المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: الشاعر محمد بن أحمد العقيلي - المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

[علي علي صبح]

الفصل: ‌الفصل الثالث: الشاعر محمد بن أحمد العقيلي

‌الفصل الثالث: الشاعر محمد بن أحمد العقيلي

نشأة العقيلي وحياته:

هو الشاعر محمد بن أحمد العقيلي، ولد في مدينة "صبيا" عام "1366هـ-1916م".

تلقى علومه على أحد المدرسين، وعلى الده، وعلى الشيخ عقيل بن أحمد في الفقه والنحو والصرف وعلم المعاني وعلم البيان، وغيرها من علوم العربية.

تقلَّب في وظائف مختلفة في الهيئات الحكومية، واشتُهِرَ في المملكة بكتاباته الصحفية التي كانت تستهوي القراء والعلماء والباحثين، يقول الأستاذ حمد الجاسر في ذلك:

"لقد عرفت الأستاذ العقيلي أول ما عرفته مؤرخًا وباحثًا حينما كان يمد مجلة "اليمامة" منذ تسعة عشر عامًا بأبحاثه التي كنت أحس وأنا أقرأها بأنني أجد فيها ما لا أجده في غيرها من أبحاث كثيرة من كتابنا، مما تزخر به صحفنا، ثم يقول: إنني أوفيته حقه في كتاب "مؤرخو الجزيرة"

"1.

واشتهر العقيلي بمؤلفاته وتحقيقاته، منها:"المخلا السليماني في ثلاثة أجزاء، وتحقيق ديوان "القاسم بن علي بن هثيميل"، "التصوف في تهامة"، وديوان "السلطانين من شعراء القرن السادس"، وديوان "الجراح بن شاجر الأروي"، وكتاب "شعراء الجنوب" بالاشتراك مع محمد بن علي السنوسي 2.

وفي عام "1391هـ-1971م" صدر ديوان "الأنغام المضيئة - نشر دار اليمامة بالرياض، ومن الغريب أن صاحب كتاب شعر العصر الحديث الذي كانت طبعته الأولى عام 1939هـ- 1979م" لم يذكر هذا الديوان، بل أغفله تمامًا، مع العلم بأن ديوان العقيلي منشور قبل ذلك بثماني سنوات3.

1 الأنغام المضيئة: المقدمة ص6.

2 انظرالترجمة في "مؤرخو الجزيرة": حمد الجاسر، وكتاب شعراء العصر الحديث: عبد الكريم الحقيل 208 وغيرهما.

3 الأستاذ عبد الكريم الحقيل: صاحب كتاب شعراء العصر الحديث في جزيرة العرب.

ص: 161

وقسَّم الشاعر ديوانه إلى فصول، أعطى لكل فصل عنوانًا على النحو التالي: سعوديات - في ربوع الوطن - عربيات - حضارة - الغزليات - تحيات - الوصف - أناشيد.

والعقيلي شاعر معروف بين شعراء المملكة العربية السعودية بشعره الإسلامي المشرق والعربي الناصع، الذي يغلب الالتزام بتصوير المعاني السامية والأخلاق الفاضلة من نفس مؤمنة مفعمة بالإيمان الصادق، والإخلاص للمسلمين، والوفاء لوطنه والقائمين عليه، وهو من أشهر شعراء الجنوب الذين كان لهم دور كبير في مدرسة التجديد المحافظ، يقول الأستاذ حمد الجاسر:

"ولكن إذا قصد بالشعر التعبير عن المعاني والأخلاق النبيلة والاتصاف بها، ففي شعر العقيلي مما يعبر عن عمق إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وصدق إخلاص، ووفاء لأمته ووطنه، وصادق ولاء لمن ولاهم الله أمر هذه البلاد ولاء قائمًا على المحبة الخالصة. ولعلَّ نظرة العقيلي إلى الشعر تتفق مع نظرته إلى الأدب، ومن ثَمَّ يصح القول بأنه يرى الشعر ما عبر عن كريم الخلال، وأبرز مجالي الحسن وقوم معوج الخلق سيرًا على أن الغايات لا الوسائل هي أولى ما يجب أن يعنى به ويتجه إليه، ولا شيء سوى ذلك"1.

