القرن الرابع الهجري وما بعده، فقد كانت الجوامع تضم حلق العلم حيث يلتف الطلبة حول شيخهم، فيلقي عليهم المسائل والتعليقات أو يقرأ الطلبة عليه كتابًا له أو لغيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسَّس مسجده المبارك على التقوى، ففيه الصلاة والقراءة والذكر
وتعليم العلم والخطب)
(1)
.
وقال ابن الحاج (ت 737 هـ) مبيِّنًا مواضع التدريس ومفاضلًا بينها: (فلا يخلو موضع التدريس من ثلاثة أحوال: إما أن يكون بيتًا أو مدرسة أو مسجدًا، وأفضل مواضع التدريس المسجد؛ لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة أو تخمد به بدعة أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى علينا، والمسجد يحصل فيه هذا الغرض متوفرًا؛ لأنه موضع مجتمع الناس رفيعهم ووضيعهم وعالمهم وجاهلهم، بخلاف البيت فإنه محجور على الناس إلا من أبيح له وذلك لأناس مخصوصين وإن كان العالم قد أباح بيته لكل من أتى، لكن جرت العادة أن البيوت تحترم وتهاب، وليس كل الناس يحصل له الإدلال على ذلك، فكان المسجد أولى؛ لأنه أعلم في توصيل الأحكام وتبليغها للأمة، وكذلك أيضًا بالنظر إلى هذا المعنى يكون المسجد أفضل من المدرسة لوجهين: أحدهما: أن السلف رضوان الله عليهم لم تكن لهم مدارس وإنما كانوا يدرسون في المساجد، وإن كان ذلك في المدرسة فيه المنفعة والخير والبركة، لكن لما أن لم يقع ذلك للسلف رضي الله عنهم كان أخذه في المساجد فيه صورة الاقتداء بهم في الظاهر وإن كان غيره يجوز وكفى لنا أسوة بهم.
الوجه الثاني: أن المدرسة لا يدخلها في الغالب إلا آحاد الناس بالنسبة إلى المسجد؛ لأنه ليس كل الناس يقصد المدرسة وإنما يقصد أعمهم المساجد، وليس كل الناس أيضًا له رغبة في طلب العلم، وإذا كان التدريس أيضًا في المدرسة امتنع توصيل العلم على من لا رغبة له فيه والمقصود بالتدريس كما تقدم إنما هو التبيين للأمة وإرشاد الضال وتعليمه ودلالة الخيرات، وذلك موجود في المسجد أكثر من المدرسة ضرورة)
(2)
.
والواقع التاريخي للحركة العلمية في الإسلام يشهد أن العصور التي كانت العلوم الشرعية فيها تدرَّس في المساجد كانت أفضل عصور العلم. قال
(1)
مجموع الفتاوى (35/ 39).
(2)
المدخل (1/ 85).
د. بشار معروف: (والحق أنني قلَّما وجدت عالمًا كبيرًا تعاني هذه العلوم من غير أن يكون له مسجد)
(1)
. ويمكن إحالة ذلك إلى سببين رئيسين: الأول منهما عموم الانتفاع بمجالس التعليم في الجوامع، وقد مضت الإشارة لهذا في كلام ابن الحاج، والثاني أن التعليم في الجوامع والمساجد أقل تعرُّضًا للشروط والعوائق التي تمنع أو تقيِّد حرية التعليم فيها، فلا يخضع لشروط الواقفين في المدارس ونحوها، ولا تختص بمذهب دون غيره، واختصاصها بمذهب بعينه طارئ على تاريخ التعليم، فأما القرون الأولى فلم يكن فيها شيء من ذلك.
قال الوزير ابن هبيرة (ت 560 هـ): (فأما ما حدث في زماننا هذا من كون المساجد قد اقتسمها أهل المذاهب، فيقول هؤلاء: هذه مساجد أصحاب أحمد فيُمنع منها أصحاب الشافعي، وكذلك يقول أصحاب الشافعي: هذه مساجد أصحاب الشافعي فيمنع منها أصحاب أحمد، وكذلك يقول أصحاب أبي حنيفة، فإن هذا من البدع)
(2)
.
وبالإضافة إلى شروط الواقفين فإن الجرايات والأرزاق التي تجري على الفقهاء في المدارس من السلاطين والأمراء لها أثرها في تقييد حرية المعلم في أن يتحدث بما يعتقده ولو خالف مراد صاحب الجراية من سلطان أو واقف أو غيره. قال السخاوي (ت 902 هـ): (ومما بلغنا أن بعض ندماء الأشرف برسباي مدحه بكون أغنى الفقهاء بما انفرد به عن كثيرين ممن قبله؛ يعني: بأنه بني مدرسة بالقاهرة وبالصحراء وبالخانقاه وغير ذلك، فقال: إن من سبقنا كان فقهاؤهم غير موافقين لهم، فقصروا في جانبهم لذلك، وفقهاؤنا لا يخالفونا، فلا أقل من أن نسمح لهم بحطام الدنيا. قلت: وهذا قد كان، وأما الآن فالموافقه حاصلة، والانقياد بالحطام دون الحطام، بل هم مزاحمون
(1)
التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي (62). وانظر: دراسات في تاريخ التربية عند المسلمين، د. محمد سعد الدين (41).
(2)
الإفصاح (9/ 54)، وانظر: إعلام الساجد، الزركشي (397).
في أرزاقهم المرصدة لهم ممن قبلهم غفر الله لنا ولهم)
(1)
.
وبعد هذا فإنه لا ينبغي أن يقال بأن الأمر ما دام كان كذلك في القرون الأولى فليكن التدريس مقصورًا على الجوامع والمساجد كما كان في تلك الأزمنة العلمية الزاهرة، فإنه قد علم أن الحركة العلمية ليست مختصة بمكان التعليم، بل هي حالة شاملة تتدخل فيها مؤثرات علمية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وكل ذلك كان في الزمان الأول مسعفًا ومساعدًان بخلاف الأزمنة المتأخرة التي راح الناس فيها يتداركون ما يطرأ من نقص في العلم والهمة وإسعاف الزمان بالتزام رسوم وآداب واتخاذ تدابير تسدُّ مسدًّا وتغني غناءً وإن لم يكن الخير فيها محضًا أو لم تكن المفسدة فيها مدفوعة بالكلية
(2)
، فإنشاء المدارس وتسبيل الأوقاف عليها وبناء المساكن الملحقة بها لإيواء الطلبة كان فيه تلاف لنقص الهمة وقلة المساعد، وقد كان من أخبار السلف المتقدمين في الصبر على طلب العلم وتحمل المشاق والجوع والفقر والغربة والأذى ما هو مشهور معلوم، فكان في المدارس وأحباسها تشجيع وتحفيز يتلافى ما طرأ من فساد الحال مما كان الأوائل في غنية عنه
(3)
.
وقد نقل شهاب الدين المقَّري (ت 1041 هـ) عن جده الشيخ أبي عبد الله (ت 759 هـ) في كلام مهم يصف شيئًا من ذلك فقال: (وقال أيضًا رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا الآبلي (ت 757 هـ) يقول: إنما أفسد العلم كثرة التواليف، وإنما أذهبه بنيان المدارس. وكان ينتصف له من المؤلفين والبانين.
وإنه لكما قال، غير أن في شرح ذلك طولًا، وذلك أن التأليف نسخ الرحلة
(1)
الإعلان بالتوبيخ (84). وانظر: المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (70).
(2)
تأمل مثلّا في قول ابن الحاج (ت 737 هـ): (والغالب أنه لا يقصد أخذ الدرس في المدرسة إلا لأجل المعلوم، فإذا كان ذلك كذلك فينبغي له إذا أخذ الدرس في المدرسة أن يأخذ بتلك النيات التي وصفت في المسجد وتلك الآداب. بل ينبغي له أن يزيد في إخلاص نيته ويدفع الشوائب عن نفسه لئلا يتعلق خاطره بالمعلوم أو يلتفت إليه بقلبه، بل يكون ذلك على سبيل الامتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. المدخل (2/ 101).
(3)
انظر: التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي، د. بشار معروف (90).
التي هي أصل جمع العلم، فكان الرجل ينفق فيها المال الكثير، وقد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير؛ لأن عنايته عل قدر مشقته في طلبه، ثم صار يشتري أكبر ديوان بأبخس ثمن، فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه، فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأول بالآخر، وأفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر، وأما البناء فلأنه يجذب الطلبة إلى ما يرتب فيه الجرايات، فيقبل بها على من يعيِّنه أهل الرياسة للأجراء والإقراء منهم، أو ممن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم، ويصرفونها عن أهل العلم حقيقة الذين لا يُدعون إلى ذلك، وإن دعوا لم يجيبوا، وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم)
(1)
.
وقال حاجي خليفة (ت 1067 هـ): (ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ونطقوا به. لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به، فيأتون علماءَ يُنتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببًا لارتفاعه)
(2)
.
ومع ذلك فقد ظلت مجالس التعليم باقية وكثيرة في الجوامع ولم تنتقل عنها ببناء المدارس
(3)
، بل ربما نقل بعض المدرسين دروسهم من المدارس إلى المساجد لا سيما في الحرمين الشريفين
(4)
، والذي يؤهل العلماء للجلوس
(1)
انظر: نفح الطيب (5/ 275)، وانتقاد المؤسسات التعليمية بشأن تقييد الحرية العلمية فيها أمر مشهور عند المتقدمين والمعاصرين. يقول ميشيل فوكو (ت 1984 م) في مناظرته المشهورة مع نعوم تشومسكي:(ويعرف المرء أن الجامعة وكل الأنظمة التعليمية بشكل عام، التي تبدو أنها تنشر المعرفة ببساطة، مصنوعة للحفاظ على طبقة اجتماعية محددة في السلطة، ولإقصاء أدوات السلطة عن طبقة اجتماعية أخرى). عن الطبيعة الإنسانية، نعوم تشومسكي وميشيل فوكو (60).
