الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الثاني
مجلس القضاء
(مجلس القضاء مجلس هيبة).
(شرح أدب القاضي للخصاف، الصدر الشهيد/1/ 244)
(كان فقهاء أهل المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد بن ثابت. قال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا جميعًا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى ترفع إليهم فينطرون فيها فيصدرون). عبد الله بن المبارك.
(المعرفة والتاريخ، الفسوي/1/ 471)
(المفتي أسير المستفتي، والحاكم أسير الحجج الشرعية والظواهر).
(قواعد الأحكام، العز بن عبد السلام/2/ 164)
(مذهب الحق الذي لا يمتري فيه بشر-وآن الصدق في ذلك-أن أفضل الناس دينًا وعلمًا وأدبًا ومروءة لو ادَّعى على أحد فلسًا لم يُعط بدعواه ذلك الفلس).
(قضاة قرطبة، محمد بن الحارث الخشني/105)
(إذا رأيت الهدية دخلت دار القاضي من باب الدار فاعلم أن الأمانة قد خرت من كوه داره). قاضي إفريقية عبد الرحمن بن زياد بن أنعم.
(رياض النفوس، المالكي/1/ 158)
مقام القاضي مقام الذي يفصل بين الناس في خصوماتهم وفيما يشتجرون فيه من دمائهم وأعراضهم وأموالهم، والناس لا بُدَّ لهم من قضاة يحكمون بينهم بالعدل؛ فإن العدل إذا لم يتداع الناس لإقامته لم يبق بعد العدل إلا الظلم الذي به خراب الأحوال وفساد العمران.
ولإقامة هذا الغرض الشريف فإن القاضي لا بُدَّ له أن يطاع وينفذ أمره، فمقامه ليس كمقام المفتي الذي يخبر عن الحكم، بل مقام الذي يأمر بالحكم ويُلزم به. وله في الناس خصمان: ظالم يسطو على حق غيره، وتقي تشتبه عليه الأمور حتى يحسب الحق له وهو لخصمه، أو يكون الحق له غير أن البينات لا تُسعفه، وغاية القاضي أن يحكم بالظواهر فلا يطلع على البواطن.
والقاضي من هذين في بلاء عريض، وكان شريح القاضي (ت 78 هـ) إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف الناس عليَّ غضاب
(1)
. فكان لا بُدَّ للقاضي في ذلك من احتمال الناس والصبر على أذاهم، وقد انتهى إلينا من أخبار القضاة في جميل حلمهم وصفحهم وإغضائهم عما ينالهم في أنفسهم من الأذية ما راح بعضه مجرى الأمثال، حتى قيل في ترجمة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف الأزدي (ت 320 هـ) إن الإنسان (إذا بالغ في وصف رجل قال: كأنه أبو عمر القاضي، وإذا امتلأ الإنسان غيظًا قال: لو أني أبو عمر
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 320).
القاضي ما صبرت)
(1)
.
ولئن كان في القضاة من يصبر ويحلم عما يناله في نفسه من الأذى، فإن ذلك غير مستحب عند الغضِّ من هيبة الشريعة وجلالة مجلس الحكم، ولذا كان أمر القاضي من أمر السلطان، ولم يزل (بين القضاة والعلماء والملوك والأمراء وأهل الرئاسة وأرباب السياسة الارتباط الشرعي الذي هو في سياسة الملك مرعي)
(2)
، فالقضاء بطبيعته مفتقر إلى القوة التي تأطر الناس على الأخذ بالحق وتحملهم على الانقياد له، ومع ذلك فالقاضي قبلة الناس لإقامة العدل ونصرة المظلوم وتأدية الحقوق إلى أهلها، فلم يجمل به أن يحتجب عنهم كفعل السلاطين، فكان في منزلة بين هيبة الاحتشام وبسطة المخالطة على هيئة لا يستقيم غرضها إلا بارتسام قانون الشريعة.
والقاضي ليس له بدٌّ من استعمال السياسة في مخالطة الناس والفصل في خصوماتهم؛ لأن (الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة)
(3)
. وذلك أن القاضي وجه الناس في خصوماتهم، فليس هو كالفقيه الذي يعلم الناس الخير. والناس يحتالون في انتزاع ما لَهُم وما ليس لهم ويتوسلون إلى كل ذلك بالحق وبالباطل، فإن لم يكن للقاضي بصرٌ بالناس وخبرة بهم وحسن سياسة لهم ضاع وأضاع، و (سياسة الناس أشد من سياسة الدواب) كما قال الشافعي (ت 204 هـ)
(4)
.
والمقصود أن مقام القاضي مقام هيبة وحشمة وانقباض عما يكون من شأنه اجتراء الخصوم على مكانته وحكمه، أو التصرف في حضرته بما لا يليق بمجلسه. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه لما أراد أن يعين قاضيًا في البصرة قال:(لأستعملن على القضاء رجلًا إذا رآه الفاجر فرقه)
(5)
. وكان على رأس شريح
(1)
تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (4/ 635). وانظر: أخبار القضاة، وكيع (3/ 187)، قضاة قرطبة، الخشني (92) وفي (94).
(2)
شجرة النور الزكية، مخلوف (2/ 6).
(3)
الإمتاع والمؤانسة، التوحيدي (252).
(4)
آداب الشافعي ومناقبه، ابن أبي حاتم (271).
(5)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 270)، السنن الكبرى، البيهقي (10/ 108).
(ت 78 هـ) شرطي بيده سوط
(1)
، وكان إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) جلوازًا له
(2)
.
ولما ولي الحسن (ت 110 هـ) قضاء البصرة كان الناس يدنون منه حتى يضعوا أيديهم على كتفيه، فقال: ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة!
(3)
. وقال كافور الإخشيدي (ت 357 هـ) لبعض قضاته: (بلغني أنك تنبسط مع جلسائك، وهذا الانبساط يذهب هيبة الحكم)
(4)
. وقال الجصاص (ت 370 هـ): (والقاضي ينبغي أن يكون له هيبة في نفس الخصوم، فلا ينبغي له أن يفعل ما ينافي هيبته)
(5)
.
وجاء وصف جماعة لا يحصون من القضاة بالهيبة والجلالة عند الخصوم وغيرهم، كقاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (ت 127 هـ) الذي كان شريفًا صليبًا في الحكم يُهاب ويُتقى
(6)
. وعمر بن خلدة الزرقي الذي كان عفيفًا مهيبًا صارمًا، حتى قال فيه ابن أبي ذئب (ت 159 هـ): حضرت عمر بن خلدة-وكان على القضاء بالمدينة-يقول لرجل رفع إليه: اذهب يا خبيث فاسجن نفسك، فذهب الرجل وليس معه حرسي، وتبعناه ونحن صبيان حتى أتى السجَّان فسجن نفسه
(7)
. وقاضي بغداد إسماعيل بن إسحاق شيخ المالكية (ت 282 هـ) الذي كان فقيهًا فهمًا عفيفًا صليبًا، تولى القضاء مرتين
(8)
. وقاضي مالقة محمد بن الحسن الجذامي (ت 463 هـ) الذي كان في قضائه ماضيًا مهيبًا صليب القناة قليل المداراة في الحق لا يغضي على
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 320).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 277)، والجلواز هو الذي يتولى ضبط مجلس القاضي، وتأديب من يتطاول من الخصوم. انظر: السلطة القضائية في العصر العباسي الأول، د. حسين الكساسبة (252)، النظام القضائي في بغداد في العصر العباسي، د. عبد الرزاق الأنباري (313).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 6).
(4)
رفع الإصر عن قضاة مصر، ابن حجر (327).
(5)
شرح أدب القاضي (97).
(6)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 151).
(7)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 132).
(8)
أخبار القضاة، وكيع (3/ 280).