والشاعر العقيلي تناول في "الأنغام المضيئة" أكثر الأغراض الأدبية التي سيطرت على الشعر في الجنوب، وسنوضح هذه الأغراض وخصائصها الفنية في الموضوع والمعاني والألفاظ والأساليب والخيال وصوره الأدبية والموسيقى الشعرية وغيرها من القيم الفنية في العمل الأدبي.

1 الأنغام المضيئة: حمد الجاسر ص7.

ص: 162

التصوير الأدبي للأغراض الأدبية:

أولًا: المدح وخصائص التصوير الأدبي

تناول الشاعر العقيلي في ديوانه غرض المدح في قصائد كثيرة ذكرها في موطنين: أحدهما: تحت عنوان "السعوديات"، وتشمل هذه القصائد قصيدة " على صهوات الجو ص13"، وقصيدة "تألفت في سماء الشرق ص18"، وقصيدة "عهد الخفاء الراشدين ص23"، وقصيدة "يوم على صفحة التاريخ ص27"، وقصيدة "باقة شعر ص30"، وقصيدة "موكب التاح ص35"، وقصيدة "تحية التاج ص38"، وقصيدة "في سنا تاجه وصولجانه ص40"، وقصيدة "لك الود ص43"، وقصيدة "أبو الشعب ص46"، وقصيدة "الفرحة الكبرى ص48"، وقصيدة "تلألأ الحق ص49"، وقصيدة "يا ابن عبد العزيز ص51".

ثانيهما: تحت عنوان "تحيات"، ويضم هذه القصائد وهي:"حي الشباب ص123" يحيى شباب مدرسة جازان عام 1368هـ، وقصيدة "تحية الجيش ص125"، وقصيدة "عين من الخلد ص127"، وهي عين ماء جازان، وقصيدة "قصر الإمارة في جازان ص131"، بمناسبة إضاءة القصر بنور الكهرباء، وقصيدة "تحية الشعر ص136"، قالها العقيلي في تكريم الأستاذ الشاعر عبد الله بن خميس يمدحه في جازان بتاريخ 2/ 10/ 1388هـ، وقصيدة "زهرة ص138" يمدح بها الشاعر الأستاذ حسين سرحان.

يقول العقيلي في إحدى قصائده التي يمدح فيها صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، ومطلعها:1

شذى يتعالى بالتجلة أو شدوا

تضوع من فيفا عبيرًا ومن رضوى

وزن بها جازان علوية الشذى

سماوية الأنفاس وقدسية النجوى

لها ومضات البرق في كل مطلع

سطوعًا وصوت الرعد مرتجزًا دوَّى

وأنسام أزهار الفراديس نفحة

على الأفق المخضل والمنظر الأحوى

1 الأنغام المضيئة: ص43، 46.

ص: 163

إلى قوله:

طلعت بعهد عبقري طرازه

تطاول أمجاد أوراق الدنا صفوا

مواسم للإصلاح في كل مرفق

وأعياد أعمال تفوق الورى شأوا

مضت لم تشاهدها الجزيرة أو ترى

لها في تقصي عهد سالفها صنوا

إلى أن يقول:

لك الود منا خالصًا لا يشوبه

رياء ولا يلتات بالزيف والدعوى

يمجد فيك الفكر ريان مشرقًا

ويكبر فيك العقل والخلق الأقوى

وعزمًا لإنهاض البلاد بهمة

"سعودية" التصميم "نجدية" العزوى

وهكذا يسير المدح على النمط من المدائح التي تقوم على استقلال القصيدة على غرض واحد من المطلع حتى نهاية القصيدة بلا تعدد في الأغراض، وهذا منهج في القصيدة يخالف منهج القدماء فيها؛ حيث تعددت فيها الأغراض كما هو معروف في الشعر العربي القديم.

ومن الخصائص الفنية في مطالعه أنه يشرك الطبيعة في الابتهاج بالممدوح فهي تتغنَّى معه بالثناء على الممدوح والحفاوة به، وذلك في الأبيات الأولى من القصيدة.

وكذلك فالقصيدة التي معنا تعتمد على ذكر الصفات الخاصة بشخص الملك فيصل المعظم، فهو عبقري جنَّد نفسه لإصلاح بلاده، وسمت أعماله فيها إلى درجة التمجيد والبهجة والسرور مثل بهجة الأعياد، وقد سبق سلفه فيها تقدميًّا ورقيًّا. كما يتصف أيضًا بالفكر العميق المثمر، والعقل الكبير، والخلق القوي، والعزم الشديد لإنهاض بلاده بهمة اشتهرت بها الأسرة السعودية، وبتصميم نجدي في المضاء والإنجاز.