(2)
كشف الظنون (1/ 22).
(3)
انظر: التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي، د. بشار معروف (92)، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (159)، الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية من الفتح الإسلامي حتى نهاية القرن الرابع، د. علي مفتاح (155)، القاهرة خططها وتطورها العمراني، أيمن فؤاد سيد (286)، نشأة الكليات، جورج مقدسي (16).
(4)
انظر: الحياة العلمية في الحجاز خلال العصر المملوكي، خالد الجابري (362).
في مجالس التعليم في المساجد في الجملة إنما هو علمهم وتأهلهم للانتصاب للتعليم هذه المدة الطويلة واستقبال أسئلة الطلبة والسائلين والمباحثة معهم والصبر على ذلك، مما لا يحتمله ضعيف العلم والأهلية والإرادة، ومع ذلك فالعريُّ من العلم والضعيف فيه لا يقبل إليه الناس والطلبة بوجوههم، ولا يحظى بالقبول ولا النصيحة عند العامة والخاصة. ولذا كانت الجوامع محلًا لجلوس العلماء الكبار، لا سيما الجوامع المشهورة في الأزمنة العلمية الزاهرة، كالحرمين الشريفين
(1)
، وجامع الكوفة، وجامع المنصور ببغداد، والجامع الأزهر، وغيرها من الجوامع التي تكون قبلة للعلم في زمانها حتى يكون من أمنية العالم أن يقعد للتعليم فيها، وربما اختصت جهة منها بأكابر العلماء في وقتهم، كقبة النسر في جامع بني أمية بالشام، حيث كان التدريس تحتها منوطًا بأكابر العلماء
(2)
، وقال ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) واصفًا الجامع الأزهر في زمانه:(كل ذلك بالجامع الأزهر الذي ليس على وجه الأرض بقعة جمعت من علماء الأمة وصلحائهم، والجهد في طلب العلم وتعلمه وتعليمه والدأب في ذلك الليل والنهار مثلُه، بحيث أجمعوا على أنه لم يقع منذ أزمان وإلى الآن أنه خلي عن علم أو ذكر ساعة من ليل أو نهار، وفيه من عدة الدروس والمصنفين والمفتين والعلماء العاملين ما يعجز الوصف عن الإحاطة بهم، ومن تأمل (الضوء اللامع) للسخاوي (ت 902 هـ) أحاط ببعض ما ذكرته)
(3)
.
وللدراسة في الجوامع أحكام تختص بها أفاض الفقهاء في بيانها وذكر الخلاف الجاري في شيء منها، كرفع الصوت في التعليم وجريان المناظرة والمجادلة فيها، ودخول الصبيان وتعليمهم فيها، ونحو ذلك من الأحكام التي
(1)
انظر: المسجد الحرام، د. عبد الوهاب أبو سليمان (1/ 168)، حيث ذكر أن علماء مكة المتأخرين كانوا يقرنون باسمهم في مؤلفاتهم لقب (المدرّس بالمسجد الحرام) استشعارًا لمكانته العلمية.
(2)
انظر: الجامع الأموي، حسن الصواف (2/ 585)، وقد أفرد الشيخ عبد الرزاق البيطار (ت 1335 هـ) رسالة في الذين درَّسوا تحت قبة النسر سماها ((نتيجة الفكر)).
(3)
ثبت ابن حجر الهيتمي (417).
ربما افترقت فيها الجوامع عن غيرها
(1)
.
ب- المدارس:
يرجع تاريخ نشأة المدارس إلى أواسم وأواخر القرن الرابع الهجري، غير أن المدارس تطورت في طبيعتها وأنظمتها في القرن الخامس على يد نظام الملك (ت 485 هـ)، ثم فشت وانتشرت انتشارًا عظيمًا بعد ذلك زمن الزنكيين والأيوبيين والمماليك ومن بعدهم، حتى قال ابن بطوطة (ت 779 هـ) في وصفه لمصر:(وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها)
(2)
.
والمدارس في جملة أمرها خاضعة لشرط الواقف ويقوم الناظر على رعاية هذا الشرط، وإن كان العز بن عبد السلام (ت 660 هـ) أفتى بأن متولي تدريس المدرسة هو الذي يقرر مقدار الجامكية (الرواتب والأرزاق) للفقهاء وينزلهم، وليس للناظر في الوقف إلا تحصيل الريع وقسمته على المنزلين
(3)
.
وغالب أحوال المدارس أن تختص بمذهب من المذاهب الأربعة، وربما اجتمع في المدرسة الواحدة مذهبان أو أكثر، وربما اشتملت على المذاهب الأربعة معًا، بحيث يكون لكل مذهب إيوان للتدريس، ويكون في شرط الواقف وعمل المتولي تنظيم لطبيعة سير العملية التعليمية واختصاصات فقهاء وطلبة كل مذهب، وتعقد في هذه المدارس مجالس التعليم والمناظرة والمذاكرة والمباحثة والوعظ، ويجري كل ذلك بترتيب يجمع بين النظام والمرونة، وبين المدارس اختلاف وتفاوت لا يخفى في ذلك
(4)
.
(1)
انظر طرفًا من ذلك في: الآداب الشرعية، ابن مفلح (4/ 27)، المدخل، ابن الحاج (1/ 197) وما بعدها، إعلام الساجد، الزركشي (392) وما بعدها.
(2)
تحفة النظار (1/ 203). وقد تكلم كثيرون في نشأة المدارس في الإسلام وبداياتها الأولى، ومنهم د. ناجي معروف في كتبه:((نشأة المدارس المستقلة في الإسلام))، و ((مدارس قبل النظامية))، و ((علماء النظاميات ومدارس المشرق الإسلامي)). وانظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية (35/ 41)، طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 314).
(3)
إعلام الساجد، الزركشي (397).
(4)
يمكن الرجوع إلى كتب تاريخ المدارس المشار إليها، كـ ((الدارس)) للنعيمي، و ((تاريخ علماء المستنصرية)) لناجي معروف، وغيرها للاطلاع على أنواع المدارس واختصاصاتها وتراتيبها، وانظر على سبيل المثال: تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (259) وما بعدها، نهاية الأرب، النويري (32/ 46)، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (61) وفي (65).
ج- منازل العلماء:
كانت منازل العلماء من أماكن عقد المجالس التعليمية، وإن كانت أخص كمًّا وكيفًا من غيرها، فالمنازل مكان مناسب في الغالب للدروس التي ينتخب فيها الأستاذ الخاصة من تلامذته والمبرِّزين منهم. قال ابن هرمز (ت 148 هـ) يومًا لجاريته: من الباب؟ فلم تر إلا مالكًا (ت 179 هـ) فرجعت فقالت له: ما ثم إلا ذاك الأشقر، فقال لها: دعيه، فذلك عالم الناس
(1)
.
ومع أن المنازل ربما كانت مفتوحة للناس غير أن هيبة المنازل ربما حجبت الكثيرين عن الانتفاع العام كما هو الشأن في المساجد، وقد مضى آنفًا من كلام ابن الحاج (ت 737 هـ) ما يفيد ذلك. ومن مزايا التدريس في المنازل ما يكون فيها من حرية واختيار واسع في تحديد الزمان والكتاب المدروس والمناقشة والمباحثة
(2)
.
د- أماكن أخرى:
جرى الكثير من الباحثين في تاريخ الحركة العلمية في الإسلام أن يذكروا أماكن أخرى للمجالس العلمية كالمكتبات والأربطة والخوانق والزوايا ومجالس الخلفاء والأمراء في القصور وحوانيت الورَّاقين وغيرها، غير أن تأثير هذه الأماكن لا يقاس بالجوامع والمدارس في تكوين الفقهاء وبنائهم العلمي، وتبقى مشاركة هذه الأماكن ضئيلة عند موازنتها بها، وعامة ما كان يجري في هذه الأماكن ونحوها إنما هو من قبيل المذاكرة أو المباحثة أو المناظرة، لا من قبيل مجالس التدريس التي يتخرج فيها الفقهاء والعلماء، وهذه الأماكن ما
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 108).
(2)
انظر: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (234)، الحياة العلمية في العراق خلال العصر البويهي، د. رشاد معتوق (223)، الحياة الفكرية في المدينة المنورة في القرنين الأول والثاني، د. عدنان الفراجي (80)، المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (85)، دور مصر في الحياة العلمية في الحجاز إبان العصر العثماني، د. محمد بيومي (227).
بنيت لتكون مجالس للتدريس، وما يجري فيها من ذلك فهو أمر عارض ومختص في الغالب بفئة دون غيرها
(1)
.
ثانيًا: المعلِّم:
المعلِّم هو العنصر الرئيس في العملية التعليمية؛ فهو معدن العلم والأدب الذي يراد بالتعليم اقتداء الطالب به، ولذا جاءت الوصية بحسن اختيار المعلِّم وأن يشاور في ذلك ولا يعجل، وأن يختار الأعلم والأورع من الشيوخ، وأن يستخير الله تعالى في ذلك
(2)
.
