المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: الشاعر محمد بن علي السنوسي - المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

[علي علي صبح]

الفصل: ‌الفصل الثاني: الشاعر محمد بن علي السنوسي

‌الفصل الثاني: الشاعر محمد بن علي السنوسي

نشأة السنوسي وحياته:

هو الشاعر محمد بن علي السنوسي، ولد بمدينة جازان عام "1342هـ"، وأبوه شاعر وقاض سبق أن تحدثت عنه في مدرسته، ألحقه بمدرسة يديرها الأستاذ الشيخ علي بن حمد عيسى رئيس كتاب محكمة جازان في عام "1380هـ"، فتعلم على يديه القراءة والكتابة والحساب، ثم قرأ علوم العربية على والده، وعلى الشيخ عقيل بن حمد، ثم انكب على مطالعة مكتبة أبيه الزاخرة بالعلوم والآداب، فاتسعت مداركه عن طريقه الذاتي.

ظهرت ملكته الشعرية، وميوله الأدبية في وقت مبكر من حياته عام "1359هـ"، وهكذا ظل يصقل فنه حتى سما إلى مكانة مرموقة بين زملائه الرواد في المملكة حتى نال الجائزة الأولى في المسابقة الشعرية التي عقدتها "مجلة الرياض" السعودية عام "1375هـ" في قصيدته:"حطم المارد القيود".

التحق الشاعر بالوظائف الحكومية، فعمل في سلك الجمارك عام 1357هـ"، وظل فيها ينتقل من منصب إلى آخر حتى صار مديرًا لها عام "1370هـ"، وكان عضوًا في المجلسين البلدي والإداري، ثم عمل رئيسًا لبلدية جازان، ثم مديرًا لشركة كهرباء جازان، ثم تفرغ للأدب ولأعماله الخاصة، وأخيرًا هو الآن رئيس للنادي الأدبي الثقافي في جازان1.

تأثر الشاعر بالفحول من الشعراء القدامى والمحدثين مثل أبي تمام والبحتري والمتنبي، وشوقي وحافظ وعزيز أباظة، فسار على منوالهم ونهج نهجهم.

ونشر شعره مبكرًا في مجلة "اليمامة"، وجريدة "البلاد" و"أم القرى" و"الحج" و"الأضواء" و"الرائد" و"الرائد" وتلقبه المجلات بشاعر الجنوب.

ترجمت بعض قصائده إلى اللغة الإيطالية، ونشرت الترجمة في مجلة "المشرق" الإيطالية’ يقول عنه الدكتور كامل السوافيري: "والسنوسي غني بشهرته عن التعريف، وله مكانته بين شعرائنا البارزين، وهو أول شاعر يترجم بعض شعره إلى لغة أوروبية، ومن أهم سماته أنه لا يتكلف أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل للمدح2.

1 الحركة الأدبية: د. بكري شيخ أمين، شعراء العصر الحديث، عبد الكريم بن الحقيل.

2 نفحات الجنوب: ص7 التقديم.

ص: 77

حاز جائزة التكريم "ميدالية ذهبية" من جامعة الملك عبد العزيز، وحصل على "ميدالية المتنبي" من وزارة الثقافة العراقية.

والسنوسي رائد من رواد الأدب في المملكة العربية السعودية، ويلقب شاعر الجنوب، له حتى الآن خمسة دواوين شعرية هي على الترتيب حسب الظهور: القلائد عام 1380هـ - الأغاريد - أزاهير - الينابيع - نفحات الجنوب عام 1400هـ.

وله دراسات أدبية في كتاب "مع الشعراء"، وكتاب "رجال ومثل" تحت الطبع، وكتب أخرى1.

يقول عنه الأستاذ محمد سعيد العامودي: "إن للسنوسي مكانة بين شعرائنا البارزين، فهو صاحب القلائد، وقد كان لديوانه "القلائد" وما يزال صداه الطيب الجميل في أوساطنا الأدبية، إنه أول شاعر من شعرائنا يترجم بعض شعره إلى لغة أوروبية

إن أهم سمات شاعرنا السنوسي في اعتقادنا أنه لا يحاول أن يتكلف، أو يظهر بغير حقيقته، أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل لثناء أو مدح، وإنما هو في كل ما طالعته من شعره، لا أراه إلا حريصًا كل الحرص على التزامه لهذه السمة، سمة الصدق في التعبير.. لعل ميزات السنوسي إكثاره من القراءة والاطلاع.. وإني لأغبط السنوسي حقًّا أن أراه مولعًا إلى حد النهم بالقراءة والاطلاع2.

ويصف الشاعر السعودي عبد الله بن محمد بن خميس شعر السنوسي فيقول:

قد عرفت القريض غضًّا طريًّا

يصطفيه جازان من عليائه

وقف الشاعر المحلق يروي

بهجة العيد حسنه وروائه

فوقفنا الأسماع نلقط درًّا

أرخص الدر منتقى من غلاته3

وكثيرًا ما كان يحتفي به الشعراء والأدباء، ويلتقون جميعًا في مواكب الفن، فيتطارحون الشعر، ويخوضون في موضوعات شتى. فقد دعا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري "صاحب مجلة المنهل" لفيفًا من الشعراء والأدباء السعوديين في حفلة تكريمًا لشاعر الجنوب الأستاذ محمد علي السنوسي، يقول أحد الشعراء المدعوين:

في ندوة سمر ساحر جمعتني دعوة كريمة من الأستاذ الجليل عبد القدوس الأنصاري "صاحب مجلة المنهل" بصفوة من الشعراء والأدباء السعوديين في حفلة أقامها في داره العامر ليلة

1 المرجع السابق: التقديم.

2 الأغاريد: تقديم محمد سعيد العامودي ص/ك، ل.

3 نفحات الجنوب: ص8.

ص: 78

الجمعة الموافق 2/ 6/ 1376هـ تكريمًا لشاعر الجنوب الأستاذ محمد بن علي السنوسي، وكانت بحق حفلة أنيقة؛ حيث تبودلت فيها شتى الأحاديث الأدبية والاجتماعية، ومما زاد الحفلة متعة وروعة طلب الأستاذ الأنصاري من المحتفى به إنشادنا آخر ما عنده من شعره الحديث، فتفضل وأسمعنا قصيدة ممتعة من شعره الوثاب، وتلاه الأستاذ حسن عبد الله القرشي، فأنشدنا من ذارته القوية مطولة من شعره الواعي بعنوان "سجين الحياة".... وكان من أبرز المدعوين إلى هذه الندوة الأدبية الأساتذة محمد سعيد العامودي، وعبد المجيد شبكشي، وحسن عبد الله القرشي، وعبد الفتاح أبو مدين، وأحمد السباعي، وشكيب الأموي

فإلى هؤلاء جميعًا أبعث بهذه القصيدة "صوفية شاعر" تذكارًا لهذه الندوة الأدبية وتقديرًا للفن في شخصيات رواد الأولمب الخالد ومطلعها:

ظلموه فعاش في إخوانه

يتلظى على لظى أحزانه

أي ظلم أشد في النفس وقعًا

من أذى صحبه وظلم زمانه

قد رماه الصحاب بالكبر إذا كان

يناجي بالبعد طهر جنانه

إلى قوله:

آمن الشاعر الغريب وقد عاش

سعيدًا بمنتهى إيمانه

عاش في نجوة من الناس يستصغر

معنى النعيم في تبيانه

مستلذًّا كزازة العيش في الوحدة

والليل ضارب بجرانه

وصلاة الصوفي فيض من الروح

كفيض العبير من ريحانه

كل نفس صوفية تتمنى أن

تنال السمو في أحضانه1

يقول صاحب مجلة المنهل عن الحفل وعن قصيدة محمود عارف السابقة: "وقد تلقى صاحب المنهل بعد يومين من الحفل القصيدة العصماء التي تلي هذه، وهي من وحي الحفل ومن نظم الشاعر محمود عارف عضو مجلس الشورى2.

والسنوسي يرى أن فنه الشعري مستمد من فن شاعر الأكبر أبي الطيب المتنبي.

يقول:

يا أبا الطيب المحسد إني

مستمد من فنك الفذ فني3

1 القلائد: 52/ 6.