وتلك صفات شخصية يمدح بها الملك لا يتعدَّى أثرها إنهاض المملكة العربية السعودية ذلك الوطن العربي السعودي فقط، ولذلك أدخلت هذه القصيدة في غرض المدح.

أما التصوير الأدبي عند الشاعر في المدح فقد امتازت الألفاظ والأساليب بالجزالة والفصاحة، والأسلوب بالوضوح والسلامة من الخطأ، وإن كنت أرى أن بعض الأساليب تجد قلقًا في مكانها من البيت بلا أحكام قوي في التركيب مثل قوله:"وأعياد أعمال تفوق الورى شأوا" والمعنى وأعمال سارة كالأعياد البهيجة، ولكن هذا المراد من العسير إخراجه بسرعة من هذا الأسلوب وهو أعياد أعمال.

والتصوير الأدبي يعتمد على العقل والفكر أكثر من اعتماده على الخيال بصوره البيانية، ومن التعبير العقلي الحقيقي قوله:"لا يشوبه رياء ولا يلتات بالزيف والدعوى" فالشوب والزيف

ص: 164

والدعوى تعبيرات عقلية لا خيالية، وحين نتذوق صورة خيالية عنده مثل "شذى يتعالى بالتجلة"، نحس فيها بالجمود لا الحركة والحيوية، فالشذى يتضوع أو ينساب أو يعبق أو يسمو، ولا يتعالى بالتجلة، فليس ذلك مألوفًا مع الشذى.

وأما الموسيقى الشعرية فالشاعر ملتزم بالعمود الشعري والقالب الخليلي من المحافظة على البحر والقافية.

ثانيًا: الشعر الوطني وخصائصه الفنية:

وهذا الغرض في الديوان تحت عنوان "في ربوع الوطن"، وضم قصائد وهي: قصيدة "المشاعر المقدسة ص55"، وقصيدة "الجزيرة العربية ص58"، وقصيدة "جازان ص61"، وقصيدة "صبيا ص64"، وقصيدة "جبل فيفا ص66"، وقصيدة "البلاد العربية ص68"، وقصيدة "بين جمال الطبيعة وجلال البحر ص71"، يقول العقيلي في قصيدة "الجزيرة العربية" 1:

شبه الجزيرة منعة وإباء

وحمى العروبة منبرًا ولواء

وفضاء أرض قد تالق وازدهى

أفقًا يشع رسالة وهناء

أرنو إليك فأستشف جلاله

شماء توحي العزة القعساء

أعتزّ بالماضي العظيم وأنتشي

أملًا بات يفرع الجوزاء

أرضًا على التاريخ من أمجادها

عبق يردده الزمان ثناء

خففت بأعلام الفتوح فحدثت

أممًا وعممت الوجود رخاء

حملت مصابيح الحضارة للورى

تبني الشعوب وتنشر الآراء

تتوسدين ذراع أحمر زاخر

كالتبر ذوبًا والشعاع رواء

متلألئ الأمواج في رأد الضحى

متألقًا ضافي الجلال مساء

يرتاد منه اللحظ أضفى زرقة

من "لازورد" يغمر الأحياء

إلى قوله:

حي الخليج وحي بحرًا ماؤه

در على وجه الخضم تراءى

حيث المعادن والكنوز دفينة

والزيت منبجس العيون سخاء

وهكذا إلى آخر القصيدة التي يحدد معالم وطنه العزيز والمفدى ويوضح حدود الجزيرة،

1 الأنغام المضيئة: ص58/ 61.

ص: 165

وهي البحر الأحمر الزاخر بالتبر والشعاع المتألق، والمحيط في الجنوب، والخليج العربي الذي فاض بكنوزه ومعادنه الثمينة، وتفجر البترول من أحشائه فعمَّ الثراء في الوطن وسادت حضارته قديمًا وحديثًا.

والقصيدة هنا وغيرها من القصائد في هذا الغرض تقوم على غرض واحد فقط، تدور معانيه حول موضوعه، كما هو واضح من قصيدة الجزيرة العربية، فاتجهت عناصر القصيدة ومعانيها، وخواطر الشاعر في الموضوع، وتلك هي الوحدة الموضوعية التي التزمها الشاعر في أغراضه الأدبية.

