الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الشاعر أحمد بهكلي
نشأة الشاعر بهكلي وحياته:
الشاعر أحمد يحيى بهكلي هو الثاني في مدرسة التحرر في التجديد في الجنوب، إمارة عسير، ولد بمنطقة جيزان عام "1374هـ"، ثم تنقل في مراحل التعليم بين جيزان وأبها والرياض، حتى حصل على "ليسانس" كلية اللغة العربية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1397هـ.
وبعد تخرجه عمل مدرسًا في معهد الرياض العلمي، واستمرَّ يواصل تعليمه في تحضير رسالة الماجستير1.
وهو الآن يشارك في تحرير مجلة الفيصل الثقافية، التي أصبحت الآن تؤدي دورًا كبيرًا في العالم العربي والإسلامي، صدر له حتى الآن ديوانان كما سبق، وهما:
ديوان "الأرض.. والحب".
وديوان "طيفان.. على نقطة الصفر".
وسحر جيزان وأبها وتهامة كان له الأثر في هيام الشاعر بالطبيعة الخلابة، حتى غلبت على شعره يصور مناطق الجنوب في الذهاب والإياب، يصور جيزان مرة، وبيشة ثانية، وفيفا ثالثة، وأبها رابعة، وغيرها وغيرها.
وكثيرًا ما يدفعه الحنين وهو في الرياض إلى موطنه في الجنوب، ليجدد شاعريته في منبع شاعريته.
وهذا بالإضافة إلى تطلعه إلى التحصيل والتعليم، ولا زال حتى الآن يعد نفسه للدراسات العليا حتى يحصل على الماجستير.. وللناس فيما يعشقون مذاهب.
1 الأرض.. والحب: التقديم، نادي جازان الأدبي 1398/ 1978.
وصقل العقل، وتهذيب الذوق الأدبي يحتاج إلى متابعة مستمرة، ومداومة في الترويض والمتابعة، وليس بعد الصحافة والاشتغال بالتحرير في المجلات الأدبية والثقافية من دافع قوي متجدد في ترويض الذوق، وصقل النفس وشحذ الذهن فالعمل في هذا المجال مملوء بالحركة والحيوية والنشاط ولا ننسى أن النهضة الأدبية الرائدة في مصر كانت تتفجر من المجلات والمعارك الصحفية.
هذه هي العوامل التي فجرت ينابيع الشاعرية في نفس الشاعر أحمد بهكلي، وأصبح بديوانيه من رواد مدرسة التحرر في التجديد.
الأغراض الأدبية في شعره:
أولًا: شعر الطبيعة
هام بهكلي بالطبيعة الفاتنة في الجنوب، وأخذت من شعره منزلة رفيعة، حتى سيطرت على ديوانه الأول "الأرض.. والحب"، فضمَّ قصيدة "السحر يلد أبها ص7، 9"، "وقصيدة "القيود الجميلة ص11، 14"، وقصيدة "نجوى.. على البعد ص15، 18"، وقصيدة "يا منتدى الذكريات ص19، 21"، وقصيدة "بوح ص22"، وقصيدة "عفوًا
…
أبها ص23، 26"، وقصيدة "الأرض والحب ص31، 33" وغيرها.
أما ديوانه "طيفان.. على نقطة الصفر" فاشتمل على قصيدة واحدة في شعر الطبيعة، وهي "إلى أرض أبها ص130، 132"، وهذه القصائد أنشدها الشاعر في الطبيعة ابتداء؛ لأنه يصور الطبيعة غرضًا مستقلًّا، أما شعر الوجدان، والشعر الإسلامي، فقد مزج هذين الغرضين بالطبيعة، وتجاوبت مع وجدانه وحبه كما سنرى ذلك في موضعه، ولذلك لم تكن الطبيعة مقصوده ابتداء في هذين الغرضين، وإنما تسللت فيهما تبعًا لهيام الشاعر بها، فظلَّت من حين لآخر تطل، لتعبِّر عن وجدانه وتأمّلاته وحبه وهيامه.
وتظهر سمات التجديد في شعر الطبيعة عند بهكلي من الهروب إليها، والتجاوب مع مظاهرها، والتغني بجمالها الآسر وسحرها الساحر، تعويضًا له عمَّا فقده من الحرمان، وما يحس به من آلام وآهات وأحزان؛ كالشأن في الشعراء الذين هاموا بالطبيعة في العصر الحديث.
ولذلك كان بهكلي متحررًا في تجديده هو والشاعر أحمد عسيري، لكن الأول غلب على شعره هيامه بالطبيعة، والعسيري غلبت على فنه الأدبي المرارة والشكوى والحزن والألم، مع التعدد في الأغراض الأدبية عند الشاعرين في هذه المدرسة التي احتضنت مذهب التحرر في التجديد.
وبهكلي طائر معذب، كلما لاح له الأمل غمره سلطان الدجى؛ ليكون هذا الأمل الذاهب بريد "الإهداء" في ديوانه:
إلى التي لازلت أحيا على
…
مأمل لقياها.. وما أحسب
قضيت عمرًا أجتلي غمة
…
لم يبد لي في أفقها كوكب
وحينما أجهد ركبي السرى
…
وأنهار تحتي الجيد المركب
أبصرت لمعًا
…
قلت ذا مأملي
…
واشتدَّ مني المرهق المتعب
ورحت أعنو مسرعًا
…
فانطفا
…
ذاك السنا واحتضر المطنب
وعاد سلطان الدجى يعتلي
…
عرشًا بناه برقها الخلب
يرجوك يا ناري ويا جنتي
…
ترنيمي الفاضل والمذنب1
ويبحث بهكلي عن بريده فيجده في السحر، ليس المجرد، بل المجسم في أبها، عروس الجنوب، يقول في قصيدته:"السحر يلد أبها":
صبوت وأضحى هائمًا مغرمًا قلبي
…
وتهت ولي عذر فإدلالها يصبي
أسير هواها ما أحيلاه أسرها
…
وحسبي أنني صرت مأسورها حسبي
ويا لجمال قد حويت استمالتي
…
فصرت أسير الفكر والشعر واللب
حببتك حبًّا فوق جهدي وطاقتي
…
وحبك يا أبها تغلغل في القلب
أيا ذوب احساس رقيق ويا مدى
…
خيال وسيع الأفق في عالم رحب
إذا كان في مغنى "اليمانية" انتمى
…
هواي فقد ذقت الصبابة "في "النصب"
وتحت ظلال الأيك في "السودة" انجلى
…
لي الحسن ممدودًا على ربعها الخصب
وأيدي النسيم الغض تهصر غادة
…
من العرعر المزدان ذي الفتن الرطب
وكم في شفاء "القرعاء" سحرت ناظري
…
ليرجع مبهورًا من المنظر العذب
كأن لكف السحر تمريرة على
…
عيون المياه الجاريات على الترب
تلمست أبغى دارة الحسن في الدنا
…
وساءلت عن مغنى العنادل في دربي
وطفت أرود المرتع الخصب للهوى
…
لألقاه في "أبها" عن المبتغي يبني
طرقت على باب الجمال بفكرتي
…
لتفتح لي أبها ابنة السحر والحب2
فاليمانية والنصب، وظلال الأيك في السودة، والعرعر المزدان والقرعاء، والعيون الجاريات، كلها مواطن في أبها الساحرة تمكنت من سويداء قلبه، وأصبحت لا تفارقه أينما سار وحيثما حل.
ولا يظن القارئ أنَّ الشاعر حقق أمله حينما وجده في أبها الساحرة الجميلة، لكنه خاب أمله، ومن العجب أنه تاه عن أمله وضل الطريق في "القيود الجميلة":
أنا فيك يا أبها عليل شاكي
…
هل ترحمين متيما يهواك
1 الأرض.. والحب: أحمد بهكلي ص3.
2 الأرض.. والحب: 7/ 9.
صيرت حسي في هواك مقيدًا
…
وسموت حتى نؤت عن إدراك
أواه من حب يحطم أضلعي
…
أتراك تنتبهين لي أتراك؟
حاولت أن أنساك لكن أنت في
…
سودا الفؤاد فكيف لي أنساك؟
أيها الجميلة خبري كم عاقل
…
هومته؟ كم مغرم ناجاك؟
أحياك إلهامًا ووحي مشاعر
…
تنداح مسبغة بنشر صباك
تستأسرين بدون أي جريرة
…
ألبابنا من ذا الذي أفتاك؟
لو كنت خمرًا كان عذرك واضحًا
…
إن نحن رحنا في الهوى سكراك
أو كنت بحرًا هائجًا متلاطمًا
…
فربما قمنا وصارعناك
لكن حشدت لنا جيوش الحسن
…
ثم دعوتنا مغرورة للقاك
أما السلاح قناة قدٍّ فارع
…
أو سيف لحظ صارم فتاك
أو درع طود شامخ متوشح
…
بزهورك النشوى ومن رياك
أو خيل شلال غدا متدافقًا
…
يشتد ملتاعًا للثم ثراك
واقتدتنا أسرى وقد كبلتنا
…
حبًّا فلطفًا أكرمي أسراك
رؤياك في قربى أدق مؤمل
…
وأعز شيء في النوى ذكراك1
ثم يبوح لأنها بأحزانه وآلامه في قصيدته "بوح":
أبها.. ويبسم كل محروب
…
أبها.. ويفرح كل منكوب
أبها.. وكل الكون أبعدني
…
وجذبتني فرأيت تقريبي
وحضنتني وأنا الشريد فلم
…
أحزن لمأساتي وتعذيبي2
تتناجى معه مظاهر الطبيعة في الجنوب، ويتعاطف الشاعر مع ربوعها وبلدانها ومنازلها ودورها، وجبالها وسهولها، وتاريخها ومجدها وبحارها ووديانها، وطيورها وأشجارها، وربيعها ولياليها، وذلك في قصيدته "الأرض والحب" منها:
أنا فيك يا جازان فلتزدهر الرؤى
…
بعيني غريب هام عن ربعه دهرًا
أنا فيك في "فيفاء" أناجي جنانها
…
وأخلق إعجابي بما احتضنت شعرًا
وأنساب في أنهار "بيش" مغنيًّا
…
منازلها الفيحاء أو زرعها النضرا
وتمنحني "صبيًّا" ولا زلت في الصبا
…
برود صبا تستأثر اللب والفكرا
وأغرق روحي في هوى "ضمد" التي
…
رعتني عمرًا بات من أعذب الذكرى
1 المرجع السابق: 11/ 14.
