الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: شعر آل الحفظي
الشعراء:
ومن أشهر شعراء آل الحفظي في ربوع عسير وجبالها ووديانها، وخاصة في حاضرة "رجال ألمع"، منهم الشاعر الشيخ أحمد الحفظي الأول "1145-1233هـ"، والشيخ إبراهيم الزمزمي الحفظي "1199-1257هـ"، والشيخ علي بن الحسين الحفظي "1217-1275هـ"، والشيخ عبد الخالق بن إبراهيم الحفظي "1221-1284هـ"، والشيخ أحمد الحفظي الثاني "1250-1317هـ"، والشيخ علي زين العابدين الحفظي "1305-1372 هـ"، وسواهم من شعراء مضوا مع الخالدين، وشعراء ما زالوا على قيد الحياة1.
والتقى هؤلاء الشعراء في ديوانهم الذي نشر عام 1393هـ-1973م، فقد صدر الجزء الأول منه، على أن يتبعه الجزء الثاني بعد جمعه، كما أشار إلى ذلك محمد بن إبراهيم وعبد الرحمن بن إبراهيم من آل الحفظي في المقدمة، وقد حاولت التعرف على موعد صدور الجزء الثاني من ديوانهم، فعلمت أنه قد جمع والحمد لله، وتسلمه "نادي أبها الأدبي"، على أن يقوم بطبعه ونشره، وذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى، كما وعد بذلك النادي.
والجزء الأول الذي تحت أيدينا يعطي الوجه الحقيقي للشعر عندهم، ومنهجه ومدرسته وأغراضه وخصائصه الفنية، بما يدل على شعرهم بصفة عامة، ولا زال حتى الآن منهم الشعراء في الجنوب الذين يسيرون على نهج آبائهم وأجدادهم، بحيث لا تفوتهم المناسبات الأدبية والوطنية في النوادي الأدبية والثقافية، وذلك مثل شاعرهم الأستاذ الحسن بن علي الحفظي مدير مدرسة حسن بن ثابت "برجال ألمع"، ومن شعره الذي ألقاه بمناسبة افتتاح نادي أبها الأدبي عام 1400هـ، التي تشارك بها تهامة السراة في احتضان ناديها، يقول:
يد من الدولة الغراء بيضاء
…
مدت إلينا فأبها اليوم فيحاء
يد تشع على الآداب فانبثقت
…
منها ينابيع ماء ما إن مسها داء
يد من الخالد المثلي فضائله
…
كثيرة ما لها عد وإحصاء
ناد بأبها تراه اليوم مزدهرًا
…
وخالد الفيصل المقدام بناء
يرسي القواعد للنادي ويرفعها
…
صرحًا مجيدًا وزان الصرح إنشاء
1 نفحات من عسير: جمعه ونسقه محمد بن إبراهيم الحفظي، وعبد الرحمن بن إبراهيم الحفظي: عام 1393هـ/1973م مطابع عسير في أبها.
إلى قوله:
تهامة وسراة الأزد في جدل
…
تختال ألوية النادي وأضواء
إني سأعزف أنغامي بقافيتي
…
في نشوة يطرب الأسماع إصغاء
أرسلتها من ذري العلياء في أفق
…
سامي الجلال ووهج العلم وضاء1
الشعر في ميزان الرأي:
أشاد بأدبهم وعلمهم كثير من الأدباء، نذكر منهم على سبيل المثال، الأديب الشيخ عبد الله بن علي حميد رئيس بلدية أبها سابقًا، قال مشيدًا بآل الحفظي، وبما جمعه الأستاذ محمد الهلالي من تراث ضخم لهم: لأولئك الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وضربت إليهم أكباد المطايا من كل حدب وصوب للاغتراف من مناهل العلوم الرقراقة
…
ولما كانت أسرة آل الحفظي عريقة في شتى المعارف والعلوم، فإن التركة التي خلفها القوم حافلة بمؤلفاتهم العديدة
…
بدليل أني اطلعت على ديوان ضخم عنوانه "الروض المرضي في ديوان آل الحفظي"، يضم بين دفتيه ما يدل على علو كعبهم، وتضلعهم في فنون العلم
…
وغيرتهم على الدين، وحرصهم على الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله، ومناصرتهم لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومؤازرتهم لآل سعود
…
وبقي أن أحيل القارئ إلى هذه المجموعة من القصائد بهذه المقطوعة القصيرة:
إذا كنت مشتاقًا إلى ورد منهل
…
يبل الصدى في سبسب قلَّ رائده
فدونك حوض من نمير مسلسل
…
كأن رحيق النحل يمزج رافده
شتيت تنقاها الهلالي لنظمها
…
بعقد تزين النحر منها قلائده
ليحيي آثار قوم تقدموا
…
قد اقتنصوا لكل فرد شوارده
وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا
…
وكم أسندوا حقا بحق يسانده
فأرسلوا منار الدين من بعد فترة
…
وضاءت بهم سبل الهدى ومقاصده2
ويشيد بشعرهم الشاعر نديم الرافعي فيقول:
ديوان شعر قد بدا للنور
…
فزهت بطلعته ربوع عسير
يروي لنا أمجاد آحاد الوغي
…
لم يرو مجد العرب كل خبير
نسج اليراع لآل مقرن بردة
…
بيضاء رمز قداسة التقدير
فغدت على الأيام حلة رفعة
…
ومعزة وكرامة وسرور
صانوا المآثر والمفاخر للألي
…
صانوا البلاد بشرعة الدستور
تهدي عيون الشعر وهي قلائد
…
في مدح كل معظم مشهور
1 كلمات وقصائد: نادي أبها الأدبي 1400هـ مطابع عسير ص 35/ 38.
2 نفحات من عسير: ص14، 15.