والألفاظ والأساليب جاءت هنا جزلة قوية عذبة، والتراكيب محكمة قوية رصينة، وأما الخيال كان عميقًا، وما زالت الحيثيات العقلية تستحوذ على شعره مثل لفظ "حيث" ليس من حقل الشعر، وإنما هو من ألفاظ العقل والأسلوب العلمي لا الأدبي.

ثالثًا: الشعر الإسلامي وخصائصه الفنية:

تناول العقيلي هذا الغرض الأدبي تحت عنوان "عربيات"، ويشتمل على قصائد هي: قصيدة "هزوا اللواء ص75"، وقصيدة "تحية الأقطاب الكبار ص79"، وقصيدة "يوم الجزائر في جيزان ص82"، بمناسبة استقلال الجزائر، يقول العقيلي في "تحية الأقطاب الكبار" بمناسبة الاجتماع التاريخي في جدة عام 1374هـ لأقطاب العالم العربي الكبار1:

روعة الفتح وشاع الجلال

قد أعادوها على أسمى مثال

ورنا التاريخ في ذروته

ساطعًا والشرق وهاج الخلال

وخطا خطوة جبار إلى

ساحة العز وأجواء الكمال

هتفت أصواته قاصفة

تملأ الدنيا بأمجاد الفعال

أي روح أيقظوها فسمت

تلهب الشرق حماسًا واشتعال

نفثوا في كل صقع قوة

للكفاح الحر في دنيا النضال

فأقضوا مضجع البغي على

قدم العهد وإفساح المجال

في الجنوب الحر في الأردن في ال

مغرب الأقصى وفي سوح القتال

لم يفق من عشية الهول على

صفعة إلا وأخرى في القذال

خطط محكمة التدبير في

سرعة التنفيذ من جد النضال

1 الأنغام المضيئة: 79/ 82.

ص: 166

إلى قوله:

حيوا أقطابًا كبارًا وثبوا

وثبة عظمى إلى أسمى مجال

دعموا الوحدة من أساسها

وبنوا صرح العلا سامي المثال

في اجتماع وجف الغرب له

واحتفى العرب به أي احتفال

أطلع الشرق بهم في أفقه

فيض أضواء شموس وجلال

سادة من أعظم القادة في

منهج الرأي وميدان القتال

ينضح الإخلاص من أعطافهم

عبق المجد ولألاء الخصال

نذروا الأنفس للذود عن الوطن

الأكبر أرواحًا ومال

وبناء الوحدة الكبرى على

كرم الأهداف لا حلف الضلال

مستمدين على إخلاصهم

ناصع التاريخ في أزكى الخلال

إنها التهيئة العظمى لمن

يثبت الذات على أسنى مثال

وبناء لوجود صادق

في صراع الكون إن جد النضال

وانتفاضات حياة حرة

وارتعاشات بها التاريخ صال

هزت الأمة من أطرافها

هزة البعث لأجيال طوال

إلى قوله:

شهدت مكة في ساحاتها

موكب القادة يسمو في اختيال

تخفق الأعلام نشوة عزة

وتميد الأرض فخرا والجبال

الشموس الغر من يعرب قد

سطعت في مكة ذات الجلال

الأبيات كلها تدور حول الغرض منها وهو وحدة الأمة الإسلامية في كفاحها ضد أعدائها، فأقضوا مضاجع البغاة وارتجف الغرب، في تصوير أدبي يقوم على ألفاظ جزلة وكلمات فخمة، وأسلوب قوي، أحكم صنعته، وعاطفة صادقة مشبوبة، ومشاعر حية نابضة، لكن لا أدري كيف ينضح الإخلاص من الأعطاف؟

