الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد ثان
في بيان أنواع المجالس الفقهية والفرق بينها
(وقال الحكيم: القلب ميت وحياته العلم، والعلم ميت وحياته الطلب، والطلب ضعيف وقوَّته بالمدارسة، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة، وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل، فإذا زُوِّج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكًا أبديًّا لا آخر له).
(منهج الثقات، ابن خير الله العمري/33)
(قل للذي دسَّك: القضاة لا تفتي). قاضي البصرة إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
(أخبار القضاة، وكيع/2/ 168)
(وقد ينصر الإنسان في المناظرة غير مذهبه).
(المجموع، النووي/2/ 502)
(وليس حد العالم بأن يكون حاذقًا بالجدل، فالعلم صناعة والجدل صناعة إلا أنه مادة الجدل، والمجادل يحتاج إلى العالم، والعالم لا يحتاج في علمه إلى المجادل كما يحتاج المجادل في جدله إلى العالم).
(الواضح، ابن عقيل/1/ 510)
(وإن استفتوك في المسائل فلا تناقشهم في المناظرة والمطارحات). من وصية أبي حنيفة لأبي يوسف.
(الأشباه والنظائر، ابن نجيم/518)
(العلماء يستنكفون من إيراد السؤالات في مجالس الوعظ). الفخر الرازي.
(مناظرات فخر الدين الرازي في بلاد ما وراء النهر/15)
العلم ميراث كميراث المال، وله خزنة وحفظة وكتبة وطلبة كخزنة المال وحفظته وكتبته وطلبته، فإن عدم المال ورثة يتطلبونه ويحصونه ويحوزونه ويتقاسمونه ضاع، فكذلك العلم إن لم يكن له ورثة ضاع، ومن أعظم ما يُدخل الحزن والأسف على صدر العالم ألا يجد حملة لعلمه. ولما كان سعيد بن جبير (ت 95 هـ) بفارس كان يتحزن ويقول:(ليس أحد يسألني عن شيء)
(1)
، وكان يقول:(إن مما يهمني ما عندي من العلم، وددت أن الناس أخذوه)
(2)
. وقال زاذان (ت 82 هـ): (سألت ابن مسعود رضي الله عنه عن أشياء ما أحد يسألني عنها)
(3)
.
وقال الزهري (ت 124 هـ): (إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يُترك العالم حتى يذهب بعلمه)
(4)
. وسئل يحيي بن أكثم (ت 242 هـ): كيف رأيت عبد الملك-يعني: ابن عبد العزيز الماجشون (ت 213 هـ) - بالمدينة؟ فقال: رأيت بحرًا لا تكدره الدلاء، ولكني ما رأيت له سَأَلَةً. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا يفهمون عنه
(5)
. وقال ابن الخشاب اللغوي الحنبلي (ت 567 هـ): (إني متقن في ثمانية علوم، ما يسألني أحد عن علم منها، ولا أجد لها أهلًا)
(6)
. وقال عالم الأحساء عبد العزيز بن حمد آل مبارك (ت 1359 هـ) لما أحسَّ بدنوِّ أجله: (ما أسفت على شيء أسفي على علم بين جنبيَّ لم أستطع أن أورِّثه غيري)
(7)
.
(1)
طبقات المحدثين بأصبهان، أبو الشيخ (1/ 318).
(2)
البداية والنهاية، ابن كثير (12/ 469).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب، باب من كان يستحب أن يُسأل (26946)، جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 466).
(4)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 442).
(5)
التسمية والحكايات، أبو العباس السرقسطي (96).
(6)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 247).
(7)
شعراء هجر، عبد الفتاح الحلو (299).
ولم يزل طلبة علم الفقه في هذه الأمة يتوارثونه كابرًا عن كابر، ويتحمله الآخر منهم عن الأول في مجالس كريمة تختلف في أغراضها وتتكامل في وظائفها، ما بين مجلس درس، ومجلس إفتاء، ومجلس قضاء، ومجلس مباحثة، ومجلس مذاكرة ومدارسة، ومجلس مناظرة، ومجلس تذكير، ولكلِّ مجلس منها هيئته ونظامه ورسومه وتراتيبه، يعرف ذلك من مارس هذه المجالس وخالط أهلها، فلا يشتبه عنده مقام الدرس بمقام المناظرة، ولا فتيا المفتي بحكم القاضي، فإذا نقل ناقل أو كتب كاتب شيئًا من ذلك فاشتبه أمره على من لا يعلم ميَّز ذلك من يعلم. وربما جرى الغلط من بعض من لم يكن لم تمييز صالح بين هذه المقامات فنسب إلى بعض الأئمة قولًا لم يقل به، أو دليلًا لا يستدل به.
ولمَّا اشتبه اختلاف أقوال الشافعي (ت 204 هـ) على بعض الناس، ألَّف أبو العباس بن القاص (ت 335 هـ) كتابه ((نصرة القولين للإمام الشافعي)) فقال في أوَّله:(معاشر إخواني المتفقهين، فقد اتصل بي ما أنهيتم إلى من الرغبة، وذكرتم ما حلَّ بكم من الحاجة إلى الحجة فيما عيركم به الكوفيون، وثلبكم به المخالفون من اختلاف قولي الشافعي رضي الله عنه وتخريجه المسألة الواحدة على الأقاويل المختلفة، وزعم أن كثرة الأقوال على تباينها لا تكون إلا من مبتغي التلبيس. وهكذا من قلَّ علمه ضاق بكثرة الأقاويل ذرعه، إلا من تبحر في العلوم فلاحت له حكمة تغاير الوجوه)
(1)
. ثم شرح في الكتاب وجوه اختلاف أقوال الشافعي وأنه ربما ذكر القول على سبيل المحاجة، أو على طريق الحكاية، أو على جهة امتحان المتعلمين، أو على وجه التخيير، أو الاحتياط، وغير ذلك من الوجوه التي ساقها مع التمثيل لها من كلام الشافعي
(2)
. وهذه الوجوه إنما تلتبس على من يتسور العلم تسوُّرًا فلا يأتي البيوت من أبوابها، ثم يُخلِّط في فهمه ونسبته إلى الفقهاء وحكايته عنهم فيجني عليهم وعلى نفسه بذلك.