وقد روي أن أبا حنيفة (ت 150 هـ) اختار شيخه حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ) بعد التأمل والتفكر، وقال:(وجدته شيخًا وقورًا حليمًا صبورًا)
(3)
، وقال أبو بكر بن عياش (ت 193 هـ) في مغيرة بن مقسم (ت 133 هـ):(كان مغيرة من أفقههم، ما رأيت أحدًا أفقه منه، فلزمته)
(4)
، وقال إبراهيم النخعي (ت 96 هـ):(كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه)
(5)
.
ويتوخى فيمن يختاره تمام الانتفاع به بألا يكون الأستاذ فوق طاقته في التعلم ولا دون استعداده، مع تحري العلم والتحقيق بحيث ينتفع بصحبته
(1)
انظر: التربية والتعليم في العراق حتى نهاية العصر العباسي، د. بشار معروف (73)، التكايا والزوايا في تركيا، د. محمد حمدان (125)، المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (226)، تاريخ تكايا بغداد، السيد ميعاد الكيلاني (44)، الحياة الفكرية في مصر خلال العصر الأيوبي، د. شوكت الأتروشي (359)، المكتبات الإسلامية وأثرها في التعليم منذ نشأتها وتأسيسها وحتى القرن السابع الهجري، د. علي الجهني (2/ 634). ويمكن اعتبار تجربة المرابطين في الغرب الإسلامي تجربة استثنائية في دور الأربطة العلمي، ولذلك ظروفه الموضوعية والتاريخية التي لا تخفى على من استقرأ تاريخ نشأة حركتهم ودولتهم، وانظر: التربية والتعليم في عصر المرابطين في بلاد المغرب، د. ناهضة حسن (65)، المعاهد والمؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي، د. نجاح القابسي، مجلة المؤرخ العربي، العدد التاسع عشر (182).
(2)
انظر: تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (133).
(3)
تعليم المتعلم، الزرنوجي (7).
(4)
سير أعلام النبلاء، الذهبي (6/ 11).
(5)
الجامع، الخطيب البغدادي (1/ 128).
وطول ملازمته، وأن يجتهد في النصيحة لنفسه في ذلك. قال عمرو بن الوليد الأغضف:(رحلت إلى أبي حنيفة فلم يكن لي من القوة على العلم ما أقدر على مجالسته، فكنت أختلف إلى أبي يوسف أتعلم منه)
(1)
. وحكي أن بعض جلساء أبي عثمان بن الحداد (ت 302 هـ) ويعرف بابن المكي قال له يومًا: يا أبا عثمان، ما أشِّبه نفسي إذا كنت بين يديك إلا مثل الحمار. فقال له: لا تفعل يا أبا محمد، فإنك تحس حسًّا لطيفًا، وأنت كما قال الشاعر:(وفوقك أقوام وأنت شريف)
(2)
.
ومن نصيحة الأستاذ أن يقصد بطلبته إلى أقصى ما في مكنته من التعليم والتزكية، وأن يجتهد في ذلك دون غشِّ لهم وتضييع لأوقاتهم فيما لا فائدة منه ولا طائل من ورائه مما قد يستملحه الطلبة لكنه بمعزل عن النصيحة وحسن الاختيار لهم
(3)
.
قال السرخسي (ت 490 هـ): (رأيت في زماني بعض الإعراض عن الفقه من الطالبين لأسباب، فمنها قصور الهمم لبعضهم حتى اكتفوا بالخلافيات من المسائل الطوال، ومنها ترك النصيحة من بعض المدرسين بالتطويل عليهم بالنكات الطردية التي لا فقه تحتها، ومنها تطويل بعض المتكلمين بذكر ألفاظ الفلاسفة في شرح معاني الفقه وخلط حدود كلامهم بها)
(4)
.
وقال ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ): (واعلم أنه ما تخلَّف بقوم عن الاستفادة إلا غش مشايخهم لهم عند الإفادة، وقد أطبقوا على أن من سعادة
(1)
فضائل أبي حنيفة وأخباره، ابن أبي العوام (93). وفي الأصل:(عمر بن الوليد) وهو تصحيف، انظر: التاريخ الكبير، البخاري (6/ 379).
(2)
رياض النفوس، المالكي (2/ 67).
(3)
انظر السببين الذين ذكر الطاهر ابن عاشور أنهما أصل تأخر العلوم، في: أليس الصبح بقريب (153).
(4)
المبسوط (1/ 4). وهذا الذي ذكره السرخسي لاحظه أبو الحسن العامري الفيلسوف (ت 381 هـ) حين حضر مجلس أبي حامد المروروذي (ت 362 هـ) وسمع كلامه في مسألة فقهية، قال:(فاستطرفت كلامه في الفقه بألفاظ الفلاسفة) البصائر والذخائر، أبو حيان التوحيدي (3/ 93). وراجع تنبيهًا مهمَّا ذكره أبو الحسن العامري حول مغالطة الضعفاء وتمويههم بألفاظ الفلاسفة في كلامهم على وجه الدعوى وافتعال البراعة، وذلك في رسالته: الأمد على الأبد، ضمن مجموع: أربع رسائل فلسفية (154 - 155).
الطالب المؤذنة برفعه إلى أعلى المراتب، أن يرزقه الله معلِّمًا ناصحًا وقريحة قابلة وفهمًا صقيلًا وكفاية مؤنة وصدق رغبته في طلبه)
(1)
.
ومن نصيحة الأستاذ لطلبته أن يترفق بهم كأنهم أولاده، قال أبو حامد الغزالي (505 هـ):(فأول وظائف المعلم أن يجري المتعلم منه مجرى بنيه)
(2)
، فيستوثق من فهمهم ويسر بنجابتهم وتقدمهم في العلم ويجتهد في ذلك اجتهاد الحريص، ويجعل تعليمه إياهم قربة يتقرب إلى الله تعالى بها لا مهنة يسترزق منها، ويبذل لهم من سماحة نفسه وكرم أخلاقه ما يحبب إليهم العلم ويزينه في قلوبهم، وقد روي عن عمر رضي الله عنه:(تعلَّموا العلم وعلِّموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم جهلكم بعلمكم)
(3)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: (أنتم جلاء قلبي)
(4)
. وقال ابن عباس رضي الله عنه: (أعز الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى الناس إليَّ، أما والله إن الذباب يقع عليه فيشقُّ ذلك عليَّ)
(5)
. وكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقبل على الشباب فيقول: (يا ابن أخي، إذا شككت في الشيء فلسني حتى نستيقن؛ فإنك إن تقم على اليقين أحب إلي من أن تقوم على الشك)
(6)
. وقال حماد بن أبي سليمان (ت 120 هـ): (كنت أسائل إبراهيم (ت 96 هـ) عن الشيء فيعرف في وجهي أني لم أفهم فيعيده حتى أفهم)
(7)
.
وجاء عيسى بن دينار (ت 212 هـ) فلازم ابن القاسم (ت 191 هـ) سنين، فلما ارتحل عنه قافلًا إلى الأندلس شيَّعه ابن القاسم فراسخ، فعوتب في ذلك
(1)
ثبت ابن حجر الهيتمي (86).
(2)
ميزان العمل (363)، وانظر: التبيان، النووي (40).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 542).
(4)
حلية الأولياء، أبو نعيم (4/ 170).
(5)
أدب المجالسة، ابن عبد البر (33).
(6)
المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 150).
(7)
الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 156).
فقال: تلومونني أن شيَّعت رجلًا لم يخلف بعده أفقه منه؟!
(1)
. وقال الضياء المقدسي (ت 643 هـ) في الموفق بن قدامة (ت 620 هـ): (وما علمت أنه أوجع قلب طالب)
(2)
.
وقال تاج الدين السبكي (ت 771 هـ): (وكنت أنا كثير الملازمة للذهبي، أمضي إليه في كل يوم مرتين بكرة والعصر، وأما المزي فما كنت أمضي إليه غير مرتين في الأسبوع، وكان سبب ذلك أن الذهبي كان كثير الملاطفة لي والمحبة فيَّ، بحيث يعرف من عرف حالي معه أنه لم يكن يحب أحدًا كمحبته فيَّ، وكنت أنا شابًّا فيقع ذلك مني موقعًا عظيمًا)
(3)
.
وقد أطال العلماء القول في آداب المعلِّم وما ينبغي في حقه من الإخلاص والنصيحة لله تعالى ولمن يتولى تعليمهم، وفصَّلوا القول في طرائق التعليم ورسومه وآدابه، وسبيل الإذن والإجازة به، مما هو مشهور في كتب أدب الطلب وقوانين التعليم
(4)
.
ثالثًا: المتعلِّم:
مثلما جاءت الوصية من العلماء بحسن اختيار المعلِّم فقد جاءت الوصية منهم كذلك بحسن اختيار التلميذ، وأن يكون للعالم فراسة يتوسَّم بها المتعلِّم؛ إذ الطلبة متفاوتون بينهم تفاوتًا عظيمًا في قابليتهم واستعدادهم
(5)
. قال
(1)
التسمية والحكايات، السرقسطي (118).
(2)
سير أعلام النبلاء، الذهبي (22/ 170).
(3)
طبقات الشافعية الكبرى (10/ 398).
(4)
انظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (125)، تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (43)، معيد النعم، ابن السبكي (105)، المعيد في أدب المفيد والمستفيد، العلموي (79)، القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، اليوسي (295)، أخلاقيات علماء الفقه المسلمين، د. جمال الهنيدي (108)، التراث التربوي في المذهب المالكي، أحمد حسانين (184)، التراث التربوي في المذهب الشافعي، د. محمد أبو شوشة (182).