أما الموسيقى الشعرية في القصيدة فلا تتناسب مع الحماسة في الغرض، الذي يقوم على حفز همم القادة والأمة العربية ضد الغرب أعداء الإسلام والعربية، وهذه الحماسة تقتضي بحرًا كثير التفاعيل، وقد كان هذا على نحو ما، لكن الذي لم يكن الإيقاع المناسب للغرض، فالحماسة تقتضي إيقاعًا عنيفًا يعصف بالحمم، وموسيقى داخلية ثائرة تتفجر بركانًا ملتهبًا، والعنف والعاصفة، والثورة والبركان تتنافى مع كثرة حروف اللين والمدات في داخل الأبيات، التي تحدث رخاوة وهدوءًا وبطأً وامتدادًا، انظر إلى حروف اللين في البيت في أصواتها الرخية التي تحتاج إلى نفس طويل لا أنفاس حماسية متتابعة مما يجعل اللسان يتعثر في النطق بهما بما لا

ص: 167

يتناسب مع السرعة في الحماسة فمثلًا في البيت الأول فيه: "شاع الجلال - أعادوها على - أسمى - مثال" ثماني مدات في بيت واحد، وفي البيت الثاني "رنا - التاريخ - في - ساطعًا- وهاج - الخلال" سبع مدات بالإضافة إلى تعثر اللسان بشدتين في التاريخ وفي وهاج، مما يزيد التثاقل والبطء، وهكذا في كل الأبيات حتي نهاية القصيدة، وكان الأولى بالشاعر تبعًا للحماسة أن يستبدل كلمات يحلّ السكون فيها محل حروف اللين، وكلاهما واحد في مقياس التفعيلة والوزن، ولكنهما مختلفان في الإيقاع المناسب للغرض، فاللين يتناسب مع الأغراض التي تحتاج إلى تأمل وطول نقص كالرثاء والاعتذار وشعر الوجدان، أما التسكين لما فيه من القطع والعنف لا الرخاوة والامتداد يتناسب مع الحماسة والمدح والفخر، وأغراض القوة كلها.

وكذلك كان الأمر في القافية، فقد أخلَّ حرف اللين مما ينبغي أن يكون في الحماسة من القوة والدفقة العنيفة التي لا تتأتى من حرف اللين في القافية، وإنما يوحي بها السكون الذي يجزم الأصوات ولا يمط فيه، وإذا أعدنا النظر إلى القافية كلها لكان الأمر كذلك مثل "مثال - الخلال - الكمال -

إلخ".

رابعًا: شعر الحضارة وخصائصه الفنية:

وجاء هذا الغرض في الديوان تحت عنوان "في الحضارة" واشتمل على قصائد، منها قصيدة "برسي شيلي ص89"، وهو من أشهر شعراء الإنجليز "1792، 1822م ومن دواوينه "أدونيس"، ومن أشهر كتبه "ثورة الإسلام" ومطلعها1:

روح على الفن من إشعاعه ألق

يلوح في ومضات الفكر يأتلق

وشعلة من ذكاء ظل يلهبها

قلب غدا بأوار الحب يحترق

وقصيدة "قمة افرست ص92" بمناسبة اكتشاف القمة الخالدة، وقصيدة "القنبلة الذرية "ومطلعها2:

صدى نبأ قد رددته الجوانب

وسر اكتشاف حققته التجارب

أصاخت له الأفلاك والدهر واجف

وحازت له الأفكار والكون واجب

به رجحت للسلم في الكون كفة

وأدرك أسمى غاية النصر غالب

قوى طاقة الذر الذي في اكتشافها

تحقق من أسمى المطامح جانب

قوي لو بها راموا البناء أحدثت

أمورًا تعم الكون منها الغرائب

1 الأنعام المضيئة: 89/ 92.

2 الديوان:93/ 98.

ص: 168

قوي من شعاع لا تقاس إذا بدت

تزلزل من شم الجبال المناكب

إذا فجروها غيم الجو فجأة

وسح رذاذ يغمر الأرض ساكب

وأظلم قرص الشمس وامتقع الضحى

وذاب الثرى قد صهرته الكهارب

ودوي انفجار ترجف الأرض رهبة

وترتج منه الشهب والنجم ذائب

أمن "ذرة" لا تبصر العين جرمها

ولا لمستها في الأكف الرواجب

هباء من الأجرام طار مفرقًا

كما طار في أفق الفضاء الجنادب

تئول قوى حصاده أنفس الورى

ويمسي بها العمران وهو خرائب

تضاءل عنها الكهرباء وسرها

وموجب تياراتها والسوالب

إلى قوله:

أفي العدل أم في العرف أم أي شرعة

من الشرع قد قامت عليها المذاهب

ترى يستجار الظلم في حق أمة

مسالمة أخنت عليها النوائب

ويقضي على حق الليوث بذلة

لتحيى على أوطانهن الثعالب

ومن شعر الحضارة قصيدة "باكستان ص98" قالها العقيلي حين زار الملك فيصل باكستان عام 1388هـ، ومنها قصيدة "ديجول ص101" الرئيس الفرنسي في ذي الحجة عام 1388هـ، وقصيدة "الحية" للشاعر الإنجليزي "رسكن" عام 1388هـ.