ومن أجل ذلك فقد حذَّر أهل العلم من مخاطبة العامة بخطاب الخاصة، وقد جاء في بعض كلام الجاحظ (ت 255 هـ): (لا تكلم العامة بكلام
(1)
نصرة القولين (54).
(2)
انظر: نصرة القولين (107).
الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة)
(1)
؛ وذلك أن العامة ليس لهم من مفاتح العلم وأدواته ما يخوِّلهم فهم دقيق الفقه واختلاف أحواله. قال ابن الجوزي (ت 597 هـ): (لا يصلح لإيداع الأسرار كل أحد، ولا ينبغي لمن وقع بكنز أن يكتمه مطلقًا، فربما ذهب هو ولم ينتفع بالكنز، وكما أنه لا ينبغي للعالم أن يخاطب العوام بكل علم، فينبغي أن يخص الخواص بأسرار العلم؛ لاحتمال هؤلاء ما لا يحتمله أولئك، وقد علم تفاوت الأفهام)
(2)
. وفي البخاري وغيره قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: (إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيِّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسُّنَّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها)، فقبل عمر رضي الله عنه مشورته ولم يتكلم بذلك حتى قدم المدينة
(3)
. قال الوزير ابن هبيرة (ت 560 هـ) في شرح الحديث: (وفيه أيضًا أن علم الفقه والدقيق من الأحكام ينبغي أن يُتوخى بنشره خواص الناس ووجوههم وأشرافهم، ممن تقدمت منه الدرجة، فيضع كل شيء منه على موضعه)
(4)
. ولذا فقد أفتى عز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ) بأنه لا يجوز إيراد الإشكالات القوية بحضرة العوام؛ لأنه سبب إلى إضلالهم وتشكيكهم.
قال: (وكذلك لا يتفوه بهذه العلوم الدقيقة عند من يقصر فهمه عنها فيؤدي ذلك إلى ضلالته)
(5)
. فمن المعلوم أن (تشكيك الضعفاء بأدنى خيال ممكن)
(6)
.
ومن عادة أهل العلم التفريق بين مجالس العامة ومجالس الخاصة،
(1)
ذكره عنه الشريف المرتضى في أماليه (1/ 196)، ولم أعثر عليه في كتب الجاحظ. وانظر شيئًا من بيان هذا المعنى في: النبأ العظيم، محمد دراز (113).
(2)
ذكره في ((السر المكتوم)) وحكاه عنه ابن مفلح في: الآداب الشرعية (2/ 186).
(3)
صحيح البخاري، كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت (6830).
(4)
الإفصاح (1/ 133).
(5)
الأشباه والنظائر، ابن السبكي (2/ 325).
(6)
تهافت الفلاسفة، الغزالي (89).
وأن يستعمل لكل نوع منها ما يلائمه من العلم والأدب، وأن يُخصَّ بأصول العلم وغوامضه من فرَّغ نفسه للعلم وقصد له
(1)
. ولما سأل المغيرة بن عبد الرحمن (ت 186 هـ) مالكًا (ت 179 هـ) في مجلسه عن بعض قوله من أين يقوله؟ لم يجبه جوابًا شافيًا، قال المغيرة: ثم رآني في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاني فقال لي: (يا أبا هاشم، إنك تكرم علي، ولي عليك من الحق ألا تسلني عن مثل ما سألتني عنه بالأمس؛ لأنك تفتح علي بابًا مغلقًا والمجلس محتفل، لكن اكتب ما تريد أن تسلني عنه ووجِّه به إلى تحت ختمك فإني أجيبك عنه)
(2)
. وبالجملة فالفرق بين المجالس العامة والخاصة أمر مشهور وحاصل في علم الفقه وغيره، وهو أمر لابد منه في معنى العلم نفسه، فإن من العلم ما تحتمله عقول الناس كافة، ومنه ما لا يحتمله إلا الخاص منهم ممن توفرت فيهم شروط علمية وعقلية وأخلاقية أخص من غيرهم، وهذا أمر متقرر شرعًا وعقلًا وعرفًا
(3)
.
والمراد بيانه ههنا أن طلبة العلم والفقه في الدين في طلبهم لهذا العلم وتطوافهم في مجالس الفقه ومجامعه لتحصيله والترقي في درجاته، فهم ينالون من ميراث العلماء علم الشريعة وآدابه وطرائق تلقيه والرسوم العلمية في مجالسه، فيفهمون الحديث على وجهه، ولا ينتزعونه من سياقه، ولا يضربون الكلام ببعضه، فإن عزبت أفهام بعضهم أو أفهام غيرهم عن درك ذلك فلا يجوز أن يغيب عن جميعهم، ولم يزل التحقيق في أهل العلم بالمكان الذي لا يجهل، ومتى خلط خالط بين مقام وآخر تصدى أهل العلم لبيان الغلط أو
(1)
انظر: رياضة المتعلمين، ابن السني (128).
(2)
التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه، أبو العباس السرقسطي (85).