(5)
انظر: أدب الدين والدنيا، الماوردي (139). ومن التعبيرات اللطيفة في بيان استعداد الطالب للعلم قول العليمي (ت 928 هـ) في ترجمة عبد المؤمن القطيعي (ت 739 هـ):(وكان ذا ذهن حاد وذكاء وفطنة، وعنده خميرة جيدة من أول عمره في العلم). المنهج الأحمد (5/ 67).
الخطيب البغدادي (ت 463 هـ): (وإن كان في جملة المتفقهة حدث أو صبي له حرص على التعلم، أو آنس الفقيه منه ذكاء أو فطنة، فليقبل عليه، ويصرف اهتمامه إليه)
(1)
.
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان في هذا المكان خلف الكعبة حلقة، فمر عمرو بن العاص رضي الله عنه يطوف، فلما قضى طوافه جاء إلى الحلقة فقال:(مالي أراكم نحَّيتم هؤلاء الغمان عن مجلسكم؟ لا تفعلوا، أوسعوا لهم وأدنوهم وأفهموهم الحديث؛ فإنهم اليوم صغار قوم، ويوشكوا أن يكونوا كبار آخرين، قد كنا صغار قوم ثم أصبحنا كبار آخرين)
(2)
. وقال أشهب (ت 204 هـ) في سحنون (ت 240 هـ): (ما قدم إلينا من المغرب مثله، ولقد حثه ابن القاسم (ت 191 هـ) على أن يقيم عنده يطلب العلم، ويدع الخروج إلى الغزو، لما استفرس فيه)
(3)
.
ويكون همُّ العالم منصرفًا لاختيار من يأنس منه حسن الفهم والفطنة؛ لأن ذلك جوهر الفقه وحقيقته، وهو أيسر وأسرع في تعليمه، وقد قال محب الدين بن نصر الله البغدادي الحنبلي (ت 844 هـ):(قليل من الفهم خير من كثير من الحفظ)
(4)
. وقال أبو الفتح الشهرستاني (ت 548 هـ): (لا تَعِب إنسانًا بما لا يمكن أن يعلم)
(5)
.
فإن انضم إلى ذلك صلاح البيت الذي هو منه واستقامة أحوال ذويه كان التعليم أكثر ملاقاة لغرضه. قال ابن المعتز (ت 296 هـ) في كلام شريف جدًّا: (ما ينفع ولد الملك من تأديب المؤدبين إياه، وهو يغدو ويروح فيراه على خلاف ما يأمره به المؤدبون؟ ولم يزل الباطل على نفوس الرجال أخف محملًا وأحلى طعمًا فكيف الصبيان؟ المؤدب يأمر الغلام بألا يشتم أحدًا ويتجنب
(1)
الفقيه والمتفقه (652).
(2)
المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 154).
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 79).
(4)
الذيل على رفع الإصر، السخاوي (333).
(5)
تاريخ حكماء الإسلام، ظهير الدين البيهقي (143).
المحارم ويحسِّن خلائقه، ويعلمه من الفقه الأبواب التي لا غنى بمسلم عن معرفتها، ومن الشعر الشاهد والمثل، ومن الإعراب ما يصلح به لفظه، ومن الغزل أعفَّه، وهو يرى أباه في كل ساعة بخلاف ما يؤمر به، وتاركًا لما خُصَّ عليه، حتى إنه ليستثقل اللفظة تجري في مجلسه بإعراب، ويصدُّ عن منشد لبيت شعر، ولا يخاطب غلامه ولا يمازح جليسه إلا بالشتم واللعنة، ولا يحتشم من ورود محرم، ولا يتقي كبيرة، ثم يراه مع ذلك وقد بلغ غاية آماله من الدنيا! فيوشك أن يحدِّث نفسه بأن أباه لا يخلو من أن يكون علم ما يُسام فاطَّرحه ورأى أنه لا خير فيه، أو لم يعلم شيئًا من ذلك فلم يضره جهله إياه، ولا صرف عنه حظًّا من دنياه، وكلا المعنيين مزهِّد له في قبول الأدب، ومزيِّن له ترك عنائه وربح تعبه فيه)
(1)
.
ويكون مع هذا للمتعلم همة وحافز من نفسه على التعلم، وإقبال على مجالسه ولزوم لشيوخه، فـ (إنما يرجو العلم من انبعثت جمرة في قلبه تذكِّره ضياع أيامه، وتنسيه جميع أولاده وأمواله)
(2)
.
وللمتعلم مع شيوخه وأقرانه وفي نفسه أثناء دراسته وتعلمه آداب أفاض العلماء في شرحها وبيان أحوالها وما يستعمله المتعلم منها في كافة شؤونه، مما يرجى بملاحظتها ودوام التخلُّق بها نيل بركة التعليم وحصول كمال الغرض منه
(3)
.
رابعًا: المادة التعليمية:
هناك عوامل عدة تؤثر في اختيار المادة التعليمية التي تشتمل عليها مجالس التدريس، غير أن هناك حرية كبيرة وتنوعًا ثريًّا واختلافًا واسعًا تختلف
(1)
نثر الدر، الآبي (3/ 159).
(2)
رسائل اليوسي (1/ 173).
(3)
انظر: رياضة المتعلمين، ابن السَّني (161)، تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (109)، روضة الإعلام، ابن الأزرق (2/ 686)، المعيد في أدب المفيد والمستفيد، العلموي (101)، القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، اليوسي (334)، أدب المتعلم تجاه المعلم في تاريخنا العلمي، د. عبد الحكيم الأنيس (31).
به الأقاليم والمدن، بل والمدارس في المدينة الواحدة في اختيار الكتاب الذي يدرس أو يقرأ، وفي طريقة الدراسة والقراءة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ):(وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم، فهذا باب واسع وهو أيضًا يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه ما لا يتيسر له في بلد آخر)
(1)
. غير أن من رسوم التدريس التي يعاب من لم يلتزم بها بعد حسن اختيار الكتاب، ألا ينتقل المعلم ولا المتعلم عن الكتاب إلا بعد إتمامه؛ لأن التنقل من كتاب إلى كتاب (علامة على الضجر واللعب وعدم الفلاح)
(2)
، كما قاله ابن جماعة (ت 733 هـ).
والواجب التأني والمشاورة في اختيار الكتاب؛ لئلا تذهب الأيام فيما فائدته قليلة أو فيما غيره أنفع منه، والكتب متفاوتة في نفسها وليست على وزان واحد في اكتساب الملكة. قال تاج الدين السبكي (ت 771 هـ) بعد ذكره لبعض الكتب:(والكتاب المذكور أعجوبة في بابه، بالغ في الحسن أقصى الغايات، إلا أن المرء لا يصير به فقيهًا ولو بلغ عنان السماء. وهذه الطائفة تضيع في تفكيك ألفاظه وفهم معانيه زمانًا لو صرفته إلى حفظ نصوص الشافعي وكلام الأصحاب لحصلت على جانب عظيم من الفقه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى)
(3)
.
وربما كان الكتاب المشروح في مجالس التعليم مصنَّفًا مشهورًا لبعض الفقهاء، أو يكون تعليقة يمليها الفقيه على تلامذته
(4)
. قال أبو علي الفارقي (ت 528 هـ) حاكيًا رحلته إلى أبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ) للدراسة عليه: (فنزلت في خانٍ حذاء مسجد أبي إسحاق بباب المراتب، وكان يسكنه أصحاب الشيخ ومن يتفقه عليه، فإذا كثرنا كنا حوالي العشرين، وإذا قل عددنا
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 664).
(2)
تذكرة السامع والمتكلم (288).
(3)
معيد النعم ومبيد النقم (83).
(4)
انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي (128).
كنا حوالي العشرة، وكان الشيخ أبو إسحاق يذكر التعليقة في أربع سنين فيصير المتفقه في هذه الأربع سنين فيها مستغنيًا عن الجلوس بين يدي أحد، وكان يذكر درسًا بالغداء ودرسًا بالعشي)
(1)
.
و (التعليقة) هي المادة الفقهية التي يلقيها الفقيه على تلامذته في مجلس الدرس ويتحملها عنه الطلبة. قال حاجي خليفة (ت 1067 هـ) في بيان معنى ((الأمالي)): (هو جمع الإملاء، وهو أن يقعد عالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم العالم بما فتح الله سبحانه وتعالى عليه من العلم ويكتبه التلامذة فيصير كتابًا، ويسمونه: ((الإملاء)) و ((الأمالي))، وكذلك كان السلف من الفقهاء والمحدثين وأهل العربية وغيرها في علومهم، فاندرست لذهاب العلم والعلماء وإلى الله المصير. وعلماء الشافعية يسمون مثله التعليق)
(2)
.
وهذه التعليقات ربما اشتهرت من جهة الفقيه العالم، كتعليقة أبي الفتح الأسمندي الحنفي (ت 552 هـ)
(3)
، وأبي بكر الطرطوشي المالكي (ت 520 هـ)
(4)
، وتعليقة القاضي حسين الشافعي (ت 462 هـ)
(5)
، وتعليقة القاضي أبي يعلى الحنبلي (ت 458 هـ)
(6)
. أو من جهة تلامذته الذين يكتبونها عنه منسوبة إليه، فتعليقة أبي حامد الإسفراييني (ت 406 هـ) كان علَّقها عنه جماعة من تلامذته، منهم ابن المَحَاملي (ت 415 هـ) وأبو نصر الثابتي (ت 447 هـ) والقاضي أبو علي البندنيجي (ت 425 هـ)
(7)
.