2 الأرض
…
والحب: 16.
بروحي تلك الأرض من أثلها إلى
…
منابت "سعيد" قد انتشرت عطرًا
على أنني ضيعت حبي في "أبي
…
عريش" فإن خرفت يا جنتي عذرًا
كأنَّ لياليها سواحل بابل
…
وما ضمنت تلك الليالي غدت سحرًا
كما عانقت جازان أذرع بحرها
…
وعانقت التاريخ والمجد والفكر1
ومع هذا الهيام بالأرض، والحب للطبيعة التي هرب إليها عاشقًا لجمالها، والهًا في سحرها، الذي يصور مرارته، وهذا الحب بعيد عنه محروم منه ما دام بعيدًا عن الطبيعة التي تمكنت من قلبه حبًّا وهيامًا وعشقًا.
ثانيًا: الشعر الوجداني والتأملي
جاء هذا الغرض الأدبي في شعر بهكلي في ديوانيه، أما قصائده في ديوانه الأول "الأرض.. والحب" منها قصيدة "شوق ص39، 41" في عام 1392هـ أبها، وقصيدة "أحبك ص43، 47" في عام 1394هـ أبها، وقصيدة "رسالة ص49، 50" في أبها عام 1394هـ، ومقطوعة "الهوى أعذار ص42" في أبها 1393هـ، وقصيدة "عندما يطول السفر ص51، 55" في أبها عام 1394هـ، "ورباعية ص60" في الرياض 1394هـ، وقصيدة "الحسن الآسر ص66، 68" في أبها 1394هـ، وقصيدة "العذابان ص69، 70" في أبها عام 1394هـ، وكذلك "رباعية ص71" في الرياض 1395هـ، وقصيدة "الرحيل
…
بلا وداع ص73، 75" في أبها 1395هـ، وقصيدة "هزوجة خريفية ص77، 80" في أبها 1396هـ، وقصيدة "غفوة
…
ورؤيا ص81، 82" في الرياض 1396هـ، وقصيدة "كتابة على ضريح العشق ص83، 84" في الرياض 1397هـ.
أما الوجدان والتأمل في ديوان الثاني "طيفان
…
على نقطة الصفر" فيضم قصيدة "أبيات.... لأبي ص7، 10"، وقصيدة "لهذا الحزين ص51، 52" في أبها 1394هـ، وقصيدة "الركض
…
إلى الخلف ص53، 55" في أبي عريش 1396هـ، وقصيدة "مجنون ص56، 58" في الرياض 1395هـ، وقصيدة "الرحلة الطويلة ص59، 61" في جدة 1396هـ، وقصيدة "حينما يزمن الحزن ص62، 64" في الرياض 1396هـ، وقصيدة "العرافة الكاذبة ص65، 66" في جيزان 1397هـ، وقصيدة "منى
…
وقلوب ص67، 70" في الرياض 1398هـ، وقصيدة "خلود الحب
1 الأرض
…
والحب: 31/ 36.
ص105، 106" في أبها 1395هـ، وقصيدة "أحلى نهاية ص107، 110" في الرياض 1394هـ، وقصيدة "كل الفصول ص111، 113" في الرياض 1396هـ، وقصيدة "أبتاع حزنًا ص114، 116" في الرياض 1399هـ، وقصيدة "رزق ص117، 118" في الرياض 1399هـ، وقصيدة "السر العجيب ص122، 126" في الرياض 1395هـ، ومقطوعة "هل الحب أعمى؟ ص127" في أبها 1397هـ، وقصيدة "الدمع الطهور ص128، 129" في الرياض 1398هـ.
وشعر الوجدان والتأمّل عند بهكلي يتميز بالخصائص الفنية لهذا الغرض عند الشعراء الابتداعيين المجددين، مثل الغوص في أعماق الذات، والتأمل في جوانب النفس المختلفة وتصوير أحاسيسها العميقة، ومشاعرها الرقيقة، وذلك في تجربة شعورية صادقة، تشفُّ عمَّا يشعر به من ألمَّ الحرمان، وما تعتصره من آهات وآلام، وما يسيطر عليه من الكآبة والحزن، وأنه مهما قطع شوطًا في تحقيق آلامه، فإنه يجد نفسه أمام السراب الخادع يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وهكذا فيعود ليصور آلام الفقد ولوعة الأسى والحرمان ومرارة الهزيمة والقنوط.
هذا من حيث ظاهر التصوير الأدبي في شعره، أما من حيث الواقع، فإن معاناة التجربة الشعرية هو في ذاته تحقيق لهدف يؤمه الشاعر، وهو التنفيس عمَّا يعانيه، وذلك حينما يصور تجربته في قصيدة، فهي تشكل بناء فنيًّا خارجيًّا تجد فيه الشاعر سلوانًا وعزاء، وأنسًا وإمتاعًا، يصرفه كل ذلك عن معاناة التجربة؛ لأنها صارت عملًا فنيًّا خارجيًّا، وقد كانت قبل أن تخرج تلتهب في وجدانه ألمًا ومرارة.
وبذلك يجد الشاعر في القصيدة الضالة التي كان يبحث عن تجربتها داخل نفسه، ويتذرّع في سبيلها الأسى واليأس الذي يعتصر أغوار ذاته، وبهذا العمل الفني يحقق الغاية التي كان الوجدان ينزف بها، حين كان العمل الفني تجربة ذاتية، تؤجج جوانب النفس، قبل أن تخرج إلى حيز الوجود الخارجي.
وهذا ما عاناه الشاعر بهكلي في القصائد السابقة لهذا الغرض، وسنقتصر على بعض الأمثلة التي تتجسَّم فيها الخصائص الفنية السابقة لمدرسة التحرر في التجديد، لتدل على ما لم نذكره من بقية القصائد، يقول الشاعر في قصيدة "أحبك" مطلعها:
أين وجهت فقلبي
…
لك مغدي ومراح
أنت فيه النور..
…
كالنور ويغذيه الصباح
أنت فيه النفح..
…
كالنفح تزجيه الأقاح
يا جمالًا ملهب التكرين
…
معدوم السماح
أفصحي يا طفلتي عمَّا تمطي في فؤادك
إنني ما عدت ذا صبر على طول بعادك
أرسلي في بقعة الصمت أصيلًا من جيادك
ودعيه يفهم الصب المعني بمرادك
وأنا إن رحت أشكو أو أبث الوجد حبًّا
فلقد آليت أني لن أصب الدمع صبًّا
ولو أني صرت في حبيك يا حسناء صبًّا
فالضعيف الفدام من عاش الهوى دمعًا وندبًا
ضجة العمر الشباب الحي حتى يتصرم
فإذا ولي فقد ولت مني السعد المكرم
وبقي في يأسه المرء كئيبًا يتبرم
يندب الأنس الذي كان حلالًا يتحرَّم
إيه
…
يا "
…
" يا آهة تعدو وئيده
في ضلوعي
…
يا متاهات مسافاتي المديدة
لم تزل عندي حكايات وأفكار جديدة
سوف أحكيها لنفسي حين تضحى بعيدة1
صورة شعرية تعبر عن حرارة الوجدان ولوعة الحرمان، ومرارة البعد، وألم الفراق، في خيالات عجيبة، وصور أدبية بديعة، فقلبه مغدي ومراح، تملؤه بنورها المستمد من نور الصباح وتزكّيه برائحتها الفواحة، ينبغي أن تتجاوب معه فتبادله وتفصح عمَّا استكن في قلبها؛ لأن الصبر قد نفد، فأصبح يبث الوجد حبًّا، ويصب الدمع صبًّا، ويندب حياته ندبًا؛ لأن زهوة الشباب قد تصرم فأضحى كئيبًا يتبرم؛ لأن ما كان حلالًا له قد تحرم، وبعد اليأس أخد يردد لنفسه حكايات وأفكارًا جديدة، يتسلَّى بها بعد أن فقد الأمل وصارت عنه بعيدة.
1 الأرض
…
والحب: 42/ 47.
هذه هي خصائص الشعر الوجداني، يتمدد الشاعر في داخله، يبث أحزانه وآلامه، ويشكو حرمانه، ويبكي شبابه، وينعي حبه الذاهب، وأمله الخائب في تصوير أدبي يتفطر ألمًا ودمعًا.