هناة ولا يخاف لومة لائم
(1)
. وأبي بكر بن أبي زمنين (ت 602 هـ) الذي وُصف بأنه كان في قضائه عدلًا مهيبًا جزلًا، فإذا انفصل من مجلس الحكم صار من ألين الناس جانبًا وأحسنهم خلقًا وأكثرهم تواضعًا
(2)
. وقاضي الديار المصرية عمر بن عبد الوهاب بن خلف العلامي (ت 680 هـ) الذي كان فقيهًا عظيم الهيبة وافر الجلالة، حتى قال السخاوي (ت 902 هـ):(ما سمعنا بأحد من قضاة مصر كان أكثر هيبة منه)
(3)
. وقاضي سبتة أبي عبد الله بن عبد المهيمن الحضرمي (ت 712 هـ) الذي كان مجلسه يغصُّ بعمائم العلماء وهم كأنما على رؤوسهم الطير هيبة له وتأدُّبًا معه
(4)
. وقاضي القيروان محمد بن أبي يحيى الفاسي (ت 77 هـ) الذي سار سيرة العدل التام وكانت له صولة بحيث إذا وصل أحد بقرب زقاق داره هابه
(5)
. وقاضي مصر برهان الدين الإخنائي (ت 777 هـ) الذي كان مهيبًا صارمًا نزهًا عفيفًا نافذ الكلمة عظيم الحرمة مفضالًا مصممًا، لا يقبل رسالة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق ولا يغضي على باطل، ولا يولي إلا مستحقًّا، وكان مع ذلك كثير الحلم والستر على من لم يجاهر، فمن جاهر تصدى له وقمعه، واشتهر صيته بذلك حتى كان له في كل قلب رهبة، ولكل أحد إليه رغبة
(6)
. وبرهان الدين بن جماعة (ت 790 هـ) الذي كان مهيبًا عظيم القدر عند الملوك، محببًا للناس، على غاية من العفة والصيانة، والوقوف مع الحق، والجليل والوضيع عند سواء
(7)
. واستقصاء مثل ذلك يطول جدًّا.
والقاضي في مجلسه منتصب للحكم بين الناس، والناس فيهم الصادق والكاذب، والتقي والفاجر، والكريم واللئيم، والعفيف والمتقحم للحرمات،
(1)
المرقبة العليا، النباهي (92).
(2)
المرقبة العليا، النباهي (111).
(3)
الذيل على رفع الإصر (202).
(4)
المرقبة العليا، النباهي (132).
(5)
تاريخ قضاة القيروان، الجودي (126).
(6)
رفع الإصر عن قضاة مصر، ابن حجر (34).
(7)
رفع الإصر عن قضاة مصر، ابن حجر (29). وانظر فيه أيضًا:(64، 269، 384، 444).
ويقاسي في مقامه هذا ما يقاسيه من تصدى لشأن عامة الناس، ولكنه حاكم بالشرع فلا يحابي أحدًا من ذي سلطان أو قرابة، أو كبير في الناس أو صغير، ولكنه يداريهم ويتقي شرهم ويستنقذ نفسه وعرضه منهم، ويحتمل في ذات الله جل جلاله ما يناله من الأذى ابتغاء موعود الله وحسن جزائه، فالدنيا لم تقم على المصلحة المحضة، والصابرون يوفَّون أجرهم بغير حساب يوم القيامة.
كان سوار بن عبد الله العنبري (ت 156 هـ) قاضي البصرة للمنصور (ت 158 هـ)، فكان في مجلسه ذات يوم فعطس أبو جعفر فلم يحمد الله فلم يشمته سوار، ثم عطس فحمد الله فشمته، ثم نهض سوار فأتبعه أبو جعفر بصره فقال: أتزعمون أن هذا يحابي؟ والله ما حابى في عطسة!
(1)
. وكان سوار يقول: ما تركت في نفسي شيئًا إلا قد كلمت به أبا جعفر
(2)
. وأمر عبد الرحمن الداخل (ت 172 هـ) قاضيه نصر بن ظريف اليحصبي أن يتأنى في قضية عرضت عليه، فخرج ابن ظريف من يومه وعمل بضد ما أراد الأمير وأنفذ الحكم، فغضب الأمير على القاضي واستحضره فقال له: من أمرك عل أن تنفذ حكمًا، وقد أمرتك بتأخيره والإناءة به؟ فقال له: قدَّمني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنما بعثه الله بالحق ليقضي به على القريب والبعيد والشريف والدنيء. وأنت أيها الأمير، ما الذي حملك على أن تتحامل لبعض رعيتك على بعض، وأنت تجد مندوحة بأن ترضي من مالك من تعني به، وتمد الحق لأجله؟ فقال له عبد الرحمن: جزاك الله يا ابن ظريف خيرًا
(3)
. وردَّ قاضي بغداد أبو بكر محمد بن المظفر الشامي (ت 488 هـ) شهادة شاهد لأنه يلبس الحرير، فقال له الشاهد: السلطان ملكشاه (ت 485 هـ) ووزيره نظام الملك (ت 485 هـ) يلبسانه، فقال القاضي: ولو شهدا عندي ما قبلت شهادتهما أيضًا
(4)
. ولما قيل لقاضي دمشق أبي القاسم جمال الدين بن الحرستاني
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 61).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 88).
(3)
المرقبة العليا، النباهي (44).
(4)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (4/ 204).
(ت 614 هـ): السلطان يسلم عليك ويوصي بفلان فإن له محاكمة، غضب القاضي وقال: الشرع ما يكون فيه وصية، لا فرق بين السلطان وغيره في الحق
(1)
.
وتركُ محاباة الكبير والصغير أمر لا يستقيم الغرض من القضاء إلا به، ومحاباة القاضي مفسدة لدينه ودنيا غيره، وهو بالمحاباة داعية إلى التهوين من أمر الشريعة في نفس من ولَّاه؛ (فإنما يتلف السلاطين فسقةُ الفقهاء؛ فإن الفقهاء ما بين صالح وطالح، فالصالح غالبًا لا يتردد إلى أبواب الملوك، والطالح غالبًا يترامى عليهم، ثم لا يسعه إلا أن يجري معهم على أهوائهم ويهون عليهم العظائم، ولهو على الناس شرٌّ من ألف شيطان، كما أن صالح الفقهاء خير من ألف عابد)
(2)
. وإذا فسدت الخطط والوظائف الشرعية-التي إنما وجدت لصلاح العالم-فسد العالم، وصحَّ فيها ما حكاه البُرزلي (ت 841 هـ):(وأكثر الخطط الشرعية في زماننا أسماء شريفة على مسميات خسيسة)
(3)
.
ومع هذا فليس على القاضي بأس أن يستعمل مع الناس المداراة وأن يتخلص من شرهم بالحيلة وحضور البديهة وحسن الجواب، ومن الحيل اللطيفة في ذلك ما روي عن إياس بن معاوية (ت 122 هـ) لما أتاه والي خراسان وكيع بن أبي سود ليشهد عنده في قضية، فقال له: ما حاجتك؟ قال: جئت لأشهد، قال إياس: مالك وللشهادة؟ إنما يشهد الموالي والتجار والسفلة. قال: صدقت، وانصرف. فقالوا لوكيع: خدعك؛ إنه لا يقبل شهادتك وردك، فقال وكيع: لو علمت لعلوته بالقضيب
(4)
. وتقدَّم عنده الفرزدق (ت 110 هـ) يومًا في شهادة، فقال إياس: أما أبو فراس فقد عرفناه ولكن زدنا شهودًا. فقال الفرزدق: ما أحسن ما سللت عمك
(1)
نزهة الخاطر وبهجة الناظر، شرف الدين الأنصاري (1/ 295).
(2)
طبقات الشافعية الكبرى، ابن السبكي (2/ 59).
(3)
فتاوى البرزلي (4/ 14).
(4)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 343).
منها
(1)
. وجاء رجل إلى قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري (ت 168 هـ) فقال له: هلكت هلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: بلغني أن خصمي كان عندك ولست حاضرًا، فقال القاضي: فهو ذا أنت عندي وليس خصمك حاضرًا.
فكأنما صبَّ عليه ذنوبًا
(2)
.
ثم إذا علم هذا فإن مجلس القاضي في الحكم بين الناس ليس مجلس علم ولا فتيا، بل مجلس إلزام للخصوم وإنفاذ للحقوق، ولما قال رجل لشريح (ت 78 هـ) في مجلس القضاء: أوصني ههنا، قال شريح: إني لم أجلس ههنا للحديث
(3)
. وليس مقامه أيضًا مقام الأمير أو الوجيه الذي يصلح بين الناس من مال نفسه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه عزل قاضي البصرة أبا مريم الحنفي لما أصلح بين متخاصمين من ماله، وقال له:(إني لم أوجِّهك لتحكم بين الناس بمالك، إنما وجهتك لتحكم بينهم بالحق)
(4)
. وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) حيث عزل قاضي المدينة عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة النصارى، وذلك أنه كان إذا اختصم إليه اثنان في الشيء التافه أخرجه القاضي من ماله، فكلمه عمر فقال: لا أستطيع غير ذلك، فعزله عمر
(5)
.