2 مجلة المنهل: شهر جمادى الثانية سنة 1376هـ.

3 نفحات الجنوب: ص131.

ص: 79

يصور شاعريته في أبيات يصدر بها ديوانه الأول "القلائد":

هذه ألحان قلبي

وأغاريد شبابي

هي أحلامي وآمالي

وكأسي وشرابي

وصاباتي وأشجاني

وحبي وعذابي

إنها صورة نفسي

قد تجلت في كتابي1

1 القلائد: ص1.

ص: 80

الأغراض الأدبية في شعر السنوسي وخصائصها الفنية:

يتميز شعر السنوسي بأنه كثير الأغراض الشعرية العميقة، ومتعدد الاتجاهات في الأهداف الدقيقة، ومتشعب الموضوعات الأصيلة والجديدة المعاصرة، التي عاش الشاعر تجربتها الشعورية من واقعه المعاصر، واقعه الإسلامي والعربي والإنساني والوجداني، وكان شاعر الجنوب بحق لغزارة شعره وتنوع الأغراض التي تبني مجتمعًا إنسانيًّا فاضلًا، وتحت على التئام الأمة الإسلامية ووحدتها في جبهة واحدة لتواجه بقوة عصر التحديات الجماعية لا الفردية، وعصر الماديات المشتركة في السوق الأوروبية المشتركة، وعصر الدول العظيمة في تعاون الدولتين العظيمتين أمريكا وروسيا ضد غيرها من الدول في الشرق وفي الغرب، إنه شعر الأمة العربية الإسلامية التي يحيي فيها أمجادها وآمالها، ويذود عنها ويدافع في سبيلها، سواء أكان الشعر في العالم الإسلامي والعربي الكبير أو في قضاياه الإسلامية والعربية والمعاصرة، أو كان في وطنه السعودي الصغير، أو كان من خلال وجدان العربي المسلم الثائر وجدان الشاعر السنوسي، أو كان في غير ذلك من موضوعات وأغراض من وحي العالم العربي والإسلامي والإنساني الكبير. وهذه هي أغراضه الشعرية حسب أهميتها وغزارتها وعمقها، في دواوينه الخمسة التي ذاعت في العالم العربي الإسلامي بل والأوروبي على السواء.

أولًا: الشعر الإسلامي

هذا الغرض الأدبي يسيطر على شعر السنوسي في دواوينه الخمسة، تفجر من واقعه الذي يعيشه إيمانًا بعقيدته، وتمجيدًا لمقدسات الإسلام وشعائره، واعتزازًا وفخرًا بحضارته وإنسانيته، وسموًّا بمبادئه وتعاليمه، وكشفًا عن المثل العليا للبشرية إيمانًا وقدوة، وتصويرًا لقادة الإسلام، ودفاعًا عن تشريعاته وحرماته، وثناء على حماة الاسلام ودعاته، وحرصًا على العمل به، والجهاد في سبيله، وحفزًا للهمم القوية والعزائم الشديدة.

والشعر الإسلامي عند السنوسي عميق في جوانبه الكثيرة، وخصب في معانيه واتجاهاته، وواسع الأفق تزهر تحت سمائه الإسلامية قضايا العالم الإسلامي والعربي، والحق الإنساني بصفة عامة، لذلك تدفق شعره الاسلامي في اتجاهين كبيرين هما:

ص: 81

الاتجاه الأول:

وهو الشعر الإسلامي الذي يتناول الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم جميعًا، والتشريع الإسلامي وحضارته، وتعاليم الشريعة الغراء وسماحتها، وهو الدين الحق والشامل الذي يصلح للناس والحياة في كل مكان، وفي جميع الأزمان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد احتوى هذا الاتجاه قصائد كثيرة هي:

صور الشاعر هذا الاتجاه في الديوان الأول "القلائد"1 في قصيدة "أم القرى" التي كانت من وحي المؤتمر الإسلامي المنعقد في موسم حج عام 1374هـ، يقول في مطلعها:

نور على البطحاء لماح الذرى

يهدي القرون ضياءه والأعصرا

أنست فيه سنا من القبس الذي

"موسى" تشوفه هدًى وتنورا

ينصاح من فلك الرسالة "فجره"

ويشع من فلق "النبوة" نيرا

في هالة يحني الرءوس جلالها

عظة ويجتذب النفوس تذكرا

لمعت على الوادي المقدس شعلة

تركت دجى الدنيا نهارًا مسفرا

مست شرارتها الحياة فأشعلت

"مثلا" أشف سنا وأكرم جوهرا

هزمت أشعتها الظلام وزلزلت

"كسرى" وراء الخافقين "وقيصرا"2

وقصيدة "قوس حاجب ص82، 87" ويصور فيها لمحات من التاريخ الاسلامي المجيد، وقصيدة "ليلة الهجرة ص192، 196" ومن قصيدة قوس حاجب:

بني العروبة إن الحادثات وإن

جلت هي الريح نستشري بها لهبا

"القوة" اللغة الفصحاء وعصركم

أصم لا يسمع "الأشعار" والخطبا

هزوا الجزيرة من أركانها حردًا

وأشعلوا الشرق من أقطاره غضبا

ذودوا عن الحق إيمانًا بقوته

من غالب الحق عدوانا به غلبا

واسترشدوا بهدي القرآن تنجدكم

عزائم صرع الباغي بها وكبا

وجددوا عزة الإسلام إن له

في جيد كل عظيم منة وحيا3

إن الجياة جهاد والجدير بها

من غالب العاصفات الهوج والنوبا

1 القلائد: محمد بن علي السنوسي: تقديم عبد القدوس الأنصاري، مطبعة دار الكتاب العربي بمصر عام 1380هـ، القاهرة، في حجم متوسط يضم 220 صفحة، وهو أول ديوان يصدر للشاعر، وهو رائد من رواد الأدب السعودي الحديث.

2 القلائد: ص12/ 19.

3 القلائد: ص85، 86.

ص: 82

وفي الديوان الثاني "الأغاريد" نجد قصيدة "هي الجزيرة ص1، 3" وقصيدة "أجنحة التاريخ ص4، 5"، وقصيدة "طيبة ص6، 8"، وقصيدة "خلق المسلم ص9، 12"، وقصيدة "رمضان ص13، 17"، وقصيدة "هوية الإنسان ص62، 64" يقول السنوسي في قصيدة "طيبة" التي فازت بجائزة وزارة الإعلام للتلحين والغناء، منها:

هذه طيبة فحيِّ الرسولا

بوركت منزلًا وطابت نزيلا

هذه طيبة التي خصها الله

بما خصها به تفضيلًا

هب منها الهداة وانطلق الإيمان

والمؤمنون صفًّا طويلا

ومشى في ظلالها موكب الحق

إلى العالمين يهدي السبيلا

عب من فيضها الوجود جمالًا

وجلالًا وحكمة وأصولا

إنها روضة أفاض الله عليها

من فضله عطاء جزيلا

فدع القلب يستجم ويرتاح

ويطفي الصدى ويشفي الغليلا1

وفي "الينابيع" نجد قصيدة "الرسالة والرسول" التي ألقاها في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين المنعقد بمكة المكرمة في 1/ 3/ 1394 إلى 5/ 3/ 1394هـ، بجامعة الملك عبد العزيز بحدائق الزاهر في العاصمة المقدسة، يقول2:

من الجزيرة من أرضي ومن بلدي

تألق النور نور الحق والرشد

ومن رباها رباها الطاهرات ثري

أبيض تنفس الصبح من بدر ومن أحد

نور تألق من نور فرق به قلب

الحياة ونض الصخر بالبرد

وفاض عبر شعوب الأرض مندفقا

يحيي القلوب ويشفي ثغر كل صدى

جرى فأخصبت الدنيا ندى وهدى

تمازجا كامتزاج الروح بالجسد

وأشرفت "بابن عبد الله" واتلقت

"رسالة الله" زاه نورها الصمدي

"محمد" خير خلق الله قاطبة

خَلْقًا وخُلقًا على السراء والنكد

نديم "جبريل" يسقيه فما لفم

"وجبا" يرتله شاد إلى غرد

أحلى من الشهد آيات مفصلة

تهدي إلى البر في قول ومعتقد

تنزلت بالهدى والنور في لغة

تلألأت بمعان فذة جدد

تبلى الدهور ولا تبلى نضارتها

صفاء لفظ ومعنى خالد أبدي

1 الأغاويد: 6/ 8.