ومن خصائص شعر الوجدان عند بهكلي أن القصيدة عنده قامت على غرض واحد من مطلعها حتى نهاية القصيدة، بلا تعدد أو خروج عن موضوعها، ومن هنا تحقق فيها الوحدة الموضوعية والوحدة الفنية.
ومن خصائص هذا الغرض التحرر في التجديد، فتحرر الشاعر من عمودية الموسيقى، فتعددت القوافي فيها، وقامت على نظام المقطعات، لكل مقطعة قافية تختلف عن الأخرى مع اتحاد الوزن والبحر العروضي، وفي هذا ثورة على العمود الشعري، فلا يلتزم الشاعر بما التزم به الشعراء القدامى، ومن سار على نهجهم من المحدثين "الكلاسيسكيين"، وما التزم به الشاعر هو الوزن، والتغني بذاته، فمنافذ الإدراك عنده أدارها الشاعر عن الخارج لتفتش في ذاته وداخل نفسه، غير خاضعة لمقاييس خارجة عن ذات الشاعر.
وعندما تأتي القصيدة عنده متحدة الوزن والقافية، لا يكون ذلك التزامًا لمنهج القدماء في القالب الموسيقي عندهم، ولكن ذلك دليل وكشف عن حريته المطلقة من الحركة من شكل إلى آخر بإرادته، وتجاوبًا مع رغبات ذاته التي لا تلتزم بالرتابة قهرًا لاتباع السابقين. لذلك نجد بهكلي يقول القصيدة ذات الغرض الواحد على بحر واحد وقافية موحدة أيضًا،
كما في قصيدته "رسالة" ومطلعها1:
أحبك لا لشيء غير أني
…
أحبك للتلهف والتمني
وقد صيرت رسمك في خيالي
…
إسارًا مالكًا فكري وظني
فأنت عروس شعري حين أشدو
…
وأنت بديع لحني إذا أغنى
أحبك دون أن أدي لماذا؟
…
وأحمل فيك بعدك والتجني
كأني لم أكن إلا لأضني
…
بحبك طول ذا الزمن المسنِّ
ولست أرى بأن هناك شيئا
…
يشكك فيه من إنس وجن
وهبتك من وادي ما أراه
…
كفيلًا لي بأن يدنيك مني
1 الأرض.. والحب: 49/ 50.
وما أعطيتني إلّا وعودًا
…
تزيد أسى الفؤاد خلا تمني
سوى أني أدين وسوف أبقى
…
أدين بأن حسنك أصل فني
وبي شوق إليك يزيد دومًا
…
كأشواق العقيم إلى التبني
فأنت عروس شعري حين أشدو
…
وأنغام الصبابة إذ أغني
فاض وجدان الشاعر بالحب والوداد، لكنه لم ير من محبوبه إلّا الوعود الجوفاء، بلا وصل، فيغتلي الفؤاد أسى ومرارة، ومع هذا فالشاعر يجد فيها عوضًا عن الفقدان والحرمان، فهي التي فجَّرت شاعريته بهذه الرسالة، فتشكَّلت في عمل فني بعد أن كانت بددًا وحيرة في نفسه ووجدانه، فصارت عروس شعره وأنغام وجده، وأوتار حبه، يجد فيها أمله حين يغني بشعره، وإن كانت محبوبته بذاتها وهيكلها بعيدة.. بعيدة عنه.. كل البعد.
هذا هو جوهر التحرر في التجديد عند الشاعر، فحينما تتفجر شاعريته في تصوير ما يحب، لا يبتغي منه أكثر من أن تظهر ذاتية الشاعر في فنه الأدبي، والتغني بذاته ووجدانه وحدهما؛ لأنه لا يرى ولا يملك غيرهما.
والذات البشرية إذا تمددت في داخلها ستجد اليأس والقنوط، والمرارة والألم والحرمان، وغيرها من أصول الهروب عن الحياة والناس، أما إذا تجاوبت مع غيرها، وخرجت من أسارها وسجنها الداخلي، إلى العطاء الاجتماعي، تغرب عنها الوحدة والأسى، وتنحسر المرارة والحرمان، وهكذا يستمر بهكلي في آلامه وحزنه حتى يزمن الحزن "حينما يزمن الحزن" يقول:
لا تقولي قضي الحزن وحل السعد
…
إذا لاح على الأفق لقانا
لا تقولي تمت الفرحة لا.. لا
…
تحسبي حقًّا أباطيل رؤانا
خدعة هذي فلا يخدعك ماصير
…
دنيانا خداعًا وامتهانًا
حاذري من طيبة الظن فما عادت
…
لتلقي في مجالينا مكانًا
مزمن حزني باق سهد عيني
…
وفي حبيك ضيعت الأمانا
رغم لقياك فلا زلت حنينًا
…
يفرش النأي على فكرى خوانا
يا انتفاض الألق المزهو في عينين
…
ترفضان سحرًا وحنانًا
والتوالي من مآسينا أقضت
…
مضجع السالف من حلو منانا
وانسلال اللحظات اللائي عشنا
…
سعدها قد بات يستل شجانا
تارة يسفحنا
…
يغري الحشا منا
…
وطورًا ينشر الدمع جمانا
وانثيال الذكريات الممرع الربع
…
اهتزازًا يحتوي منا الكيانا
إيه يا بيداء دنيانا قطعناك
…
ولم نسرج -على البعد- حصانًا
لم تكن غير ثوابه ركض الدهر
…
بنا فيها
…
فلم ندرك خطانا1
ومظاهر التحرر في التجديد هنا ظاهرة، على الرغم من أنَّ الشاعر التقى هنا بمحبوبته، فكان ينبغي أن يترك هذا اللقاء في نفسه ما يطفئ نار الجوي، ويروي ظمأ الحب، ويروح نسائم الشوق، فلا يبقي في النفس لوعة وأسى، ولا يترك في الوجدان لهيبًا عاصفًا، فيطوي آلام الماضي، ويبدد سهد الليالي، وتشرق الحياة الباسمة، ويتعطَّر الوجود بالأمل العذب، وينسج منه حبال الوصل، وأسباب الأماني، التي تغيب به في جنات المحبين الوارفة الظلال، فتتفتح فيها الأزهار، وتفوح أجواؤها بالعطور، وتتجاوب مع الأنغام الشجية، التي تعزفها مناقير الطيور، لترفرف بالسعادة والحب والأمل في جنات الخلد.
لكن الشاعر بدد جمال هذا اللقاء بحزنه المرير، وآلامه المريرة، فهو ينكر عليها أن الحزن قد ولَّى وذهب، ولا يرى أن السعد قد لفهما بالأفق، وأصبحت هي كذلك باطلًا وخداعًا، فذهبت الحقيقة، وتبدد الأمن، وعلى الرغم من اللقاء فلا زالت بعيدة عنه، يكتوي بآلام البعد والحرمان، التي ثوت في صدره، واستبدت بعقله وقلبه، وألهبت مضجعه، وفجرت الدموع كحبات الفضة مما يدل على أنَّ شعر الوجدان حتى مع الوصل، فالشاعر يظل في حرمانه وشكواه وبث أشجانه وآلامه، وهذا ما يمتاز به هذا الغرض الأدبي.
يقول بهكلي في قصيدة "خلود الحب":
أتبقى أماني لقانا نثارًا
…
وليل التباعد يتلو النهارا
كأن مقاديرنا أن نرى
…
مآسينا تحتوينا جهارًا
ولكن لماذا الهروب ولما
…
ننل بعد شيئا يزيل الأوارا
أليس الهروب انهزامًا وفينا
…
إطاقة جعل البقاء انتصارا
أما قلت أنك شوق عظيم
…
إلى فلا تقدرين اصطبارا
أما قلت إني حياتك؟ يا من
…
نبذت حياتك عنك جهارا
لماذا؟ وأرفع صوتي لماذا؟
…
ولو عاد رجع صداه انكسارا
وإنك حلمي رواءً ويبسا
…
وإني أحبك ماء ونارا1
1 طيفان.... على نقطة الصفر: 62/ 64، رغم لقياك: خطأ عامي في لغتنا الفصيحة، والفصيح أن تقول: على الرغم من لقياك، ولفظ على الرغم ذاته ليس لفظًا شعريًّا؛ لأن للشعر ألفاظه التي لا توحي بالتعليل والتدليل.
1 طيفان
…
على نقطة الصفر: 105/ 106.
ثالثًا: الشعر الإسلامي
خلا ديوانه الأول "الأرض والحب" من الشعر الإسلامي، بينما ضم ديوانه الثاني "طيفان
…
على نقطة الصفر" هذا الغرض، بل عنوان الديوان إنما هو عنوان لموضوع قصيدة إسلامية، والشعر الإسلامي عند بهكلي يشمل قصيدة "غسيل الملائكة ص14، 25"، وقصيدة "عبيرات على خدّ الدعوة الإسلامية ص33، 42"، وقصيدة "أنشودة الفارس القادم ص26، 32"، وقصيدة "طيفان ص43، 48"، وقصيدة "من خالد بن الوليد ص93، 97"، وقصيدة "إلى سيد قطب ص98، 102"، "وخماسية ص121".