في مدح بيت المجد بيت مليكنا
…
يعتز بالتهليل والتكبير
صاغته من درر البحور قرائح
…
تضفي على الأبرار فيض شعور
إلهامها القرآن مصباح الهدى
…
والوحي صدق القول في التبشير
ما مات من بالوعظ خلد دعوة
…
خفاقة كالبدر في الديجور1
خصائص شعرهم المحافظ:
آل الحفظي لهم ديوان كامل صدر منه الجزء الأول بعنوان "نفحات من عسير" جمعه المرحوم محمد إبراهيم زين العابدين الحفظي، ونسقه للطبع عبد الرحمن بن إبراهيم زين العابدين الحفظي عام 1393هـ/1973م، وسنعرض بعض شعرهم لنقف على الخصائص الفنية لمدرسة المحافظين في الجنوب. يقول الشيخ أحمد الحفظي الأول في قصيدته "أئمة حق"، وهي تربو على ثمانين بيتًا، ومطلعها:
على العارض النجدي أهدي سلاميا
…
وأذكى تحياتي لتلك الروابيا
سلام على أعلامها وآكامها
…
سلام على حضارها والبواديا
سقاها الحيا المحي ورعيا لحيها
…
وحيًّا محيًّا وسعدًا لثاويا
سلام على الشيخ الإمام "محمد"
…
وصبت على مثواه سحب هواميا
سلام على عبد العزيز وأصله
…
فإنهما كانا وكانا مواسيا
فقام وقاموا واستقام بحجة
…
بحجة قرآن وضرب المواضيا
ولا سيما عبد العزيز فإنه
…
هو القائم الفاروق بالعدل قاضيا
حمى بيضة الإسلام بالبيض والقنا
…
وأجرى إلى برك الغماد العواديا
وما زال في بعث الجيوش مجاهدا
…
وفي شن غارات وتجهيز غازيا
بنفس وأولاد وأهل وإخوة
…
وكل نفيس والأسود الضواريا
وأنفق في ذات الإله شبابه
…
وشيبته داع وراع وساعيا2
فالموهبة الشعرية أصيلة في نفس الشاعر، يسيل الشعر منها دفاقًا بلا كلفة أو تعمل، فكانت العاطفة في هذه القصيدة صادقة، مشبوبة، يدفعها الاخلاص والحب لهؤلاء الأئمة المخلصين العادلين في حكم الرعية، صبها الشاعر في ألفاظ قوية جزلة، وأسلوب ناصع مشرق، وصور أدبية، تفيض حيوية ودقة، وموسيقى شعرية منسابة مع المعنى والغرض، وقافية يلتزمها الشاعر حتى نهاية القصيدة، يلتزم فيها الشاعر بعمود الشعر العربي، لكن القصيدة هنا تتميز بوحدة الموضوع والغرض، بلا تعدد ولا مزاوجة.
1 المرجع السابق: ص16.
2 نفحات من عسير: ص28.
ولا تخلو القصيدة من ميل إلى تكلف البديع نادرًا، وإلى الزخرف بقدر لا بإفراط، مثل البيت الثالث، وكذلك قوله:"فقام وقاموا واستقاموا بحجة - بحجة قرآن"، والبيت الأخير في شبابه وشيبته، وداع وراع، ويقول الشيخ محمد أحمد الحفظي في قصيدته "دين الله باق" ومطلعها:
بدا الخير العظيم وقد تجلى
…
لنا نور الهدى والشر ولى
وصار الناس إخوانًا جهارًا
…
وولى الله كلًّا ما تولى
ودين الله باق في ظهور
…
له كل العلو وليس يُعلَى
فعض عليه واستمسك بخير
…
وشد إليه راحلة ورحلا
وقول إلهنا غض طري
…
جديد ليس يخلق ذا ويبلى
مكين في الصدور له بيان
…
كذاك بألسن القراء يتلى
وهذه السنة الغراء فيها
…
بيان وهي بين الناس تملى
وقد روت الصحابة كل عدل
…
بلا علل لما علا وأملى
وما قرن من الأعوام إلا
…
وفيه مجدد كثيرًا وقلا
وفي هذا الزمان بلا خفاء
…
بدا تجديدها فرعًا وأصلا
من الشيخ الإمام أبي حسين
…
محمد الذي للحق جلى
وآزره الإمام أبو سعود
…
وسلسل مسند والسيف سلا1
وهكذا إلى نهاية القصيدة، في قوة شاعرية، وسلامة في التعبير، وروعة في التصوير، وسيولة في الألفاظ والتراكيب، بلا تعمل أو تكلف، مع شرف الغرض، وسمو الهدف، ونبل الغاية، ووحدة الموضوع في القصيدة من أول بيت فيها إلى نهايتها، وتلاؤم في التصوير الأدبي بين المعاني والأفكار وبين الألفاظ والأساليب والصور الخيالية، وانسجام بين العاطفة الدينية القوية وبين صورها في القصيدة مستخدما وسائل التعبير التي تتناسب مع الغرض الديني من القصيدة، وهذه الخصائص الفنية تسير على منهج المحافظين وطريقتهم الفنية.
وهذا الشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي ولد في بلدة "رجال ألمع" في 16/ 5/ 1178هـ، وتلقى علومه على يد أبيه، ثم رحل إلى المخلاف السليماني في سبيل العلم، ثم إلى اليمن ليكمل علومه، ثم إلى حضرموت، ثم إلى بلدته، وكان يحارب ببسالة مع الجيش السعودي، ثم عين نائبًا للقضاء، ثم قاضيًا في عسير، وله "الألفية الحفظية" و"درجات الصاعدين إلى مقامات الموحدين"، و "النفحات العنبرية في الخطب المنبرية"
1 المرجع السابق: ص99.
"ذوق الطلاب في علم الإعراب" وغيرها. وتوفي في "رجال ألمع" يوم الاثنين غرة ربيع الثاني عام 1237هـ -رحمه الله تعالى1.
ويقول الشيخ أحمد الفظي الثاني، يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في قصيدته "الشرع ينادي".
الشرع نادى ملوك الأرض بل طلبا
…
حكمًا صحيحًا يزيل الشك والريبا
وقدم العرض لكن ما استجيب له
…
وحقه في ملوك الأرض قد وجبا
نادى بصوت بليغ للعباد معًا
…
إني جعلت لأغراض الدنا سببا
وها أنا طالب منهم محاكمتي
…
فصورتي قد بقيت والجسم قد ركبا
والناس في غفلة عني وقد شغلوا
…
من الحطام بما يكفيهم نصبا
والله ما سكنوا عني ولا غفلوا
…
إلا لأغراض دنيا تجلب العطبا
كل يريد من الحكام مقربة
…
ويطلب العز والأموال والرتبا
إن تنصروني فإن الله ناصركم
…
أو تخذلوني رأيتم كلكم تببا
أنا الذي أسس الرحمن بنيته
…
وشيد المصطفى أمري بكل نبا
أنا الذي قد بناني المصطفى علمًا
…
ركنًا منيعًا وأعلى مني القببا
وأنتم تهدموني بعده علنًا
…
يا صنيعة العمر لما صرت مغتربا2
وخصوبة الخيال في القصيدة بثت الحياة في القيم الإسلامية، وحركت المعاني السامية المجردة، وأقام الشاعر منها شخصًا يناجي أمته وقومه ويعرض صفاته وأخلاقه ومبادئه وتشريعه عليهم ويحثهم على التمسك به والتعلق بأهدابه، والعمل على نصرته ومؤازرته وعدم خذلانه، وكيف تخذلونه والرحمن هو الذي وضع أساسه، والمصطفى شيد بنيانه، فأصبحت ركنًا منيعًا.
هنا تشخيص حي متحرك للقيم والمعاني المجردة منح المعاني والمجردات حيوية وقوة تركت أثرًا واضحًا في التصوير الأدبي، الذي يهز العواطف، ويحرك الشاعر بالحب للشريعة الإسلامية والتعاطف معها في سبيل نصرة دين الله، وتطبيق شريعته الغراء، وفي هذا دلالة واضحة على موهبة الشاعر الفذة وقدرته على التصوير الأدبي، وهو يترسَّم خطى مدرسة المحافظين.