والتعليقات متفاوتة في حجمها وفي طريقتها، فمنها الكبير جدًّا والمتوسط والصغير، وبعضها يكون في مسائل الفقه في المذهب الواحد للطلبة
(1)
المنتظم، ابن الجوزي (17/ 285).
(2)
كشف الظنون (1/ 161)، وتسمية هذه الأمالي بالتعليقات ليست مختصة بالشافعية غير أن لهم السبق فيها.
(3)
انظر: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (3/ 209).
(4)
انظر: الديباج المذهب، ابن فرحون (2/ 245).
(5)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 356).
(6)
انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 168).
(7)
انظر على التوالي: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 48) وفي (4/ 25) وفي (4/ 305).
الذين يتفقهون فيه كالتعليقات المذكورة، وبعضها يكون تعليقًا في مسائل الخلاف للتلامذة المتقدمين الذين فرغوا من معرفة المذهب
(1)
. وهي متفاوتة كذلك في تحريرها واعتمادها وفرح الفقهاء بها، فمنها ما يعوزه التحرير، ومنها ما يقبل عليه الفقهاء تعلُّمًا وتعليمًا، كتعليقة القاضي الأصبهاني (ت 585 هـ) التي (شهدت بفضله وتحقيقه وتبريره على أكثر نظرائه، وجمع فيها بين الفقه والتحقيق، وكان عمدةُ المدرسين في إلقاء الدروس عليها، ومن لم يذكرها فإنما كان لقصور فهمه عن إدراك دقائقها)
(2)
، كما يقول ابن خلكان (ت 681 هـ). ومن شواهد العناية البالغة من الفقهاء بتعليقاتهم ما روي من أن ابن المحاملي (ت 415 هـ) لما صنف كتبه ((المقنع)) و ((المجرد)) وغيرهما من تعليق أستاذه أبي حامد (ت 406 هـ) ووقف عليها، قال: بتر كتبي بتر الله عمره
(3)
.
وعند التأمل في التعليقات الفقهية نلاحظ أن هذا النمط من التصنيف فشا في أواخر القرن الرابع وفي القرن الخامس والسادس
(4)
، وهي عصور ازدهار تدوين المذاهب الفقهية، ثم إن التعليقات قلَّت بعد ذلك إلا أن تكون بمعنى التحشية على مصنَّف آخر، كأن يقال: تعليقة على التنبيه، أو تعليقة على المقنع
(5)
. وبعد هذه القرون فالغالب قراءة مصنف فقهي من المصنفات المعتمدة في كل مذهب من المذاهب الأربعة، فيدرِّسه الشيخ أو يُقرأ عليه.
وكان الشيخ ربما درَّس كتابه أو قُرئ عليه، كما كان الجويني (ت 478 هـ) يُدرِّس ((نهاية المطلب)) للخواص من تلامذته
(6)
، وكما قرأ جماعة كتاب
(1)
انظر على سبيل المثال: الجواهر المضية، ابن أبي الوفاء (3/ 67)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 359).
(2)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (5/ 174).
(3)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 49).
(4)
انظر: كشف الظنون، حاجي خليفة (1/ 423).
(5)
انظر على التوالي: طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (8/ 315)، المقصد الأرشد، البرهان بن مفلح (1/ 215).
(6)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (5/ 177).
((المغني)) على الموفق بن قدامة (ت 620 هـ)
(1)
.
وقراءة الكتاب على الشيخ قد تكون قراءة عرض وإجازة بالكتاب بحيث يستوثق من ضبطه ويأمن التصحيف فيه
(2)
، أو تكون قراءة تصور لمسائله وشرح لغوامضه، أو تكون قراءة مباحثة وتحرير ومناقشة
(3)
، وكل نوع من هذه القراءات له رسومه. وقد كانت رواية كتب الفقه سبيلًا إلى الثقة بنقلها، حتى إن من الكتب ما أسقط الفقهاء الثقة به بسبب انقطاع السلسلة فيه. قال المقَّري (ت 759 هـ):(ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف وانقطعت سلسلة الاتصال، فصارت الفتاوى تنقل من كتب من لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها، ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوِّغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي (ت 478 هـ)؛ لكونه لم يصحَّح على مؤلفه ولم يؤخذ عنه، وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط. ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين، فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين، ولم يكن هذا فيمن قبلنا، فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها ولم يُستعمل منها-على كره من كثير منهم-غير ((التهذيب)) الذي هو ((المدونة)) اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة أبي محمد)
(4)
.
وبالرجوع إلى أثبات الشيوخ وبرامجهم يمكننا الاطلاع على جملة من الكتب التي كان الفقهاء يحرصون على قراءتها على شيوخهم في كل زمن من الأزمان وجهة من الجهات. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في ثبت مفتي الحنابلة بدمشق الشيخ عبد القادر التغلبي (ت 1135 هـ) من قراءته لـ ((زاد
(1)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 283).
(2)
من الأمثلة التي توضح ذلك: ما ذكره ابن خير الإشبيلي (ت 575 هـ) في فهرسه (301) من حضوره مجلس قراءةٍ لكتاب ((التلقين)) للقاضي عبد الوهاب (ت 422 هـ)، في جلسة واحدة في منزل القاضي أبي بكر بن العربي (ت 543 هـ) بقرطبة قراءة عليه سنة 532 هـ.
(3)
انظر على سبيل المثال: برنامج المجاري (145). وسيأتي مزيد لذلك في مجلس المباحثة.
(4)
نقل عند ذلك الشهاب المقري في: نفح الطيب (5/ 276). وانظر: فهارس الشيوخ عند علماء المسلمين، شعبان خليفة (28).
المستقنع)) و ((الإقناع)) و ((المنتهى)) و ((غاية المنتهى)) و ((شرح الإقناع)) وغير ذلك، ومن هذه الكتب ما أكمله قراءةً بطرفيه، ومنها ما قرأ بعضه، ومنها ما حضر قراءته
(1)
.
وقراءة الكتاب على الشيخ أمر تتفاوت فيه الكتب، ويتفاوت فيه الطلبة كذلك من جهة استعداداتهم الغريزية وما وهبهم الله تعالى من الفطنة والذكاء وسرعة الهجوم على المعاني والظفر بها، فمنهم من لا يكاد يستقل في قراءة كتاب عمن يقرأه عليه، ومنهم من يستغني في بعضها عن الشيخ إلا على وجه المباحثة. ومن أمثلة ذلك ما ذكر عن أبي القاسم القشيري (ت 465 هـ) من أنه لما درس عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (ت 418 هـ) قال له:(ما تحتاج إلى درس، بل يكفيك أن تطالع مصنَّفاتي)
(2)
. وقال القاضي أبو الوليد بن رشد (ت 520 هـ) في فاتحة كتابه ((البيان والتحصيل)): (وعلمت أنه إن كمل شرح جميع الديوان على هذا الترتيب والنظام، لم يحتج الطالب النبيه فيه إلى شيخ يفتح عليه معنى من معانيه؛ لأني اعتمدت في كل ما تكلمت عليه بيان كل ما تفتقر المسألة إليه، بكلام مبسوط واضح موجز يسبق إلى الفهم بأيسر تأمل وأدنى تدبر)
(3)
. وقال العز بن عبد السلام (ت 660 هـ): (ما احتجت في شيء من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرؤه عليه، وما توسطته، حتى أختمه عليه)
(4)
.
خامسًا: هيئة مجلس التعليم:
والمراد بها ما يكون عليه مجلس التعليم أثناء إلقاء الدرس من الهيئة
(1)
ثبت الشيخ عبد القادر التغلبي (52). وانظر في ذكر بعض الكتب التي كانت محل حرص وعناية في المذاهب الأربعة: صبح الأعشى، القلقشندي (1/ 472).
(2)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 206).
(3)
البيان والتحصيل (1/ 30).
(4)
رفع الإصر، ابن حجر (241). ومما يُذكر في هذا الصدد قول الأخفش:(كنت أسأل سيبويه عما أشكل علي منه، فإن تصعَّب على الشيء منه قرأته عليه)، كتاب سيبويه (1/ 9).
الزمانية والمكانية، وطبيعة سير إلقاء الدرس وعمل الفقيه والمتفقه في ذلك، وما أشبه ذلك من التراتيب العلمية والإدارية التي جرى عليها الحال في أماكن التعليم من جوامع ومدارس وغيرها. وهذه النظم مكتسبة من الأعراف العلمية المتبعة في التدريس، ويصوغها طريقة الشيخ وشرط الواقف، وبينها تفاوت وتنوع فليست على شاكلة واحدة، ومع ذلك فثمَّ رسوم وآداب تواطأ الفقهاء على استعمالها في مجلس التدريس لحصول النفع بها.
فإذا جلس الناس مجالسهم شرع الشيخ في الدرس فيلقي المسائل، أو يقرأ بعض الطلبة مصنَّفًا في الفقه له أو لغيره. وربما اشترك الطلبة في درس واحد، أو كان لكل طائفة منهم درس، فيقدم من كان له السبق أولًا. فإن كان الدرس واحدًا لجميعهم جلس الفقيه والتفَّ به الطلبة كالحلقة أو الحلقات المتداخلة فيما بينها
(1)
. وجلوس العالم في حلقة كثير في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه عمل العلماء والفقهاء
(2)
.