والقصة الشعرية "غسيل الملائكة" تقوم على حدث قصصي يبدأ حينما أذن المنادي للجهاد في سبيل الله في غزوة أحد، ويلبي النداء الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر ليلة دخوله على عروسه، ويخرج إلى الجهاد وهو جنب لم يغتسل، ثم يقتله الأسود بن شعوب، وحنظلة يحاول قتل أبي سفيان، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرى الملائكة وهي تغلسه، فأرسل إلى أهله فأخبروه بخبره، يقول الشاعر في هذه الأقصوصة الشعرية:
ليلة والنجوم تستغفر الليل
…
وما حاز قدرة الغفران
وعواء الرياح يخفت حينًا
…
ثم يعلو كآهة الولهان
وهنا في الخباء ينتجع الطهر
…
فيجني ثماره عرسان
وجذوع النخل راهنت الليل
…
وللفجر شدة الغفران
لم تكن غير لحظة فإذا الليل
…
طريد الرحيل في إذعان
والندى يغسل الأزاهير
…
والأطيار تشدو برائع الألحان
وصريخ علا بأن أناسًا
…
داهموا ربع الندى الفينان
صرخة أعنقت تخب فتجلو
…
صدأ الاندهاش في الآذان
كأن رجع الصريخ جلجلة الإيمان
…
يحمي مرابع الإيمان
ما ترى غير لابس درع حرب
…
أو مغد السير فوق حصان
وازدهت حرة المدينة جندًا
…
ورسولًا ومبدءًا قرآني
رقص الفجر رقصة فتغنت
…
أحد
…
والتقى الجمعان
وانبرى حنظل يقارع ذاك
…
القرم في قوة وأيد جنان
ضربة إثر ضربة.. أشف سؤلي
…
كيف مرديك يا أبا سفيان
كنت في الأسفل الحضيض وقد
…
كان ملاقيك في أعز مكان
هم بالوأد حنظل
…
وتجلت
…
قسوة منه أثبتتها اليدان
"أنجدوني" ترددت وأبو سفيان
…
من موته على إيقان
واجتلى الفارسين "شدادًا" فارتا
…
عت خطاه كما فؤاد الجبان
واستطالت وراء حنظل مثل شلا،
…
بطعن لكالح الفعل جاني
طعنة
…
والدم الزكي تسابيح
…
تدق السماء في رضوان
ولعيني حنظل ومضات
…
أطفأتها من الردي ريحان
أن نعمى وهبت يا ابن شعوب
…
لابن حرب مجندل الفرسان؟
ساعة وانتهى العراك وأصغى
…
قومه للرسول والكل حان
قال: إن الملائك حفت
…
بقتيل وأمسكت بأواني
إنها تغسل القتيل.. وما كان
…
سوى حنظل فتى الفتيان
اسألوا زوجه وجلجل في
…
القوم جواب سما عن الأذهان
أيها الفارس النبيل ولم تث
…
نك عن عزمك الأكيد الثواني
إن تكن أمس قد خلت بعرس
…
فبذا اليوم دخلة للجنان
نم قريرًا.. فأنت لازلت رمز
…
الاحتراق الرضي للإنسان
إيه يا حنظل الفريد وكم قد
…
عاش فينا أبوك طول الزمان
هو باق.. يحب
…
ينجب لكن
…
لم يطلق بعد نجل حنظل ثان1
الغرض من هذه الأقصوصة الشعرية موضوعي إسلامي، ومثل هذا الاتجاه لا يجيده شعراء التحرر في التجديد، الذين يعبرون عن ذاتهم، ويفتشون عن أنفسهم، وهم قابعون في برجهم العاجي.
لذلك لم ينصهر الشاعر هنا في بوتقة المعركة، ليصورها بحرارة وصدق عاطفة، فاضطربت التجربة الشعورية عنده، ولم تكن عميقة تستقصي جزئيات الأحداث بدقة وواقعية، واضطرَّ الشاعر أن ينصرف عن الأحداث إلى الاهتمام بتصوير الطبيعة، فتستجيب مظاهرها مع موضوع القصة، فالنجوم تستغفر الليل، ولا أدري ماذا يقصد الشاعر من هذا الاستغفار؟ والرياح تعوي، وثمار الخباء مجتني العروسين، وجذوع النخل راهنت الليل، ولا أدري لهذا معنى؟ والفجر يشتد في عنفه، والليل طريد الرحيل، لا يتناسب مع الندى يغسل الأزاهير، ولا مع الأطيار التي تشدو بالألحان، والفجر يرقص، وأحد تتغنَّى بتلاحم الجمعان، وغيرها من مظاهر الطبيعة، التي لم يحسن الشاعر تطويعها، واستخدامها بما يتناسب مع الوقار في الموضوع، وهيبة الموقف، فلا يصح للفجر أن يرقص، ولا للطير أن تشدو وتتغنى حين التقى الجمعان.
1 طيفان
…
على نقطة الصفر: 14/ 25.
ومما يدل أيضًا على اضطراب التجربة، وقلق التصوير الأدبي، مثل اضطراب كلمة "كما" وعاميتها، فليست لفظًا شعريًّا؛ لأن للشعر أدواته الخاصة، وذلك في قوله:"وارتاعت خطاه كما فؤاد الجبان" مما أحدث قلقًا في موسيقى البيت وشذاجة في التصوير الأدبي.
ومثل صورة تسابيح الدم الزكي تدق السماء، إنها تتفتح لها أبواب السماء، ولا تدقها، لما فيه من معنى العنف والقهر.
ومثل صورة "أرى الملائك حفّت بقتيل، وصورة "إنها تغسل القتيل"، وما هو بقتيل؟! بل هو شهيد وأي شهيد، والوزن واحد لم يضطرب.
وكذلك صورة: "نم قريرًا
…
فأنت ما زلت رمز الاحتراق الرضي" تناقض في التصوير الأدبي، كيف ينام قرير العين وهو رمز الاحتراق الرضي.
وفي كل هذا الدلالة على أن الشاعر متحرر في تجديده من القيود الموضوعية، التي تتناسب مع أحداث القصة الشعرية فيعتسف طريقًا آخر يعبر فيه عن ذاته لا عن موضوع القصة وأحداثها، ألا وهو الهروب إلى الطبيعة، بدون مبالاة لواقعية الأحداث ونموها، ثم التحرر أيضًا من الواقعية الموضوعية إلى الانطلاق في ذات الشاعر، والتغني بها من خلال مظاهر الطبيعة، مما أوقع الشاعر في اضطراب التجربة الشعورية وقلق التصوير لها والتناقض بين أجزائها، وعدم انسجامها مع الغرض من القصيدة.
والشاعر نفسه يعترف بهذه الحقيقة، فيقول عن شعره في ديوانه "طيفان على نقطة الصفر": نلاحظ أن التناول لم يكن منصبًّا على سرد التفاصيل الحديثة، بقدر ما يصف الأثر النفسي أو الانعكاسات الشرطية، كما يسميها بذلك تلاميذ الغزالي، وبافلوف
…
إنني لا أميل كثيرًا إلى الموضوعية في الشعر، فكلما كان الشعر موضوعيًّا كان بسيطًا، وكلما كان بسيطًا فقد هيبته وفاعليته كداعية إلى التخيل والتفكير1.
وليس هذا القول صحيحًا إلَّا من جانب واحد فقط، وهو أن الشاعر متحرر ينشد ذاته فقط، ولا يحسن تصوير الأحداث في الشعر الموضوعي، ومن ينكر شاعرية شوقي في مسرحياته، وروعة التصوير فيها2، فالتحرر عند بهكلي جعله لا يجيد تصوير شعر الموضوعات، والتي تقوم على نمو الأحداث وسحر تصويرها.
والذي يؤكد وجهة نظري هذه، هو ما أحس به بهكلي نفسه حينما حاول أن يأخذ
1 طيفان على نقطة الصفر: المقدمة.
2 مثل مسريحة مجنون ليلى، على بك الكبير، العباسة وغيرها.
اتجاهًا جديدًا في ديوانه الثاني، وهو تعدد الموضوعات، والخروج من إطار الذاتية التي سيطرت على ديوانه الأول، وهذا التحول كان بناء على رغبة القراء كما يقول، وأعلن عن خوفه من الاتجاه الجديد، وتمنَّى ألا تخل الموضوعية الجديدة بالقيمة الفنية لمحتوى القصيدة، ولهذا الرجاء جاء بقصيدتين طويلتين، وهي قصيدة "غسيل الملائكة"، وقصيدة "ذهول الحس" يقول بهكلي:
"إنني أعلم جيدًا أن القراء لا يستوون من حيث الميول والنزعات، ولا من حيث المنحى الفكري، لذا آثرت تنويع موضوعات هذه المجموعة بشكل أرجو ألَّا يكون مخلًّا بالقيمة الفنية لمحتواها، ومع أنني لا أشك إطلاقًا في الإيجاز الذي اعتمدته هنا، وفيما مضى، وسأعتمده مستقبلًا بمشيئة الله، مع ذلك فقد وردت بعض القصائد الطوال كقصيدة "غسيل الملائكة" وقصيدة "ذهول الحس "مثلًا
…
"1.