الأغراض الأدبية في شعرهم:
يضم ديوان آل الحفظي "نفحات من عسير" أغراضًا شعرية كثيرة على نمط الشعر
1 المرجع السابق: ص44، 45.
2 نفحات من عسير: ص105.
العربي الذي كان في الدولة الأموية، والدولة العباسية من أغراض اشتهرت في شعرهم.
وعنوان القصيدة عندهم لا ينص صراحة على الغرض منها، ولذلك فإني سأقف على الغرض منها من خلال مضمونها، وما تدل عليه الأبيات والمعاني؛ لأن شاعرهم لم يحدد الغرض منها في الديوان، ولكن وضع لها عنوانًا وموضوعًا يوهم الغرض أحيانًا، ولا يوهم حينًا آخر، ولذلك قمت بتصنيف الديوان إلى الأغراض الأدبية التي اشتهرت قديمًا في شعرنا العربي الأصيل.
أولًا: المدح وخصائصه
وهو أكثر الأغراض الأدبية في شعر آل الحفظي، وكان المدح في قصيدة "أئمة حق ص28"، وقصيدة "تهنئة بالفتح ص63"، وقصيدة "ود إخلاص ص65"، وقصيدة "أمصباح مشكاة ص66"، وقصيدة "شهدت شواهد ص74"، وقصيدة "تداعت دواعينا ص78"، وقصيدة "من النعم العظمى ص81"، وقصيدة "زبدة الأقوال ص85"، وقصيدة "من تبع الإخوة؟ ص120"، وقصيدة "تهنئة بالفتح
…
ونصيحة
…
وحكم ص112"، وقصيدة "هزائم جيش عباس بن طوسون في عسير ص126"، وقصيدة "تهنئة بالنصر ص135".
وكذلك قصيدة "جبل الفخر ص188"، وقصيدة "عبد العزيز المفدي ص206"، وقصيدة "تهنئة ص209"، وقصيدة "ما كل بيضاء شحمة ص211"1.
ومن قصائد المدح السابقة قصيدة للشيخ إبراهيم الزمزمي بن أحمد الحفظي، الذي ولد في 22/ 3/ 1199هـ ببلدة طرجال ألمع"، ثم درس في "أبي عريش" على شيخه أحمد عبد الله الضمدي حتى أجازه، ثم رحل إلى اليمن ليأخذ عن علماء بني الأهدل
…
وله مؤلفات في الزهد والنحو، منها كتاب "عبق الجلاب"، وكتاب "قيد الشوارد"، وله رسائل وشعر كثير، وقد ترجم له تلميذه القاضي العلامة الحسن بن أحمد عاكش في كتابه "حدائق الزهر"2.
وهذه القصيدة هي "تهنئة فتح
…
ونصيحة.... وحكم" قال الزمزمي بمناسبة تغلب الأمير سعيد بن مسلط بمن معه من قبائل عسير، ومنهم "رجال ألمع" على الترك، وإخراجهم من "طبب" سنة 1238هـ في عهد الإمام تركي بن عبد العزيز مهنئًا ومناصحًا، قال:
ألا إني أهني للأمير
…
بنصر الله والفتح الشهير
1 نفحات من عسير.
2 المرجع السابق: ص115، 116.
وذاك عليه بل وعلى من
…
جسيم حقه شكر الشكور
فلله الثنا وله سألنا
…
دوام الشكر في كل العصور
فإن الشكر للموجود قيد
…
وصيد أوابد النعم النفور
إلى قوله:
ألا فتيقظوا يا ناس مهما
…
بقت مندوحة في ذي الدهور
وبالماضيين فاعتبروا تفوزوا
…
فيا سعدًا لأرباب العبور
وعينكم الأمير حباه ربي
…
وعوفي في الحياة وفي المصير
سعيد طابق الاسم المسمى
…
وشاهد ذا الفتوح مع النصور
عليك تحية تغشاه مني
…
دوامًا بالأصائل والبكور1
وتقوم هذه القصيدة على غرض واحد يجمع فيها الشاعر الصفات الكريمة للممدوح، والشمائل الفاضلة، وكريم الأخلاق، وما حققه من نصر مؤزَّر، وتنبع هذه الصفات من روح الشريعة الإسلامية وأخلاقها، مما يدل على تدين الشاعر وحسن أخلاقه.
ولم تتجرد القصيدة من فلتات لا تتناسب مع لغة الشعر الشاعرة كالأسلوب السهل القريب، الذي قد ينزل أحيانًا إلى مستوى الكلام العادي بين الناس في حياتهم اليومية، مثل "الفتح الشهير" و"شكر الشكور" و"يا ناس"، بل قد يجره القرب والتداول في التعبير إلى الوقوع في خطأ مثل قوله:"بقت" فحذف لام الكلمة بلا داع للحذف، مع أن الفعل لحقت به تاء التأنيث الساكنة، ولا تحذف معها اللام، والصواب "بقيت مندوحة" وهذا مما يستعمله العامة خطأ، وأن الشاعر اضطره الوزن إلى هذا الخطأ، وكلاهما غير محمود ويؤخذ عليه.
وكذلك الشيخ علي بن الحسين الحفظي ولد ببلدة "رجال ألمع" وعاش ما بين عامي "1217 - 1275هـ"، وفي سبيل طلب تنقل الشيخ بين البلدان، فغادر وطنه إلى المراوغة باليمن، قضى بها سبع سنوات ثم عاد ليتولى منصب القضاء في عهد الأمير عائض بن مرعي، واشترك معه في الحروب، وله شعر جزل في المراسلات2.
ومن قصائده في المدح قصيدته بعنوان "هزائم جيش عباس بن طوسون في عسير" أنشدها الشاعر في عهد الإمام فيصل بن تركي حين غزت عسيرًا جحافل الترك القادمة من مصر في أيام عباس الأول بن طوسون سنة 1268هـ، وهاجمت الكثير من البلاد: سراة وتهامة، فهب أشداء العزم والبأس، أقوياء الشكيمة الأباة أهل الأقليم جميعًا، بقيادة الأمير.
1 المرجع السابق: ص122، 124.
2 نفحات من عسير: ص125.