(3)
انظر: المجالس والثقافة العربية، د. علي أومليل، مجلة المناظرة، العدد الثالث (7). وقد ذكر ابن قتيبة (ت 276 هـ) في خطبة كتابه ((المعارف)) أنه صنف الكتاب ليكون معينًا لمن تعلمه وتحفَّظه على حضور المجالس العلمية والمحافل الشريفة فقال:(هذا كتاب جمعت فيه من المعارف ما يحق على من أنعم عليه بشرف المنزلة، وأخرج بالتأدّب عن طبقة الحشوة، وفضّل بالعلم والبيان على العامة، أن يأخذ نفسه بتعلمه، ويروضها على تحفّظه؛ إذ كان لا يستغني عنه في مجالس الملوك إن جالسهم، ومحافل الأشراف إن عاشرهم، وحلق أهل العلم إن ذاكرهم فإنه قلّ مجلس عقد على خبرة، أو أسس لرشد، أو سلك فيه سبيل المروءة، إلا وقد يجري فيه سبب من أسباب المعارف)، المعارف (1)، وانظر: الحياة العلمية في العراق خلال عصر نفوذ الأتراك، زيني الحازمي (1/ 148).
المغالطة في تخليطه. ولما أفتى فقيه تونس ومفتيها أبو القاسم البرزلي (ت 841 هـ) بجواز العقوبة بالمال في الجنايات بمجلس بعض السلاطين الحفصيين ردَّ عليه القاضي الشماع (ت 833 هـ) برسالة بيَّن فيها حرمة أخذ المال وأن هذا هو المشهور من مذهب مالك، وقال معلِّقًا على قول البرزلي إنه قال ذلك على سبيل المذاكرة والمباحثة في مجالس العلماء: (أقول: لو أنصف بصَّره الله لقال: فقلت على وجه الفتوى والإشارة، ولا سيما أنه وقع في غير هذه النسخة من الإملاء أن أمير المؤمنين استشار في هذه القضية.
قلت: وما يستشير إلا ليقف على الحق، وجواب المستفتي والمستشير إنما هو الفتوى والإشارة لا المذاكرة! وتبرِّيه من الواقع الذي هو الفتوى مشعر بأنه بيِّنٌ له ضعف ما فاه من الدعوى)
(1)
، وقال في موضع آخر:(هذه مسألة لم تكن على المذاكرة، وإنما كانت على وجه الاستفتاء، وهو رئيس القوم وأكبرهم سنًّا والمصدر للفتوى)
(2)
.
وعلى أية حالٍ، فإن إدراك مثل هذه المعنى واستحضاره يعود على العلم والفقيه والمتفقه بفائدة عظيمة ظاهرة، ومن ذلك ما يأتي:
1 -
اعتبار اختلاف المقامات بين المجالس الفقهية، وإيلاء كل مقام حظه والتزام رسومه وآدابه ومعرفة أخلاقه؛ لئلا يؤاخذ الفقيه والمتفقه بما لا يلزمهما مما قضت قوانين العلم أو جرت عوائده بالتسامح فيه في بعض المجالس مع التزامه في سائرها. ومن أمثلة ذلك ما يأتي بيانه:
أ- مقام التعليم مقام إجلال وتفخيم للأستاذ؛ لأن مقام المعلم مقام المؤدي والمبلغ لعلم الشريعة، ووصايا أهل العلم بتوقير الشيخ في مجلس الدرس مشهورة متواترة، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه دونهم بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا
(1)
مطالع التمام ونصائح الأنام ومنجاة الخواص والعوام في رد القول بإباحة إغرام ذوي الجنايات والإجرام زيادة على ما شرع الله من الحدود والأحكام (83).
(2)
مطالع التمام (253).
تشيرن عنده بيدك، ولا تغمزن بعينيك، ولا تقولن: قال فلان، خلافًا لقوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تسارَّ في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلحَّ عليه إذا كسل، ولا تعرض من طول صحبته؛ فإنما هو بمنزلة النخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء)
(1)
، وقال طاوس (ت 106 هـ):(من السُّنَّة أن يوقَّر العالم)
(2)
. وقد أطنب المصنفون في قوانين العلم في بيان الأدب مع الشيوخ والتواضع لهم وترك الاعتراض عليهم وخفض الصوت بحضرتهم، وغير ذلك من الآداب التي ربما أنكرها الجاهل وحملها على غير وجهها من الغلو فيهم واعتقاد العصمة لهم، مما لا يكون مرادًا لهم ولا مقصودًا من كلامهم بحال، وغايته معرفة اختلاف أحوال المجالس واعتبار الفرق بينها، مع حفظ قدر العالم وتبجيله وعدم انتقاصه على أي وجه كان. قال ابن جماعة (ت 733 هـ) أثناء تعداده لأدب التلميذ مع شيخه في كلام يوضح شيئًا من ذلك:(التاسع: أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان، ولا يقول له: لم؟ ولا: لا نسلِّم، ولا: من نقل هذا؟ ولا: أين موضعه؟ وشبه ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك. ثم هو في مجلس آخر أولى على سبيل الإفادة)
(3)
.
فمجلس الدرس قانونه توقير الأستاذ والتواضع له؛ التزامًا للأدب، وإكرامًا للعلم، وتطييبًا لخاطر الأستاذ حتى تتم الفائدة منه ولا ينشغل ذهنه بالاعتراض عليه. وفي هذا يقول ميمون بن مهران (ت 117 هـ):(لا تمار من هو أعلم منك؛ فإذا فعلت ذلك خزن عنك علمه، ولم يضره ما قلت شيئًا)
(4)
. وقال الزهري (ت 124 هـ): (كان أبو سلمة يماري ابن عباس فحرم بذلك علمًا كثيرًا)
(5)
، بل روي عن أبي سلمة (ت 94 هـ) أنه قال:(لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علمًا كثيرًا)
(6)
، وقال ابن جريج (ت 150 هـ): (لم أخرج الذي
(1)
الجامع، الخطيب البغدادي (1/ 199).