ومن خصائص شعر الحضارة عند العقيلي أنَّ موضوعاته متنوعة، فتارة يصور في شعره العربي أدب الحضارة والرقي في انجلترا، وحضارة الإسلام التي فرضت وجودها كحقيقة مقررة على أعداء الإسلام، وذلك في قصيدته "برسي شيلي" الشاعر الإنجليزي الفذّ الذي سجَّل حضارة الإسلام في كتابة "ثورة الإسلام"، وهذا يدل على سعة ثقافة شاعرنا العقيلي. وكذلك الأمر بالنسبة للشاعر الإنجليزي "رسكن".

وتارة يصور في شعره الحضارة المادية العلمية في عصر التقدم الذري، وذلك في قصيدته "القنبلة الذرية"، فيرى أنها ستكون من دوافع السلم لا الحرب، بل ينبغي أن تستخدم الطاقة الذرية في تقدم الأمم وحضارتها لا في دمار الحرب والقضاء على التقدم البشري؛ لأنها في ذاتها تقدم علمي حضاري، فكيف تستخدم في التدمير والإرهاب.

وتارة يصور في شعره حضارة الإسلام في باكستان التي أوجبت على زعماء الأمة الإسلامية أن يتعاونوا ويقفوا صفًّا واحدًا ضد أعدائهم، وهذه الروح الوثابة تبدو في أسمى مظاهرها حين التقى الملك فيصل -رحمه الله تعالى- بالأمة الإسلامية في باكستان؛ ليوثق هذه الروابط الإسلامية العالمية، وذلك في قصيدة "باكستان".

وتارة يصور في شعره الحضارة الغربية البناءة في شخصية زعيم من زعمائها "ديجول" الرئيس الفرنسي الذي أعلن شعار الإسلام في هذا العصر، فقد انتهى عصر الحروب

ص: 169

والاستعمار والظلم والاستبداد بالشعوب الضعيفة، والإنسان اليوم في أشد الحاجة إلى بناء الحياة على أساس والتقدم والرفاهية وترسيخ الحضارة العلمية التي تسمو بالأمم، وتحقق للإنسان حريته واستقراره، وترفرف عليه السعادة والرفاهية، وذلك في قصيدة "ديجول" الذي أنشدها العقيلي في ذي الحجة عام 1388هـ.

وتلك التجارب الشعرية تدل على سعة ثقافة الشاعر العقيلي واهتمامه بقضايا الإنسان بصفة عامة، ومواكبة الحضارة والرقي البشري في أي موقع من مواقع الإنسان في العالم، والدقة في اختيار الموضوعات تدل على ذكاء الشاعر وعمقه، وإدراكه الواعي والدقيق للقضايا التي تنبني عليها حضارة الإنسان في العصر الحديث.

والتصوير الأدبي في شعر الحضارة جديد في صوره الخيالية البديعة من حيث المضمون وخصوبة الخيال وروعته، فالقنبلة الذرية اكتشاف علمي جديد يقتضي من الشاعر خيالًا واسعًا وخصبًا عميقًا، يستمد التصوير الأدبي روافده القوية من خصوبته وعمقه.

والإيقاع الموسيقي هنا يتلاءم مع الغرض، فكان رافدًا قويًّا من روافد الإبداع في التصوير الأدبي، وقوة الإيقاع في القصيدة ترجع إلى تناسب حروف اللين الكثيرة مع التروي والتأمل وطول النظر في مجال العلم وساحة البحث والفكر.