وليس مجلس القاضي أيضًا بمجلس الواعظ الذي يذكِّر الناس ويخوِّفهم، بل يحكم بالبينات ويفصل بينهم فيما اشتجروا فيه من الخصومات، غير أن القاضي إنما يحكم بالبينات والظواهر، وربما تجرَّد صاحب الحق عن بينة تشهد بصدقه، وليس للقاضي آنذاك إلا يحكم بما يسعف من البينات والحجج الظاهرة، ومن ثمَّ كان وعظ القاضي قبل الحكم وبعده نافعًا لهم في تحري الأمانة والصدق، وربما عاد غافل بالذكرى إلى رشده، وانتهى كاذب عن غيِّه، وكان شريح إذا اجتمع الخصوم قال لهم: (سيعلم الظالم حظَّ من
(1)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 333).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 115).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 223)، وقد مضت الإشارة فيما مضى إلى فتيا القاضي.
(4)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 272).
(5)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 134).
نقص، إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر)
(1)
. وكان يقول للشاهدين: (إني لم أدْعُكما، ولا أنا مانعكما إن قمتما، وإنما يقضي أنتما، وإني متحرز بكما فتحرزا لأنفسكما)
(2)
. وكان ربما قال لمن يحكم له: (إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالمًا، ولكن لا أقضي بالظن وإنما أقضي بما يحضرني من البينة، وإن قضائي لا يحل لك شيئًا حرم الله عليك)
(3)
. وكان يحيى بن زيد التجيبي قاضي عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) بالأندلس، وكان من رسمه إذا اجتمع الناس عنده للحكومة بدأ بوعظهم وتذكيرهم، فلا يزال يخوفهم الله جل جلاله ويحذرهم وبال الجدال بالباطل، وما يلحق المبطل من سخط الله جل جلاله وعقوبته، ويمثل لهم مواقفهم بين يديه في القيامة، ثم يذكر ما يلزم القاضي من الحساب، وما يجب عليه من التحري لإصابة الحق والاجتهاد لتخليص نفسه، ثم يأخذ في النوح والبكاء على نفسه، فيكون ذلك دأبه، حتى لربما انصرف عنه أكثر المختصمين باكين وجلين، قد تعاطوا الحق بينهم
(4)
.
ومع هذا التقرير ههنا فإنه ربما وجد في القضاة من يفتي أو يحدِّث أو يُناظر في مجلس القضاء، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي تقل فيها الخصومات، ويتهيَّأ للقاضي في مجلسه من اتساع الزمان ما يسمح له بالفتيا أو المناظرة أو المباحثة مع المتفقهة أو عامة الناس، حتى إن قاضي البصرة في الزمان الأول كان يدعى المفتي، وكان ابن عباس رضي الله عنه يفتي الناس ويحكم بينهم
(5)
. وكذلك كان شريح (ت 78 هـ) في الكوفة يقضي ويفتي
(6)
، وكان أشياخ الكوفة يأتونه فيناظرونه في (الذي بيده عقدة النكاح) حتى يجثو على
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 283)، وانظر (2/ 392).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 291).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 363).
(4)
المرقبة العليا، النباهي (43). ومثل ذلك قيل في قاضي قرطبة مهاجر بن نوفل القرشي. انظر: قضاة قرطبة، محمد بن الحارث الخشني (13).
(5)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 288).
(6)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 293)، وإذا تأملت ههنا ما سبق من قول شريح:(إني لست أفتي ولكن أقضي). أخبار القضاة (2/ 295). علمت أن الأمر اعتباري إضافي يراعي فيه الحال.
ركبتيه، وكان شريح يقول إنه الزوج
(1)
.
وعلى أية حال فإن هذا مما تختلف فيه أحوال القضاة والناس والأزمنة والأمكنة، ولكن الواجب أن يعرف تحقيق الفصل بين كل مقام من هذه المقامات، فالفقيه المعلِّم والمصنِّف دأبه النظر في المسائل من حيث هي كلية دون نظر في جزئية بعينها ليفتي فيها أو يقضي فيها وهذه المرتبة هي الأصل، بخلاف المفتي والقاضي الذين ينظران في واقعة بعينها فهما مشتركان في هذا المعنى، قال البرزلي (ت 841 هـ) حاكيًا عن شيخه ابن عرفة (ت 803 هـ):(قال شيخنا الإمام: القضاء أخص من العلم بفقهه؛ لأن متعلق فقهه كلي من حيث هو كلي، ومتعلق علمه كلي من حيث صدق كليته على جزئياته. وكذا فقه الفقيه من حيث كونه فقيهًا هو أعم من فقه الفقيه من حيث كونه مفتيًا. ولذا أخبرنا بعض شيوخنا في تدريسه عن الشيخ أبي عبد الله بن شعيب أنه كان ولي القضاء بالقيروان، ومحل تحصيله في الفقه وأصوله شهير ببلدنا، فلما جلس الخصوم إليه وفصل بينهم ودخل منزله مقبوضًا قالت زوجته: ما شأنك؟ فقال: عسر على حكم القضاء، فقالت له: قد شاهدتك بسهولة أمر الفتوى عليك، فاجعل الخصمين كمستفتيين سألاك. فاعتبرت ذلك فسهل عليَّ. قال: وإذا تأملت ذلك علمت أن حال الفقيه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه، ولا خفاء أن العلم بهما أشقُّ وأخصُّ من العلم بالكبرى فقط. وأيضًا فقه القضاء والفتيا مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغى طردها ويعمل معتبرها)
(2)
.
أما بعد اعتبار هذا القدر المشترك بين المفتي والقاضي فإن القاضي بين هذين الاثنين أخصُّ نظرًا؛ (لأنه ينظر فيما ينظر فيه المفتي من الأمور الجزئية
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 292).
(2)
فتاوى البرزلي (4/ 7)، مع تصحيح بعض الألفاظ من: منح الجليل، محمد عليش (4/ 136). وانظر حكاية سحنون مع سليمان بن عمران في: ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 87).
وزيادة ثبوت أسبابها ونفي معارضتها وما أشبه ذلك، وتظهر للقاضي أمور لا تظهر للمفتي، فنظر القاضي أوسع من نظر المفتي ونظر المفتي أوسع من نظر الفقيه، وإن كان نظر الفقيه أشرف وأعم نفعًا)
(1)
.
ومن الطرائف التي تُلمح إلى أثر الاشتغال بالفتيا أو بالقضاء في طبيعة وسجية من تولى شيئًا من ذلك ما يحكى عن قاضي القيروان محمد بن أبي يحيى الفاسي (ت 777 هـ) أنه دخل عليه البرزلي (ت 841 هـ) والزعبي (ت 833 هـ) للسلام عليه، فلما خرجا قال لمن حضره: الأول مفتي بلده والثاني قاضيها. وقد كانا كالذي قال
(2)
.
وهذا القدر الزائد من العلم بالجزئيات عند القاضي لا يستوجب اشتراط الكمالات العلمية فيه من حيث فقيه، بل ربما أمكنه التسلط بعقله وفراسته على ما لا يتوصل إليه من هو أفقه منه
(3)
، ومن هذا الباب قول أبي العيناء (ت 283 هـ) في قاضي البصرة عبد الله بن سوار (ت 228 هـ): ليس أحد ولي القضاء قليل الفقه، قد تمَّ القضاء بعقله إلا عبد الله بن سوار
(4)
. وقال الدباغ (ت 696 هـ) في وصف القاضيين أسد بن الفرات (ت 213 هـ) وأبي محرز الكناني (ت 214 هـ): (وكان أسد أوسع من أبي محرز علمًا وأغزر فقهًا، وكان أبو محرز أقل فقهًا وأكثر صوابًا في كثير من الأوقات
(5)
. وقال ابن أبي الوفاء (ت 775 هـ) في قاضي القضاة أبي الحسن إسماعيل بن صاعد (ت 443 هـ): (وكان رجلًا من الرجال الدهاة، ولم يشتهر بشيء من العلوم، إلا أنه كان دقيق النظر عارفًا برسوم القضاء، مزاحمًا للصدور؛ بما له من تقدم حشمة أبيه وبما فيه من الرجولية، ومع ذلك كان قصير اليد عن الأموال)
(6)
.
(1)
فتاوى السبكي (2/ 123).
(2)
تاريخ قضاة القيروان، الجودي (127).
(3)
انظر: التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، خليل بن إسحاق (7/ 385).
(4)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 155). ومن هذا المعنى ما جاء من وصف بعض القضاة بحسن العلم بـ (صناعة القضاء)، انظر مثلًا: ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 294) وفي (3/ 230).
(5)
معالم الإيمان (2/ 33).
(6)
الجواهر المضية (1/ 411).