(2)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 519).
(3)
تذكرة السامع والمتكلم (151).
(4)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 517).
(5)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 518).
(6)
الجامع، الخطيب البغدادي (1/ 209).
قد استخرجت من عطاء إلا برفقي به)
(1)
. قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ): (ويجب على المتفقه ترك المراجعة، وإسقاط المماراة، والصبر على ما يرد من الفقيه)
(2)
.
فإذا عُلم ما يقتضيه قانون مجلس الدرس من ترك الاعتراض على الشيخ وطرح الجدل والمراء فيه، فليعلم أن مجلس المناظرة ومجلس المباحثة والمذاكرة بخلاف ذلك، فكانوا يراجعون فيها الشيوخ ويسألونهم ويباحثونهم ويعترضون عليهم. قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ):(وإذا بلغ الغلام حدَّ المناظرة فينبغي أن لا يكف نفسه عن استيفاء الحجة على من ناظره وإن كان شيخًا)
(3)
. وقال أبو الوفاء بن عقيل (ت 513 هـ): (كان الصغير ينبسط على الكبير في المذاكرة والشورى)
(4)
. ومن أمثلة ذلك ما رواه عبد الرزاق وغيره عن عبيدة السلماني (ت 72 هـ) قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه في أمهات الأولاد أن لا يبعن، قال: ثم رأيت بعد أن يبعن.
قال عبيدة: فقلت له: فرأيك ورأي عمر رضي الله عنه في الجماعة أحب إلى من رأيك وحدك في الفرقة-أو قال: في الفتنة-، قال: فضحك عليٌّ رضي الله عنه
(5)
. وقال أبو طالب الرازي (ت 522 هـ): (ومن شرط الفقيه أن يعترض على أستاذه ويصير إلى حالةٍ يمكنه أن يقول لأستاذه: لم؟ ويحسن الاعتراض عليه)
(6)
، وقال محمد بن سلام الجمحي (ت 231 هـ): كنا في مجلس أبي عبيدة (ت 209 هـ)، فرأى شابًّا ينبسط على المشايخ، فقال:(إذا قلَّ حياء الغلام كثر علمه، وفي غير العلم لم يرج خيره)
(7)
.
(1)
جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر (1/ 519).
(2)
الفقيه والمتفقه (685).
(3)
الفقيه والمتفقه (654).
(4)
الواضح (5/ 208).
(5)
مصنف عبد الرزاق، كتاب الطلاق، باب بيع أمهات الأولاد (13224). ولذلك أمثلة أخرى كثيرة سيأتي ذكر بعضها.
(6)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (7/ 180)، وانظر: روضة الإعلام، ابن الأزرق (2/ 716).
(7)
الفقيه والمتفقه (655).
ب- مجلس المناظرة مجلس يقصد فيه كل واحد من الطرفين إلى الانتصار لمذهبه، فيحتج لقوله ويعترض على خصمه ويجيب عن إيراده، فيظل المناظر متيقِّظًا مستجمعًا لذهنه مستحضرًا لبديهته، وهذه الحال مما تختلف به طبائع الناس وربما دخلت على كثير من المناظرين الحدة بسبب ذلك؛ فإن (كثرة المراجعة تغير الطباع)
(1)
، ومن ثمَّ فقد تنقل في مجالس المناظرة من أخلاق الحدة والمغالبة ما يكون على غير المحفوظ من أخلاق الفقيه من استعمال الوقار في هيئته ومجلسه، وقد كان طوائف من الفقهاء الذين عرفوا بفضل السمت في مجالسهم يتنزهون عن المناظرة لأجل هذا المعنى وشبهه.
ومن المشهور في سيرة الإمام مالك (ت 179 هـ) اصطفاؤه بعض أصحابه للمناظرة وهو حاضر معهم، كما حضر بعثمان بن كنانة (ت 186 هـ) مناظرة أبي يوسف (ت 182 هـ) في مجلس الرشيد (ت 193 هـ)، فسأله الرشيد: ولم لا تناظره أنت يا أبا عبد الله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يجيبه ابن كنانة فإن عجز أجبته أنا
(2)
. وألحَّ عليه الرشيد مرةً لمناظرة أبي يوسف وهو ساكت، فقال عبد الملك بن الماجشون (ت 213 هـ): إن شيخنا يا أمير المؤمنين قد جلَّ عن المناظرة والكلام، ونحن تلاميذه نقوم مقامه، فنحن نناظره ونتكلم عنه، فإن رأى خطأ لم يسكت عليه، فقال هارون: ذلك
(3)
. وكان الإمام مالك كذلك يأمر ابن الماجشون بمناظرة أهل العراق، وكان يخرج به إلى البطحاء، فلا يبرح والناس معه حتى يفلج على الخصم
(4)
. وقيل في فقيه القيروان يحيي بن عمر الكناني (ت 289 هـ) الذي وُصف بالفقه والإمامة والضبط: (وكان من الوقار والسكينة على ما يجب لمثله، تأدب في ذلك بآداب مالك. وكان لا يفتح على نفسه باب المناظرة، وإذا ألحف عليه سائل أو أتاه بالمسائل
(1)
الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (683).
(2)
التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه، أبو العباس السرقسطي (87).
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (1/ 222).