عائض بن مرعي لصد الجيوش المعتدية، حتى هزموهم شر هزيمة في عدة وقائع بأماكن كثيرة، وبمناسبة هذا الظفر قال علي بن الحسين هذه القصيدة في عام 1269هـ، ومطلعها:
أيا "أم عبد مالك"1 والتشرد
…
ومسراك بالليل البهيم لتبعد
ومأواك أوصاد الكهوف توحشًا
…
ومثواك أفياء النصوب وغرغد2
فقالت رويدًا يا أبا عبد إنما
…
أضاق بنا ذرعًا شديد التوعد
عرمرم جيش سيق من مصر معنفًا
…
يهتك أستار النساء ويعتدي
ويسبي ذراري الأكرمين جهارة
…
وينظم سادات الرجال بمقلد
فقلت لها من دونكن ودونهم
…
ضروب حماة بالحديد المهند
وضرب يزيل الهام عام ربت به
…
ويظهر مكنونات أجواف أكبد
قفي وانظري يا أم معبد معاركا
…
يشيب لها الوالدان من كل أمرد
وفيها ليوث الأسد من كل شيعة
…
ياصلون نار الحرب حزنا لمفسد
وفيها رئيس عائض حول وجهه
…
حياض المنايا أصدرت كل مورد
إلى قوله:
وأشرف على واد اليمامة3 قائلًا
…
ودمعك سفاحًا على الخد والثدي
سلام على عبد العزيز وشيخه
…
وتابع رشد للإمام المجدد
دعا الناس دهرًا للهدى فأجابه
…
فئام فمنهم عالمون ومقتدي
وقفاهما حذوا سعود بسيفه
…
مميز مجرد النقود من الردي
وعرج بها ذات اليمين وقد هوت
…
على عرصات للرياض بمقصد
ونادى بأعلى الصوت بشرى "ليفصل"
…
وفي نسل سادات الملوك مسدد4
وقصائد المدح عند آلي الحفظي تقوم على غرض واحد غالبًا إلَّا نادرًا، فلا تتجاوز أغراضًا أخرى غير المدح إلا في قصيدة علي بن الحسين؛ حيث ابتدأها بحوار دار بين أبي عبد وأم عبد، وإن كان سبب الحوار هو تلك المعركة التي انتصر فيها الجيش السعودي على المغيرين ثم تسلل الشاعر إلى مدح الجيش، وما حققه من نصر مؤزر في ظل رعاية الإمام تركي بن فيصل.
1 هي أم عبد الله بن مسعود من غافل الهذلي، وقد جرت عادة الأقدمين من شعراء العرب تصدير القصيدة بالحوار مع أم معبد وأم عبد في المناسبات، وسار الشاعر على هذا الحذو.
2 غرغد: شجر العوسج.
3 وادي اليمامة جبل يمتد بين الربع الخالي حتى سدير في الجنوب.
4 نفحات من عسير: 126، 129.
ومثلها أيضًا هذه القصيدة التي سارت على منهج القدماء في المدح، فتصدرت بغرض آخر مع المدح، قصيدة "رياض الأنس" للشيخ إبراهيم الزمزمي، فقد استهلَّها الشاعر بمشهد من مشاهد الطبيعة الساحرة، ثم انتقل إلى مدح الإمام سعود الكبير وتهنئته حين دخل مكة فاتحًا سنة 1218هـ، قال في المطلع:
رياض الأنس مزهرة توالي
…
بها قطف دنى ما إن تعالى
وماء المأذنيات اللواتي
…
تحاكى البحر لم تبق انتحالا
وفي ملد الغصون سمعت لحنًا
…
لطير السعد إذ ثنى المقالا
فأطربني غناه وليس بدعًا
…
ولو نظمت في السمط الثقالا
وإني لا وقد أوفى علينا
…
بشير للكآبة قد أزالا
بمقدم صدر أرباب المعالي
…
حليف المجد من في الله والى
ومن في حلبة العلياء جلَّى
…
وصلى فاسألن عنه الرجالا
"محمد" الذي حاز المعالي
…
بوقت أهله عنها كسالى
ثم يتسلل من "محمد" صلى الله عليه وسلم، الذي أقام الهدى بمكة المكرمة إلى مجيء الإمام سعود إليها؛ ليعيد إليها المجد كما كانت من قبل، فيقول:
فلما جاء من نجد "سعود"
…
تواروا لم يطيقوه نزالا
وأضحى الدين في طرب وعز
…
يغيض قلوب من يهوى الضلالا1
وهكذا يسير في المدح إلى آخر القصيدة.
أما بقية القصائد في هذا الغرض فقد خلصت للمدح من المطلع حتى نهاية القصيدة، كما وضح ذلك من القصيدتين السالفتين.
التزم شعراء آل الحفظي في مدحهم المنهج القديم في شعر الفحول الذي يقوم على عمود الشعر العربي، وعلى تصوير الخصال المألوفة في المدح من الشيم المعروفة عند الشعراء القدامى كالشجاعة والنجدة والقوة، وشدة البأس والضرر المؤزر، والذود عن الشرف والكرامة والعرض، ثم تصوير أخلاق الإسلام، التي حفزت الرجال على النصر والدفاع عن أرضهم، والذود عن نسائهم وأولادهم، ورد كيد المعتدى.
ثم مدح أئمة البلاد، فهم أئمة حق، نصروا الدين وآزروه، وثبتوا دعائمه في ربوع البلاد بالحق والعدل والمساواة.
1 نفحات من عسير: ص وما بعدها.
ويستعين الشاعر في هذا الغرض بالصور الخيالية المتعارف عليها في شعر المدح عند القدماء؛ ليحافظ على منهج القدامى في التصوير الأدبي، وذلك مثل هذه الصورة من قصيدة "أئمة حق".
حمى بيضة الإسلام بالبيض والقنا
…
وأجرى إلى برك الغماد العواديا
وكذلك التصوير عند الزمزمي من خيال قديم معروف، يقول:
فإن الشكر للموجود قيد
…
وصيد أوابد النعم النفور
ثم الصور الخيالية في القصيدة الأخيرة، مثل "الليل البهيم"، "عرمرم جيش" و"يهتك أستار النساء"، و"وضرب يزيل الهام" و"يشيب لها الوالدان من كل أمرد"، وغير ذلك مما لم نذكره في ديوانهم الكبير الذي يسير على هذا النمط القديم في التصوير الأدبي.
ثانيًا: الشعر الإسلامي
وهو أكثر الأغراض الأدبية بعد المدح، ويشتمل على قصائد كثيرة أهمها للشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي، وهي "عصائب في نجد ص46"، وقصيدة "تألق برق الحق ص51"، وقصيدة "إن النجائب ص54"، وقصيدة "ودين الله باق ص99"، وقصيدة "الحج والحجاج ص104"، وقصيدة "في الصلح بين متحاربين ص107"، وقصيدة "جاءت الساعة في أشراطها ص109".
أما عبد الخالق الحفظي فله قصيدة "ماذا بعد الممات؟ ص139"، وأما قصائد الشيخ أحمد الحفظي الثاني هي:"في وصف طه ص145"، وقصيدة "أسماء سور القرآن الكريم ص148"، وقصيدة "الشرع ينادي ص150"، وقصيدة "الله أكبر ص186"، وقصيدة "آخر سطر من عبس ص190".
وللشاعر الشيخ إبراهيم زين العابدين الحفظي قصيدة "عمرة المسجد ص212"، والشاعر عبد الخالق بن إبراهيم بن أحمد الحفظي الأول ولد عام 1221هـ في بلدة "رجال ألمع"، ثم تعلم على يد والده، ليرحل إلى "أبي عريش" فيتزود بالعلم على يد علماء آل عاكش، وتولى منصب القضاء في عسير، وبعد عودته من الحج توفى أثناء الطريق بالقنفذة عام 1284هـ -رحمه الله تعالى1.