والحديث عن الموضوعية في شعر بهكلي لا يغض من شاعريته، وخاصة في الاتجاه الذي يجيده وهو الشعر الذاتي الغنائي، الذي يصور الأثر النفسي عنده، وهو بارع فيه وفي تصويره، قوي في إبداعه، حتى في الشعر الإسلامي، الذي يعد دون الأغراض الأخرى في الإبداع والتصوير.
فالشاعر حين يصور أثر الشهيد "سيد قطب" الشخصية الإسلامية المعطاءة في نفسه، نجد شعرًا رائعًا قويًّا يدل على شخصية الشاعر وإبداعه الفني، يقول في قصيدته "إلى سيد قطب":
برغم الزحام
…
برغم الظما
…
يلو كان ذاك المدى المبهما
برغم الليالي حبالى عشى
…
برغم الصبيحات سكرى عمى
برغم الذي جاء أو لم يجئ
…
تمردت يا عاصفًا ملهمًا
فلا شيء واجهت إلّا ثوى
…
كسيحًا.. وحطمت تلك الدمى
عبرت زمان القصور إلى
…
زمان بدرع الوصول احتمى
وألغيت كل العذاب الذي
…
قضى أمره زمنًا مبرمًا
ولم تك يا سيدي ساحرًا
…
ولا ذا هوى بنجوم السما
ولكن ظللت شجاعًا بلا
…
مراء.. وأعلنتها مسلمًا
وقال لك الله كن بذرة
…
تفتح يقينا وأثمر دما
وراحت خطاك بدرب الهدى
…
تشع سنا يهتك المظلما
وحققت دعوته لترى
…
على طرقات الهدى معلما
1 طيفان
…
على نقطة الصفر: المقدمة ص4.
وكم من جهول رديء بغى
…
لك الخطب والحادث المؤلما
تغشت على ناظريه الرؤى
…
فلم ير ذاك السنا الأعظما
ولم يجتل النور من مسلم
…
وأنَّ له النصر إمَّا رمى
إذا مت يا سيدي معدمًا
…
فما مت يا سيدي معدمًا
أتيتك يا سيدي لا تظن
…
دمعي عليك إذا ما هما
لعمرك لم أبك يومًا على
…
شهيد قلى الأرض نحو السما
ولكن حزني على أمة
…
ملا عزها الكون واستلما
وعاث البغاث بأحسابها
…
وقد طاولت - سيدي- الأنجما
إذا الصقر عن أيكة لم يذد
…
رأيت النور تجوس الحمى
وإن أنجد الذئب يومًا وما
…
تأذى.. فليث الشرى اتهما
أتيتك يا سيدي حيني
…
معي وردة لم تزل بزعما
حنانيك ما كنت إلا كما
…
ذوت بسمة لم تجد مبسما1
رابعًا: الرثاء
لا يوجد هذا الغرض إلا في ديوانه الثاني "طيفان
…
على نقطة الصفر" ويضم قصيدة "ذهول الحس ص73، 82" في اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز -طيب الله ثراه، أنشدها في 13/ 5/ 1395هـ بالرياض، وقصيدة "حديث العياء ص82، 85" في رثاء رفيق الشاعر عبد العزيز أحمد هيجان في 1/ 4/ 1395هـ جيزان، وقصيدة "البريء ص86، 90"، مهداة إلى روح الشيخ علي بن يحيى عباس رئيس بلدية أبي عريش سابقًا.
يقول بهكلي في "ذهول الحس":
مثلما تهصر اليد الغصن هصرًا
…
ووريقاته تساقط تترى
كما بعثرت حبيبات رمل
…
ريح صيف تحول الحسن نكرا
مثل هذا يجيئنا القدر الصارم
…
يخطو فما ندبر حذرًا
إن هربنا وكيف ذاك لم نسط
…
طع هروبا فنسلم الأمر قسرًا
إنما خطوة القضا ألف شبر
…
إن تكن خطوة الخلائق شبرًا
هي أقدارنا سوائم في مرتع
…
أعمارنا تذل وتضرى
لم نأس إذا تعسفها الجوع
…
فجاءت تجذ شوكا وزهرا
1 طيفان
…
على نقطة الصفر: 98/ 102.
وإذا ما القضاء حل.. محال
…
رده فالقضاء أمضى وأجرى
إيه يا لهفة المحبين زيدي
…
وأجأري بالدعاء بالخير جأرًا
فالذي شيد المحبة صرحًا
…
في الحنايا.. وبلور السعد بشرى
قد قضى بينما الليالي ابتهال
…
ببقاه.. وغادة الحلم سكرى
والفيافي حدائق تتغانى
…
ووجوه الأقوام تطفح بشرًا
بينما الحلم سارب في رؤانا
…
يتهادى على المشاعر نهرًا
وإذا بالصروف تقطع ذاك
…
الحلم كي تصنع النهاية غدرًا
ورمته الرعناء -آه- فأصمت
…
سهمها.. والذهول بالحس أزرى
وإن الموجة العظيمة تنقض
…
شتاتا قضته مدا وجزرًا
والحبيب القريب منا مسجي
…
برداء
…
وقد قضى الله أمرًا
ويكاد التكذيب يثبت لولا
…
أن رأى العينين أصدق خبرًا
إنه مات لم نعاند.. ولكن
…
عاند الحب
…
رب رحماك تترى
كان في كل خافق أملًا يا
…
رب فاغفر له
…
وأجز له أجرًا
وأعني فإني لست أدري
…
من أعزي فيمن فقدناه طرًا
أأعزي المحراب وهو انتحاب
…
حين يضحي ضحى.. ويصبح فجرًا
أم أعزي المنى وكانت تغني
…
لحنها الراحل المجلل فخرًا
حرت هل أبعث العزاء إلى مكة
…
والقدس تسطر الدمع سطرًا
والبراءات هل أعزي وعين
…
النبل والمجد يا إلهي عبرى
هل أعزي الشآم والنيل باك
…
وعيون الفرات بالدمع سكرى
ويصبح البكاء في مسمعي من
…
ربع عمان
…
أم منازل بصرى
ولصنعاء آهة لو وعتها
…
أذني
…
أصبحت تجلل وقرا
وقف الحزن كاتبًا بيد الغدر
…
على أوجه المحبين سفرًا
والمآفي سفائن في بحور الوجد
…
والوجد ينثر الدمع نثرًا
إيه يا لهفة المحبين إني
…
إن تزايدت استمحيك عذرًا
كلفيني البكاء والألم المغدق
…
إني بندب حبي أحرى
سأصوغ الليالي عقدًا على صدر
…
حنيني
…
وسوف أوليك شكرًا
فالمصاب الجليل هتك أستار
…
التأسي.. فلم يذر فيه سترًا
حملني الشجى ولمض المعاناة
…
وأوفى إليَّ فجرًا وعصرًا
غير أني
…
وإن تدجت سمائي
…
لن أظل الزمان أطلب بدرًا
فعلى أفقي الرحيق بدور
…
تتبدى فتصنع النور صبرًا
فالنفوس الظماء للعز تروي
…
من عيون تظل تزخر زخرا
إننا صفحة إذا تمَّ سطر
…
كتب المجد في الصحيفة سطرا
وإذا فل صارم من قرع الخطب
…
لم تفتقد صوارم أخرى
نحن من أمة تخيرها الله
…
فأضحت بالله أعظم قدرًا
ستظل الزمان تعلو وتعلو
…
وتصوغ الجهاد حقًّا ونصرًا
وإذا ما اقتطفت يا دهر ريحانة
…
آمالنا
…
فلم نأت إصرًا
إن في الأفق نفحة من شذاها
…
أرجا ينجلي بهاء ونشرًا
قد تموت الأشياء تفنى ولكن
…
يخلد الحق
…
فهو أعمق جذرًا1
كان لا بد من ذكر القصيدة كلها لأوضِّح أمرًا لا بد منه هنا، وهو أنني جعلت بعض القصائد في رثاء الفيصل من الشعر الإسلامي، ولم يدخل تحت باب الرثاء؛ لأنها انصرفت عن تصوير المرثي إلى تصوير ما قام به من حضارات إسلامية، وتثبيت لدعائم الشريعة ثم مواقفه العربية الإسلامية للدفاع عن الإسلام والعروبة وغيره، مما جعل مثل هذه القصائد الإسلامية العربية لا تدخل في باب الرثاء.
لكن هذه القصيدة "ذهول الحس" ليس بها من المرشحات السابقة التي تجعلها من الشعر الإسلامي إلّا في القليل من أبياتها، فهي أدخل في باب الرثاء، ولا ينقص ذلك من قيمتها الأدبية، فالرثاء ما زال غرضًا أدبيًّا نبيلًا وشريفًا وعدم دخولها في الشعر الإسلامي وانتسابها إلى غرض الرثاء يرجع لأسباب؛ أهمها: أنَّ الشاعر يرجع إلى ذاته، ويتمدد في وجدانه، ويهرب إلى الطبيعة هيامًا بها، ولا يخضع لموضوع في الشعر حتى يتقيد به، بل يسير على مذهبه من التحرر في التجديد، وهكذا يمضي الشاعر من أول بيت في القصيدة إلى آخر بيت فيها.
فالشاعر بهكلي يعبر عن مذهبه الأدبي فيها؛ لأنه لا يصور آثار الفيصل -طيب الله ثراه- في الأمة الإسلامية والعالم العربي، وما شيده من حضارة، وما حثَّ عليه من التمسك بقيم الإسلام وتشريعه، ولم يوضح مواقفه الشجاعة مع الأمة ضد أعداء العربية والإسلام.
