المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم - المجالس الفقهية

[هيثم بن فهد الرومي]

الفصل: ‌ ‌المقدمة الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم

‌المقدمة

الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأعظم، والمعلم الأقدم، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

فإن في حفظ تاريخ أي علَّم عصمة له من الضياع، وصيانة له من أن تذهب رسومه وآدابه وتدرس مناهجه، ولعلوم الشريعة من ذلك الحظ الأوفى؛ لشدة ارتباطها بالهدي الأول وما كانت عليه القرون الفاضلة من الأحوال الكاملة في العلم والعمل والتربية والتعليم. وهذه الأحوال لم تزل تتناقص بمرور الأزمان وحلول الحوادث العظيمة التي تُذهل الكثير من الناس عن معاناتها وتكبد مشاقَّها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((العبادة في الهرج كهجرة إلي))

(1)

. وقد عرض للأمة في تاريخها من الكوارث والنوازل الفادحة ما كان بقاء العلم معه كرامة من الله تعالى وآية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. فحملات النصارى على الشام ومصر وفادحة التتار والاحتلال الأوروبي البغيض، وما صاحب ذلك من قتل للعلماء وتخريب للجوامع والمدارس والمكتبات وإتلاف للكتب ونهب للثروات العلمية وإخفائها، كلُّ ذلك كان له الأثر البالغ في مسيرة الحركة العلمية عند المسلمين.

ومن الجوانب التي نالها نصيب من هذا التأثر ما كانت عليه مجالس أهل العلم في هيئتها ورسومها واختلاف مقاماتها وأخلاق أهلها، وما يتبع

(1)

صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب فضل العبادة في الهرج (2948).

ص: 11

ذلك من طرائق نقل العلم وفهمه والمباحثة حوله والمناظرة فيه، فإن تلك المناهج كانت قريبة من أفهام المتقدمين لتلبسهم بها وكثرة مخالطتهم لأهلها، غير أن إلف المرء لعادته وعرف زمانه كثيرًا ما يذهله عن نقل ذلك لغيره. وقد أشار إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) إلى هذا المعنى فقال:(ومعظم العمايات في مسائل الفقه من ترك الأولين تفصيل أمور كانت بيّنة عندهم).

(1)

غير أن المتقدمين إن لم يصرّحوا بما كان جليًّا معلومًا فيهم، فإنه كثير وظاهر لمن استقرأ سيرهم وأخبارهم، وقد أبلت الأمة البلاء الحسن في حفظ تاريخ رجالها وأيامها ومدنها ودولها، مما لو جهد المتأخرون في دراسته وفهمه واستخراج ما فيه من العمق المعرفي والمنهجي لجاءوا بالشيء الكثير.

ولو نظرنا في المدونات العظيمة التي حفظ فيها العلماء تاريخ الأمة لألفيناها ملأي بما لم يبلغ المتأخرون بعده حدَّ النصيحة في استخراج مخبَّآته ومكنوناته. فكتاب كتاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (ت 571 هـ) الذي قال فيه الحافظ المنذري (ت 656 هـ): (ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه)

(2)

، فلو اجتمع النفر الجمُّ من الباحثين النابهين على استنطاق (نصوصه) الصامتة لطال حديثها، ولو تعاضد أهل التخصصات العلمية المختلفة وتعاونوا فيما بينهم على هذا الغرض لاختصروا الجهد والزمان، ولعادوا على العلم بما هو خير وأعظم نفعًا، فكم في تواريخ البلدان وطبقات العلماء من ذخائر لا يكاد الباحث في تاريخ العلم والفقه يهتدي إليها إلا بدلالة متخصص وإرشاد خبير. وواقع الدراسات الشرعية في الفقه وغيره شاهد بأن الغفلة عن مناهج الأوائل في رواية العلم ودراسته وتداوله وتدوينه، مما يستزل الباحث إلى طائفة من الأغلاط التي ما كان له أن يلابسها لو عرف مخارج الكلام ومداخله.

(1)

نهاية المطلب (5/ 185).

(2)

وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/ 310).

ص: 12

وفي هذه الفصول حديث عن طائفة من الرسوم والآداب التي كان عليها واقع الحال في مجالس العلماء الفقهية في أمصار المسلمين المختلفة، وما كان لهم فيها من العادات والأعراف العلمية والعملية؛ لما في معرفة ذلك واستحضاره من المنفعة الكبيرة في التعامل مع كلام أهل العلم وحسن تفهمه وحمله على وجهه.

ثم إن الكلام سيجري في تمهيدين وستة فصول، فأما التمهيدان ففي مقصدين رئيسين هما مدار هذه الفصول وما بعدهما شارح لهما، فأما الأول منهما فما كانت عليه مجالس الفقه من الشأن العظيم في الأمة، وما كان للخاصة والعامة بها من العناية التامة والرعاية البالغة، وأما المقصد الثاني ففي تحصيل الفرق بين مجالس الفقه ومقاماته واختلاف أحوال الفقهاء في كل واحد منها، ولزوم مراعاة ذلك أثناء المجلس وبعده. وأما الفصول الستة ففي ستة مجالس، وهي مجلس التعليم، ومجلس القضاء، ومجلس الإفتاء، ومجلس المباحثة والمذاكرة، ومجلس المناظرة، ومجلس الوعظ، والكلام في كل مجلس منها يجري على ثلاثة أنحاء: طبيعة المجلس وغرضه، ثم وصفه، ثم فائدته وثمرته. وقد اجتهدت في اختصاره، إذ لم يكن الغرض في استيعاب الحديث عن هذه المجالس وأحوالها فلذلك شأن يطول، والحق أن كل واحد منها حقيق بالإفراد والاستقلال لاستيفاء الكلام فيه واستقصاء معانيه.

وبعد، فالحمد لله عدد ما ينعم علينا فنغفل عن ذكره وشكره، فله الفضل والمنة والمجد والثناء، وهو المسؤول أن يجعل نهمتنا في العلم كنهمتنا في الدنيا، وأن يصرف همتنا إلى ما هو خير لنا في عاقبة أمرنا.

ثم الشكر بعد موصول لأهل بيتي، ولكلَّ من أفادني بفائدة، أو انتفعت منه بنافعة، وأخصُّ منهم الشيخين الفاضلين والأخوين الكريمين: الدكتور خالد بن عبد العزيز السعيد، والدكتور حمد بن عثمان الجميل، فجزى الله الجميع عني كل خير، وأولاهم المثوبة والكرامة السابغة في الدنيا والآخرة.

ص: 13