فإذا جلس العالم تحلَّقوا وأوسعوا الحلقة، وجلس الشيخ مستقبل القبلة إن أمكن، ويجلس المتعلم حيث انتهى به المجلس، ويسلم على الحاضرين
(3)
، ولا يتخطى الرقاب إلا إن صرَّح له الشيخ والحاضرون بالتقدم أو كان يعلم إيثارهم لذلك
(4)
. والقرب من الشيخ في المكان كان له دلالة على تقدم التلميذ في الفقه، وبذلك جرت العادة في مجالس التدريس
(5)
.
(1)
انظر: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (633).
(2)
انظر: الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 172).
(3)
ذكر بعضهم أن مجالس العلم حال التعليم من المواضع التي لا يسلم فيها، قال ابن جماعة:(وهذا خلاف ما عليه العرف والعمل). تذكرة السامع والمتكلم (202). وهذا مثال على ما يجري فيه الاختلاف بين مجالس التعليم مما تجري به الأعراف فيها. ومثله دنوُّ التلامذة من شيخهم في الحلقة أو بعدهم عنه بمقدار قوس ونحوه، انظر: تعليم المتعلم، الزرنوجي (11)، بينما عدَّ ابن الحاج ذلك مما لا ينبغي فعله وأنه خلاف فعل السلف الذين تمس ثياب الطلبة ثيابهم لقربهم منهم، انظر: المدخل (1/ 198). وهذه الإجراءات ونحوها لا تقصد لذاتها بل لما يُظن أنها تعود به من النفع على العملية التعليمية في مجلس الدرس.
(4)
انظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (198)، تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (202).
(5)
انظر: الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (635)، تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة (206).
ومن أمثلة ذلك ما حكاه أبو بكر الدينوري (ت 532 هـ) فقال: (كنا نتفقه على شيخنا أبي لخطاب (ت 510 هـ)، فكنت في بدايتي أجلس في آخر الحلقة والناس منها على مراتبهم، فجرى بيني وبين رجل كان يجلس قريبًا من الشيخ بيني وبينه رجلان أو ثلاثة كلام، فلما كان اليوم الثاني جلست في مجلسي كعادتي في آخر الحلقة، فجاء ذلك الرجل فجلس إلى جانبي، فقال له الشيخ: لم تركت مكانك؟ فقال: أنا مثل هذا فأجلس معه، يزري علي، فو الله ما مضى إلا قليل حتى تقدمت في الفقه وقويت معرفتي به، وصرت أجلس إلى جانب الشيخ وبيني وبين ذلك الرجل رجلان)
(1)
.
كما جرت العادة أن يكون للمدرس معيد أو أكثر يجلسون بقربه، والمعيد طالب من طلبة الشيخ المتقدمين، يعيد دروس الشيخ على الطلبة بعد فراغه منها، ويُفهِّم من لم يفهم منهم، ولا يمنع مستفيدًا عما يطلبه من زيادة تكرار أو تفهُّم معنى
(2)
.
والفقهاء متفاوتون في استعدادهم وقرب المسائل من أذهانهم ونجابة طلابهم، فمن الفقهاء من كان يستعد للدرس قبل موعده فيقرأ ويراجع مسائل الدرس، ومنهم من لا يكون بحاجة إلى ذلك لسبب منه أو من طلبته
(3)
. ولما ليم ابن عرفة (ت 803 هـ) على كثرة الاجتهاد وإتعابه نفسه في النظر، قال:(كيف أنام وأنا بين أسدين: الأبي (ت 827 هـ) بفهمه وعقله، والبرزلي (ت 841 هـ) بحفظه ونقله؟)
(4)
.
(1)
المنتظم، ابن الجوزي (17/ 328)، الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 429). وانظر أيضًا حكاية الإمام أحمد مع الضحاك بن مخلد في: تاريخ دمشق، ابن عساكر (5/ 297)، وحكاية أبي سعد المتولي مع أبي الحارث السرخسي في: وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 133).
(2)
انظر: نهاية الأرب، النويري (32/ 46)، معيد النعم، ابن السبكي (108)، صبح الأعشى، القلقشندي (5/ 464)، التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (208). ويُرجع بعض الباحثين تاريخ ظهور هذه الوظيفة العلمية إلى نشأة المدارس وانتشارها في القرن الخامس، انظر: نشأة الكليات، جورج مقدسي (214)، المدارس الإسلامية في العصر العباسي وأثرها في تطوير التعليم، د. حسين أمين، مجلة المؤرخ العربي، العدد السادس (11).
(3)
انظر على سبيل المثال: الضوء اللامع، السخاوي (9/ 183) وفي (9/ 186).
(4)
نيل الابتهاج، أحمد بابا التنبكتي (488).
ويستعمل الشيخ والطلبة في درسهم الأدب والسمت والوقار، فإن أساء طالب نبهه الشيخ برفق، وله أن يعنفه إن استدعى الأمر ذلك. قال معاذ بن سعد الأعور: كنا عند عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ)، فحدَّث رجل، فاعترض له رجل من القوم في حديثه، فقال عطاء:(سبحان الله! ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الطباع؟ إني لأسمع الحديث من الرجل أنا أعلم به منه، فأريه من نفسي كأني لا أحسن منه شيئًا)
(1)
.
أما مواعيد الدروس وعددها ومُدَّتها وأوقات العطل فهو أمر تختلف به عادات الشيوخ وشروط الواقفين
(2)
. وإن كان وقت الصباح بين الفجر والظهر وقتًا مستحبًّا للتعليم في أغلب الأحوال، وربما ازدحمت الدروس في الجامع أو المدرسة حتى تكاد تستوعب عامة الأوقات
(3)
.
(1)
رياضة المتعلمين، ابن السني (210).
(2)
انظر نماذج من شروط الواقفين في ذلك في: التعليم في مصر زمن الأيوبيين والمماليك، د. عبد الغني عبد العاطي (225).
(3)
انظر: الحركة العلمية في المدينة المنورة إبان القرن الثاني عشر الهجري، د. محمد بيومي (280)، الحياة العلمية في الحجاز خلال العصر المملوكي، خالد الجابري (331)، الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية، د. علي مفتاح (180)، مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده (3/ 175)، المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (166)، دراسات في تاريخ التربية عند المسلمين، د. محمد سعد الدين (44)، نشأة الكليات، جورج مقدسي (108)، وصف إفريقيا، الحسن بن محمد الوزان (227).
لما كانت مجالس التعليم أسَّ المجالس ورأسها كانت ثمرات مجالس الفقه كلها عائدة عليها، وموصولة بسبب إليها، ومن أبرز هذه الثمرات والفوائد ما يأتي بيانه:
1 -
اتصال سند الفقهاء من هذه الأمة الشريفة في ضبط العلم وتحقيقه وتلقيه عن أهله الراسخين فيه والاستيثاق من ذلك، حتى يتصل سندهم بسيدهم الذي هو منبع العلوم والفضائل كلها صلى الله عليه وسلم. وفي هذا العز الأطول والشرف الأكبر. قال ابن الجوزي (ت 597 هـ):(أيها العالم الفقير، أيسرُّك ملك سلطان من السلاطين، وأن ما تعلمه من العلم لا تعلمه؟!)
(1)
.
والعالم إذا لم يجلس للتعليم ويتهيَّأ له الطلبة النجبة الذين يتحملون عنه أوشك علمه أن يضيع، وقد روى الإمام مسلم (ت 261 هـ) في مقدمة صحيحه عن أبي إسحاق السبيعي (ت 127 هـ) أنه قال:(لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله؛ أي: علم أفسدوا؟!)
(2)
.
وقال الزهري (ت 124 هـ): (وأما سعيد بن المسيب (ت 94 هـ) فنصب نفسه للناس فذهب ذكره كل مذهب)
(3)
. وقال الشافعي (ت 204 هـ):
(1)
الآداب الشرعية، ابن مفلح (1/ 287).
(2)
صحيح مسلم، المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها.
(3)
المعرفة والتاريخ، الفسوي (1/ 471).
(الليث (ت 175 هـ) أفقه من مالك (ت 179 هـ)، إلا أن أصحابه لم يقوموا به)
(1)
، قال ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ):(أي: بتفريطهم في تحرير منقول مذهبه على ما ينبغي تفصيلُ كلِّ مطلب عن مشابهه مدركًا ونقلًا وتحريرًا، حتى لم يبق فيه أدنى ريب ولا دخل ولا عيب)
(2)
.
والطلبة النجباء نعمة من الله تعالى على الفقيه الذي يريد لعلمه أن يبقى في الناس، فينتفعون به من بعده ويصله أجره وثوابه بعد انقطاع عمله، وهم مثار غبطة بين الشيوخ المعلِّمين، وقد ذُكر في ترجمة ابن الحاجب (ت 646 هـ) صاحب المؤلفات المشهورة الذائعة أنه لم يرزق طلبة كثيرين، بل كان أهل درسه قليلين جدًّا، حتى إن بعض التلامذة قال لأحد المشايخ المعاصرين له: من منة الله عليك أن جعل طلبتك الذين يحضرون درسك فوق السبعين، وجعل طلبة نظيرك ابن الحاجب أربعة. فقال له الشيخ: اسكت، وددت أن واحدًا من أولئك الأربعة يأتي إليَّ، ويذهب عني إليه السبعون الذين ذكرت أنهم يحضرون درسي
(3)
.