لكن الشاعر صور أثر الصدمة العنيفة على نفسه التي رنَّت في أذنيه تحمل نبأ الاستشهاد، فأخذه "ذهول الحس"، وصرفه عن وصف الأمجاد إلى تصوير الآثار النفسية للنبأ الذي هزَّ وجدانه من أعماقه، وهزَّ وجدان العالم الإسلامي من حوله؛ بحيث أبدى الجميع آثار هذه الهزة العنيفة على النفس، فيصور مدى الأسى العميق الذي أصابها، ويصور اليد الطائشة التي أججت الأسى، ويصور القدر الذي فاجأ النفس بما لا ترغب مع الإيمان به كل الإيمان، في عشرين بيتًا.
1 طيفان
…
على نقطة الصفر: 73/ 82.
ثم يصوّر العزاء بعد ذلك، وهو أثر نفسي أيضًا في ستة عشر بيتًا، وفي الأبيات الثمانية الأخيرة، يصوّر أمجاد المرثي، وغاية الأمر عنده في هذا، أنَّ الفيصل صفحة من التاريخ سطرها المجد، فهو سيف صارم، والحق خالد بعد فنائه، وتلك آثار نفسية أيضًا، وليست تصويرًا للأمجاد والبطولات التي حفظها التاريخ لهذا الزعيم الإسلامي العربي الكبير.
لذلك كان الشاعر دقيقًا وصادقًا، حينما جعل عنوان قصيدته "ذهول الحس"، فكانت صدى لتصوير أحاسيسه ومشاعره، وتجسيدًا لأثر الحادث الأليم على النفس، الذي فجر في نفسه تلك التجربة الشعورية الحزينة المؤلمة فجعلت النفس تنزف دمًا، وتتلظَّى ألمًا، وتشتكي أمرها، وهي مفزوعة حائرة تائهة لولا الإيمان بالقدر الذي يثبتها على العقيدة السمحاء.
فالقصيدة مشدودة بمميزاتها السابقة إلى الخصائص الفنية لمدرسة الشاعر، وهي التحرر في التجديد، التي يركّب فيها الشاعر أجنحة الألم والحزن والشكوى والانطواء داخل الذات والنفس، متحررًا عمَّا هو موضوعي؛ لأنه خارج عن ذاته وأعماق نفسه وأغوار وجدانه، وبهذا يكون الشاعر صادقًا مع مذهبه الأدبي، ومخلص له كل الإخلاص.
لهذه الأسباب أدخلت قصيدته "ذهول الحس" في باب الرثاء، لا في الشعر الإسلامي، على العكس مما صنعته في مواطن أخرى، حيث انضم إلى الشعر الإسلامي، لما يقوم عليه من موضوعية لا ذاتية، واهتمام بتصوير آثار المرثي وأمجاده، لا آثاره في نفسه فقط،، وبذلك يكون الرثاء قد أخذ طورًا جديدًا لم يكن له من قبل في الشعر الحديث، ولذلك فضلت أن يدخل في الشعر الإسلامي، فهو إليه أقرب من غرض الرثاء الموروث.
التصوير الشعري:
بين الوجدان الذاتي والالتزام الموضوعي:
بهكلي شاعر من مدرسة التحرر في التجديد، وخاصة في ديوانه الأول "الأرض والحب"، تغنَّى الشاعر فيه بمشاعره الذاتية، وأحاسيسه الفردية، ووجدانه النفسي، ولا تجد له في هذا الديوان شعرًا ملتزمًا غالبًا، يعالج به موضوعات في الواقع، وإنما كان يعالج خلجات قلبه، وحمم عواطفه، وثورة وجدانه، لكن على أنه فرد من أفراد المجتمع، فيعالج المجتمع من خلال ذاته فقط، ولا يعالجه من خارج ذاته، بلا انفصال عنه؛ لأنه فرد منه ينبغي أن ينظر إليه من داخل نفسه، وأن يهتم به من خلال ذاته ووجدانه أولًا، وذلك في شعره الوجداني والتأملي الذي اشتمل عليه الديوان.
وشعر الطبيعة كذلك كان يتناوله الشاعر هروبًا من واقعه ليناجي مظاهرها، فتشاركه عواطفه ومشاعره، فهو يصور نفسه من خلال مظاهر الطبيعة؛ لأنها رمز يعبر عن وجدانه، ومسرح لتأملاته، ومعرض للتعرف على أسرار الجمال التي ينشدها في مجاليها، وبسطت القول في ذلك في أغراضه الأدبية.
أما الديوان الثاني "طيفان.. على نقطة الصفر" فقد تنوعت فيه الأغراض والموضوعات، فاشتمل على أغراض موضوعية، وخاصة في شعره الإسلامي، ولكنَّه مع ذلك غلب عليه التحرر في شعره من الموضوعية والالتزام، وأوضحت ذلك حين تناولت الشعر الإسلامي غرضًا من أغراض شعره، حين صور الشاعر أثر الموضوعات في نفسه، لا ذات الموضوع بأحداثه، وقد أقر الشاعر بذلك على نفسه ومنهجه في الشعر كما قدمنا.
والشأن في الموضوعات الإسلامية التي تناولها الديوان الثاني أن تعتمد على الالتزام والتصوير الواقعي للأحداث كما وقعت في التاريخ، ولكن تحرر الشاعر في التجديد جعله لا يعبأ بتطور الأحداث ونموها، وإنما كان يصور أثر هذه الأحداث في نفسه، ودرجة استجابة العاطفة والمشاعر لهذه الأحداث، وضربت الأمثلة على ذلك من قصيدته "غسيل الملائكة" وغيرها.
الوحدة الفنية في شعره:
فالوحدة الفنية في شعره تكاد لا تخلو منها قصيدة أو مقطوعة؛ حيث تقوم على غرض واحد، وموضوع واحد، يشتمل على أفكار تنمو من خلال الموضوع، وتدور في فلكه في ترابط وتلاحم بين الألفاظ والأساليب والصور والأخيلة، والإيقاع والموسيقي حتى نهاية القصيدة، وإذا رجعنا إلى قصيدة مما سبق، أو مما سيأتي، ستجد هذه الوحدة تسري بين جوانبها المختلفة.
التشخيص في التصوير الشعري:
أما التشخيص عند بهكلي فيرجع الاهتمام به إلى خياله الواسع العميق، الذي يبعث الحياة في الجمادات والأرواح في المعاني والمجردات، فتتعاطف الكائنات معه، وتتردَّد أصداء أحاسيسه ومشاعره بين أعماقها، فيحبها وتحبه، ويعشقها وتعشقه، ويشتاق إليها وتشتاق إليه، يقول بهكلي في "البحر يلد أبها":
صورت وأضحى هائمًا مغرمًا قلبي
…
وتهت ولي عذر فإدلالها يصبي
كأني مجذوب لها وهي جاذب
…
لحبل ودادي حيث قد أحكمت جذبي
إلى قوله:
حبيتك حبًّا فوق جهدي وطاقتي
…
وحبك يا أبها تغلغل في القلب
أيا ذوب إحساس رقيق ويا مدي
…
خيال وسيع الأفق في عالم رحب
إذا كان في مغنى "اليمانية" انتمى
…
هواي فقد ذقت الصبابة في "النصب"
وتحت ظلال الأيك في "السودة" انجلى
…
لي الحسن مشدودًا على ربعها الخصب
وأيدي النسيم الغض تهصر غادة
…
من العرعر المزدان ذي الفتن الرطب
على حين صداح البلابل قائم
…
يصوغ الرؤى بترنيمة حلوة تسبي
وينساب رقراقًا نمير مدله
…
كأن أساه من فراق ابنه السحب
وكم في شفا "القرعاء" سرحت ناظري
…
ليرجع مبهورًا من المنظر العذب
كأن لكف السحر تمريرة على
…
عيون المياه الجاريات على الترب
تلمست أبغي دارة الحسن في الدنا
…
وساءلت عن مغني العنادل في دربي
وطفت أرود المرتع الخصب للهوى
…
لألقاه في أبها ابنة السحر والحب1
1 الأرض
…
والحب: 7/ 9.
فأبها حبيبته التي أحبها وأحبته، وفي كل حي من أحيائها تجاوبت مع عواطفه، وفي كل مغنى من مغانيها استجابت مع مشاعره، فحبها تغلغل في القلب، حتى تجاوز الجهد والطاقة، فانتسب الشاعر إلى مغنى "اليمانية" وكثيرًا ما ترددت عليها لأرى بنفسي تلك المغاني الجميلة الرائعة، في حضن أعلى جبل وسط مدينة أبها، في قمته محطة "تليفزيون" المنطقة الجنوبية.
وكما ذاق الشاعر مرارة الصبابة في حي "النصب"، الذي كنت أطل عليه بنفسي من شرفة مسكني "عمارة الراجحي" صباح مساء، وأتملى سحر الجمال في جباله، التي تحتضن بساتين أبها وأشجارها ومزارعها في واد تتدفق إليه المياه الغزيرة في فصل الشتاء وفصل الربيع وجزء من الصيف.