ولا يعني ذلك الترخص في اشتراط العلم والفقه في القاضي بحالٍ فكلام الفقهاء في ذلك مشهور
(1)
، ولكن الشأن في المفاضلة غير الشأن في الاختيار، والفقهاء يؤكدون على ضرورة تعاهد القاضي لعلمه، فقد قال قاضي إشبيلية أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543 هـ):(إن القاضي إذا ولي القضاء عامين نسي أكثر ما كان يحفظ، فينبغي له أن يعزل وأن يتدارك نفسه)
(2)
، وقال حسام الدين السغناقي الحنفي (ت 714 هـ):(ومن حق السلطان أن ينظر إلى هذا القاضي إذا مضى عليه حول فيقول: لا فساد فيك، ولكن أخشى عليك أن تنسى العلم فعد وادرس العلم، ثم عد إلينا حتى نقلدك ثانيًا)
(3)
.
(1)
انظر: فتح القدير، الكمال بن الهمام (5/ 453)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 129)، نهاية المحتاج، الرملي (8/ 238)، الشرح الكبير، ابن أبي عمر (28/ 302).
(2)
بغية الملتمس، الضبي (94).
(3)
جاء النقل عن كتابه ((النهاية)) في: الفتاوى الهندية (3/ 317).
حال مجلس القضاء ملائم لأحوال أهل الزمان الذي هو فيه من حيث البساطة والتكلف، وتطلُّب ما هو زائد على حاجة أهل الزمان ترفٌ يخرج بالقضاء عن أصل معناه، فإن غرض القضاء إقامة القسط والحكم بين الناس بالعدل، فمتى تهيَّأ ذلك لم يُستقص في مكان التقاضي أو هيئة القاضي.
وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه استعمل عمر رضي الله عنه على قضاء المدينة، فمكث سنة لا يتقدم إليه أحد
(1)
. واستقضى عمر رضي الله عنه على الكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي فجلس أربعين يومًا ما تقدم إليه فيها اثنان
(2)
. ويروى عن شريح (ت 78 هـ) أنه قال: لما ولاني عمر رضي الله عنه توجهت إلى الكوفة، فاستقبلني القاضي الذي كان قبلي بالقادسية، فقلت له: ما عندك؟ فقال: أنا جالس منذ شهرين ما تقدم إلي أحد
(3)
. وكان قاضي القيروان يزيد بن الطفيل ربما جلس للقضاء فلا يأتيه أحد لقلة الخصومات في ذلك الزمان، فينعس القاضي فإذا كان الوقت الذي يعلمون أن القاضي ينصرف فيه سرَّحوا الحمار فيذهب حتى يأتي باب الجامع، فيخرج القاضي فيركبه
(4)
. بل كان القاضي في أول الأمر ربما استقل بالكفاية على جهة من الجهات أو إقليم من الأقاليم، كقاضي مرو
(1)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 104)، السنن الكبرى، البيهقي (10/ 87).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 186).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 393).
(4)
رياض النفوس، المالكي (1/ 173).
عبد الله بن بريدة بن الحصيب (ت 115 هـ) الذي كان يطوف القرى على حمار يقضي بين الناس
(1)
.
فمتى عُلم ما كانت عليه الأحوال في تلك الأزمنة وأشباهها من قلة الخصومات في بلدة أو ناحية، علمنا مدى التكلف الذي يضطر بعض الباحثين المعاصرين إليه أنفسهم من تكلف السوابق الإدارية والقضائية في بيئات لم تكن لأهلها حاجة بمثلها. فأيُّ حاجة تدعو أهل بلدة يمر على قاضيها الأيام والأسابيع لا يترافع إليه فيها أحد إلى اتخاذ دار للقضاء، أو اتخاذ حجَّاب وأعوان؟
(2)
. والمتصفح لأحوال القضاة مثلًا في الزمان الأول يرى أن القاضي ربما قضى في المسجد
(3)
، أو في رحبته
(4)
، وربما قضى في داره
(5)
، أو على باب داره
(6)
، بل ربما قضى في السوق
(7)
، أو في الطريق
(8)
، وبذلك بوَّب البخاري في ((كتاب الأحكام)) من صحيحه فقال:(باب القضاء والفتيا في الطريق)
(9)
.
(1)
أخبار القضاة، وكيع (3/ 306).
(2)
الواقع أن الكثير من التكلف المشار إليه جاء كردِّ على تصور مقابل ناتج عن قراءة ساذجة للقضاء في الأزمنة الأولى، نفترض أنه لم يكن هناك تصور واضح للمهمة القضائية، وأن ذلك نشأ شيئًا فشيئًا من خلال اجتهاد القضاة والفقهاء، وهذا التحليل بطبيعة الحال فرع في الغالب عن تحليل مادي لا يؤمن بهيمنة الشريعة ومصدرها. انظر على سبيل المثال: من التحكيم إلى التقاضي دراسة في نشأة مؤسسة القضاء الإسلامية، د. لطيفة البكاي (80)، الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ، د. زهية جويرو (64). وانظر: تاريخ القضاء في الإسلام، د. محمد الزحيلي (54)، القضاء والقضاة بإفريقية في عهد الولاة، د. فريد بن سليمان، مجلة المؤرخ العربي، العدد الثاني والخمسون (130).
(3)
انظر على سبيل المثال: المدونة (5/ 144)، أخبار القضاة، وكيع (1/ 145) وفي (1/ 205) وفي (2/ 7) وفي (2/ 22) وفي (2/ 226) وفي (2/ 427) وفي (3/ 18) وفي (3/ 28) وفي (3/ 306).
(4)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (1/ 296) وفي (2/ 14).
(5)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (1/ 108) وفي (1/ 275) وفي (2/ 313) وفي (2/ 412)، قضاة قرطبة، الخشني (51).
(6)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (3/ 307).
(7)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (1/ 339) وفي (3/ 306).
(8)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (1/ 333) وفي (1/ 341).
(9)
وللفقهاء في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه القضاء كلام طويل، انظر: تبصرة الحكام، ابن فرحون (1/ 31).
وهذه الحال التي كان عليها الناس في بعض الأوقات والبلدان من قلة الخصومات وطرح التكلف وضعف الداعي إليه، شارحة للكثير من أحوال التبسط المحكية عن طوائف من القضاة، أو تسامحهم فيما يتشدد فيه من تأخر عنهم
(1)
.
والذي ينبغي أن يعلم على كل حال أن مجلس القضاء مجلس جليل مهيب، والمقسطون من القضاة ثوابهم عظيم عند الله جل جلاله، كما أن الظلمة منهم والجهلة الذين يجترئون على القضاء بغير علم يتوجه في حقهم من الوعيد ما فرَّ لأجله الأئمة الكبار من القضاء خوفًا وجزعًا، وأخبارهم في ذلك مشهورة مستفيضة
(2)
. ومن ذلك ما حكاه الحافظ أبو بكر الباغندي (ت 312 هـ) قال: كنت بسرَّ من رأي، وكان عبد الله بن أيوب المخرّمي (ت 265 هـ) يقرب إليَّ فخرج توقيع الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سرّ من رأي إلى بغداد، حتى دققت على عبد الله بن أيوب بابه فخرج إليَّ، فقلت: لك البشرى. فقال: بشَّرك الله بخير، وما هي؟ قال: قلت: خرج توقيع السلطان بتقليدك القضاء لأحد البلدين: إما سرّ من رأى أو بغداد-شك أحد الرواة-، قال: فأطبق الباب، وقال: بشَّرك الله بالنار. وجاء أصحاب السلطان إليه فلم يظهر لهم فانصرفوا
(3)
. وكان قاضي القيروان عيسى بن مسكين (ت 295 هـ) إذا تحدث عن أيام قضائه قال: (كنت في بليَّتي) و (كنت أيام تلك المحنة)
(4)
.
وقال بعض من وصف جلوس أبي العباس بن طالب (ت 275 هـ) للقضاء: (كنت أنظر إلى أبي العباس بن طالب، إذا تفرَّغ من القضاء بين الناس قدم فوقف وحوَّل وجهه إلى القبلة ثم بسط كفيه، فنظرت إلى دموعه وهي تجري
(1)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (2/ 84) وفي (2/ 168)، قضاة قرطبة، الخشني (80).
(2)
عقد الخشني فصلًا للذين فروا من القضاء في: قضاة قرطبة (3)، وانظر: عزوف الفقهاء عن تولي القضاء في العصرين الأموي والعباسي، د. صالح الشمري وزميله، مجلة سُرَّ من رأى، كلية التربية بجامعة سامراء، مجلد (9)، عدد (24).
(3)
نشوار المحاضرة، التنوخي (4/ 113).
(4)
المرقبة العليا، النباهي (31).