2 -
في مجالس التعليم سداد الخطط الشرعية التي يحصل بها إقامة الدين، وتعليم فرائضه وسننه وآدابه، والترهيب من المحارم والأمر بتوقيها والحذر من سوء عاقبتها، فلولا مجالس التفقيه ما عرف الناس الحلال والحرام، والواجبات والمنهيات. فالعمل بعلم الشريعة هو المقصود الأعظم من تحمل العلم وبثِّه، وحسن التعبد لله تعالى أجلُّ غايات العلم ومقاصده.
وروي عن أبي حنيفة (ت 150 هـ) أنه قال: (ثم قلبت الفقه فكلما قلبته أو أدرته لم يزدد إلا جلالة، ولم أجد فيه عيبًا، ورأيت أولًا أن الجلوس يكون مع العلماء والفقهاء والمشايخ والبصراء والتخلق بأخلاقهم، ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة
(1)
تاريخ دمشق، ابن عساكر (50/ 358).
(2)
ثبت ابن حجر الهيتمي (59).
(3)
ثبت ابن حجر الهيتمي (408).
إلا به)
(1)
. وإنما جهد العلماء وطوَّفوا البلاد في نشر العلم حرصًا منهم على أن يعبد الله تعالى على بصيرة، وكانوا يدخلون المدن والقرى فيعمرون مساجدها ومجامعها وأنديتها بالعلم حتى فشا العلم وذاع، ومن مظاهر ذلك ما هو ملاحظ من انتساب الفقهاء إلى كافة الفئات والطبقات الاجتماعية، وإلى الحرف والمهن المختلفة، وإلى المدن والقرى والبلدات الصغيرة والقصبات، كما هو ظاهر في أسمائهم وألقابهم، فنجد فيهم الحداد والقفال والبواب والبناء والجصاص والخصاف والنعال والإسكاف والوراق والخياط والعطار والبزار والنجار والقصار واللحام والقصاب والسماك والخلال والزيات والقدوري والأنماطي والبابي والسبكي والطوسي والجويني والغزالي والآمدي والجماعيلي والبهوتي وغير ذلك، مما يدل على مدى انتشار العلم وذيوعه، وقدرة الكبير والصغير والغني والفقير والبعيد والقريب على تحصيله والنبوغ فيه
(2)
؛ لأن شأن الفقه شأن الأمة كلها، لا تختص به طائفة دون طائفة، حتى لا يكاد مسلم يخلو من العلم بجملة من أحكامه ومسائله التي تصح بها فرائضه ويستقيم بها تعبده. قال غوستاف لوبون (ت 1931 م):(فالمسلم أينما مرَّ ترك خلفه دينه)
(3)
.
3 -
في مجالس التعليم ارتقاء بالحالة العلمية، وفيها تحرير العلم وتحقيقه وتثويره وتنميته. وأكمل أحواله أن يلتئم بالأستاذ البارع طلبة نابهون، فيكون بينهم مساعدة ومشاركة في الغوص في دقائق العلم والفحص عن مشكلاته وغوامضه، إذ الغرض من الدرس ليس السرد المجرد. قال الخطيب ابن مرزوق (ت 780 هـ): (ولولا النظر في ترجيح الأقوال والتنبيه على مسالك التعليل ومدارك الأدلة، وبيان بناء الفروع على الأصول وإيضاح المشكل وتقييد المهمل وبيان المجمل، ومقابلة بعض الأقوال ببعض والنظر في تقوية
(1)
مناقب الإمام الأعظم، الموفق المكي (1/ 58).
(2)
انظر: صفحات من صبر العلماء، د. عبد الفتاح أبو غدة (369)، مهن الفقهاء في صدر الإسلام، د. محمد التميم (188).
(3)
حضارة العرب (616).
قويها وتضعيف ضعيفها، لتعطلت الدروس وغُلِّقت المدارس، أفللمدرِّس فائدة غير هذا وتعليمه وإيضاحه للطلبة وتفهيمه؟ ولو لم يكن له وظيف إلا سرد الأحكام ونقل الأقوال لما افتقر إلى المدرس مفتقر)
(1)
. وقال ابن مرزوق الحفيد (ت 842 هـ) في أبي الفضل المشدالي (ت 864 هـ): ما عرفت العلم حتى قدم عليَّ هذا الشاب! فقيل: كيف؟ قال: لأني كنت أقول فيسلَّم كلامي، فلما جاء هذا شَرَع ينازعني، فشرعت أتحرز وانفتحت لي أبواب من المعارف
(2)
.
وكان طلبة أبي الفضل يقولون له: تنزَّلْ لنا في العبارة؛ فإنا لا نفهم جميع ما تقول. فيقول لهم: لا تنزلوني إليكم ودعوني أرقيكم إلي
(3)
. والواقعات الكثيرة في الماضي والحاضر تشهد بصدق هذه الكلمة الشريفة، وربما نزل الأساتذة بمستوى التعليم إلى أفهام الطلبة فلم ينهض بعدهم فيهم أبدًا
(4)
. وقد قال عبد الملك بن عمير (ت 136 هـ): (من إضاعة العلم أن تحدِّثه غير أهله)
(5)
.
فالمبالغة في تسهيل العلم ليكون في مستوى عامة الناس وضعاف الطلبة مضر بالحركة العلمية؛ لأن من العلم ما هو متين في نفسه ومفتقر بطبيعته إلى مقدِّمات لا يطيقها كلُّ أحد، وينبغي ألا يخلص إلى متين العلم إلا من هو متين الفهم، وربما اطلع الضعيف في فهمه وإرادته وديانته من مسائل الترخص والخلاف ونحوها، على ما يكون فتنة له في دينه وسبيلًا له إلى مماراة العلماء ومجادلة الجهلاء، فلم يكن فيه بالفقيه الراسخ العالم بحسن مواقع التنزيل، ولا بالعامي حسن القصد الساعي في براءة ذمته من عهدة التكليف، بل تحمل علمًا لم يبلغه عقله كان سببًا في سوء سعيه وضلال عمله. ومن أجل هذا المعنى وشبهه وصى العلماء بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، وألا يُحدِّث
(1)
المعيار المعرب، الونشريسي (9/ 309).
(2)
الضوء اللامع، السخاوي (9/ 182).
(3)
الضوء اللامع، السخاوي (9/ 183).
(4)
انظر: الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية بتونس في القرن التاسع عشر، د. لطفي الجراي (163).
(5)
المدخ إلى السنن الكبرى، البيهقي (2/ 144).
العالم الناس بما لا يحتملونه من العلم، وقد مضت الإشارة إلى بعض هذا المعنى. وفي مقدمة صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:(ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)
(1)
، وقال أبو الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ):(حرامٌ على عالم قويِّ الجوهر أدرك بجوهريته وصفاء نحيزته علمًا أطاقه، فحمله أن يرشح به إلى ضعيف لا يحمله ولا يحتمله؛ فإنه يفسده)
(2)
. وإنما يقرَّب إلى العوام ما يحتملونه وتمس حاجتهم إليه من مسائل العلم والعمل، كالذي جرت به عادة الفقهاء، ومن ذلك أن بعض الفقهاء من أصحاب القاضي أبي يعلى (ت 458 هـ) كان لهم حِلَق بجامع الرصافة ببغداد، فيقصون الفقه شرحًا للمذهب على وجه ينتفع به العوام
(3)
.
فالمراد أن مجالس التعليم مما ترتقي به أحوال المدن والقرى في العلم، وربما دخل العالم قرية خاملة فاشتعلت به حتى تصير عامرة بأهله، وآثار آحاد العلماء في نشر العلم كثير معلوم، وقد قيل في أبي القاسم الأنماطي (ت 288 هـ) إنه كان سبب نشاط الناس ببغداد في حفظ كتب الشافعي (ت 204 هـ)
(4)
، ولما دخل أبو الفضل بن النحوي (ت 513 هـ) سجلماسة أخذ يقرأ في أصول الفقه، فقال بعض شيوخ البلد: ما يُقرئ هذا الإنسان؟ فقالوا: الأصول، فقال: هذا يريد أن يدخل علينا علومًا لا نعرفها. وأمر بإخراجه.
فقال له ابن النحوي: أمتَّ العلم أماتك الله
(5)
.
4 -
في مجالس التعليم يتمايز المنتسبون إلى العلم، ويُعرف منهم المحقق المتلقي للعلم من أهله والمنتظم في سلكهم، والمتابع الجامع للعلم من الكتب دون تحقيق ولا تدقيق، وقد كان طوائف من العلماء يتوقَّون أن يكتبوا العلم خشية أن يكون في الناس من يكتفي به عن ملاقاة الرجال
(1)
صحيح مسلم، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
(2)
الآداب الشرعية، ابن مفلح (2/ 260)، والنحيزة الطبيعة، انظر مادة (نحز) من القاموس وغيره.
(3)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (1/ 5).
(4)
وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 241).
(5)
رسائل اليوسي (1/ 146)، وانظر تمام الحكاية فيه.
والتحمل عنهم. قال الأوزاعي (ت 157 هـ): (ما زال هذا العلم عزيزًا يتلقاه الرجال، حتى وقع في الصحف فحمله-أو دخل فيه-غير أهله)
(1)
. ودعا عبيدة (ت 72 هـ) بكتبه فمحاها عند الموت، وقال:(إني أخاف أن يليها قوم فلا يضعونها مواضعها)
(2)
.