أما ظلال الأيك في غابات "السودة" الساحرة، فتميس في سحر خلاب وحسن باهر، متربعة على عرش ربع خصيب، وهي أعلى منطقة في أبها، حيث ترتفع عن سطح المدينة ثلاثة آلاف قدم، وتتعانق غابات العرعر الكثيفة، التي تشدو بأغاريد البلابل خلال تربة خصبة، وصخور متنوعة، وجبال جدد سود وبيض وحمر مختلف ألوانه، تنعكس عليها أشعة الشمس الساطعة الذهبية.
وأما المطر إذا سحَّ لا يرحم أحدًا، فتتفتح السماء بالماء كأفواه القرب "كما يصف ذلك أحد المستشرقين"، وكنت أتردد عليها من حين لآخر، لأتلو آيات الله التي نظمتها طبيعة ساحرة في أرض خصبة رابية وسط جبال شاهقة، وصحراء تضنّ السماء على أهلها بالماء القليل، هذا هو موطن الغرابة والدهشة التي كانت تستبدّ بقلبي، وتجيش بخواطري، وتشدني إلى هناك من حين لآخر.
وأما القرعاء فقد بهرت نظرة الشاعر، حين تجري العيون على تربتها الخصبة، فتتسلل المياه من بين الأشجار الضخمة، التي كنت أجنح إليها كثيرًا، فأتفيأ ظلالها من وقت لآخر.
فاليمانية، والنصب، والسودة، والقرعاء، كلها أماكن ساحرة في أبها، التي عاش تجربتها الشاعر، وتجاوبت عاطفته ومشاعره معها، وبين ربوعها، وتلك خصائص التحرر عند الشاعر، الذي أحب الطبيعة، وتردد صدى الوجدان من خلالها.
ولاهتمام الشاعر بالطبيعة ومعالمها في الجنوب، تراه في قصائده كثيرًا، يقول في "يا منتدى الذكريات":
ما عرفت الحنين حتى تباعدت
…
عن الأثل في شفا القرعاء
ما شكوت الخواء حتى تناديت
…
فلم أدن من ربا حجلاء
ما تأسيت قبل بعدي عن
…
نعمان مغني الإثارة الخضراء
كنت والحب في مغانيك نحيا
…
أملًا راقيًا وحلو رجاء
وأماسينا لقاءات نجوى
…
نثرت من يمينك المعطاء1
فالقرعاء ونعمان وحجلا من مفاتن عسير، وحجلاء كانت ولا تزال بها كلية التربية فرع جامعة الملك سعود "الرياض سابقًا"، والتي أعمل بها معارًا من جامعة الأزهر، وهي على بعد خمسة عشر كيلو مترًا من أبها التي أسكن فيها، والأماكن التي عاشها الشاعر وعشقها وهام بها يلحّ على ذكرها في قصائد كثيرة يقول في "الأرض والحب":
أسأل عنك الليل والأنجم الزهرا
…
لعل لديها عنك يا فتنتي خبرا
ولولا وقائي ما تلمضت صابرًا
…
بنار بعادي عن مرابعك الخضرا
أنا فيك يا جازان فلتزهر الرؤى
…
بعيني غريب هام ربعه دهرا
أنا فيك في "فيفا" نناجي جنانها
…
وأخلق إعجابي بما احتضنت شعرا
وأنساب في أنهار "بيش" مغنيًا
…
منازلها الفيحاء أو زرعها النضرا
وتمنحني "صبيا ولا زلت في الصبا
…
برود صبا تستأثر اللب والفكرا
وأغرق روحي في هوى "ضمد التي
…
رعتني عمرًا بات من أعذب الذكرى
بروحي تلك الأرض من أثلها إلى
…
منابت "سعيد" قد انتشرت عطرا
على أنني ضيعت عمري في "أبي"
…
عريش" فإن خرفت يا جنتي عذرا
كأن لياليها سواحر بابل
…
وما ضمنت تلك الليالي غدت سحرا
ولي في ديار الأريحية والندى
…
بسامطة قلب تعانقه البشرى
كما عانقت أذرع بحرها
…
وعانقت التاريخ والمجد والفكرا2
فهذه الأماكن التي التهبت في وجدان الشاعر، وهي مدينة جازان غربي المنطقة الجنوبية تعانق بذراعيها البحر الأحمر، ولها تاريخ حافل بالمجد والعلم والأدب والحضارة، وجبال "فيفا" جميلة المناظر عليلة الهواء، جيدة الثمار، تقع في شرقي المنطقة، ومدينة "بيش" أكبر أودية المنطقة الزراعية، "وصبيا" مدينة تاريخية، تعد مركزًا سكانيًّا وتجاريًّا، من أهم مدن المنطقة الجنوبية، وقرية "ضمد" من أكبر القرى، وكذلك "أبو عريش" مدينة في الوسط، ومدينة "سامطة" في الجنوب من عسير.
1 الأرض
…
والحب: ص20.
2 المرجع السابق: 33/ 35.
الخيال والصور الأدبية:
وتضطره اللهجة الجنوبية في الأسلوب من حين لآخر أن يعبِّر بما يدور على اللسان العربي الفصيح فيها من إبدال الظاء ضادًا على عاداتهم منذ القدم، فيقولون:"تلمضت"، واللهجة القرشية تنطقها "تلمظت" بالظاء، والمعنى واحد، وتردد ذلك في شعر الهيكل فيقول:
ولولا وفائي ما تلمضت صابرًا1
ويقول في موطن آخر:
وتلمضت على نار وقد جاءت رسالة2
ومن روائع صور الخيال القوية الحية ما جاء في مقطوعته "بوح" يقول:
أبها.. ويبسم كل محروب
…
أبها.. ويفرح كل منكوب
أبها.. وكل الكون أبعدني
…
وجذبتني فرأيت تقريبي
وحضنتني وأنا الشريد فلم
…
أحزن لمأساتي وتعذيبي
إني انتهيت إلى حنانك يا
…
شجني وسعدي وتأويبي
من أين
…
لا أدري سوى سبب
…
لا زال يجذبني ويغري بي3
وكذلك نجد الخيال الخصب، والتصوير البديع الرائع في صور كثيرة، مثل ما جاء في قصيدة "سوق":
يا شادنا وسرار القلب مرتعه
…
والحس إما غفت عيناه مضجعه
وفي الحشاء منه نار بات يوقدها
…
هجرانه وصدود ظل يصنعه
آهات صب وأنات يرددها
…
ونحو عمق الشكاة الحزن يدفعه
تعنو إليه بتاريخ الجوى سحرًا
…
وتحتويه مع الآصال أدمعه
متيم ليس يدري كيف حل به
…
خطب الغرام فأضحى الهم يتبعه
وليسيسامر الليل والأفلاك مكتئبًا
…
أم أن ترديده آه الحزن ينفعه
يدري أذرف الدمع يسعفه
…
لعلها من عذاب السهد تنزعه4
1 الأرض.. والحب: 33.
2 طيفان.. على نقطة الصفر: 126.
3 الأرض.. والحب: 22.
4 الأرض.. والحب: 39/ 41.
صور جزئية بديعة رائعة، جاد بها خيال الشاعر، وهو يحلق في حزنه وآهاته وأناته، فالهجران يوقد لهيبًا في أحشائه، وهو في صدود مستمر يردد الأنات، وتدفعه الأحزان المريرة إلى الشكوى والتساؤل، وتنتابه بتاريخ الجوى، وحرارة الدموع في الآصال وفي الأسحار، فهو صريع لا يدري من صرعه، هل الغرام؟ أم الهم؟ كما لا يدري هل الدموع المنهمرة هي التي تطفئ نار الشوق، أم ترديد الآهات والأنات، ويظل كذلك يساهر الليل مكتئبًا، ويرعى النجوم مسامرًا، لعلها تشغله عما يعانيه من سهد، وما يتجرعه من مرارة الصبابة.
ومن هذه الصور الرائعة ما جاء في قصيدة "عذابان":
أنت أغلى في فؤادي من دعاء مستجاب
أنت يا ملهمتي أحلى من الشهد المذاب
أدركيني فأنا أضنى وفاء لا انتحاب
وبلا أجنحة حلقت لكن لا أهاب
فالهوى ينساب من نبعك أحلى انسياب
اتركيه كي يروي ظمئي من ذي الشراب
وحنين داخل أضحى وصبري في احتراب
لست أدري أي هذين قد استولى الركاب
فبقي في القلب يحيا في ذهاب وإياب
أهو الصبر أم الشوق وفي كل عذاب
تبت من ذنبي ولكن منك مالي متاب1
والخيال الرائع يظهر في قوله: "هي أغلى من الدعاء المستجاب"، وهي "أحلى من الشهد المذاب"، وهو "يتعذب وفاء لا انتحاب"، ويحلق بخياله بلا أجنحة، والهوى كالماء ينساب أحلى انسياب، والحنين والصبر في احتراب، والقلب يحيا في ذهاب وإياب، وهو لا يدري أين العذاب في الصبر أم في الاشتياق؟ والتوبة لا من الذنب ولكن منها المتاب.
صور بديعة تنساب في التأثير على العاطفة والقلب كانسياب الماء إلى الظمآنن ويهتز لها الوجدان، كما تمايل الأغصان لنسيم الصباح، وكذلك من الصور اللطيفة العذبة، والخيال الخفيف المحلق قوله في قصيدة "السر العجيب":
1 الأرض
…
والحب: 69/ 70.