على خديه وعلى لحيته، وهو يقول: اللَّهُمَّ إن كان مني زلة أو هفوة أو أصغيت بأذني إلى خصم دون خصم، أو مالت نفسي أو قلبي إلى خصم دون خصم، فأسألك أن تغفر لي ذلك ولا تؤاخذني ولا تنتقم مني، إنك على كل شيء قدير. ثم يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم وينصرف. هكذا يعمل في كل مجلس. وكان يكتب على أحكامه: حكمت بقول ابن القاسم. حكمت بقول أشهب.
ويقول: في البلد علماء وفقهاء، اذهب إليهم، فما أنكروا عليك، فارجع إلي.
وكان يكتب القضية ويقول لصاحبها: أرها لكل من عنده علم بالقيروان، ثم ارجع إلي بما يقولون لك)
(1)
. وقريب من هذا ما ذكر من حال قاضي سبتة محمد بن محمد اللخمي القرطبي (ت 723 هـ) الذي كان من شأنه إذا أتى المسجد للحكم فيه بين الناس أن يتركَّع ويتضرع إلى الله تعالى ويلح في الدعاء، ويسأله أن يحمله على الحق ويعينه عليه ويرشده للصواب، وإذا فرغ من الحكم يتركَّع ويستقبل الله تعالى يسأله العفو والمغفرة عما عسى أن يكون صدر عنه مما تلحقه تبعة في الآخرة
(2)
.
وكان القاضي أبو القاسم الطرزي (ت 317 هـ) كثيرًا ما يتمثل في مجلس القضاء بهذين البيتين
(3)
.
إذا خان الأمير وكاتباه
…
وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل للأمير وكاتبيه
…
وقاضي الأرض من قاضي السماء
ولأجل هذه الهيبة كان مجلس القضاء حقيقًا أن يحاط بأسباب التفخيم والإجلال، وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى رضي الله عنه وهو بالبصرة:(بلغني أنك تأذن للناس جمًّا غفيرًا، فإذا جاءك كتابي هذا، فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة)
(4)
. وإذا حضر الخصوم المجلس سوَّى بينهم القاضي، وتكلم كلٌّ منهم بحجته على بيان
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 317).
(2)
المرقبة العليا، النباهي (134).
(3)
معالم الإيمان، الدباغ (3/ 10).
(4)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 286).
واحد دون أن يستأثر أحدهم بمجلس أو خطاب دون صاحبه، فلا يقدَّم شريف لشرفه ولا رئيس لرئاسته، وفي كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه:(وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك)
(1)
، وكان أبو هريرة رضي الله عنه في مجلسه يقضي، فجاء الحارث بن الحكم فجلس على وسادته التي يتكئ عليها، فظن أبو هريرة أنه لحاجة غير الحُكم، فجاءه رجل فجلس بين يدي أبي هريرة فقال له: مالك؟ قال: استأْدِني على الحارث، فقال أبو هريرة: قم فاجلس مع خصمك فإنها سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
(2)
. وجاء الأشعث بن قيس إلى شريح في مجلس القضاء، فقال: مرحبا بشيخنا وسيدنا ههنا ههنا، فأجلسه معه، فإذا رجل جالس بين يدي شريح، فقال: مالك يا عبد الله؟ قال: جئت أخاصم الأشعث بن قيس، قال: قم مع خصمك، قال: وما عليك أن تقضي وأنا ههنا؟ قال: قم قبل أن تقام. فقام وهو مغضب
(3)
.
ومن ذلك استحباب الفقهاء للقاضي أن يحضر مجلسه أهل العلم المشاورون من كل مذهب ليستعين بهم، وهذه المشاورة فائدتها استخراج الأدلة ومعرفة الأقوال والأقضية، وكذا ليذكِّروه وينبِّهوه ويناظروه إذا أخطأ في الرأي أو اشتبه عليه الأمر، أما الفصل في الحكم فإنما يكون باجتهاد القاضي
(4)
.
قال سفيان الثوري (ت 161 هـ): (كانت القضاة لا تستغني أن يجلس إليهم بعض العلماء؛ يقوِّمهم إذا أخطأوا)
(5)
. وسئل قاضي مالقة أبو المطرِّف الشعبي (ت 499 هـ) عن حاكم حكم على رجل بأشياء جرت على غير الحقيقة،
(1)
السنن الكبرى، البيهقي، كتاب الشهادات، باب لا يحيل حكم القاضي على المقضي له والمقضي عليه ولا يجعل الحلال على واحد منهما حرامًا ولا الحرام على واحد منهما حلالًا (10/ 150).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 113).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 216)، وانظر موقفين آخرين له في (2/ 284) وفي (2/ 295).
(4)
انظر: السنن الكبرى، البيهقي (10/ 110)، شرح كتاب أدب القاضي للخصاف، الجصاص (104)، المغني، ابن قدامة (14/ 26 - 29)، أدب القضاء، ابن أبي الدم (1/ 327).
(5)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 415)
وذكر أنه استبد فيها برأيه وأبى أن يشاور أحدًا من الفقهاء. فقال: (ق كان ينبغي لهذا الحاكم أن لا يستبد برأيه في أحكامه ويتبع سنن من مضى من حكام العدل، فقد مضت السُّنَّة قديمًا من لدن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يشاورون في أحكامهم، وكانوا من الدين والفضل بحيث لا يجاريهم غيرهم)
(1)
.
وقال الشعبي (ت 104 هـ): (من سرَّه أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر رضي الله عنه فإنه كان يستشير)
(2)
. وقد كان عثمان رضي الله عنه إذا جاءه الخصمان قال لأحدهما: اذهب فادع عليًّا رضي الله عنه، وللآخر: فادع طلحة بن عبيد الله والزبير وبعد الرحمن رضي الله عنهم فجاءوا فجلسوا، فقال لهما: تكلما، ثم يقبل عليهم فيقول: أشيروا علي، فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه عليهما وإلا نظر، فيقومون مسلِّمين
(3)
. وكان شريح (ت 78 هـ) يقضي بحضرة أشياخ يجالسونه على القضاء
(4)
. وكان قاضي البصرة عبد الرحمن بن محمد المخزومي ينظر في قضية لامرأة فاستبطأته، فقال لها: إن أمرك قد أشكل علي، ولم أقف منه على ما يحقُّ عندي حقًّا ولا يبطل عندي باطلًا، فاصبري فإن أحببت أن أذكر ذلك للأمير، فيجتمع لك فقهاء أهل البصرة فعلت، وإن أحببت كتبت إلى أمير المؤمنين فأسأل عن أمرك من عنده من فقهاء المسلمين
(5)
.
وكان أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537 هـ) إذا ولَّى أحدًا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء
(6)
. وجاء في عهد المسترشد
(1)
المعيار المعرب، الونشريسي (10/ 58)، وانظر بقية الفتيا فيه.
(2)
السنن الكبرى، البيهقي، كتاب آداب القاضي، باب مشاورة الوالي والقاضي في الأمر (10/ 109).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 110)، السنن الكبرى، البيهقي (10/ 112).
(4)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 226).
(5)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 142). وفيه:(ولو أقف منه) ويظهر أنه خطأ في القراءة أو الطباعة.
(6)
المعجب، عبد الواحد المراكشي (235).
العباسي (ت 529 هـ) إلى قاضي القضاة أبي القاسم علي بن الحسين الزينبي (ت 543): (وأمره بمجالسة العلماء ومباحثة الفقهاء، ومناقشة ذوي البصيرة والفهم والفطنة والحزم، ومشاورتهم في عوارض الأمور المشكلة، وسوانح الأحكام المستبهمة المعضلة، حتى يصرِّح محض رأيه وآرائهم عن زبدة الصواب، وتنتج أفكارهم باستجمامها نظرًا شافيًا بالجواب، رافعًا عنه منسدل الحجاب، وإن في ذلك ثَلَجًا للصدور، واستظهارًا في الأمور، واحترازًا من دواعي الزلل واستمرار الخلل، وأمنًا من غوائل الانفراد، وحطًّا للتعويل على الاستبداد، فلربَّ ثقة أدت إلى خجل، وأمن أفضى إلى وجل، وما زالت الشورى مقرونة بالإصابة، محكمة عرى الحق وأسبابه، حارسة من عواقب الندم، داعية إلى السلامة من زلة القدم)
(1)
.
وقد تحرَّز بعض الفقهاء من حضور المشاورين في مجلس القاضي؛ لئلا يدخل عليه الحصر أو يشتغل قلبه بهم ويحذر منهم فيكون من ذلك نقصان في فهمه وحكمه، قالوا: ويشاورهم إذا خرج من مجلس القضاء
(2)
. قال علي حيدر (ت 1353 هـ) في شرحه لمجلة ((الأحكام)): (ومع أن المحاكمة تجري علنًا، إلا أن المشاورة والمذاكرة في القضية تجرى خفية، فعليه إذا كانت الدعوى التي تجري فيها المحاكمة محتاجة للمشاورة ويحتاج القاضي إلى أن يتذاكر فيها مع أهل العلم، فيذاكرهم خفية ولا يذاكرهم علنًا؛ لأن المذاكرة العلنية تزيل مهابة المجلس وتوجب اتهام الناس القاضي بالجهل، وتجري المذاكرة في ذلك إما في غرفة أخرى أو بإخراج الناس من غرفة المحاكمة)
(3)
.