(4)
التسمية والحكايات عن نظراء مالك وأصحابه، أبو العباس السرقسطي (95).
العويصة ربما طرده)
(1)
. ولما حضر الموفق بن قدامة (ت 620 هـ) ومعه جماعة من الفقهاء بعض مجالس المناظرة بدمشق قالوا للحافظ عبد الغني (ت 600 هـ): اقعد أنت لا تجيء فإنك حاد ونحن نكفيك
(2)
.
فهذه الحدة ربما حملت الفقيه على ما لا يرتضيه وقت الرضا، وبهذا يعلم وجه ما ينقل عن طوائف من الفقهاء في أحوال المناظرة. قال أبو الفتح بن برهان (ت 518 هـ):(فإن قال: فقد نقل عن الصحابة أنهم أنكروا على المخالف في مسائل الفروع، كقول ابن عباس رضي الله عنه: ((من شاء باهلته))؛ أي: لاعنته. وكقول علي رضي الله عنه: ((من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه)). قلنا: بل المعلوم من سِيَرِهم قطعًا أن الخلاف ما حملهم على التبديع، وأما هذه الألفاظ المنقولة فلها محامل صحيحة، فإن ابن عباس رضي الله عنه إنما قال ذلك في حدة المناظرة، وإلا فهو أتقى لله تعالى من أن يعتقد الفسق في عمر رضي الله عنه. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه قصد بهذا الكلام منع العامي عن الخوض في هذه المسألة العويصة، وإلا فقد قال في الجد برأيه)
(3)
.
ج- هل يلزم المفتي أن يذكر دليل الفتيا في مجلس الإفتاء؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم
(4)
، والذين منعوا من ذلك اعتبروا حال مجلس الإفتاء، وأن مقام المفتي مقام المخبر عن الحكم، لا مقام المعلم الذي يشرح الأقوال والأدلة، ولذا كان بعض الفقهاء يكتفي في أجوبة الفتاوى بـ (نعم) و (لا)
(5)
.
قال أبو عمرو بن الصلاح (ت 643 هـ): (لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه به، ولا يقول له: لم؟ وكيف؟ فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في مجلس آخر، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة عن الحجة)
(6)
.
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 345).
(2)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 31).
(3)
الوصول إلى الأصول (2/ 350).
(4)
انظر الأقوال وحجتها في: الفتوى في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله الخنين (2/ 293).
(5)
انظر على سبيل المثال: الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (3/ 372).
(6)
أدب الفتوى (152).
د- هل للقاضي أن يفتي؟ جرى في ذلك الخلاف بين الفقهاء، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، وقد روى عطاء بن السائب (ت 136 هـ) فقال: سألت شريحًا (ت 78 هـ) فقلت: يا أبا أمية أفتني، قال: إني لست أفتي، ولكن أقضي
(1)
. فالذين منعوا ذلك ذهبوا في تعليل المنع إلى اتجاهين
(2)
:
الاتجاه الأول: لاحظ أصحابه معنى اشتغال القاضي بالقضاء عن غيره، ولذا رخصوا له بالفتيا في غير مجلس القضاء. قال السرخسي (ت 490 هـ):(ومنهم من يقول: لا يفتي في مجلس القضاء، وله أن يفتي في غير مجلس القضاء؛ لأنه لو اشتغل بها في مجلس القضاء وكل واحد منهما أمر عظيم فربما يتمكن الخلل في أحدهما وهو متعين للقضاء، فيشتغل بما تعين له ويدع الفتوى لغيره)
(3)
.
الاتجاه الثاني: لاحظ أصحابه أن مقام القضاء مقام حكم وفصل بين الناس في خصوماتهم، والناس لم يزل فيهم من يبتغي التشويش على القاضي والتشغيب عليه والتلبيس عليه بالحجاج، فمنعوا القاضي من الإفتاء لئلا تتخذ فتواه ذريعة لمثل هذا التلبيس والتشغيب، فيكون القاضي كالملقن والمعلم لهم
(4)
. وتعددت عبارات الفقهاء في أداء هذا المعنى، فمنهم من منع الفتوى في مجلس الحكم مطلقًا، وكان سحنون (ت 240 هـ) إذا أتاه رجل يسأله عن مسألة من مسائل الأحكام لم يجبه، وقال: هذه مسألة خصومة. إلا أن يعلم منه إرادة التفقه، وذلك يعرف بالقرائن كأن تأتيه الفتوى من خارج البلد، أو يكون السائل من الطلبة الذين شأنهم تعلم الأحكام
(5)
، وقد كان أبو يوسف
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 295).
(2)
ليس من المقاصد هنا استيفاء الأقوال في المسألة وتحريرها، بل الغرض ذكر اختلاف مقام القضاء والفتيا وأثره في اتجاهات الفقهاء في المسألة، وللاطلاع على الأقوال والحجج فيها. انظر: اجتهاد القاضي وفتواه، حمدان آل شراب (183).
(3)
المبسوط (12/ 51)، وانظر: صنوان القضاء وعنوان الإفتاء، الأشفورقاني (1/ 169).
(4)
انظر: المحيط البرهاني، ابن مازه (12/ 180)، حاشية الدسوقي (4/ 139)، أدب الفتوى، ابن الصلاح (58).
(5)
انظر: الذخيرة، القرافي (10/ 68)، حاشية الدسوقي (4/ 139).