قلت في نفسي ولم أضمن صوابًا في المقالة
ذاب محب مدنف.. يا قرَّب الله وصاله
والمحبون دوامًا هم همو مثل الذبالة
في احتراق وعناء
…
وسهاد ونكاله
إن يكن ذا الكون كأسًا
…
فهمو منه العلالة
أو يكن ذا الكون علمًا
…
فهم حرف الأمالة1
فالصور هنا عذبة خفيفة كخفة الوزن والإيقاع، لكن بعض العبارات غير الشاعرية كان ينبغي على الشاعر أن يتجنبها في التصوير الشعري، مثل القلق والاضطراب غير المألوف في قوله:"يا قرب الله" حيث أدخل ياء النداء على الفعل، وليس هذا مألوفًا في استعمال العرب.
وكذلك النظم العلمي الجاف الذي لا يتناسب مع تصوير الشعر في البيت الأخير، حيث صوّر خيبة الأمل عند الحبيب بالإيقاع الصوتي الماثل في حروف الإمالة، وهذا تصوير علمي جاف لا روح فيه ولا حياة.
وكذلك الأساليب العامية التي ينبغي للشاعر أن يترفع عنها في تصويره مثل قوله: "تنحنحت" في قوله:
وتنحنحت أين ملكك يا قيصر
…
فارتاع في هدوء السرير2
ومنها ما جاء الغموض فيه تبعًا لتركيب العبارة تركيبًا غريبًا مما دعاه أن يوضح ذلك في آخر القصيدة مثل قوله: "حبالي عشي"، وقوله "سكرى عمي" حين يقول:
برغم الليالي حبالى عشى
…
برغم الصبيحا سكرى عمى
قال الشاعر: في التعقيب على البيت: عشى: العشى ضعف النظر واستخدام حبالى مضافة إليها هنا مبالغة في إثبات الواقع القاصر في زمن المرحوم سيد قطب.
وكذلك تفسيره: سكرى عمى: مبالغة في التقرير: أي لا ترى شيئًا.
ولولا الغموض الشديد لما لجأ الشاعر إلى توضيح ذلك عقب القصيدة، والشعر الشاعر هو الذي يتسلل أثره إلى نفس القارئ بلا معين، أو تعقيب، ولو بطول نظر، أو روية تأمل؛ لأن ما وصل إلى القلب بعد التأمل تمكن منه، وليس الأمر كذلك بعد البحث في معاجم اللغة، فالبون شاسع بينهما.
1 طفيان.. على نقطة الصفر: 122.
2 الديوان السابق: 39.
وكذلك كلمة رغم في استعمالها هنا خطآن: أحدهما أنها ليست من حقل الشعر؛ لأن للشعر كلماته التي توحي بالشاعرية لا بالتدليل ولا التعليل وارتباط الأسباب بالمسببات، وهذا ما تدل عليه كلمة "رغم".
ثانيهما: أنَّ الأصل في استعمالها أن يقول الشاعر: "على الرغم من...."، وأما بالطريقة التي عرضها فهي استعمال علمي بلا ريب.
وكذلك لم تتلاءم بعض الصور مع معانيها وأغراضها التي تعبّر عنها مثل الصورة التي مرَّ التعقيب عليها في قصته الشعرية "غسيل الملائكة"، ومثل قوله في قصيدة "طيفان"، ويقصد الشاعر بهما النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام:
ويغطه جبريل يعلمه
…
باسم الإله يقين ما جهلا
ومحمد يجثو وقد حبلت
…
أذناه بالوحي الذي نزلا
ولد الهدى يا للمخاض فيا
…
دنيا اعتلي إن المخاض علا1
ويقصد الشاعر "حبلب" بفتح الحاء وكسر الباء، وقد شكلها على هذا النحو في الديوان، وليته ما شكلها؟ بل تركها للقارئ تحتمل الوجه الآخر وهو "حبل" بفتح الباء، ليكون معناها على سبيل المجاز أليق بمقام النبوة، فكأن الوحي على ذلك ربطه بالسماء وبالله عز وجل، كما يربط الطرفان بالحبل، ولكن الذي صرف هذا الاحتمال عند الشاعر أمران: الأول التشكيل بكسر الباء، والثاني الإتيان بما يتناسب مع الحبلى من المخاض، وهذه الصورة لا تليق بمقام النبوة الشريف وجلال الوحي، وقدسية التنزيل؛ لأن الشاعر جعل الأذن حبلى بالوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فتمخضت الحبلى حين المخاض، وولدت الهدى للبشرية جمعاء، وهذا لا يصح أن يقال في هذا المجال، ويبدو أن الشاعر شديد الإصرار لما ذكره في البيت التالي من لفظ "الحمل":
حملته كفًّا مؤمن رحل
…
هيا اقبلي الإيمان والرجلا
وقوله:
سمعته هذي الأرض فانتفضت
…
من دهشة وتلجلجت خجلا
والأرض بكر رغم ما عشقت
…
لكنها لم تعرف القبلا
وليس تبريرًا صحيحًا ما يقوله الشاعر عن نفسه من أنه لا يراجع العمل الفني بعد صدوره لأول مرة، وذلك بالتهذيب والصقل، فهذا القول لا يشفع له في مثل هذه المواقف،
1 طيفان
…
على نقطة الصفر.
فنوابغ الشعراء قديمًا وحديثًا يراجعون تجاربهم الشعرية المرة بعد المرة، لكي ينقدوا شعرهم حتى تخف عليهم حدة النقد في إنتاجهم.
وإنني أريد من كل شاعر أن يكون ناقدًا؛ لأن النقد هو الذي يدفع الشعر دائمًا إلى القوة والإبداع والجمال، ولا من الشاعر أن يردد هذا القول مرة ثانية في الطبعة الثانية للديوان الثاني الذي ذكر في مقدمته:
"ولا أخفي على قارئي العزيز بأنني -خصوصًا نتاجي الشعري- لا أعيد النظر ولا أضيف ولا أحذف يقينًا مني بأن للتجربة الشعورية حكمًا لا يجوز تهذيبه في اللحظات العادية، لذا لم أجد بدًّا من الإبقاء على كل ما رصفته في هذه المجموعة، واعتزمت دفعها للطبع"1.
الإيقاع والموسيقي:
الشاعر أحمد بهكلي التزم البحر الواحد في القصيدة على النمط الخليلي في البحور الشعرية العمودية، ولم يتعسف مراكب الشعر الحر، إيمانًا منه بالأصالة المعتدلة المصوغة في قالب تراثي، يقول الشاعر في المقدمة:"وإنني رضيت بكوني راكعًا في سفينة الأصالة المعتدلة، والأصالة الشعرية في نظري الحداثة الفكرية في قالب تراثي.. من هنا انطلق من الجذور.. لا أجتثها.. لا أنفصل عنها.. ولست مكابرًا.. وما أنا بحجر"2.
لكن الشاعر نوع من القافية حيث جاءت قصائد في شعره تعتمد على التعدد في القوافي، في نظام المقطعات، كل مقطع له قافية يختلف عن المقطع الآخر، مثل قصيدة "أحبك"، وسيق ذكرها في موطن آخر، وقصيدة "حديث العياء" يرثي بها عبد العزيز أحمد هيجان في جيزان يقول:
أحدثكم عن أصول الجوى
…
وعن لوعة الروح يوم النوى
أحدثكم عن سناء الرؤى
…
يغور وكيف يموت الهوى
وعن الدمع ينساب نهرًا على
…
مآق تروت به ما ارتوى
وأي رحيل تناءى على
…
منانًا؟ وأي كيان هو؟!
1 طيفان
…
على نقطة الصفر: المقدمة.
2 الديوان السابق: المقدمة
أود الحديث فلا أستطيع
…
وعيني تودع ركب الربيع
أحاول لكن رزءًا دهى
…
فعيّ الفصيح وصم السميع
تعسف سعدي ولم يتئد
…
فراخ يزيد صدوعي صدوع
وعبد العزيز قضي لم أكد
…
أصدق لولا قتام الربوع1
وهكذا إلى النهاية القصيدة التي تقوم على نظام المقطعات، وقد يلتزم الشاعر مع المقطعات المختلفة القوافي قافية واحدة في البيت الأخير من كل مقطعة، مثل ما جاء في قصيدة "من خالد بن الوليد" 2:
أنا من؟ لو لم يك الإيمان في دنياي ديني
لو لم يصر في طريق الرشد من طريق الظنون
لو لم يزج عن ناظري ستر الضلالة والفتون
فأسير لا ألوي
…
وقد هربت شكوكي من يقيني
ويرفرف في شفتي لحن رائع
…
الله أكبر
إلى قوله:
ما في شبر لم تعانقه الصوارم والرماح
لم تلغ وجداني وتنشرني على أغلى البطاح
يضني الشجاع إذا قضي بين النوائح والنواح
أما الجبان فموته.. كحياته موت ارتياح
إني أحس الموت يشعرني بأن الله أكبر3
1 الديوان السابق: 82/ 85
2 طيفان
…
على نقطة الصفر: 93/ 97.
3 نسبة إلى قولته المشهورة "والله ما في جسدي إلا وفيه ضربة من سيف أو طعنة من رمح، وهآنذا أموت على فراشي كالبعير.. فلا نامت أعين الجبناء.