واستشارة القضاة للفقهاء خارج مجلس القضاء باللقاء أو الكتابة كثيرة مشهورة، ولما تولى هشام بن هبيرة قضاء البصرة كتب إلى شريح (ت 78 هـ):
(1)
صبح الأعشى، القلقشندي (10/ 267).
(2)
انظر: شرح كتاب أدب القاضي للخصاف، الجصاص (104)، تبصرة الحكام، ابن فرحون (1/ 34).
(3)
درر الحكام (4/ 624).
(إني استعملت على القضاء على حداثة سني وقلة علم مني به، ولا غناء بي عن مؤامرة مثلك فيه)، وكان شريح يشاور مسروقًا (ت 62 هـ) وعبيدة السلماني (ت 72 هـ)
(1)
، وكان محمد بن بشير (ت 198 هـ) إذا اختلف عليه العلماء وأشكل عليه الأمر كتب إلى مصر، إلى عبد الرحمن بن القاسم (ت 191 هـ) وعبد الله بن وهب (ت 197 هـ)
(2)
.
وقد أفاض الفقهاء في شرح أدب القاضي وما ينبغي أن يكون عليه مجلسه من الوقار والاحتشام، وما يجب أن يكون عليه القاضي نفسه من استقرار الحال وطمأنينة النفس الداعية إلى حسن النظر في القضايا التي يحكم فيها، فيجلس وعليه السكينة بحيث لا تغلب عليه حال تشوِّش عليه في حكمه من غضب أو همٍّ أو جوع أو شبع أو وجع أو نعاس وما شابه ذلك، ولا يُتضاحك في مجلسه، ولا يُرفع الصوت بحضرته، ويمنع فيه كلُّ ما يُخلُّ بهيبة المجلس
(3)
.
وجرى الخلاف بين الفقهاء في مسائل كثيرة بين اعتبار مقام هيبة المجلس المانعة من اجتراء الخصوم على أحكام القضاء، وبين طرح الأسباب التي تحول بين عامة الناس والوصول إلى القاضي وخطابه بما يكون به أداء الحقوق إلى أهلها. وجماع ذلك في عامة أحوال القاضي مما هو عائد إلى حسن سياسة الناس ومراعاة أحوالهم، والتصرف فيها بما هو أكثر إقامة للقسط والعدل فيهم، وربما استحدث كلُّ قاضٍ من أسباب الرفق أو الشدة ما هو أليق بالمحل الذي هو فيه. ولما قيل لشريح (ت 78 هـ): يا أبا أمية أحدثت! عندما سأل في السير، قال: أحدثتم فأحدثنا
(4)
. وقال إياس بن معاوية
(1)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 299).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 229) وفي (2/ 400).
(3)
قضاة قرطبة، الخشني (35).
(4)
انظر: درر الحكام، علي حيدر (4/ 586)، تبصرة الحكام، ابن فرحون (1/ 32)، الشرح الكبير، ابن أبي عمر (28/ 349).
(ت 122 هـ): (قيسوا القضاء ما صلح الناس، فإذا فسدوا فاستحسنوا)
(1)
.
ومن أمثلة ذلك كراهة بعض الأئمة للقاضي أن يتخذ حاجبًا يكون وصول المتنازعين إليه موقوفًا على إذنه. قال الماوردي (ت 450 هـ): (وكان بعض أصحابنا يقول: إنما يكره للقاضي اتخاذ الحاجب في زمان الاستقامة وسداد أهله، فأما في زمان الاختلاط والتهارج واستطالة السفهاء والغاغة فالمستحب له أن يتخذ حاجبًا يحفظ هيبة نظره ويمنع من استطالة الخصوم)
(2)
. ومثل هذا يقال في اتخاذ القاضي للأعوان الذين يستعين بهم في مجلس القضاء لضبط المجلس وإحضار الخصوم ونحو ذلك. قال علاء الدين الطرابلسي (ت 844 هـ): (فلا بد للقاضي من أعوان يكونون حوله؛ ليزجروا من ينبغي زجره من المتخاصمين، وينبغي أن يخفف منهم ما استطاع. وقد كان الحسن رضي الله عنه ينكر على القضاة اتخاذ الأعوان، فلما ولي القضاء وشوَّش عليه ما يقع من الناس عنده قال: لا بد للسلطان من وزعة)
(3)
.
ومن ذلك أن طوائف من القضاة كانوا يمنعون الخصوم أن يختلوا بهم في مجالس الحكم؛ لئلا تلحقهم التهمة بهم أو الميل إليهم، فكان القاضي محمد بن بشير المعافري (ت 198 هـ) لا يخاليه أحد في مجلس نظره ولا في داره، ولا يقرأ كتابًا لأحد في سبب من أسباب الخصومة
(4)
. وكذلك كان القاضي أحمد بن زياد اللخمي فكان شديد التهيب في قضائه، ولا يخاطب في شيء من أمر الخصوم إلا في مجلس نظره، ولا يأذن لأحد يلقاه في طريق في مواكبته ولا أن ينصرف معه، ومن ألحَّ فيما لا ينبغي من ذلك أمر بحبسه
(5)
.
ومثله القاضي عمرو بن عبد الله (ت 273 هـ) الذي كان إذا قعد لا يتقرب منه خصم ولا يدنو منه أحد، وكذلك إذا ركب لايصحبه صاحب، ولا يصير إلى
(1)
أخبار القضاة، وكيع (1/ 341).
(2)
أدب القاضي (1/ 201).
(3)
معين الحكام (18)، وانظر: شرح أدب القاضي للخصاف، الصدر الشهيد (1/ 244).
(4)
قضاة قرطبة، الخشني (30)، وانظر الحكاية التي ذكرها عنه في (31).
(5)
قضاة قرطبة، الخشني (65).
جانبه راكب، وكان يخرج من مجلس القضاء إلى المسجد، فإذا همَّ رجل أن يدنو منه دفعه عنه وقال: اذهب حتى يجلس القاضي في مجلس القضاء
(1)
.
ومن التفخيم الذي ينبغي لمجلس القضاء أن يكون للقاضي اعتناء بحسن زيه ومظهره؛ لأنه أهيب لقضائه وحكمه في نفوس الخصوم والشهود. قال ابن المناصف (ت 620 هـ): (وليجتهد أن يكون جميل الهيئة ظاهر الأبَّهة وقور المشية والجلسة حسن النطق والصمت، محترزًا في كلامه من الفضول وما لا حاجة به، كأنما يعد حروفه على نفسه عدًّا، فإن كلامه محفوظ وزللَه في ذلك ملحوظ، وليقلل عند كلامه الإشارة بيده والالتفات بوجهه، فإن ذلك من عمل المتكلفين وصنع غير المتأدبين، وليكن ضحكه تبسمًا ونظره فراسة وتوسمًا وإطراقه تفهمًا، ويكون أبدًا متردِّيًا بردائه حسن الزي وليلبس ما يليق به؛ فإن ذلك أهيب في حقه وأجمل في شكله وأدل على فضله وعقله، وفي مخالفة ذلك نزول وتبذل، وليلزم من السمت الحسن والسكينة والوقار ما يحفظ به مروءته فتميل الهمم إليه، ويكبر في نفوس الخصوم الجراءة عليه، من غير تكبر يظهره ولا إعجاب يستشعره، فكلاهما شين في الدين وعيب في أخلاق المؤمنين)
(2)
.
(1)
قضاة قرطبة، الخشني (68).
(2)
تبصرة الحكام، ابن فرحون (1/ 26).
لمجلس القضاء فوائد وثمرات عظيمة عامة النفع، على من شهد المجلس وعلى الناس بعامة، فمن ذلك ما يأتي بيانه:
1 -
مجلس القضاء دار لإقامة العدل وبسط هيبة الشرع، قال مسروق (ت 62 هـ):(لأن أقضي يومًا فأقول فيه الحق أحب إليَّ من أن أرابط سنة في سبيل الله)
(1)
، وقال الإمام أحمد (ت 241 هـ):(لا بدَّ للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟)
(2)
، والناس تستقيم أحوالهم بالعدل وتضطرب بالظلم.