2 الينابيع: محمد بن علي السنوسي، نادى جازان الأدبي- المدينة للطباعة- جدة، وهي في حجم كبير، يضم 110 صفحة ص3/ 14، ذكرت القصيدة كاملة في كتابي "حضارة الإسلام في الشعر العربي الحديث: تحت الطبع".

ص: 83

كانت ولما تزل تمحو أشعتها

ضلال كل ذوي أمت وذي أود

حكم وعلم وأمثال فلسفة

وحكمة لو وعاها ذو الضلال هدى

وهكذا يمضي السنوسي في ستة وتسعين بيتًا يصور فيها الشريعة الإسلامية وسماحتها وحضارتها، وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على البشرية، وما قام به السلف الصالح من ترسيخ الحضارة الإسلامية.

وليت الشاعر أتى بلفظ "صدر" مكان كلمة "ثغر" في البيت الرابع مع الاحتفاظ بصحة الوزن، لكانت الصورة الأدبية أدق وأعمق، لأن ريّ الثغر الذي قد يكتفي فيه بالبلل وترطيب الجفاف لا يسمو إلى ري الجسد كله بما فيه القلب والعقل والعاطفة والوجدان، فتدب الحياة فيه بعد ظمأ الموت، وينبض ظمأ الموت، وينبض القلب بالقوة في تجويف الصدر، فيتدفق الجسد كله بالدم والحرارة والنشاط.

وكذلك قوله في البيت الثامن: "نديم جبريل يسقيه" فالشاعر يقصد جليس جبريل على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح.." إلى آخر الحديث الصحيح، وجليس لفظ يتضمن معنى أدق وأفضل، وأوقع وأجمل في هذه الصورة الشعرية الرائعة، فكلمة "جليس" وزان كلمة "نديم"، التي وردت في مقام النبوة مع الوحي، وهذا المقام الجليل تتلائم معه كلمة توحي بالإجلال والتقدير، وينأى عن كل كلمة يتسرب إليها أي احتمال لا يليق بهذا المقام الرفيع، فالمعنى الذي يقصده الشاعر في الصورة الأدبية من وراء كلمة "نديم" هو مجالسة النبي لجبريل في مدارسة القرآن الكريم، وهذا جائز في باب المجاز والخيال، لكن التصوير الحقيقي هنا خاصة أولى وأفضل، فلا بد لكلمة "جليس" وهي لفظ حقيقي في تصوير المعنى فقد أشرفت على الغاية؛ لتعلم أن التصوير الأدبي باستعمال اللفظ الحقيقي قد يكون أبلغ في التأثير والإقناع من التصوير الأدبي باستعمال اللفظ المجازي الخيالي. وبهذا لا نترك لأعداء الإسلام منفذًا يتسللون منه في الجدل والتمحل بلا وجه حق، فيتذرعوا بالمعنى الذي يظهر على سطح لفظ "نديم" الذي يعبر عن واقعه المحس المأخوذ من "المنادمة"، وأعتقد أن الشاعر لا يقصد هذا مطلقًا، وإنما الذي أقصده هنا هو من باب "سد الذرائع" أمام أعدء الإسلام.

وقصيدة "ثاني اثنين" في خمسين بيتًا، يصور فيها عظمة الصديق رضي الله عنه ومطلعها1.

يا ثاني اثنين في دار هي الغار

إن اختيارك للمختار مختار

ويا رفيق الهدى والليل معتكر

والأرض ترجف والأهوال إعصار

1 الينابيع: ص14/ 19.

ص: 84

وهكذا يمضي الشاعر مع الصديق صاحبًا الرسول صلى الله عليه وسلم ومصدقًّا ومهاجرا ومؤازرًا، وخليفة للمسلمين، وقائد لحروب الردة، ومنتصرًا على الإلحاد والنكوص، ثم ينخطف إلى عصرنا الحديث ليناجي منه أبا الصديق، ويستغيث ليقيم بجزمه المعروف حربًا شعواء ضد الردة في العصر الحديث، وما أقساها مرارة على المسلمين!! يقول:

في ردة من ثياب العصر لابسة

تحرر قيل عنها وهم آصار

تفرق الجميع وانحلت شكيمتهم

وانهار إيمانهم بالله فانهاروا

نقلد الغرب إلحادًا وزندقة

ومن "تحلله" نجني ونشتار

ولا نقلده علما وتقنية

ولا انطلاقًا له نفع وإثمار

يا ثاني اثنين في ذكراك موعظة

وفي جهادك للسارين أنوار1

وقصيدة "رصيد الحياة ص20، 22"، وقصيدة "أذان الفجر ص23، 25"، وقصيدة "نور القلوب ص26، 27"، وقصيدة الحق المهان ص41، 42"، وقصيدة "التضامن الإسلامي ص44"، وقصيدة "دعوة الحق" يقول:

على التاريخ أن يصغي إلينا

ويملأ سمعه مما لدينا

فنحن حماته سلمًا وحربا

ونحن بناته دينًا ودنيا

ونحن هداته قولًا وفعلا

ونحن كماته شدًّا ولينا

أضاء على منابرنا نجومًا

وأطلق في مواكبنا لحونا

وكنا خير أمته خلالًا

بدين محمد متمسكينا

طريقًا واضحًا لا أمت فيه

ولا عوجًا هداة مهتدينا

فماذا ينقم الأعداء منا

وماذا يدعون ويفترونا

سوى إيماننا بالله ربًّا

وبالإسلام تشريعًا متينا

أَبِي الإسلام ينبزنا الأعادي

كفى شرفًا بذلك لو يعونا

لنا إسلامنا ولهم هواهم

سواء كان "مركس" أو لينينا

فقد وضح الطريق لكل سار

وكان الحق منبلجًا مبينا

أترحمني يد بالأمس كانت

تضافحني وتملئني يقينا

ويغدر بي أخ قد كنت أسمو

به ظنًّا وأحسبه أمينا

ومن هدي الجزيرة وهي مهد

لنور محمد في العالمينا

تطلعت الشعوب إلى شعاع

محا ظلماتها والظالمينا

1 الينابيع: ص19.

ص: 85

وكان لهم منارًا في خصم

وكان حيًّا أغاث الظامئينا1

وفي ديوانه الأخير "نفحات الجنوب"2 قصيدة أيها الإنسان يقول3:

أيها الإنسان في كل مكان

يا أخي قلبًا ولبًّا وكيان

حبك الأوطان لا يعميك عن

حبك الإنسان في أي لسان

اجعل الحب شعارًا ثابتًا

وانتزع عنك طباع الحيوان

وليفض قلبك خيرًا ولتفض

بالندى من ساعديك الراحتان

وتكلم بلسان هادئ في الخلاف

ات ودع عنك الحران

شابت الأرض وما زلت فتى

أرعنا تفرض رأيًا بالسنان

حطم المدفع لا تحمله ثم حا

ورنى بفكر وبيان

ولتكن مفتاح خير وهدى

ولتكن مغلاق شر ودخان

نحن إن فكرت شيء واحد

نحن إنسانان أنا توأمان

ما الذي تطلب مني إننا

إن تأملت كلانا فانيان

فاملأ الأرض سلامًا ورضى

علنا نحيا عليها في أمان

سوف تطوينا غدًا أحشاؤها

يستوي رب العصا والصولجان

في هذه القصيدة يناجي السنوسي الشاعر الإنسان، مهما اختلفت أجناسه في جميع أنحاء العالم، ليعشق السلام، وينشر رايته، ويعيش في ظله، ويمتلئ قلبه بالحب لأخيه الإنسان؛ ليكون الشعار الدائم لكل إنسان الذي يؤثره أي فرد عن حب الأنانية في الأوطان؛ لأن الوحشية والكره والحقد والعداوة ليست من طبيعة الإنسان، ولكنها في تكوين الحيوان، ولنكسر السلاح، ونحطم المدافع، وندفه الأحقاد والشرور، ونبدد دخان الحروب، لنفتح الصدور للحوار الفكري، والرأي السديد بلغة صريحة، وأسلوب واضح مكشوف، فهو السبيل إلى الحب والسلام، ودونه الحرب الزؤام، فتفيض الأرض سلامًا ووئاما، وتزدهر حبًّا وأمانًا؛ لأنها في الغد القريب ستطوي العالم في أحشائها، فيستوي بين جوانبها الغني والفقير، والمتكئ على عصاه، والذي يضرب بالصولجان.