وما فتئ العلماء ينبِّهون إلى وجوب تلقي العلم عن أهله المتحققين به، ويعيبون من لم يحكم أخذ العلم من طريقهم بضعف التحقيق. قال أبو الزناد (ت 130 هـ):(لا تأخذوا القرآن من مُصحفيِّ، ولا العلم من صحفيِّ)، قال أبو زرعة (ت 264 هـ):(يعني: من لم يقرأ القرآن على القراء، ويتعلم من ألفاظهم، ويجالس أهل العلم نقلًا وسماعًا وفهمًا)
(3)
، وقال النووي (ت 676 هـ):(ولا يحفظ ابتداءً من الكتب استقلالًا، بل يصحِّح على الشيخ كما ذكرنا؛ فالاستقلال بذلك من أضر المفاسد، وإلى هذا أشار الشافعي رحمه الله بقوله: من تفقه من الكتب ضيع الأحكام)
(4)
.
وبهذا انتقد جماعة من العلماء تأليف أبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ)، فقال ابن رجب (ت 795 هـ):(ونظر في جميع الفنون وألَّف فيها، وكانت أكثر علومه يستفيدها من الكتب، ولم يحكم ممارسة أهلها فيها)
(5)
.
وقال فيه الذهبي (ت 748 هـ): (هكذا هو له أوهام وألوان من ترك المراجعة وأخذ العلم من صحف، وصنَّف شيئًا لو عاش عمرًا ثانيًا لما لحق أن يحرِّره ويتقنه)
(6)
.
وقال ابن رجب (ت 795 هـ) أيضًا في كلامه عن كتاب ((نهاية المطلب في
(1)
سنن الدارمي، المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث (483).
(2)
سنن الدارمي، المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث (481).
(3)
رياضة المتعلمين، ابن السَّني (343).
(4)
المجموع (1/ 38).
(5)
الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 466).
(6)
سير أعلام النبلاء (21/ 378). وقال الذهبي في ترجمة الفيلسوف الطبيب ابن رضوان (453 هـ): (وكان ذا سفهِ في بحثه، ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنَّف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين، وهذا غلط). سير أعلام النبلاء (18/ 105).
علم المذهب)) ليحيى بن يحيى الأزجي (ت: بعد 600 هـ): (ذكر في فروع الآجر المجبول بالنجاسة كلامًا ساقطًا يدل على أنه لم يتصور هذه الفروع ولم يفهمها بالكلية؛ وأظن هذا الرجل كان استمداده من مجرد المطالعة، ولا يرجع إلى تحقيق)
(1)
.
ومن أجل هذا المعنى أيضًا جاءت الوصية من السادة العلماء بكثرة مجالسة الأئمة، وألا يقتصر المتفقه على الشيخ الواحد لا يعدوه إلى غيره.
قال أيوب (ت 131 هـ): (إنك لا تبصر خطأ معلمك حتى تجالس غيره، جالس الناس)
(2)
.
5 -
مجالس التعليم سبيل إلى حفظ العلم ورسوخه في قلب المعلِّم؛ إذ هو بتكرار المسألة يزداد إتقانًا واستظهارًا لها، وبكثرة تقليبها على وجوه مختلفة لتقريبها إلى أذهان الطلبة تزداد بيانًا في ذهنه، وربما اطلع على منها على إشكال كان خافيًا عليه، أو بدا له جواب سؤال لم يظهر له إلا بمعاناة الشرح ومكابدة التعليم.
قال الخليل بن أحمد (ت 170 هـ): (إن لم تعلِّم الناس ثوابًا، فعلمهم لتدرس بتعليمهم علمك)
(3)
. وقال ابن المعتز (ت 296 هـ): (النار لا ينقصها ما أخذ منها، ولكن ينقصها أن لا تجد حطبًا، وكذلك العلم لا يفنيه الاقتباس
(1)
الذيل على طبقات الحنابلة (3/ 248). وانظر أيضًا في تاريخ الإسلام للذهبي (14/ 335) قول ابن خزيمة (ت 311 هـ): (وهل أخذ ابن سريج (ت 306 هـ) العلم إلا من كتب مستعارة؟!). وانظر في ترتيب المدارك للقاضي عياض (4/ 175) كلام الفقهاء في أبي جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي (ت 402 هـ). وكذلك انظر كلام مؤرخ الأندلس أبي مروان بن حيان (ت 469 هـ) في أبي محمد بن حزم، نقله عنه ابن بسام في الذخيرة (1/ 167)، وانظر في شأن أبي محمد أيضًا كلام ابن خلدون في مقدمته (3/ 5) حيث نسبه إلى تلقي العلم من الكتب من غير ((مفتاح المعلمين)). رحم الله أولئك السادة جميعًا ورضي عنهم، والعبرة بما هو متحصل من ذلك من ضرورة التلقي عن الشيوخ وملازمتهم، وعدم الاستغناء بالكتب عنهم؛ إذ بذلك يتخرج العلماء حقًّا، وقد قال أبو حنيفة (ت 150 هـ):(ثبتُّ عند حماد بن أبي سليمان فنبتُّ). تعليم المتعلم، الزرنوجي (7).
(2)
حلية الأولياء، أبو نعيم (3/ 9). وحكي نحوه أبو سعيد الضرير اللغوي. انظر: معجم الأدباء، ياقوت (1/ 254).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 381). وانظر: أدب الدين والدنيا، المارودي (137).
منه، وفقد الحاملين له سبب عدمه)
(1)
. وقال الوزير ابن هبيرة (ت 560 هـ): (يحصل العلم بثلاثة أشياء: أحدها: العمل به، فإن من كلف نفسه التكلم بالعربية، دعاه ذلك إلى حفظ النحو، ومن سأل عن المشكلات ليعمل فيها بمقتضى الشرع تعلم. والثاني: التعليم، فإنه إذا علم الناس كان أدعى إلى تعليمه. الثالث: التصنيف، فإنه يخرجه إلى البحث، ولا يتمكن من التصنيف من لم يدرك غور ذلك العلم الذي نصف فيه)
(2)
.
وقال ابن القيم (ت 751 هـ): (العالم كلما بذل علمه للناس وأنفق منه، تفجَّرت ينابيعه وازداد كثرة وقوة وظهورًا، فيكتسب بتعليمه حفظ ما علمه، ويحصل له به علم ما لم يكن عنده، وربما تكون المسألة في نفسه غير مكشوفة ولا خارجة من حيِّز الإشكال فإذا تكلم بها وعلَّمها اتضحت له وأضاءت وانفتح له منها علوم أخر. وأيضًا فإن الجزاء من جنس العمل، فكما علَّم الخلق من جهالتهم، جزاه الله بان علَّمه من جهالته، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث طويل: ((وإن الله قال لي: أنفق أنفق عليك))
(3)
، وهذا يتناول نفقة العلم، إما بلفظه وإما بتنبيهه وإشارته وفحواه، ولزكاء العلم ونموِّه طريقان: أحدهما تعليمه، والثاني العمل به)
(4)
.
6 -
مجالس التعليم مجالس سمت وأدب، وقد كان من هدي الأئمة أن ينتفع الناس بهديهم وخلقهم كما ينتفعون بعلمهم. قال إبراهيم (ت 96 هـ):(كنا نأتي مسروقًا فنتعلم من هديه ودلِّه)
(5)
، وقال ابن وهب (ت 197 هـ): (ما
(1)
التمثيل والمحاضرة، الثعالبي (167).
(2)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 156).
(3)
روى مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أطول من هذا:((وإن الله أمرني أن أحرِّق قريشًا، فقلت: ربِّ إذًا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك)).
(4)
مفتاح دار السعادة (1/ 363).
(5)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 510).
تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه)
(1)
. وقال بعض العلماء في سحنون (ت 240 هـ) إنه كان أعقل صاحبًا، وأفضل الناس صاحبًا، وأفقه الناس صاحبًا، وقد كانت هذه الصفات صفات سحنون، فتخلَّق بها أصحابه
(2)
.
وهذه الثمرة من ثمرات العلم الضرورية في علوم الشريعة، فإن خير العلم ما نفع وبدت آثاره وخلائقه على من تحمَّله وتأدب به، وإذا لم يكن الفقيه متخلِّقًا بالعلم الذي يحمله قلَّ انتفاع غيره به، ولذا عدَّ بعض العلماء في الكبائر مجالسة الفسقة من القراء والفقهاء؛ لأن النفس بتكرار الجلوس معهم تألفهم وتميل إلى أفعالهم وتتأسى بهم
(3)
.
وما أجمل قول أبي القاسم الزمخشري (ت 538 هـ): (نعم يا أبا القاسم، إن سمعتهم يقولون: ما أكثر فضلك! فقل: إن فضولي أكثر. وما أغزر أدبك! فقل: إن قلة أدبي أغزر. فلعمر الله ليس بأديب ولا أريب كلُّ مُغربٍ وحافظ غريب. الأديب من أخذ نفسه بآداب الله فهذَّبها، ونقَّح أخلاقه من العقد الشائنة فشذَّبها، والأريب الفاضل من لم يكن له أرب ولا وطر، إلا أن يكون له عند الله فضل وخطر)
(4)
.
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 509).
(2)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 84)، وانظر (2/ 99).
(3)
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر، ابن حجر الهيتمي (2/ 211). ومن النقد الذي وجَّهه علي عزت بيقوفتش (ت 1424 هـ) إلى التعليم المدرسي المعاصر قوله:(في هذه الأيام، من الممكن جدَّا أن نتخيل شابًّا قد مرَّ بجميع مراحل التعليم من المدرسة الابتدائية حتى الكلية، دون أن يكون قد ذكر له ضرورة أن يكون إنسانًا خيِّرًا وأمينًا). الإسلام بين الشرق والغرب (113).
(4)
شرح المقامات (112).