ولم يزل في ملوك المسلمين عقلاء يعلمون أن عدل القاضي في الحكم مضاف إليهم، كما أن ظلمه مما تلحقهم معرَّته في الدنيا والآخرة، وقد روي أن أبا جعفر (ت 158 هـ) كتب إلى سوَّار بن عبد الله القاضي (ت 156 هـ) في شيء كان عنده خلاف الحق فلم ينفِّذ سوار كتابه وأمضى الحكم عليه، فاغتاظ المنصور عليه وتوعده، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما عدل سوار مضاف إليك وتزيين خلافتك، فأمْسّك
(3)
.
ولذا حرص من حرص من الخلفاء والأمراء على حسن اختيار القاضي والسؤال عن فقهه وديانته
(4)
. ومن ذلك أن عبد الملك بن مروان (ت 86 هـ).
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 398).
(2)
كشاف القناع، البهوتي (15/ 8).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 60).
(4)
انظر: قضاة قرطبة، الخشني (23).
كتب إلى أخيه أمير مصر عبد العزيز بن مروان (ت 85 هـ) يعلمه أن أهل الشام اختلفوا عليه في نفقة المبتوتة، فاكتب إليَّ بما عند أهل مصر فيه، فجُمع الأشياخ إلى عبد العزيز فسألهم، وكان يونس بن عطية الحضرمي (ت 86 هـ) في أخرياتهم، فقال له عبد العزيز: تكلم. فتكلم، فأعجب عبد العزيز به فسألهم عنه، فقالوا له: هذا من سادات حضرموت، فولاه القضاء
(1)
.
وكان الحسن بن عبد الله العنبري (ت 223 هـ) على مظالم فارس زمن المأمون (ت 218 هـ)، وكان على خراجها يومئذٍ محمد بن الجهم، فظلم الناس فشكوه إلى المأمون، فأمر بأشخاص الحسن إليه ليشافهه فيه، فلقي المعتصم (ت 227 هـ) الحسن وهو داخل إلى المأمون فشفع لابن الجهم، فقال الحسن: ليس عندي في أمره إلا الصدق، فعُزل ابن الجهم. ثم إنه توفي المأمون واستخلف المعتصم، فلما مات قاضي البصرة استدعى المعتصم الحسن من فارس وولاه قضاءها، ثم جرت قضية تصلَّب فيها الحسن على الحق، فكان المعتصم يقول لقاضي قضاته: كيف قد رأيت فراستي فيه؟ والله لوددت أن مكان كل شعرة منه قاضٍ على بلد من البلدان
(2)
.
واستعدى والي إفريقية يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب (ت 170 هـ) أبا كريب جميل بن كريب المعافري (ت 139 هـ) ليوليه القضاء، فتمارض أبو كريب حتى حمل إليه فدخل عليه، فقال له يزيد: والله يا أبا كريب ما أردت إلا الله عز وجل، وأنا أجعلك حسنة بيني وبين الله عز وجل للمسلمين، وتكون لي عونًا على هذا الأمر وتحكم بالحق عليَّ وعلى من هو لي، فاتق الله عز وجل فيما دعوتك إليه من القيام بالحق في المسلمين وفيَّ. فقال له أبو كريب: الله الله أردت بذلك؟ فقال: نعم، فكررها ثلاثًا فقال: نعم، فقال: قبلت. ثم إنه لم تمض أيام يسيرة حتى أتاه متظلم من الأمير فحكم القاضي على الأمير، فانصرف وهو يقول: الحمد لله الذي لم أمت حتى جعلت بيني وبين الله من
(1)
أخبار قضاة مصر، الكندي (36).
(2)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 174).
يحكم بين عباده بالحق، فقال أبو كريب: وأنا أقول الحمد لله الذي لم أمت حتى رأيت أميرًا يشكر الله على القضاء بالحق عليه
(1)
.
ولما أراد الأمير زيادة الله الأغلبي (ت 223 هـ) اختيار قاض لإفريقية، كان كلما عرض على أحد امتنع منه، فجمع القضاة في مقصورة وطلب منهم اختيار قاضٍ، فلما حضرت الصلاة قال لرجل عنده: انظر إليهم وقت الصلاة من يقدمونه يصلي بهم. فقدَّموا أحمد بن أبي محرز (ت 221 هـ)، فقال الأمير: رضوه لدينهم رضيته أنا للدنيا. ثم أجبره على القضاء، فكان زيادة الله يقول بعد ذلك: من تنقَّص قاضيَّ فإنما تنقَّصني وحلَّ من أمري، وقال مرة لمن حضره: ما أبالي إن شاء الله ما قدمت عليه يوم القيامة، وقد قدَّمت أربعة قبل وفاتي، قيل: وما هي؟ قال: بنائي المسجد الجامع بالقيروان، أنفقت فيه ستة وثمانين ألف دينار، وبنائي القنطرة بباب أبي الربيع، وبنائي الحصن بسوسة، وتوليتي أحمد بن أبي محرز قضاء إفريقية
(2)
.
ولما حضر الموت قاضي قرطبة محمد بن بشير (ت 198 هـ) قلق أمير الأندلس الحكم بن هشام (ت 206 هـ) واغتمَّ لذلك، فرأته إحدى نسائه في بعض الأماكن يصلي ويدعو ويبتهل إلى الله تعالى أن يوفقه لرجل يكون عوضًا منه فيوليه القضاء بعده
(3)
. وكان الأمير إبراهيم بن أحمد الأغلبي (ت 289 هـ) يباهي ويبتهم بقاضي القيروان عيسى بن مسكين (ت 295 هـ)، وقال له مرة بعض عماله: نصحتك نصحًا ما نصحك بمثله القضاة، فقال له إبراهيم: ولا عيسى بن مسكين؟
(4)
.
ولما مات قاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف (ت 328 هـ) وجد عليه الخليفة الراضي (ت 329 هـ) وجدًا شديدًا حتى كان يبكي
(1)
تاريخ قضاة القيروان، الجودي (51).
(2)
رياض النفوس، المالكي (1/ 396 - 398)، معالم الإيمان، الدباغ (2/ 40).
(3)
قضاة قرطبة، الخشني (37). وانظر في حال الحكم مع قاضيه المصعب بن عمران: المرقبة العليا، النباهي (46).
(4)
طبقات علماء إفريقية، الخشني (143).
ويقول: كنت أضيق بالشيء ذرعًا حتى أراه فيوسعه علي برأيه، ولما عُزِّي فيه قال: والله لا بقيت بعده
(1)
.
فالمراد أن الحكم بين الناس بالعدل أعزُّ ما يطلب في مجلس القضاء، وإنما يذكر الفقهاء ما يذكرونه من شرط القاضي وأدب المجلس لأجل صيانة هذا الغرض وتحصيله، ولما قيل لإسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282 هـ): ألا تؤلف كتابًا في أدب القضاة؟ قال: اعدل ومُدَّ رجليك في مجلس القضاء
(2)
.
2 -
في مجلس القضاء وما يقام فيه من الحقوق إصلاح لأحوال الناس في دينهم ودنياهم وتصحيح لمعاملاتهم، وقد روي عن الحكم بن هشام (ت 206 هـ) أنه قضى عليه محمد بن بشير (ت 198 هـ) في بعض أقضيته، وكان ابن بشير-فيما وُصف-شديد الشكيمة ماضي العزيمة، صلبًا في الحق لا هوادة عنده ولا مداهنة في أحكام السلطان، ولا يعبأ على جميع أهل الخدمة، ولا على من لاذ بالخليفة من جميع الطبقات، فكان الحكم يقول بعد ذلك: رحم الله محمد بن بشير، فقد أحسن فيما فعل بنا، كان في أيدينا شيء مشتبه فصحَّحه لنا وصار حلالًا طيِّبًا فطاب لنا ملكه
(3)
. وقال له كذلك بعض الخصوم في قضية حكم عليه فيها: يأبي أنت، أردنا أن نأكل الحرام فأبيت إلا أن تجعله حلالًا
(4)
.
3 -
في مجلس القضاء تطبيق عملي لما يدرسه الفقيه دراسة نظرية، وفي ذلك تصفح لأحوال الجزئيات وما تكون عليه في واقع الأمر، فإذا انضمَّ إلى ذلك ملاحظة ما يجري في مجلس القضاء من المناظرة والمشاورة مما تكلم فيه الفقهاء وسبقت الإشارة إلى طرف منه، عُلم مدى الثراء الفقهي الذي تشهده مجالس القضاء، وقد قال مكحول (ت 113 هـ): (قدمت الكوفة فاختلفت
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (3/ 229).
(2)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 289).
(3)
قضاة قرطبة، الخشني (29).
(4)
قضاة قرطبة، الخشني (24).