وله قصيدة "ماذا بعد الممات؟ " يصور فيها ما يلاقيه الإنسان بعد الموت من أهوال القبر، ويستعرض آلامه وأحزانه، فتفيض القصيدة بالشكوى والألم، ويخيم عليها مسحة الخوف من الله عز وجل الذي يرجو منه المغفرة والرحمة.
1 نفحات من عسير: ص134.
ذكر الممات طوال الليل أرقني
…
والخوف أزعجني والكرب آلمني
وعاذلي لم يزل جدًّا يؤنبني
…
دع عنك عذلك لي يا من يعاذلني
لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
إلى قوله:
ماذا ألوذ به في كشف مكربتي
…
وأستجير به من كل معضلة؟
سواك يا من له ذلي ومسألتي
…
وقد ترى يا إله الخلق مسألتي
فجد عليَّ فليس الخلق ينفعني
واغفر لي الذنب واصفح عن خطا زللي
…
واستر على بستر مسبل عجل
وبدل السوء بالإحسان في العمل
…
وامنن على بعفو منك يا أملي
وجد على مذنب بالذنب مرتهن
فليس للعبد من يعفو برحمته
…
ومن يجيب المضطر برأفته؟
سواك يا سامع الشاكي لفاقته
…
ثم الصلاة على الهادي وعترته
والصحب ما غرد القمري على فنن1
وهي طويلة اكتفيت بمطلعها ونهايتها، وتبنى في قالبها الموسيقى على نظام المخمسات، فتمثل كل مقطوعة خمس شطرات، يتفق حرف الروي في الأربع من كل مقطوعة، ويتفق في الشطرة الخامسة في جميع المقطوعات حتى نهاية القصيدة، وفي هذا القالب تنوع في الإيقاع والموسيقى، وتطور في نظام الموشحات الأندلسية، مع الاحتفاظ بالبحر العروضي في القصيدة كلها.
سيطرت الحقيقة على القصيدة في التصوير الأدبي بما يتناسب مع الغرض وهو الشعر الإسلامي، أما الصور الخيالية فلا تهز النفس ولا تحرك المشاعر، فهي كتل جامدة، وصور تقليدية مجردة من الحيوية، وعلى سبيل المثال قوله:"الخوف أزعجني والكرب آلمني" فلا نشعر بحيوية الخيال والمشاعر الفياضة، وغاية الخيال تظهر حينما تجري الاستعارة بالكناية فتقول: شبه الخوف بإنسان مزعج، والكرب بإنسان مؤلم، ثم حذف المشبه به، وبقيت صفة من صفاته، وهي الإزعاج والألم على سبيل الاستعارة بالكناية، وليس هذا في خيال شعر يصلح للتصوير الأدبي، بل الصورة هنا إلى الحقيقة أقرب.
ولا يغض هذا من قدر الشاعر، وإنما قد يرفعه، وقد يسمو به؛ لأن الغرض الذي ينظمه الشاعر هو شعر إسلامي، يقوم في مضمونه على الحقائق التي لا يشتط بها الخيال، ويعتمد
1 وهي قصيدة طويلة تفردت وحدها من بين الديوان بهذا القالب الموسيقي، نفحات من عسير: ص139، 142.
على التصوير القريب بلا مبالغة أو غلوٍّ أو إفراط، والمقصود من الخيال وصوره في غير حقائق الإسلام أن يحقق في السامع التأثير والإقناع، والحقائق الإسلامية في ذاتها تحتوي في مضمونها على التأثير باعتبارها حقائق مذهلة لا يقدر عليها البشر، ويسلم بها الإنسان لقوتها في الحجة والإقناع، فلا يحتاج كثيرًا إلى الخيال الذي يعتمد على الاتجاه البعيد في الأضواء والظلال والإشعاع.
هذه الخصائص الفنية في الألفاظ والأساليب والحقيقة والخيال وصورهما والموسيقى والإيقاع هي من خصائص المذهب الأدبي لمدرسة المحافظين، الذين اتبعوا مذهب القصيدة القديمة وخصائصها، لكن من خلال شاعرية الشاعر، وبموهبته الأصيلة، من غير تقليد أعمى، يسوده الجمود والتحجر، ويتسم بالمحاكاة المجردة من الموهبة الشعرية، كالشأن عند المقلدين من شعراء التقليد لا المحافظين.
ويسير على هذا المنهج الشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي في هذا الغرض مثل قصيدته "تألق برق الحق"، ومطلعها:
تألق برق الحق في العارض النجدي
…
فعم حياة الكون في الغور والنجد
وأورقات الأشجار وانتهضت بها
…
يوانع أنواع من الثمر الرغد
دعانا إلى الإسلام دين إلهنا
…
وتوحيده بالقول والفعل والقصد
هدانا به بعد الضلالة والعمى
…
وأنقذنا بعد الغواية بالرشد
حبانا وأعطانا الذي فوق وهمنا
…
وأمكننا من كل طاغ ومعتد
وأيدنا بالنصر واتسعت لنا
…
ممالك من كل طاغ ومعتد
فنسأله إتمام نعمته بأن
…
يثبتنا عند المصادر كالورد1
ثالثًا: في الرسائل والإخوانيات الشعرية
ويأتي هذا الغرض الأدبي عند شعراء الحفظي في المرتبة الثالثة، ويضم قصائد كثيرة، من أهمها ما ينسب إلى الشاعر الشيخ أحمد الحفظي الأول، وهي قصيدة "والورد أهدى ص35" كتبها إلى صديقه السيد أحمد إبراهيم الأخرس، وقصيدة "وميض البرق ص36"، كتبها إلى ابنه محمد وهو مقيم بالقنفذة، وأجابه عليها بقصيدة "الشمس أشرقت ص37"، ومن قصائد الشاعر الشيخ محمد أحمد الحفظي كذلك "لك الحمد مولى الحمد ص56"، كتبها إلى أمام اليمن "المنصور علي" يدعوه لمناصرة أئمة الحق في نجد، وقصيدة "أغراض الدعوة ص58"، كتبها إلى المخلاف السليماني بأبي عريش في منطقة جيزان إلى الشريف علي بن حيدر، وقاضيه.
1 نفحات من عسير: ص51، 52.
عبد الرحمن الهيكلي، وعلماء تلك المنطقة، يدعوهم إلى استجابة الدعوة في نجد، وقصيدة "حدا صيت الألحان ص111"، وكتبها عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الحفظي ردًّا على قصيدة "سري بارق الأشواق"، التي كتبها قاضي مكة المكرمة الشيخ عبد الله سراج بن عبد الرحمن وبعثها إلى الشيخ محمد أحمد الحفظي، ولكنها وصلت بعد وفاته، فردَّ عليه ابنه عبد الرحمن بالقصيدة السابقة فقال:
حدا صيت الألحان فاحتد بي قصدي
…
وغنى جلا ترجيعه شجن البعد
وذكرني عهدًا عفا حق وصله
…
وقد كان بالآباء في طلعة السعد
وكانت ردًّا على قصيدة "سري بارق الأشواق" ومطلعها:
سري بارق الأشواق فاشتد بي وجدي
…
وذكرني مسراه عرب الحمى النجدي
وأقلقني وادي رجال وشاقني
…
عبير شذي منه يفوق على الند
وجاء في هذا الغرض أيضًا قصيدة "أيها البيت ص189" للشيخ عبد الخالق، خاطب بها ابنه أحمد الحفظي الثاني.