وقد يصور الشاعر الحضارة العربية في الوطن السعودي من خلال التقدم في الفكر والعلم في هذا البلد الأمين، وذلك حينما يمدح رائدًا من رواد الفكر والعلم والأدب والنقد، وهو الأستاذ حمد الجاسر، يصور ذلك كله في قصيدته "يا ومضة الفكر" يهديها إلى علامة الجزيرة حمد الجاسر في 24/ 7/ 1390 هـ1 ومطلعها:

يا قمة شامخة في الذري

وكوكبًا بين مسار الخلود

وومضة للفكر وهاجة

تضيء في العصر ضياء البدور

وفيض علم زاخر دافق

مستفحل التيار طامي المدود

شموخك البكر سنا روعة

علوية من نجوات الحدود

يا قلمًا كالبراق في ومضة

ورعشة النجم وسحر المساء

كالجدول المنساب في رقة

وكالأعاصر وعصف الهواء

يعطر الضاد بأمجاده

في العلم والبحث وكشف الخفاء

يستنطق الآثار مستلهمًا

روائع التاريخ فيها مضاء

1 الأنغام المضيئة: 133/ 135.

ص: 170

إلى قوله:

من رادة العلم ورواده

ومن حداة العلم في كل ناد

من معشر حياتهم منجم

ثر يمد الفكر منه امتداد

تراث علم خالد في الورى

وإرث فن نوره في اتقاد

ونبع خير وجمال سمت

بها نفوس وتعالت بلاد

إليك أستاذي صدى نغمة

من قمم الإلهام تستنطق

من يشق سامي الرؤى والهوى

لنفحها الأرواح تستنشق

تبقى على الآماد في نضرة

يشع من لألائها رونق

قد رسمت لكم فيها سيرة

وضيئة أو خلق مشرق

وتقوم هذه القصيدة في قالبها الموسيقي على نظام المقطعات وهو خروج محافظ.

خامسًا: شعر الوجدان وخصائصه الفنية

تناول العقيلي هذا الغرض في ديوانه تحت عنوان "الغزليات"، وتشمل قصيدة "الغرام الأول ص109"، وهي أول قصيدة للشاعر في عام 1359 هـ، وقصيدة "نظرة في الغسق ص111" في عام 1360هـ، وقصيدة "كنت يا دار ص112"، وقصيدة "على ضفاف فوار انطلياس ص115" أنشدها العقيلي في لبنان وهو يعالج، وكان في صحبته صديقه الأستاذ حمد الجاسر، وقصيدة "الباخرة العربية كليوباترا ص118".

يقول العقيلي في "كنت يا دار" حين مر على دار غرامه الأول فشجاه دثورها، فأنشدها وأهداها إلى السيد محمد عقيل بن أحمد ومطلعها1:

كنت يا دار على الرغم البلى

هيكل الحب ومحراب الهوى

حرما للحسن قد شع على

ساحة الطهر وقد حام السنا

1 الأنغام المضيئة: 112/ 115.

ص: 171

طالما رفت قلوب وهفت

مهج صوبك في جنح الظلام

حومت خفاقة تمنعها

هيبة الوجد ويدنيها الغرام

كان مصباحك قلبًا نابضًا

وشعاعًا في الدياجي يهتف

فإذا لألأ في أفق الدجى

دنت الأرواح منه تلهف

تتملاك لحاظ عربدت

تحتسي حسنك سكرى لا تفيق

غرقت في نشوة الحب وقد

طاف جام الحسن يطفو بالرحيق

فلك أنت لشمس أفلت

طالما شعت على تلك الخدور

حجب الموت سناها فهوت

وكذا تغرب في الأفق البدور

هكذا وردت القصيدة في الديوان مقطعة الأبيات إلى شطرات كل مقطعة بيتان منثورة في أربع شطرات، والمقطع متحد القافية ومختلف فيها مع بقية المقطعات الأخرى، وهذا أقصى ما يخرج فيه الشاعر على القالب الموسيقي العمودي، وخروجه في القافية لا في الوزن والبحر حيث التزمه في شعره كله، وتخيل أن الشاعر بهذا التفتيت للأبيات والتمزق فيها أن يضفي على المقطعات هيلمانًا أكبر؛ ليكون المقطع في أربعة أسطر لا في بيتين على سطرين، ولا أظنّ أن الشاعر يريد أن ينهج طريق شعراء التفعيلة في اكتناز المسافة في السطور والأطناب من غير داع في كثرتها؛ لأن الشاعر معتد بمدرسته المحافظة على شكل القصيدة ومنهجها الموسيقي.