إلى شريح ستة أشهر ما أسأله عن شيء، أكتفي بما يقضي)
(1)
.
والعلم بالقضاء أخص من العلم بالفقه، ولذا كان القرب من القاضي كالقرب من المفتي، كلاهما مؤثر في استفادة فقه العمليات والنوازل والأقضية، قال ابن عبد السلام الهواري (ت 749 هـ):(قال مالك في المدونة: وليس علم القضاء كغيره من العلم، ولم يكن بهذا البلد أحد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وقد كان أخذ شيئًا من علم القضاء من أبان بن عثمان، وأخذ ذلك أبان من أبيه عثمان رضي الله عنه، هكذا وقع هذا الكلام في المدونة. وفي مجالس ابن وهب: ولم يكن عند أحد بالمدينة من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن حزم، قال: كان يتعلم القضاء من أبان بن عثمان بن عفان، وكان أبان قد علم أشياء من القضاء من أبيه. وكان أبو بكر هذا قاضيًا لعمر بن عبد العزيز)
(2)
.
ولهذا فإن من الملاحظ في تاريخ القضاء في الإسلام اشتهار بعض الأسر بالقضاء حتى ليكاد يغلب على قضاء بلدة فقهاء أسرة بعينها أو أبناء رجل واحد، ككثرة القضاة في بغداد وغيرها من آل حماد بن زيد (ت 179 هـ)، حتى قال فيهم بعض المؤرخين: لا نعلم أحدًا من أهل الدنيا بلغ مبلغ آل حماد
(3)
. وقال القاضي عياض (ت 544 هـ): (كانت هذه البيتة على كثرة رجالها وشهرة أعلامها من أجلِّ بيوت العلم بالعراق، وأرفع مراتب السؤدد في الدين والدنيا، وهم نشروا هذا المذهب-يعني: مذهب مالك-هناك ومنهم اقتبس) إلى أن قال: (ولم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة ما بلغوه من اتخاذ المنازل والضياع والكسوة والآلة ونفاذ الأمر في جميع الآفاق، فكان لا يبقى أمير في أقطار الأرض شرقًا وغربًا إلا كاتبوهم ونفذت أمورهم على أيديهم، وكذلك كل من كان بالحضرة من أرباب الخراج والأعمال لا يجد بدًّا من أن
(1)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 228).
(2)
المعيار المعرب، الونشريسي (10/ 79) مع تصحيح كلمة من فتاوى البرزلي (4/ 9)، وكلام الإمام مالك رحمه الله لم أجده في المدونة.
(3)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 51).
يصير إلى ما يأمرون به، لا يقدر واحد على أن يدفع أمرهم أو يقصر في حوائجهم)
(1)
.
ومن أسر القضاء المشهورة بيت الصاعدية في نيسابور ومنهم القاضي ابن القاضي ابن القاضي أبو الفضل الحسين بن الحسن بن إسماعيل بن صاعد (ت 511 هـ)، وبيت الصاعدية بيت علم وفضل ورئاسة
(2)
.
وسوى هذين المثالين أمثلة كثيرة مشهورة وهي واقعة في سائر المذاهب، حيث يخرج الجماعة من القضاة من بيت واحد بل من دار واحدة، وفي هذا إلماح لأثر اشتغال بالقاضي بالقضاء واشتهاره به، ثم اشتغال ذويه من بعده به في اكتساب صناعة القضاء والدربة عليها والتمرس فيها
(3)
. بل إن قرب المتفقه من القاضي وكثرة ملابسته لمجالس القضاء أمر من شأنه اقتباس ملكة القاضي ومهارته، متى صادف ذلك محلًا قابلًا له.
وقد حرص الفقهاء على حفظ هذه الثروة الفقهية العالية التي تضمنتها مجالس القضاء فكانت بمثابة السوابق القضائية، وقد جرى العمل في الكثير من الأمصار والبلدان بهذه الأحكام؛ لئلا تضطرب بكثرة تبديلها أحوال الناس. حتى إن قاضي قرطبة المنذر بن سعيد (ت 355 هـ) كان ظاهريًّا يحتج بمقالة داود (ت 270 هـ) ويجمع كتبه ويؤثر مذهبه، فإذا جلس مجلس الحكومة قضى بمذهب مالك (ت 179 هـ) وأصحابه الذي عليه العمل ببلده ولم يعدل عنه
(4)
.
(1)
ترتيب المدارك، القاضي عياض (2/ 278). ولك أن تنظر في تراجم: إسحاق بن إسماعيل بن حماد (ت 230 هـ)، وأخيه يعقوب (ت 246 هـ)، وابنه الفقيه القاضي الإمام إسماعيل بن إسحاق (ت 282 هـ) الذي تفقه به مالكية العراق في وقته، وحفيده محمد بن حماد بن إسحاق (ت 276 هـ) ولي قضاء البصرة وغيرها، وابن أخيه يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد (ت 297 هـ) ولي قضاء بغداد، وقاضي القضاة عمر بن محمد بن يوسف (ت 328 هـ)، وقاضي مصر أبو بكر هارون بن إبراهيم بن حماد بن إسحاق (ت 328 هـ)، وأبو نصر يوسف بن عمر (ت 356 هـ) ولي قضاء بغداد، وغيرهم من شيوخ القضاء والإفتاء من ذرية حماد وأخيه سعيد، حيث تردد العلم في طبقاتهم وبيتهم نحو ثلاثمائة عام.
(2)
انظر: الطبقات السنية، الغزي (3/ 125) وفي (3/ 48) وفي (2/ 190).
(3)
انظر: أقضية خراسان حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. زينب مهدي رؤوف (53).
(4)
المرقبة العليا، النباهي (74).
4 -
بالإضافة إلى ما يتضمنه مجلس القضاء من الفقه والعلم، فلا يخفى ما فيه من السمت والأدب، ولئن كان الفقهاء أطالوا الكلام في بيان أدب القاضي وما ينبغي أن يكون عليه مجلسه من الوقار، فإن على حضور المجلس أدبًا يلزمهم كذلك، بل إنهم يكتسبون من خيار القضاة أدبًا وفضلًا ينتفعون به في سائر زمانهم، فلقد كان في القضاة من خيار الأمة دينًا وعلمًا وأدبًا وأمانة وورعًا من هم بالمكان الأرفع من الأسوة والقدوة، وكان بهم من الحرص على إقامة العدل والانتصاف للمظلوم من الظالم والانتصاب لخدمة الناس ما لا يخفى على من عرف سيرهم وطالع أخبارهم، لا سيما في الأزمنة الأولى التي هي خير القرون، ومع ذلك فالكثير منهم لا يتقاضون على القضاء أجرًا من أحد
(1)
، وطوائف منهم كانوا إذا عاقهم شغل في يوم من الأيام عن حضور مجلس القضاء لم يقبضوا رزق ذلك اليوم
(2)
، وقال قاضي البصرة معاذ بن معاذ العنبري (ت 196 هـ) لابنه في يوم مطير: أي: بني، امض بنا نجلس للناس، فقال له ابنه: يا أبت هذا يوم مطير لا يجيء فيه الناس، فقال: يا بني امض بنا فبم نستحل أن نأخذ كلَّ يوم كذا وكذا درهمًا؟ وخرج فجلس
(3)
.
فكان هؤلاء وأمثالهم في الناس بمحل القدوة، وكان لحسن قضائهم وتأديبهم ووعظهم الخصوم والشهود وإصلاحهم بين الناس أثر صالح
(4)
، حتى إذا ابتغى القاضي بعمله الدنيا، واستبدل بأجر الآخرة الذي هو خير وأبقى لعاعة من الدنيا وتزلُّفًا عند سلطان أو أمير أو رئيس، انقلبت الحال وانحطت تلك المكانة الرفيعة وآذنت أحوال الناس بفساد عريض
(5)
.
(1)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (1/ 229) وفي (2/ 8) وفي (2/ 398) وفي (3/ 6) وفي (3/ 177) وفي (3/ 202)، طبقات علماء إفريقية، الخشني (143)، المرقبة العليا، النباهي (32) وفي (92) وفي (129).
(2)
انظر على سبيل المثال: أخبار القضاة، وكيع (3/ 233)، أخبار قضاة مصر، الكندي (73)، قضاة قرطة، الخشني (22)، المرقبة العليا، النباهي (44).
(3)
أخبار القضاة، وكيع (2/ 138).
(4)
انظر: أثر القضاء في الدعوة إلى الله تعالى ((دراسة تأصيلية وتطبيقية في العصر العباسي)). صالح الهذلول (305).
(5)
انظر على سبيل المثال: القضاء في العهد المرادي، د. لطفي الجراي (150).