وأما الشاعر الشيخ علي بن زين العابدين الحفظي فقد ولد في بلدة "رجال ألمع"، وتلقى علومه على يد والده وأعمامه، ثم رحل إلى المراوعة بوادي سهام اليمنية ليتزود بالعلم، فقضى بها خمس سنوات تتلمذ فيها على يد علماء الأهدل، ثم سافر إلى جزيرة جاوة فأقام بها سنوات، ثم عاد إلى بلده ليتولى القضاء، وله مؤلفات في الفقه والنحو والشعر، ومات وعمره خمسة وستون عامًا1، وله قصيدة "دموع وأشواق" بعث بها إلى عمه وشيخه الأول يقول فيها:
هب النسيم فقلبي كاد ينفطر
…
والدمع يجري على الخدين منحدر
شوقًا إلى اليمن الميمون مسكننا
…
من في "رجال" لنا الأسلاف قد عمروا
أيضًا وذكرني عهدًا لإخوتنا
…
فهم جناني كذا السمع والبصر
مقدم الذكر شيخي قدوتي "حسن"2
…
نجل الوجيه به الأيام تزدهر
علامة شرف الإسلام مجتهد
…
مدرس فضله في القطر مشتهر
يحيى النواوي فقها فهو "تحفتنا"
…
"ومنهاجنا" وكذا "الأنوار" لا نكر
مصباحنا "حسن" أيضًا "نهايتنا"
…
"إرشادنا" من به الأزمان تفتخر3
1 نفحات من عسير: ص192.
2 هو ابن عبد الرحمن محمد الحفظي
3 نفحات من عسير: ص193، ما بين الأقواس أسماء لبعض كتب الشافعية.
وتمضي القصيدة على هذا النحو حتى نهايتها من التكلف والتصنع الذي يظهر في أسماء بعض كتب الفقه للمذهب الشافعي، ليسلكها في نظم الأبيات قسرًا، كما تسود طريقة التعبير في النثر على القصيدة لا طريقة الشعر فيها، مما كان لها أثر على الألفاظ الأخرى في الأبيات، فنشعر أن في الأسلوب قلقًا واضطرابًا، كما في قول الشاعر:"مقدم الذكر شيخي قدوتي [حسن] ".
والمصطلحات العلمية واللغوية هي آفة الشعر، تذهب برونقه، وتطفئ ديباجته المشرقة، وتجمد حيويته النابضة، كما في قوله: "علامة- شرف الإسلام- مجتها- مدرس
…
إلخ البيت"، فهذه المصطلحات "علامة - ومجتهد- ومدرس" أفسدت الشعر وجعلته نثرا أدبيا، وكذلك الأمر في أسماء الكتب، التي أصر على ذكرها وهي: "النواوي - التحفة - الأنوار - الحسن - الإرشاد" وغيرها، أخمدت حرارة المشاعر وثورة الانفعال، وتعثرت العاطفة، فتصلبت الأبيات في جمود وتحجر، وفتور وضعف في المشاعر.
وهذا يدل على أن شعر آل الحفظي في ديوانهم لا يخلو من هنات العصر، من التكلف والتصنع، وإن كان قليلا بالنسبة لحسنات شعرهم بصفة عامة، وليس هذا عيبا يؤخذ عليهم، فهو أمر واقع حيث كانوا يمثلون بشعرهم مرحلة تاريخية، لا بدَّ منها في تطور الشعر السعودي في الجنوب، لينهض الشعر بعدها في المرحلة المتطورة التالية، التي سنراها في تطور المذاهب الأدبية الحديثة من بعدهم.
رابعا: الشعر الوطني
الشيخ أحمد بن عبد الخالق بن إبراهيم بن أحمد الحفظي الأول، ويطلق عليه أحمد الثاني، ولد بقرية عثالف مستوطن أبيه، ثم سافر إلى "أبي عريش" ليتلقى العلم على مشايخه من آل عاكش، ثم عاد إلى بلده لكي يساعد والده في القضاء والإفتاء، حتى قبض عليه الأتراك مع صحبه، وأرسلوه إلى استانبول لمدة ست سنوات، حتى عاد سنة 1293هـ، ولكنه ظل يدعو إلى الوحدة الإسلامية، فاعتقلوا ابنه عبد القادر تنكيلا بوالده، لكنهم أفرجوا عنه بعد ذلك، وظل الشيخ أحمد في عثالف احدى قري وادي حلى برجال ألمع حتى مات سنة 1317هـ عن 67 عامًا، ومن مؤلفاته:"فتح المنال" في تفسير القرآن الكريم، وله رسائل في الفقه والأدب، أما شعره فهو كثير، كتب فيه بضعة أجزاء تحتاج إلى النشر1.
والشعر الوطني يكاد يكون مقصورًا على الشيخ أحمد الحفظي الثاني المترجم له سابقًا،
1 نفحات من عسير: ص156.