(ت 182 هـ) يفتي أصحابه ولا يجيب غيرهم في المسائل، وقال في رجلين تقدَّما إلى القاضي ففطن أنهما تقدما إليه ليعلما ما يقضي لهما في ذلك: إذا علم ذلك أقامهما؛ لأنه نُصب لفصل الخصومات لا لتقلين الخصوم وتعليمهم المخارج
(1)
. ومنهم من منع أو كره الإفتاء في مسائل القضاء دون غيرها، قال الإمام مالك (ت 179 هـ): لا يفتي القاضي في مسائل القضاء وأما في غير ذلك فلا بأس به
(2)
. فإذا كان الأمر كذلك فمجلس القضاء وغير مجلس القضاء في ذلك سواء
(3)
.
ثم إن من الفقهاء من لم ير بإفتاء القاضي بأسًا. قال السرخسي (ت 490 هـ): (والأصح عندنا أنه لا بأس له أن يفتي إذا كان أهلًا لذلك، وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنه يقضون بين الناس ويفتون. والقضاء في الحقيقة فتوى إلا أنه فتوى فيه إلزام، ولذا كان القاضي في الصدر الأول يسمى مفتيًا)
(4)
.
هـ- مقام المفتي أخص من مقام الفقيه المعلم والمصنف؛ لأن المفتي ينظر في صورة جزئية وينزِّل ما تقرر في عموم كلام الفقهاء عليها، مع اعتبار خصوص المسألة التي ربما خرجت عن حكم نظائرها أو بعضه لسبب خاص اقتضى ذلك مما تجري به قواعد السياسة الشرعية، وهذا مقام زائد بحاجة إلى مزيد ملكة وعناية ومعرفة، ولذا فإن العالم ربما وصف بالفقه والحفظ غير أنه لا يكون له طبع في الفتوى
(5)
.
قال تقي الدين السبكي (ت 756 هـ): (ولهذا نجد كثيرًا من الفقهاء لا
(1)
انظر: صنوان القضاء، الأشفورقاني (1/ 169)، الفتاوى الهندية (3/ 328).
(2)
تبصرة الحكام، ابن فرحون (1/ 33)، وانظر: المبسوط، السرخسي (12/ 51)، حاشية الدسوقي (4/ 139)، الشرح الكبير، شمس الدين بن قدامة (28/ 554).
(3)
انظر: المحيط البرهاني، ابن مازه (12/ 180).
(4)
المبسوط (12/ 52)، وانظر: أدب الفتوى، ابن الصلاح (58). وجاء في أخبار القضاة لوكيع (1/ 288): (وقال أبو عبيدة: كان ابن عباس رضي الله عنه يفتي الناس ويحكم بينهم
…
والقاضي يومئذٍ يدعى المفتي).
(5)
انظر على سبيل المثال: المعجم، ابن الآبار (25)، في ترجمة أبي جعفر البطروجي.
يعرفون أن يفتوا، وأن خاصية المفتي تنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي، وذلك يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته، ولهذا نجد في فتاوى بعض المتقدمين ما ينبغي التوقف في التمسك به في الفقه، ليس لقصور ذلك المفتي معاذ الله، بل لأنه قد يكون في الواقعة التي سئل عنها ما يقتضي ذلك الجواب الخاص فلا يطَّرد في جميع صورها، وهذا قد يأتي في بعض المسائل، ووجدناه بالامتحان والتجربة في بعضها ليس بالكثير، والكثير أنه مما يتمسك به، فليتنبه لذلك فإنه قد تدعو الحاجة إليه في بعض المواضع، فلا نلحق تلك الفتوى بالمذهب إلا بعد هذا التبصر)
(1)
.
2 -
فهم كلام أهل العلم على وجهه، والنظر إلى سياقه واختلاف مقام العالم فيه؛ فإن اختلاف السياقات مؤثر في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ولا تنبغي العجلة في شيء من ذلك قبل الاطلاع على غرض الكلام الذي صدر عنه. ولما قال محمد بن الحسن (ت 189 هـ) للشافعي (ت 204 هـ): بلغني أنك تخالفنا في الغصب. قال له الشافعي: أصلحك الله، إنما هو شيء أتكلم به على المناظرة
(2)
. فكان مقررًا عندهم أن ما يناظر عليه المناظر لا يكون بالضرورة قولًا له، بل ربما كان يناظر عن قول لم يتحرر له بعد على سبيل الاختيار، أو يناظر عن مذهب إمامه وله اختيار يخالفه، أو تكون المناظرة على جهة التعليم، أو غير ذلك. قال البيهقي (ت 458 هـ) معلِّقًا على تكذيب الربيع (ت 270 هـ) لمن حكى قولًا للشافعي في بعض المسائل يخالف المشهور من مذهبه:(يحتمل أن يكون صادقًا في هذه الحكاية، وهذا مختصر من حكاية ابن عبد الحكم عن الشافعي في مناظرة جرت بينه وبين محمد بن الحسن في عيبه أهل المدينة بذلك، وذبّ الشافعي عنهم على طريق الجدل، فأما المذهب فما وضعه في كتبه المصنَّفة من تحريمه)
(3)
. وقد روى حماد بن
(1)
فتاوى السبكي (2/ 122).
(2)
مناقب الشافعي، البيهقي (1/ 107).
(3)
مناقب الشافعي (2/ 12)، وقد قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في إشارة للفرق بين هذين المقامين:(وأفضل النظار وأقدرهم من أجاب عن السؤال بجواب نظري يحرس به قوانين النظر وقواعده، ثم يجيب بجواب يبيِّن فيه فقه المسألة)، الفقيه والمتفقه (523).
سلمة (ت 167 هـ) عن إياس بن معاوية (ت 122 هـ) أنه قال: (لا تنظر إلى ما يعمل الفقيه؛ فإنه يصنع الأشياء يكرهها، ولكن سله يخبرك بالحق)
(1)
.