أدب إنساني عالمي استمد السنوسي إنسانيته العالمية من رسالة الإسلام العالمية، التي

1 الينابيع: ص 28/ 29.

2 نشر عام 1400 هـ - مطبوعات نادي جيزان الأدبي - مطابع الروضة بجدة، وهو في حجم متوسط يضم 136 صفحة، أهداه إلى والده القاضي العلامة الشاعر الأديب علي بن محمد السنوسي -تغمَّده الله برحمته ص5.

3 نفحات الجنوب: ص59/ 60.

ص: 86

تجاوبت مع كل الأجناس من بني الإنسان، فشريعة الإسلام هي التي كرمت الإنسان لأنه "إنسان"، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} ، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} .

ومن تكريم الإسلام للإنسان أنه جعل من طبيعة تكوينه الأنس والوئام والمحبة والسلام، قال تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، وما يتجافى مع طبيعة الأنس فيه مرفوض مذموم، وهو العداوة والبغضاء، والحقد والجفاء، والظلم والاعتداء، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

وكذلك قصيدة "أخي المسلم" يقول في مطلعها1:

أخي المسلم الداعي إلى الرشد والهدى

حري بداعي الرشد إن يك أرشدا

لقد طال مسعاك الحميد فلا تكن

عنيفًا فإن العنف يغري التمردا

وكن هادئًا في قوله وفعاله

رفيقًا فإن الرفق ما زال أحمدا

وصية طه المصطفى وهو قدوة

لكل دعاة الرشد شيخا وأمردا

فخذ بيد الغاوي ومهد سبيله

إلى الرشد يمشي مستقيما مسددا

الاتجاه الثاني:

ويتناول فيه السنوسي الجهاد في سبيل الإسلام والدفاع عن مقدساته وتشريعاته، والذود عن المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، ودفع الظلم عن الإنسان في كل مكان، ويتناول أيضًا قضية الحرية، وتحرير أراضي المسلمين والأرضي المقدسة، وحث المسلمين على الجهاد في سبيلها، والوقوف صفًّا واحدًا أمام الطغاة المستعمرين المستبدين، ثم قضية المؤاخاة بين أفراد الأمة الإسلامية، والتعاون بين شعوب الأرض، والتضامن في سبيل نصرة الإسلام ورد حقوق الإنسان.

والشعر الإسلامي في هذه الاتجاه ليس أقل من الاتجاه الأول بل كثير وكثير، فأما الديوان الأول "القلائد" فقد اشتمل على قصيدة "حطم المارد القيود" بمناسبة "جلاء" الإنجليز عن جزء من أجزاء الأمة الإسلامية العربية، عن مصر عام 1954م، وقد فازت بالجائزة الأولى التي أقامتها مجلة "الرياض" في جمادى الآخرة سنة 1374هـ، ومطلعها 2:

1 نفحات الجنوب: ص97/ 100.

2 القلائد: ص20/ 23.

ص: 87

هتفت والشعور روح وراح

ويك غرد فقد أضاء الصباح

الصباح الذي له من منى النفس

انبلاج ومن هواها انصياح

قف على قمة الزمان مع التاريخ

واهتف يهزك الارتياح

وتأمل شواطئ النيل والبشرى

على ضفتيه والأفراح

هدأت ثورة الخصم وقرت

ونجا بالسفينة الملاح

وثبت "مصر" وثبة في سماء

يحسد البرق في مداها الرياح

إنها وثبة يرن صداها

عاليًا ملؤها العلا والنجاح

هزت "الغرب" في محافلها الكبرى

وقد صفقت من الشرق راح

وعلت راية العروبة شماء

يزين السماء منها وشاح

إلى قوله:

عبروا عن مرادهم في "حلاء"

يدعم الحق في سناه الكفاح

طلبوا الموت في ثراها ففازوا

بحياة كريمة لا تتاح

حطم المارد القيود فلا النيل

فرات ولا "الفرات" قراح

لا "قناة السويس" حوض ولا

"البيضاء" روض ولا "البريمي" مراح

قد تلظى اللهيب في كل فج

رق فيه الصبا ورف الأقاح

واعتصمنا بعروة الوحدة الوثقى

وشدت على القلوب الصفاح

وأضاءت لنا الطريق معان

وأمان غر وضاء وصاح

وانطلقنا تهز أقدامنا الأرض

ويطوي السماء منا جناح

هدف واحد تلاقت عليه

مهج حرة النيات صحاح

وهكذا إلى آخر القصيدة في فرحة الانتصار لعضو من أعضاء جسد الأمة الإسلامية: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"، وقصيدة "العالم العربي ص62، 72" يحض فيها الشاعر العالم العربي على الوحدة أمام أعدائه، والتمسك بأمجاد الأمة الإسلامية، والسير على منهج السلف الصالح.

وقصيدة "تأميم وتصميم" بمناسبة تأميم قناة السويس في مصر ومطلعها1:

أجل إنها الحرب الصليبية الأخرى

وإن جعلوا حوض القناة لها سترا

لم تك إسرائيل إلا ذريعة

قد اتخذوا منها لأهدافهم جسرا

1 القلائد: ص115/ 124.

ص: 88

فجند لها الأرواح والمال والقوى

وجرّد لها الإيمان والعزم والصبرا

وثق أن للإيمان بالحق قوة

وأن له في كل معركة "بدرًا"

تلفت "أنطوني" و"موليه" رهبة

وقد صكت الآذان خطبتك البترا

تعاووا كما تعوي الذئاب وأجلبوا

إلى بلد كانت لقواتهم "قبرًا"

وفي الجانب النجدي حشد وفيلق

يقود "سعود الشرق" راياته الخضرا

تحفز عملاق الجزيرة وانبرى

يصيب على أعدائها الويل والقهرا

يساورهم في كل ركن وبقعة

ويفضحهم في كل مؤتمر "جهرًا"

لنا الحق في بترولنا وبلادنا

وخيراتنا والحق لا يقبل الحجرا

وهي قصيدة طويلة تصور وحدة الأمة الإسلامية العربية أمام أعدائها في كل عصر، يقول السنوسي فيها أيضًا:

أخي في ضفاف النيل ليتك أمة

ترى كل شبر من مواطنها "مصرا"

ونحن على الأحداث أبناء وحدة

تبض دمّا حرًا "عروبتها" الحمرا

على القدس في الأرض زحف وثورة

وفي جلق الشهباء تعبئة كبرى1

وقصيدة "بطولة الجزائر ص141، 149"، وقصيدة "اليقظة العربية"، ومنها:

حي صقر الجزيرة العربية

بطل الشرق نخوة وحميه

حتى صقرا محلقًّا بجناحيه

على قمة المعالي السنية

من هنا من ذرى الجزيرة من

وديانها الفيح من رباها الرويه

راية لم تزل بكف "سعود"

أمل العرب في الخطوب الدجية

إرث آبائه الكرام المغاوير

حماة الحقائق السلفية

ضاربًا حولها نطاقًا من الإسلام

حكمًا ومنهجًا وقضيه

سار في ظلها الدعاة إلى الحق

نقيًا لما رأوها نقيه

وهي قصيدة طويلة تصور يقظة الأمة العربية إلى أمجادها وإلى عقيدتها الإسلامية ومنهج شريعتها المستقيم، الذي أقام أعظم حضارة في تاريخ العالم كله.. وكذلك قصيدة "جنكيز خان ص204، 207" يصور فيه الشاعر كفاح الجزائر، ومشاركة الأمة الإسلامية لها في جهادها المقدس ضد أعداء الإنسانية والإسلام، في جهادها المرير ضد فرنسا المستعمرة الغاصبة.

1 القلائد: ص120.