ومن أهم قصائده في هذا الغرض الأدبي قصيدة "ذكرى وعتاب ص158" كتبها وهو بالمعتقل إلى بلده وأهله، وقصيدة "لوعة وعتاب ص161" في الحنين إلى وطنه وقومه الأشاوس، وقصيدة "الدهر والناس ص163" يتذمَّر فيها من الحكام العثمانيين الذين ذاق بهم مرارة الاعتقال وعذاب الوحشة والعزلة، وقصيدة "بين الماضي والحاضر ص164" يحنُّ فيها إلى الماضي ذي العزة والفخار، ويئنُّ في الحاضر من مرارة العيش بعد النعيم، وقسوة الأيام بعد الرخاء، وقصيدة "محاكمة ص 166" وفيها محاكمة وحوار يشف عن ظلم العثمانيين له ولأصحابه، وقصيدة "ذكريات ص169" يتذكر فيها حالته حينما كان عزيز الجانب في الماضي، وحالته من الأسر في الحاضر، وقصيدة "خماسيات ص176- 185"، وكتبها بعد الانتصار في حرب البلقان إلى قومه ابتهاجًا بعودته إلى وطنه، وسار على نظام تغيير القافية في الموشحات، وقصيدة "خواطر من أرض الروم"، وأرسلها مع علي بن طامي شعيب، حين أطلق سراحه إلى بني عمومته ليعبر فيها عن حنينه إلى وطنه يقول فيها:
خطرت ومنت في لذيذ وصالها
…
فدهشت بين حديثها وجمالها
شمس تبدت من سماء فضائل
…
وتزينت ببهائها وكمالها
درية نورية عربية
…
فاقت ببهجتها على أمثالها
ترمي بنبل من قسى حواجب
…
عمدًا فلم تخطيء برمى نبالها
قد أودع السحر الحلال بلفظها
…
ولحاظها فالسحر من أكحالها
لو أسفرت في الجاهلية مرة
…
عن حسنها سجدوا لعذب مقالها
برزت من العلياء تنشر عرفها
…
كالعطر بين نسائها ورجالها
ورمت لنا طيب الحديث بلطفها
…
فشفت غليل الشوق من سلسالها
ما زلت أذكرها وأذكر حالها
…
حتى أتى ما صد عن أحوالها
مما جرى في حال أسر شائع
…
أنسى لنفوس حليها ورجالها1
أسر به الأحوال صارت هكذا
…
شبك ترى ما كان من أشكالها
لم تؤخذ الأشياء حسب مرادها
…
أو يقتدي بحرامها وحلالها
صارت منازلها كأمس عابر
…
تبكي منازلها على حلالها
وأنا الأسير أسير سير مفكر
…
كيف النجاة لطامع في حالها
في بلدة الروم أسيرًا مبعدًا
…
والنفس طول الوقت في أهوالها
جعلت فروع أصولها أجدادها
…
أيضا كما أعمامها أخوالها
مالي وأرض الروم ماذا حلَّ بي
…
وإن كان ذنبًا فهو من أعمالها
1 حلى: اسم مستوطن أبيه، ورجال: وطنهما الأصلي، وبينهما أربع كيلو مترات.
لو يأخذ الله العباد بظلمهم
…
لم يبق في الدنيا سوى أحبالها
لكن رحمته لكل وسعت
…
يا رب فاجعلها على منوالها
لا تجعل "الحفظي" محرومًا بها
…
من ذا سواك مفتح أقفالها
طلب التلطف والترحم سيدي
…
منكم وأما الغير لا أرض لها
كل عبيدك بالسواء وإنما
…
تعطي لمن ترضى أليم وبالها
لا ينفع العبد الضعيف لمثله
…
إلا بأمرك فالرضا أولى بها
وأنا الصبور وليس حالي نازلا
…
لتطلب الرحمات من عذالها
أقسمت ألا أصغي لقول معنف
…
أو أشتكي إلا إلى فعالها
ما لي وللأعداء أشابت مفرقي
…
أقوالهم والموت في أقوالها
لا تغترر بتبسم من ضاحك
…
فالليث يكثر وهو من أهوالها
والسيف يلمع ضاحكًا من صقله
…
وبضربه ينهل عظم نصالها
فعدونا الشيطان أضحى ضاحكًا
…
والنفس لاعبة على أغفالها
ما لي وللدنيا أشانت كلما
…
لناه نحمده على أحوالها
هل كنت تبع حمير في وقتها
…
أو كنت سيف حرف ذي أطوالها
أو كنت قد جمعت أجناد الورى
…
أو قد فعلت فواقرًا يد نالها
قطع الرقاب وأسر كل مبعد
…
بل كنت مفتقرًا إلى أفعالها
"رب العباد" أسير ذنب خائف
…
يوم الأراضي زلزلت زلزالها
ذاك المقام مقام صدق ظاهر
…
إذ أخرجت أراضينا أثقالها
والأرض خاشعة لشدة هولها
…
لما لها الإنسان نادى ما لها؟
فيها تحدث للورى أخبارها
…
أن الإله لأرضه أوحى لها
الناس أشتاتًا تراهم كلهم
…
لترى الجزا في ذاك من أعمالها
من يعمل الخير القليل كذرة
…
يومًا يراه وشره أحوالها
يا نجل "طامي" أنني أودعتكم
…
أسنى السلام لسائل بسؤالها
والله أسأله السلامة من لظى
…
يوم القضا والنفس في أهوالها
على "عسير" جميعهم من مغرم
…
أو في التحايا من ذرا أجبالها
ما دام ذكر الله أو ما تليت
…
خطرت ومنت في لذيذ وصالها1
هذه هي القصيدة كلها بدأها الشاعر على عادة الشعراء القدامى، فاستهل المطلع بالغزل العفيف، وثنَّى بالغرض المقصود، وهو الحنين إلى أهله ووطنه وماضيه، وأروع ما في القصيدة
1 نفحات من عسير: ص172، 183.
شاعرية المطلع الغزلي الذي فاض بوجدان الشاعر الصادق، وعبَّر عن لظى مشاعره المتأججة من لوعة الفراق، فخطرت له في أبهى زينتها، فسحرته بحديثها وبعينيها، لتطفئ غليل الشوق، لكن العاذل يترصده ليقطع وصل الحبيبين، ألا وهو الأسر الذي أنسى النفوس أعز البلاد وأجمل الذكريات في حلى ورجال ألمع، وهكذا يتسلل الشاعر من الغزل العفيف إلى الحنين للوطن ببراعة ولطف، حتى لا يشعر القارئ بأن القصيدة تحتوي على غرضين، وكان غزله بريئًا يصور الخواطر النفسية، وكيف تجاوب وجدانه مع سحر الوصل، وجمال اللحظ، وعذوبة الحديث ولطف الروح، كما اغتلى وجدانه أيضًا بظلم الأسر في بلاد الروم ونار البعاد عن الوطن، ولوعة الفراق عن الأهل والخلان، في تصوير أدبي رائع، وشاعرية قوية متدفقة، وعاطفة صادقة مشبوبة، وذلك في شعر يكاد يخلو من مسحة الكلفة والمبالغة، حتى نشعر بأن أسلوب القصيدة وتراكيبها، بلغت من العذوبة والسهولة مبلغ التعبير الدارج في النصوص النثرية المألوفة، ولولا توقد العاطفة، وميزان الشعر من العروض والقافية، لقلنا بأنها قطعة أدبية تدخل في باب النثر الفني الرفيع.
وسقطات القصيدة قليلة، لا تغض من قوة الشاعرية، أو تنقص من قدرة الموهبة الأصلية في الشعر، فالقافية مثلًا فيها ليست مركبًا صعبًا تنتهي إليها، وهذه تعطي تجوزًا للشاعر إذا لم تستجب بنية الكلمة القائمة على الهاء، وجد الشاعر مهربًا من حقله اللغوي الضيق إلى كلمة أخرى يوصلها بالهاء المضافة ضميرًا، يرجع إلى ما قبله، وتلك توسعة على الشاعر حتى لا يخضع لضرورة القافية.
وعدم خضوع الشاعر لضرورة القافية يدل على تمكن الشاعر من معامل الاشتقاق اللغوي، واستخدامه استخدامًا جيدًا في القافية، ويعبر أيضًا عن قدرة الموهبة الشعرية عنده، وتلك براعة يتصف بها نوابغ الشعراء.