ولأجل هذا المعنى وغيره كان أهل العلم يؤكدون على ضرورة تلقي العلم من الشيوخ، وعدم الاكتفاء عنهم بمطالعة الكتب؛ لأن من العلم ما لا ينقل في الكتب. والتأليف صناعة يمهر فيها خلق ولا يحسنها آخرون، وربما كان الفقيه حسن التعليم غير أنه لا يحسن نقل ذلك إلى الكتاب. ومن ثمَّ تواترت نصيحة العلماء بملازمة الشيوخ والقراءة عليهم. بل إن من الناس من يفسِّر صعوبة بعض الكتب بتعمد أصحابها ذلك حرصًا منهم على أن يؤخذ العلم من أهله، وأن يفيد الطالب من أخلاق الشيخ وخبرته ومهارته التي يتعذر نقلها
(2)
. يقول الخليل بن أحمد (ت 170 هـ): (من الأبواب ما لو نشاء أن نشرحه حتى يستوي في علمه القوي والضعيف لفعلنا، ولكنا نحب أن يكون للعالم مزية)
(3)
. ولما كتب أبو سعيد السيرافي (ت 368 هـ) كتابه ((الإقناع)) في النحو قال عنه ابنه يوسف (ت 385 هـ): (وضع أبي النحو في المزابل بالإقناع)، يريد أنه سهّله حتى لا يحتاج إلى مفسّر
(4)
.
فمجالسة الشيوخ ومشافهتهم والأخذ عنهم لها أثرها الكبير في العلم والتربية والترقي بالمتفقه من صغار العلم إلى كباره في المسائل والسلوك. قال أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ): (فكم من مسألة يقرئها المتعلم في كتاب ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها، فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة، وحصل له العلم بها بالحضرة، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال، وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال، وقد يحصل بأمر غير معتاد، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم، ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقي إليه. وهذا ليس ينكر؛ فقد نبه عليه الحديث الذي
(1)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 350).
(2)
انظر: جولات في الفقهين الكبير والأكبر وأصولهما، سعيد حوى (21).
(3)
البصائر والذخائر، التوحيدي (3/ 124).
(4)
معجم الأدباء، ياقوت الحموي (2/ 878).
جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، وحديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه حين شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا عنده وفي مجلسه كانوا على حالة يرضونها، فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لو أنكم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها))
(2)
. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((وافقت ربي في ثلاث))
(3)
، وهي من فوائد مجالسة العلماء؛ إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم ما لا يفتح له دونهم، ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم، وتأدبهم معه واقتدائهم به، فهذا الطريق نافع على كل تقدير)
(4)
.
فإذا تقرر هذا فإن الجلوس إلى العلماء ليس على مرتبة واحدة بل هو مراتب شتى، فما يلقيه العالم في مجلس درسه على الملأ ليس كالذي ينهيه للخاصة من تلامذته، وليس كالذي يستجمع له ذهنه عند التصنيف من التحرير والتحقيق والتدقيق، بل لقد ذكر الشهاب الخفاجي ونقل (ت 1069 هـ) أن من الألفاظ المولدة المشهورة في كلام المصنفين استعمال كلمة (تدريس) في الكلام الظاهري الذي يقال في مجالس التدريس من غير تحقيق، فهو بخلاف الكلام التحقيقي الذي يثبت في الكتب والصحائف، وربما قال فيه بعضهم:(كلام مسجدي)؛ لأن حلق التدريس في المساجد
(5)
. وليس في هذا انتقاص لمقام التدريس ومكانته، بل فيه تنبيه لاختلاف مقام التدريس عن مقام التحقيق، فالتدريس أخذ لجادة العلم وبيان لمشهوره، أما التحقيق والتدقيق فله
(1)
جاء عند أحمد (13312) وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
(2)
هذا لفظ الترمذي (2452)، وعند مسلم (2750):((لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم)).
(3)
صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة (402)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2399).
(4)
الموافقات (1/ 145).
(5)
شفاء الغليل (65).
مقام آخر، وقد كان للخاصة من المتفقهين مع أساتذتهم مجالس خاصة ينهضون فيها لمقام التحقيق والتدقيق، وربما قرأ الواحد منهم الكتاب على شيخه قراءتين أو أكثر فتكون إحداهما قراءة درس، والأخرى قراءة بحث وتدقيق، وهذا كثير في أخبارهم
(1)
.
3 -
معرفة أقدار أهل العلم وما يفتحه الله للواحد فالواحد منهم من المواهب والملكات، فالعلم حظوظ كحظوظ المال، فرُبَّ عالم فتح عليه في التعليم ما لم يفتح عليه في القضاء والمناظرة
(2)
، ورُبَّ فقيه مقدَّم في الفتيا لا يحسن التأليف ولا يشتغل به، ومن اجتمعت همته على ما وافق طبعه فأتقنه وأحسن فيه لم يجمل الاستدراك عليه بما لا يوافق طبعه من المذاهب ولا عيبه بترك الاشتغال بها.
قال حبيب بن الشهيد (ت 145 هـ): قال لي إياس بن معاوية (ت 122 هـ): (إن أردت الفقه فعليك بمعلمي ومعلم أبي الحسن بن أبي الحسن، فإن أردت الفتيا فعليك بعبد الملك بن يعلى، وإن أردت القضاء فعليك بعباد بن منصور، وإن أردت الصلاح فعليك بحميد الطويل، وإن أردت الشغب فعليك بصالح السدوسي)
(3)
. ومع هذا الثناء من إياس على الحسن (ت 110 هـ) في الفقه فقد قال مرة لمن نقل له اعتراض الحسن على قضية له: (إذا جاء الحسن فقل له
(1)
ذكر ابن رجب-على سبيل المثال-في ترجمة شمس الدين بن المنجَّى (ت 641 هـ) أنه رأى نسخة ((المستوعب)) وقد قرأها ابن المنجى على والده (قراءة بحث). انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (3/ 492)، وسوف يأتي أمثلة أخرى لذلك.