ص: 89

وأما القصيدة التي في ديوان "الأغاريد" هي قصيدة "انتصار الحرية ص18، 21"، وأما القصائد في ديوان "أزاهير" فهي قصيدة "اليوم الخالد ص20، 21، وقصيدة "خواطر لاجئ ص44، 47"، وقصيدة "يوم الكرامة ص51، 53"، وقصيدة "جهاد واتحاد ص54، 60"، وقصيدة "حديث فدائي ص61، 63"، وقصيدة "يا فتح ص64،67"، وقصيدة "فرحة اليمن ص68، 71".

وأما ديوان الينابيع نجد قصيدة "عقدة الأسى ص38، 40" وقصيدة "المدينة العسكرية ص43"، وقصيدة "التضامن الإسلامي ص44"، وقصيدة الزعيم العظيم ص47، 48"، وقصيدة "الأرز والنخيل ص49، 50"، وقصيدة "الكيان الكبير ص51، 54"، وقصيدة "فيصل الهدى والسؤدد ص55، 58"، وقصيدة "وا فيصلاه ص59، 62"، وقصيدة "المغرب الأقصى ص79، 81"، وقصيدة "المعهد العلمي ص85، 86".

وأما القصيدة التي في ديوان "نفحات الجنوب" فهي "إرتيريا الباسلة ص89، 91" وهي تصور كفاح المسلمين ضد أعداء الإنسانية والإسلام نظمها الشاعر في 9/ 5/ 1398هـ ومطلعها:

ثورة الشعب من رحاب مصوع

ثورة نورها من الحق يسطع

إنها ثورة الغياري على الإيمان

والعرض تستباح وتصرع

إلى قوله:

فأفيقي "أديس أبابا" أفيقي

فجرنا يصدع الظلام ويصفع1

وحينما ينادي السنوسي بقصيدته "انتصار الحرية" في الجزائر، أعدَّ هذا شعرًا اسلاميًّا؛ لأن الجزائر كان عضوًا مشلولًا من الاستعمار الفرنسي في جسد الأمة الإسلامية، ثم أصبح بعد تحرره عضوًا حيًّا قويًّا فيها، يقول الشاعر2:

مرحبًا "بالجزائر" العربية

دولة حرة الكيان فتيه

وسلامًا لها شبابًا وشيبًا

ولأبنائها فتى وصبيه

إلى أن يقول:

عزة "غافقية" وإباء

"مضري" ونخوة "طارقيه".

فسلام لهم وطوبى لأرض

أنجبتهم سهولها السندسية

وسلام "لدولة" يفخر الضاد

ويزهو بها ويشدو تحيه

1 نفحات الجنوب: 89/ 91.

2 الأغاريد: 18/ 21.

ص: 90

فهذا الشعر وإن كان يتجه إلى إقليم عربي مسلم معين كالجزائر أو اليمن أو فلسطين أو السعودية أو غيرها، إلا أنه جزء من الأمة الإسلامية الكبرى الذي ينتمي إلى الوطن الإسلامي العربي الكبير، مهما اختلف الجزء في شكله وحجمه وبنائه الدولي، فإنه يمثل عضوًا من جسد الأمة الإسلامية وإن كان مختلفًا عن بقية الأعضاء، فاليد غير القدم، والعين خلاف السمع، لكن الجسد الواحد لا يستغني بعضو عن الآخر، فالعين لا تحل محل السمع، ولا الرجلان تحلان محل اليدين، وهكذا، قال تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .

وحين يترجم السنوسي في صور شعرية "حديث فدائي" يتحول هذا الحديث إلى شعر إسلامي، يقول:

أأنت تقول إن يدي قصيرة

وإن عشيرتي بئس العشيره

وإن مدافعي خطب طوال

وأسلحتي "تصاريح" مثيره

وإني لن أعود إلى بلادي

ولن ألقى مغانيها النضيره

كذبت فإني وأنا الفدائي

سليل أبي عبيدة والمغيره

جعلتك يا ابن اسرائيل رعبًا

تعيش من المخاوف في جزيرة1

وجعلت من الشعر الإسلامي أيضًا الشعر الذي يقوله الشعراء مدحًا أو رثاء في القادة والزعماء الذين كان لهم دور بارز وفعَّال في كيان الأمة الإسلامية؛ بحيث يمثل جهادهم وكفاحهم طورًا تاريخيًّا بارزًا من تاريخ الإسلام، وتترك بصماتهم دلالات واضحة في تاريخ أمتنا الرشيدة، ليبقى خالدًا بخلود الإسلام، ويظل علمًا شامخًا من أعلامه، وقد حفر الملك الزعيم فيصل طيب الله ثراه مجلدًا خالدًا في التاريخ الإسلامي، كالشمس التي تغشى الأبصار حينما تستبطن أغوار الحقيقة، فالحقيقة أكبر مما تعرف ويعرف الجميع. فالله وحده هو الذي يوجه جنده المخلصين للدفاع عن دينه، يقول السنوسي في قصيدة "فيصل الهدى والسؤدد":

هو فيصل علم الهدى والسؤدد

فاصدح بألحان البيان وغرد

إلى قوله:

يا صاحب الرأي الصريح إذا رأى

رأيًا تبلور في الفعال الأمجد

إن الكنانة نورها يك "أنور"

ودمشق حافظها يلوح باليد

1 أزاهير: 61/ 63.

ص: 91

لما وقفت بكل ثقلك في الوغى

ترمي العدو وتسحق الغر الردي

وتصول بالرأي الحصيف موحدًا

شمل العروبة في الصراع المجهد

وتهز أعمد السياسة معلنًا

أن العروبة لن تلين لمعتد

الحق غايتنا ومهما أجلبوا

فالحق يهزم كل طاغ مفسد

والزيت في يدنا وكل محرك

للشر يشذح رأسه كالأسود

فتجاوبت بصداك آفاق النهى

في كل معترك هناك ومشهد

فاسلم فإنك للعروبة فيصل

هزت به الدنيا أجل مهند1

حتى الرثاء لتلك الشخصية الفذة في عالمنا المعاصر، والنموذج الرائع في تاريخنا الإسلامي، ينبغي ألا يكون رثاء شخصيًّا؛ لأن هذا النموذج ذات في الأمة الإسلامية كلها، لذلك لا يصح أن نرثيه لشخصه، وإنما نرثي الأمة الإسلامية كلها، ومن هنا كان منطقيًّا وواقعيًّا أن يكون الرثاء لشهيد الإسلام والعروبة - "فيصل" طيب الله ثراه - شعرًا إسلاميًّا، لا رثاء شخصيًّا فرديًّا، يقول السنوسي في قصيدته "وا فيصلاه":

رن في سمعي فكذبت صداه

نبأ روع قلبي وشجاه

"فيصل" مات ولكن ذكره

يغمر العالم والدنيا شذاه

مات جسمًا وتوارى هيكلًا

وهو حي في قلوب وشفاه

إلى قوله:

في أياديه التي خلدها

تغمر الشعب بفيض من نداه

ومساعيه التي قلدها

أمة الإسلام في أقصى مداه

ومعانيه التي رددها

لبني العرب جميعا في حداه

ومباديه التي أعلنها

عالي الصوت فخافتها عداه

قطب أقطاب العلى كيف انتهى

عجبًا هل يقتل الابن أباه

لم يغب عنا مليك صنعت

يده التاريخ فينا وبناه

يا عظيم الشرق يا مصباحه

في لياليه ويا فجر دجاه

كيف ضم القبر طودا شامخا

كيف بالله طواه واحتواه

حفظ الله علينا "خالدا"

ورعى "فهدا" أخاه وحماه

وسقى الرحمن قبرًا طاهرا

مرغت فيه أنوف وجباه2

وبهذا يكون هذا الاتجاه جديدًا في بنائه وأفكاره ومعانيه والغاية منه.

1 الينابيع: 55/ 58.

2 الينابيع: 59/ 62.