والتصوير الأدبي في القصيدة بناء فني قوي يستمد قوته من العاطفة المشبوبة، والمشاعر العميقة المتدفقة، والألفاظ الرقيقة العذبة، والأسلوب السهل المنساب، والخيال القوي الخصب، والموسيقى الممتعة الجذابة. فالدار الدثورة لا زالت هيكل الحب ومحراب الهوى وحمى

ص: 172

للحسن، وساحة للطهر، ترف حولها القلوب خفاقة يؤججها الشوق، ويمنعها هيبة الوجد، مصباحها قلب نابض يهتف شعاعها بالحياة فتستجيب لها الأرواح في لهفة وشوق، تعود إلى الماضي والذكريات، وإذا بالحقيقة ضاعت بين الدثور، والغرام قد انطوى في الغيوب، واختفى في الحذور، وهكذا الشأن في البدور حينما يلفها الأفق وراء الغروب. .. صور خيالية رائعة تعد أروع الصور في شعر العقيلي

حيوية وحركة وقوة وتأثيرًا.

وهكذا يمضي الشاعر في الشعر الوجداني، وهو من أقوى الأغراض الأدبية في ديوان الشاعر من حيث التجربة الشعورية الصادقة والعاطفة المشبوبة والمشاعر الحارة المتدفقة، والروعة في التصوير الأدبي وخصوبة الخيال، في صوره الأدبية النابضة البديعة.

سادسًا: الوصف وخصائصه الفنية

وجاء هذا الغرض بعنوان "الوصف"، واشتمل على قصيدتين الأولى قصيدة "كماج النحل ص139" والثانية قصيدة "قلم ص140 " ومطلعها1:

هنا قلم شخت الشباه نحيل

به الفن يسمو والبيان يصول

ترشف أضواء الكواكب وانثنى

يداعب ومض البرق وهو صقيل

يحوم بآفاق الخيال محلقًا

ويمرح في دنيا الهوى ويقيل

ويدع في تصوير ألوان شعره

ظلالًا وأضواء تكاد تجول

خطوط من الإلهام في الشعر صورت

عواطف تسمو بالحجا وميول

لها من جلال الفن ما يبهر النهى

جلالًا ومن زهو الحياة دليل

لها روعة الليل البهيم إذا دجى

ومن بهجة الصبح المبين شكول

وهكذا إلى آخر القصيدة يصوّر فيها القلم يصف شكله ودروه في جودة الخط وجمال التصوير، وما يصول فيه العلم والبيان الذي تبدد أنواره ظلام الجهل مثل الكواكب التي تبدد الظلام، وومض البرق وسط الغيوم، كما يخلق مع الخيال ويسجل أحاديث الهوى وشجون المحبين، ويديح الشعر ألوانًا وظلالًا، فيسير بين الناس ينقل إليهم عواطف الشعراء وخواطرهم وميولهم، فيأخذ بالعقول ويستولي على القلوب بجلاله وسحر فنه، ويبث الروعة في الليل البهيم، وينشر البهجة في الصبح المنير، وغير ذلك من معاني القصيدة وأفكارها العميقة في صور أدبية رائعة وخيال عميق، وألفاظ عذبة رقيقة، وأسلوب واضح محكم لا قلق فيه ولا اضطراب، يلتزم فيه بخصائص مدرسة التجديد المحافظ على منهج القصيدة العربية القديمة.

1 الأنغام المضيئة: 140/ 143.

ص: 173

سابعًا: الأناشيد:

ويشمل هذا الغرض نشيدين: أحدهما "نشيد المملكة العربية السعودية ص143"، وثانيهما نشيد "أبناء الجزيرة العربية ص145" ومطلعه1:

نحن أبناء الجزيرة

أمجد الأحياء في التاريخ سيره

نحن نسمو للمعالي

نحن نسعى للصلاح

نحن أصل العرب في كل البلاد

زاننا صفوة خلق الله من بين العباد

إنه سامي الفعال

خير داع للفلاح

وهكذا إلى آخر النشيد في خفة وزن وحلاوة أسلوب وشرف المعنى وسمو الهدف، وجمال التصوير، ليدل على أن العقيلي يستطيع بملكته الشعرية أن يتناول كل الأغراض في شعره، يتناول القصيد، والمقطوعات الغنائية الخفيفة مع فصاحتها وسلامة الأعراب فيها.

1 الأنغام المضيئة: 145.

ص: 174