(2)
وهذا كثير في السير والأخبار، فيشتهر عن العالم توقيه المناظرة حتى يظن به النقص وما به النقص، ولكنه ليس من أهل الكلام في المحافل. قال المسعودي (ت 346 هـ):(وكان محمد بن يزيد المبرد يحب أن يجتمع في المناظرة مع أحمد بن يحيي-يعني: ثعلب-ويستكثر منه، وكان أحمد بن يحيي يمتنع من ذلك. وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن حمدان الموصلي الفقيه-وكان صديقهما-قال: قلت لأبي عبد الله الدينوري ختن ثعلب: لم يأبى أحمد بن يحيي الاجتماع مع المبرد؟ فقال لي: أبو العباس محمد بن يزيد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، ظاهر البيان، وأحمد بن يحيي مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل حكم لهذا على الظاهر إلى أن يعرف الباطن). مروج الذهب (2/ 500).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 350).
يلزم سارية من السواري، فنحن أعلم بالحكم منك)
(1)
.
وحكى ابن الصلاح (ت 643 هـ) عن عبد الغافر الفارسي (ت 529 هـ) أنه قال في أبي حامد البيهقي الشافعي: (ورأيته كان يحضر مجالس المناظرة، وحظُّه في حفظ المذهب أوفر منه في الخلاف، وكان محترمًا معظَّمًا عند الصدور والأئمة لفضله ولفتواه)
(2)
. وقال ابن السبكي (ت 771 هـ) في ترجمة أبي المظفر الخوافي (ت 500 هـ): (كان في المناظرة أسدًا لا يصطلي له بنار، قادرًا على قهر الخصوم وإرهاقهم إلى الانقطاع. قال معاصروه: رزق من السعد في المناظرة كما رزق الغزالي من السعد في المصنفات)
(3)
. وقال ناصح الدين بن الحنبلي (ت 634 هـ) في وصف ابن الجوزي (ت 597 هـ): (وكانت مجالسه أكثر فائدة من مجالسته)
(4)
.
فالناس طبائع شتى، وأحوال القيام بين الناس متفاوتة، وليس من شرط العالم أن يكون رابط الجأش مستجمع الفؤاد، وربما حَصِر العالم في المحفل الكبير فأسعفه من هو أقل منه علمًا، أو عزبت عنه مسألة فذكره بها من هو في طبقة تلامذته، فحفظ المسألة وفهمها شيء واستحضارها عند دعاء الحاجة إليها شيء آخر. قال أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ): (ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتابًا جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل وكدت أعجب به وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شروط تضمنت أربع مسائل، لم أعرف لشيء منها جوابًا، فأطرقت مفكِّرًا وبحالي وحالهما معتبرًا، فقالا: ما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة؟ فقلت: لا.
فقالا: إيهًا لك. وانصرفا. ثم أتيا من قد يتقدمه في العلم كثير من أصحابي،
(1)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 338).
(2)
طبقات الفقهاء الشافعية، ابن الصلاح (1/ 351).
(3)
طبقات الشافعية (6/ 63).
(4)
الذيل على طبقات الحنابلة، ابن رجب (2/ 483).
فسألاه فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه مادحين لعلمه، فبقيت مرتبكًا وبحالهما وحالي معتبرًا، وإني لعلى ما كنت عليه في تلك المسائل إلى وقتي)
(1)
. فربما عرض للراسخ في العلم من الدهشة والذهول حتى ليظن به الجهل وإنما هو العيُّ والحَصَر الذي يعرض للخطيب المفوَّه والعالم المقدَّم، وقد قال الجاحظ (ت 255 هـ) في خطبة كتابه ((البيان والتبيين)):(اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيِّ والحصر. وقديمًا ما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما)
(2)
. وفي هذا المعنى يقول أبو بكر الرازي (ت 311 هـ): (وربما أشكل على العالم النحرير المسألة التي يجيب عنها أقل تلامذته علمًا وأحلُّهم فهمًا، لا أنه ليس يحفظها أو لم يقرأها ولم يسمعها، لكن لعوز الكمال في الإنسان)
(3)
.
وفي المناظرة المشهور بين أبي سعيد السيرافي (ت 368 هـ) ومتَّى بن يونس (ت 328 هـ) التي انعقدت سنة 326 هـ في مجلس الوزير ابن الفرات (ت 327 هـ) بمشهد جماعة من العلماء، تكلم متَّى بمراده فأحجم القوم وأطرقوا، فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعُدُّكم في العلم بحارًا، وللدين وأهله أنصارًا، وللحق وطلابه منارًا، فما هذا الترامز والتغامز اللذان تَجِلُّون عنهما؟ فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه فقال: اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدر غير العلم المعروض في هذا المجلس، على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحادة والألباب الناقدة؛ لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مَكسَرة، ويجتلب الحياء والحياء مَغلبَة، وليس البِراز في معركة غاصة كالمِصاع في بقعة خاصة
(4)
.
(1)
أدب الدين والدنيا (127).
(2)
البيان والتبيين (1/ 3)، وقد استشهد بخطبته هذه الماوردي بعد ذكر القصة المتقدمة.
(3)
أخلاق الطبيب (22).
(4)
الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي (103).