ص: 92

ثانيًا: الشعر الوجداني

هو الغرض الثاني عند السنوسي، جاء بعد الشعر الإسلامي مباشرة، ولم يكن هذا الغرض غزلًا بالمعنى المعروف في الشعر العربي القديم، فالفرق بينهما كبير في نظري، مما يجعل هذا الغرض يتصل بالوجدان: وجدان الشاعر أكثر من الوصف الغزلي الخارجي للمرأة، فقد كانت القصيدة الغزلية قديمًا تعتمد على أساسين هامين:

أحدهما: انهيار الشاعر بمفاتن المرأة، وسحر أجزاء البدن فيها، فيأخذ في تصوير هذه الأجزاء جزءًا جزءًا، وقد يتعرض لما هو أخطر من ذلك، فيصور العلاقة بينه وبينها تصويرا ظاهرًا مكشوفًا، وواضحًا مفضوحًا، من غير رعاية لحرمات أو محرمات، وهو الجانب الحسي في الغزل القديم، كما في غزل امرئ القيس، وكثير عزة، وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم.

وقد تطور هذا الغزل الحسي إلى غزل آخر عرف بالغزل "العذري" في تاريخ الأدب العربي، ترفع قليلًا عن الفحش الظاهر في التصوير الشعري، لكنه وقع فيما هو أخطر من ذلك، وهو "الفناء" أي فناء العاشق في سبيل المعشوق، وفناء المعشوق في سبيل العاشق، فيذهبان معًا ضحية للحب العذري، مثل عذرية جميل وبثينة، وقيس بن ذريح وغيرهما.

والغزل الحسي والعذري كلاهما مسرف في اتجاهه، فالأول مسرف في الجانب الحسي المرذول والمبتذل، والثاني مسرف في الجانب المجرد الذي يؤدي إلى الفناء، وكلاهما أيضًا بعيد كل البعد عن الاتزان الاسلامي في معالجة عاطفة الحب، وضبط شهوات النفس، لتنسجم مع الفطرة السليمة، في معالجة هذا البناء الاجتماعي عند الفرد.

ثانيهما: والأساس الثاني وهو أثر الغزل الحسي والغزل العذري بالمعنيين السابقين في وجدان الشاعر، وهذا نتيجة للأساس الأول، فالوجدان عند الشاعر في الغزل الحسي وجد أن ليس محمومًا، ولا حارًّا متدفقًا؛ لأن صاحبه قد أرضى نزواته وشهواته من مفاتن المرأة في تصويره الحسي الماجن، فتطفئ كل صورة من شعره جمرة من وجدانه وهكذا، وإذا ما انتهت القصيدة صورة صورة، لا تجد عرقًا ينبض من وجدان في نفس الشاعر، وتلك طبيعة الشهوة البهيمية التي يجب أن يترفع عنها المسلم.

أما الوجدان عند الشاعر العذري فهو وجدان يغتلي ويفور، ويلتهب فيحرق العروق التي تنبض بالحياة؛ لأن الشاعر لم يضبط وجدانه المسرف، ولم يحدد مساره وطريقه، فهو أشبه بنار تندلع في هشيم الجسد، فيأتي عليه فلا يترك أثرًا ولا بقية.

وكلاهما أيضًا وجدان هابط لا يسمو إلى شرف الإنسانية، ومعدوم لا ينبض بالحياة؛ لأنه هبط بالشاعر الحسي إلى مستوى الحيوان، فلا يكون في عداد الأناس الذين يعيشون

ص: 93

بوجدانهم الصادق والمتزن معًا، وكذلك أسرف الشاعر العذري فأفناه الغلو والمبالغة والإغراق فهما معًا لا يتلاءمان مع الطبيعة البشرية والفطرة الانسانية، لا الغريزة الحيوانية ولا الشهوة البهيمية، ولا التجرد الآدمي، ولا الانعتاق المطلق.

وشعر الوجدان والتأمل عند السنوسي يختلف كثيرًا عمَّا سبق في الأساسين، فلا هو هذا ولا هو ذاك، فلا هو غزل حسي ولا هو غزل عذري، وإنما هو وجدان شاعر استغرق في تأملاته العاطفية بلا هبوط ولا إسراف، بل في اتزان الشاعر المسلم الذي يعبر عن وجدانه في صدق فني، وترفع عن الصغائر الحيوانية الصرفة، وعن الإسراف البالغ؛ لأنه وجدان شاعر يحب ويهوى، لكن في أدب وخلق وعفة واتزان، وهذا ما أردت به "شعر الوجدان" والتأمل في أعماق النفس.

وعلى هذا فشعر الوجدان يشمل جوانب أخرى غير حب المرأة، تقوم على الحب المجرد الذي يشمل ما في الوجود كله، مثل حب الحياة وحب الناس، وحب الطبيعة، وحب الإنسان وحب المبادئ السامية، وغيره، لكن كل هذا من خلال الوجدان الذاتي للشاعر، لا من خلال موضوع يصطبغ بوجدانه، فلو كان الوجدان من خلال موضوع ما، لا نتقلنا من شعر الوجدان إلى غرض أدبي آخر غير الشعر الوجداني.

والشعر الوجداني جاء في ديوان "القلائد" متمثلًا في قصيدة "عودة الماضي ص34-41" يصور فيها وجدانه في الماضي، في تأملات عميقة يلتقطها الشاعر من وراء الحس الظاهر وهي تسير على نظام المقطعات، وهو أقصى ما يخرج فيه الشاعر على القالب الموسيقي القديم، ويعد هذا الخروج المحافظ جديدًا في شعره كله، يقول:

في لحظة من لحظات الهوى

والنفس في فردوس أحلامها

تهتز أشجانًا وتهفو جوي

على لياليها وأيامها

تلوذ الماضي بها وانزوى

في صور الذكرى و"أفلامها"

ماضي برغمي قد مضى وانطوى

بلحن أيامي وأنغامها

لاح لعيني وفي ناظري

ظلال أيام براها الضنى

وفي سماء الفكر من خاطري

أضواء "حب" قرمزي السنا

أحبابه في عالم ساحر

وردية أحلامه والمنى

صبابة من حلم عابر

دنا كلمح البرق ثم انثنى

ص: 94

هيجت قلبًا لج في كبره

جفا الهوى والنفس تشتاقه

صد وملء الكف من بدره

ما يستشير القلب إشراقه

مالي وقد مالت على صدره

أغصانه خضرًا وأوراقه

إذا هفا يومًا إلى زهره

أبت معانيه وأخلاقه1

وهكذا يتأمل الشاعر في أعماق نفسه عن وجدان يلتهب في ذكريات الماضي، فيعيد صورها ويستعرض "أفلامها" على حد تعبيره، من غير ابتذال في وصف حسي للمحبوب، ولا تفاني في سبيله حتى التبتل والرهبة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي هبوب عاصفة الذكريات الماضية لتؤجج نار الوجدان بمقدار عبورها، ليعود كما كان، بل أكثر ثباتًا واتزانًا؛ لأن قلبه الذي يضم وجدانه لج في كبره، وعاف الهوى، ولا تستثيره جمراته؛ لأن المعاني السامية والأخلاق الفاضلة هي التي تضبط الوجدان، وتسمو بالقلب والعاطفة في اتزان خلق المسلم كما ينبغي أن يكون، أليس هذا اللون جديدًا في الغزل يسمو به ويرتقي إلى غرض جديد هو شعر الوجدان والتأمل. وكذلك قصيدة "فارس الأحلام ص102، 108" من قصص المجد، وقصيدة "دار جلجل ص109-114"، صور من الأدب العربي القديم يصورها السنوسي من خلال وجدانه، وقصيدة "قصة شعرية" يترجمها الشاعر من خلال وجدانه عن الكاتب العالمي "مكسيم جوركي"؛ ليضعها في إطار الشعر العربي، بعد أن صبغها بفنه الشعري ووجدانه الذاتي، لتقرب من الذوق العربي الشفاف وأطلق عليها "أنشودة الصقر ص130-140" يقول في آخر مقطوعة منها:

واستمرت أنشودة الصقر تنساب

بألحانها على الأكوان

يطرب النفس وقعها وتثير الفكر

أصداؤها وتحيي الأماني

في تلاحينها من السحر ألوان

ومن فتنة الجمال معان

نغم ساحر الصدى ونشيد من

صميم الشعور والوجدان2

أما "الأغاريد" فنجد قصيدة "إغراء الحب ص31-32"، وقصيدة "باقة إلى عابرة ص36-37"، وقصيدة "ماء ونار ص38، 40"، وقصيدة "أنشودة ص41-43"، وقصيدة "إفاقة ص47-50"، وقصيدة "عصفور قلبي ص54-57"، وقصيدة "حيرة ص77-78".