سرى الغموض في بعض المعاني للقصيدة مثل هذين البيتين:
طلب التلطف والترحم سيدي
…
منكم وأما الغير لا أرض لها
كل عبيدك بالسواء وإنما
…
تعطى لمن ترضى أليم وبالها
فلا أدري المعنى في قوله: "وأما الغير لا أرض لها" أيكون المقصود: أما غير الله فلا تطلب التلطف والترحم منه، وإذا كان كذلك فيكون الغموض واقعان لا يقف عليه القارئ بيسر، وذلك لا بسبب صورة شعرية موحية، تبهره لوقت ما، حتى يقع على المعنى فيرويه كما يروي الظمآن، ولكن بسبب التعقيد في التركيب؛ حيث جعل الشاعر التطلف والترحم عند غير الله لا أرض له، فكان الغموض في اختيار لفظ "الأرض" وفي عود الضمير على اللفظ المؤنث للأرض من أجل القافية. بينما هو يعود على التطلف والترحم، وكلاهما مذكر، ليعود عليهما الضمير مذكرًا لا مؤنثًا، والتقدير "وأما الضمير لا أرض له: أي للتلطف والترحم".
وكذلك قوله: "تعطى لمن ترضى أليم وبالها"، فكيف يعطي الله تعالى أليم العذاب، بل من يرض عنه الله يفض عليه بالنعيم، ومن يسخط عليه يصله بالعذاب الأليم، وهذا تناقض في المعنى.
ومما يذكر لبراعة الشاعر، وموهبته الشعرية القوية أنه يستخدم البديع بلا كلفة، بل يأتي منقادًا طائعًا للمعنى، مع تكرار اللفظ الواحد يقول الشاعر في براعة:"وأنا الأسير أسير سير مفكر".
وتظهر البراعة أيضًا في الاقتباس من القرآن الكريم والتضمين لصوره ومعانيه، وتظهر روعة التصوير الشعري في اقتباسه لسورة "الزلزلة" في أربع أبيات، مثل قوله:"والأرض خاشعة لشدة هولها".
خامسًا: الشعر التعليمي
ظهر الشعر التعليمي في أربع قصائد، وهي قصيدة "نصيحة الحاكم ص174" التي رفعها رؤساء القبائل في عسير، يتزعمهم قائلها الشيخ أحمد الحفظي الثاني إلى السلطان التركي عبد الحميد عام 1290هـ، ينصحون الحاكم برفع ظلم العثمانيين عنهم، وقصيدة "ذكر الحبيب ص196"، التي بعث بها الشيخ علي زين العابدين الحفظي إلى ابنه إبراهيم ليحثه على طلب العلم لدى بني الأهدل في وادي سهام باليمن، ويقول في مطلعها:
ذكر الحبيب لدى الساعات لم يزل
…
وما غفلت ودمعي فاض من مقلي
وبي من الحزن ما يكفي لمنتظر
…
شواهد الحال بالتعديل تشهد لي
وقصيدة "حادي المطايا ص199" أرسلها الشاعر علي زين العابدين لابنه المذكور.
والشاعر الشيخ أحمد الحفظي الأول بن عبد القادر من بلدة "رجال ألمع"، ولد فيها في 15/ 4/ 1145هـ، وتعلم على يد والده وأعمامه، ثم رحل إلى "صبيا" لطلب العلم، ثم إلى اليمن ليتعلم على أيدي علمائها، وأخيرًا عاد إلى بلده لينشر العلم وتعاليم الدين الحنيف، ولما ظهرت دعوة التجديد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمؤازرة الأئمة آل سعود، نشر الشيخ أحمد الحفظي فكرها، ودعا بها، وتوفي عام 1233هـ عن ثمان وثمانين عامًا. وله مؤلفات كثيرة منها:"الأزهار الفاتحة في أسرار الفاتحة"، "ضياء الشمعة في شرح خصوصيات الجمعة"، شرح عقد جواهر اللئال في فضائل الآل"، أما شعره فكثير1.
1 نفحات من عسير: ص23، 24.
ولهذا الشاعر من الشعر التعليمي قصيدة "نصائح وحكم ص33" يقول فيها:
سم في سمات سناها السموات
…
اعمل بأعمال أعلام العبادات
واحضر جموع جماعات الصلاة فما
…
أخس من فاته جمع الجماعات
وأجر للجار معروفًا يجيرك من
…
جور العذاب وإن جر الجويرات
وهكذا يسير الشيخ في قصيدة يتعسف فيها الأسلوب المتكلف والتراكيب المثقلة بألوان الزينة والزخرف، على عادة شعراء عصره؛ لكي تصير الأبيات مثلًا أو حكمة يتندر بها في المجالس، ولا تخلو من موعظة وحكمة ونصيحة، وهذا وحده هو جوهر الحسن فيها.
سادسًا: الرثاء:
وجاء غرض الرثاء عند آل الحفظي في قصيدتين إحداهما للشيخ أحمد الحفظي، يرثي بها والده المتوفَّى في ليلة عيد الأضحى عام 1181هـ، يقول في مطلعها:
ذكر الحبيب لدى الساعات لم يزل
…
وما غفلت ودمعى فاض من مقلى
وبى من الحزن ما يكفى لمنتظر
…
شواهد الحال بالتعديل تشهد لى
وقصيدة أخرى بعنوان "روضة الحق" للشيخ محمد بن أحمد الحفظي بعث بها إلى الإمام سعود الكبير، ليرثي فيها الإمام عبد العزيز طيب الله ثراه، ويعلن عن دوام مناصرته لدعوة التجديد يقول في مطلعها:
خليلي هذه روضة الحق فأعدلا
…
قلوصيكما في طلها وطلولها2
سابعًا: الوصف
وغرض الوصف في ديوانهم يضم قصيدة "في طريقه إلى المعتقل" للشيخ أحمد الحفظي الثاني، أنشدها الشاعر وهو في طريقه إلى تركيا حين اعتقله العثمانيون، فوصف هذه الرحلة، وفيها يقول:
شكاية مشتاق لدار ومعتقل
…
وأهل وإخوان وخل ومنزل
وصحب وجيران وقوم أعزة
…
لوافدهم حسن القرى والتجمل
مشى عنهم ليلًا فلما اعتلى على
…
حفير اللوي في ليل ظلماء أليل
لاقتبس النيران من كل شاهق
…
كمثل نجوم الصيف ذات التحول
1 نفحات من عسير: ص42، 43.
2 المرجع السابق: ص71، 73.
وهب نسيم البان من أيمن الحمى
…
فزاد فلما آن رآني حن لي1
وقصيدة أخرى "تحية القنفذة" وهي له أيضًا: يقول في مطلعها:
على البندر الغربي أهدي تحيتي
…
مضاعفة تترى بصافي المودة
تؤم رجال الخير والفضل والتقى
…
وكل أولي علم بتلك المدينة
بها أهلها كالغيث حل لجارهم
…
ووافدهم فيها بأوفر نعمة2
1 نفحات من عسير: ص152، 155.
2 المرجع السابق: ص156، 157.