1 القلائد: 34/ 41.

2 القلائد: 130/ 140.

ص: 95

وأما شعر الوجدان في ديوانه "أزاهير" فقد ضم قصيدة "أخت القمر ص35-37"، وقصيدة "حسناء الريف ص38-40".

وأما ديوانه "الينابيع" فترى شعر الوجدان والتأمُّل في قصيدة "أمامك الدنيا ص30-32"، وقصيدة "الموج والشاطئ ص33-34"، وقصيدة "المنظار الكاشف ص35"، وقصيدة "لمع السراب ص36، 37"، وقصيدة "الحب الكاذب ص75"، وقصيدة "الفيلسوف والطائر ص83"، وقصيدة "شد الحزام ص93"، وقصيدة "كيف أسلوك ص95".

وأما ديوان السنوسي "نفحات الجنوب" فيضم قصيدة "عصفور شبابي ص24-31 في عام 1396هـ"، وقصيدة "وحشة قلب ص 32-36" في عام 1396هـ، وقصيدة "رماد شهاب ص37-40" في عام 1937هـ، وقصيدة "وجدانها ص41-43" في عام 1397هـ، ويتأمل فيها الشاعر ويغوص في أعماق وجدانه، ليصور في دقة أحلام الصبابة في المرة الأولى:

طواها الأسى واليأس حتى كأنها

بقايا حطام من رماد شهاب

فمالك يا نفس تعيدين ذكرها

وتودين عن جمر الحنين خوابي

ويصور في المرة الثانية ضالته التي يبحث عنها؛ ليصل إلى القاعدة التي يستقر فيها آمنًا مستكينًا، فوجدها في الدين والخلق القويم، يقول:

من أي قاعدة وأي رصيف

تجري سفين مشاعري بحروفي

فيبحث عنها في قلبه وهو ينزف بالأسى، أو في أدبه وهو يلفح باللظى، أو نظره وهو يغشى بالقذى، أو فكره وهو مجروح بالهوى، أو سمعه وهو مقصوف بالردى، أو من طبعه وهو موقوف، أسير التيار.. ليس في هذا كله.. لكنه وجده في قوله:

لا لن أضل فقد وجدت سكينتي

في الدين وهو دليل كل كفيف

فانضح نهاك به وقلبك إنه

ري الصدى وجنة الملهوف

واجعله نهجًا في الحياة وواقعا

تحياه لاكتا وراء رفوف

فالدين ظل الله في ملكوته

والله بالإنسان جد رءوف

من قال إنه أفيون الورى

فهو الشقي بعقله المخطوف1

1 نفحات الجنوب: 41/ 43.

ص: 96

وقصيدة "القلب الكبير ص52-54"، وقصيدة "طبيب العيون ص55-58" ويقول فيها:

يا طبيب العيون شكوى عيوني

من لحاظ حورية التكوين

وهي عين لا تعرف النظر الشزر

ولم تكتحل بغير الفتون

فترفق بها ففي نومها المكنون

أسرار عالم مكنون

إن فيها أحلام قلبي وأشواقي

وأطياف صبوتي وشجون

وهي أغلى من العشيرة والمال

وأغلى من كل شيء ثمين

إنها يا طبيب نافذتي الكبرى

على الكون والرؤى والفنون

وهو جسري إلى الحياة ومنطادي

وفي بحرها العميق سفيني

وهي تصبو إلى الحسين فما تنفك

نشوى من حسن ذاك الحسين

وهي ترنو إلى الحزين فتبكي

حزنًا من أسى لذاك الحزين

وهي ترنو إلى المشين فتقذى

رحمة لا شماتة بالمشين

وهي تواقة إلى كل سطر في كتاب

وهامش في متون

وهي ماء فكيف تستخرج الماء

من الماء بالشبا المسنون

كيف تجري السكين فيها وفيها

رقة لا تطيق همس الجفون

وهي من لفظة تذوب حياء

من عتاب الهوى ولوم الخدين

فلتكن في يديك أسرار عيسى

وهداه ومعجزات الأمين

يا إلهي سملت للطب عيني

وأنت الطيب فالطف بعيني1

وقصيدة "الظل والضوء ص68-70"، وقصيدة "قصيدتي فيك ص 95-96"، وقصيدة "مسافر ص101-103".

ومما فاض به وجده الشاعر قصيدة "حب ونار" يقول فيها:

لعينيك في قلبي رموز وأسرار

ودين من الأهواء يجني ويشتار

يرنحني منها صفاء مشعشع

كما انعكست فوق البحيرة أنوار

ويسحرني منها حياء مهذب

كما انكسرت من مقلة الشمس أزهار

ويأسرني منها لقاء محبب

كقطر الندى يلقاه في الروض نوار

إذا عانقتني رفة من جفونها

ودغدغني منها ابتسام وإسفار

تطلعت مشبوب الجوانح والجوى

وبي وله يحتاجني منه إعصار

1 نفحات الجنوب: 55/ 58.

ص: 97

وحومت كالطير الذي شفه الصدى

ورفرف من شوق جناح ومنقار

فررت فرار الحلم من عين نائم

صحا فإذا الرؤيا قفار وآثار

فنونك يدنيني إليك فأنتشي

وصوتك يقصيني فأصحو وأحتار

فيا أنت يا أنت البخيلة بالهوى

على كبد كانت من الحب تنهار

لمرآك في قلبي نعيم وفي دمي

جحيم وفي عيني غيم وأمطار

رضيت بما يرضيك قسرًا وليس لي

خيار ولو خيرتني كيف أختار؟

تحيرت في أمري وأمرك واستوى

لدى الدجى والنور والماء والنار1

فالشاعر هنا يغتلي وجدانه، وتلتهب مشاعره في سبحة شاعرية يتأمل فيها أحاسيسه، ويتجاوب مع وجدانه، وجدان الحب الطاهر، لا في وصف حسي يثير الشهوات والنزوات كما في الغزل الحسي، ولا في غزل عذري يعزله عن الناس والحياة الأعمال، بل الشاعر كما نعرفه لا يزال يخوض غمار الأعمال، وإدارة المؤسسات بقدرات الرجال، وعزيمة المؤمنين.

ولذلك كان غزله تأملًا، ووجدانه يعبر فيه عن حب الإنسان الذي يوقر أخاه الإنسان، ويحافظ على مشاعره وإنسانيته، ويتضح خصائص الشعر الوجداني عند السنوسي على النحو الآتي:

1-

السحر في عينها ترك قلبه في حيرة وتأمل، وصرع عقله برمزه ولغزه، ليظل حائرًا لا يستقر على الحقيقة، مما شبب هواه وأثار وجدانه، لكنه هوى مصون بالعفة، ووجدان مأسور بالدين وحسن المعاملة، كذلك السحر في جمالها رقيق طاهر كانعكاس أنوار الحياة على صفحة الماء الرفيق الطاهر.

2-

ليست حبيبته فاجرة عانسة؛ لأن السحر في حيائها وأخلاقها المهذبة كحياء الأزهار من مقلة الشمس، وهذا ما يستبد بعقله ويأخذ بمجامع قلبه، لا تبذل، ولا فحش- لكنه كالندى حين يصافح الورود والأزهار في وقت الصباح.

3-

أما تراسل الأجفان، وبرق الابتسام، وبريد جمال الوجه يشب في وجدان نار، ويغتلي صدره جوى، ويجتاح جسده إعصار فيه نار، فيشفي غلته بالرؤيا والنظر، كما يحوم الطير من بعيد، ليلطف حرارة الشوق بنشاطه وجهده، كما تلطف رفرفة الجناحين حرارة الجسد ولهيب الأحشاء، وليس هذا على سبيل الحقيقة والواقع؛ لأن دينه وخلقه يمنعه من ذلك، لكنه على سبيل الحلم والخيال والتأمل والوجدان، يقول:

فررت فرار الحلم من عين نائم

صحا فإذا الرؤيا قفار وآثار

1 الآغاريد: 38/ 40.

ص: 98

4-

فتنة الحبيب تقربه إليها، فيزداد وجدًا على وجد، إلَّا أن صوتها الإنساني يوقظه إلى ما يجب عليه من حقوق الحب الطاهر، فيعود ثانية إلى لهيب الوجدان، ليناجيها بالبخل على كبد ذاب حبًّا، ونفس انهارت وجدًا، فرؤيتها نعيم، لكنه يترك وهنًا في الجسد، وحيرة في العقل، وعينًا تسبح في الدموع، وتذهب في الغيوم، وأصبح من الحيرة في حياة استوى فيها الظلام والنور، والماء والنار.

5-

لا تجد في القصيدة لفظًا فاحشًا، ولا عبارة بذيئة، ولا تصويرًا وضيعًا، ولا شهرة محرمة، ولا نزوة حيوانية، وإنما غاية عنده وجدان يغلي وشعور فياض، وتأمل وحيرة، وسياج من التشريع والخلق يمنعه إلّا بحقه، ولا عيب في حب الشاعر، فهذا أمر فطري، ولكن العيب والأسى في اتخاذ الحب طريقًًا لا يرضى عنه صاحبه، ولا ترضاه القيم الفاضلة، ويخضع له معذبًا تائهًا على وجه الأرض.

وترى السنوسي إذا أسرف على نفسه في الغزل يكون محتفظًا في تصويره، يقول في"حسناء الريف":

ريفية تهتز أعطافها

خصوبة من مرح وارتياح

ترعرعت بين ظلال الربى

ونسمة الوادي وعزف الرياح

تحية مني إلى "غادة"

هيفاء لفاء كعاب رداح

في الشمس والظل نمت واستوت

فهي مثال للجمال الصراح

تختال من دل ومن صبوة

في حسنها النشوان من غير راحل

لا ما رأت عيني على ما رأت

من الحسان الرائعات الصباح

مثلًا لها في حسنها غادة

باح لها الحسن بما لا يباح

عينان ما عين المها والظبا

وقامة ما البان؟ ماذا الرماح؟

وغرة من غير "تسريحة"

تربع السحر بها واستراح1

وهذه القصيدة هي الفريدة من نوعها في شعر السنوسي، قصدت ذكرها حتى لا أترك احتمالًا من بعدي، وقد اجتمع فيها من التصوير الحسي للمرأة ما لم يجتمع في غيرها من شعره الوجداني، ومع ذلك تجد أن التصوير فيها لا يعدو منهج الشاعر في غزله من التحفظ وطرح الفحش والابتذال المعروف في شعر الغزل الماجن، وعلى سبيل المثال: فاهتزاز الأعطاف لا الردف، وخصوبتها لا عن مجون وخلاعة وفحش، بل عن طبيعة أصيلة نشأت عليها،

1 أزاهير: 38/ 40.

ص: 99

وتكونت من النعيم والوفرة والسخاء، فقد عاشت في بيئة مترعة معشوشبة، غنية بالزروع والأشجار والثمار، تداعبها نسمة الوادي بأوتار الرياح، وهي تروح وتغدو بين أشعة الشمس ودفئها، وبين حنان الظلال ورقته، وتزهو بسحرها في دلال النساء، وصبوة الحسن، ونشوة الجمال، لا نشوة الخمر، ولا دلال الراح، وتضاءلت عيون المها والظبا أمام جمال عينيها، وجفَّ غصن البان عند قدِّها الطري، وتصلب الرماح بجوار خصوبة قامتها، وأما وجهها فلا يحتاج إلى صناعة النساء اليوم من التسريحات والتشكيلات؛ لأن السحر قد أقام عندها واستراح.

هذه الأوصاف التي تصور جمال المرأة يستغني عنها الشاعر، وإنما الذي أسف فيه شعراء المجون أنهم صوروا نزواتهم وأبرزوا شهواتهم عند كل وصف، وشاعرنا السنوسي ليس من هؤلاء الشعراء، بل ترفع في غزله وخلقه عن ذلك، ولهذا أطلقت على شعره في الغزل شعر الوجدان والتأمل.

ولهذا كان الشعر الوجداني والتأملي لا يشمل الغزل وحده، ولكن قد يصور فيه الشاعر تأملاته في الحياة، كما في قصيدته "أمامك الدنيا" يقول1:

أمامك الدنيا ترهق القلب والعقلا

فيا خاطري رفقًا وناظري مهلا

تحير فيها المصلحون وأعجزت

نهى الفيلسوف الفذ والشاعر الفحلا

طلاسم تعيي الفكر فهمًا فينحني

خضوعا لها مهما تكبر واستعلى

يعيش بها الإنسان طفلًا وإن بدا

لعينيه كهلًا ثم يتركها طفلا

إلى قوله:

ولذ بحِمَى الإيمان وارض بما قضى

به الله واعلم أن حكمته أعلى

فللدين فضل في الحياة لأنها

بغير الهدى تغدو جحيمًا به نصلى

وثق أن من أعطى الحياة جمالها

وأقواتها لم يهمل الدود والنملا

ومثل قصيدة "الموج والشاطئ"، وقصيدة "لمع السراب" التي يقول فيها:

أرح عينيك من لمع السراب

وقلبك من أمانيه العذاب

وعد عن قشور وإن تراءت

رقاقًا في الضباب وفي السحاب

فقد فاض الطلاء على حياة

تفيض بها الكئوس بلا شراب

يضوع عبيرها من غير عطر

وتزخر كالبحور بلا عباب

وتزهو بالرياض بلا زهور

وتزهو بالثمار بلا لباب

1 الينابيع: 30/ 32.

ص: 100

يشيب شبابها من غير شيب

ويبدو شيبها مثل الشباب

تتيه بها الجسوم بلا علوم

وتفتخر الفهوم بلا كتاب

مموهة تروق العين حسنًا

خضاب في خضاب في خضاب

فقد صيغ السراب حياة عصر

مخضبة الأظافر والإهاب

وصرت أشك حتى في مياه

أخوض بها ولو بلت ثياب1

ثالثًا: شعر الطبيعة

تعاطف السنوسي مع مفاتن الطبيعة ومظاهر الحياة الجذابة في إبداع أدبي، وموهبة شعرية صافية، وقريحة وقادة، وعاطفة مشبوبة بالمدينة التي نشأ فيها لا ينساها، بل تؤجج ذكراها شاعريته من حين لآخر، فمرة يناجيها، وثانية يتعاطف مع جبل "فيفاء" فيها، وثالثة يغني له، ويغرد به، ويعزف بأوتارها لحن الخلود، في شعره الخالد، لتظل القرية وجبل فيفاء وأغانيها مشدودة بالأرض، بل تسمو خالدة في أسماع الزمان، ويصير لحنًا يعزف، ووترًا يضرب في كل قرية وجبل، وأغنية حبيبة إلى نفس عاشقها، وحصاد أرضها ومائها ونبتها هو شعر السنوسي الذي يتفجر عن تجربة ذاتية للشاعر.

فأما القصائد التي جاءت في ديوان "القلائد" منها "اللحن السجين ص72-75"، وقصيدة "شذى الرياض ص76-81"، وقصيدة "موكب السحاب" في سماء تهامة وخاصة أيام فصل الربيع يقول: منها:

هب والأفق ديمة وغمامة

وجبين السماء بادي الجهامة

إلى قوله:

عيلم تسبح الكواكب فيه

وتشق الدجى به عوامه

ضربته الرياح فاستقبل الأرض

حثيثًا يبثها آلامه

ثائر والسكون يضفي على الكون

جلالًا والليل يرعى نيامه

جل الأرض والسماء واعيًا

صائل الرعد أن يدك ركامه

غدق أيقظ الحياة على الأرض

وأحيا من الوجود رمامه

سال عبر الفضاء ذوب لجين

واستفاضت به البطاح مدامه

وجرى في الشعاب تبرًا مذابا

وسجى عسجدًا وفاض رخامه

دوحة عند جدول وغدير

عند عشب وظبية وبشامه

ومروج تهدلت تملأ الوادي

وتستوقف النسيم سلامه

1 الينبايع: 36/ 37.

ص: 101

سطعت في ظلالها لمع الشمس

ورقت بها دموع الغمامة

ومشت حولها المها تقطف الزهر

وتحسو الندى وترعى الخزامة

وشدا في الفروع صادح أيك

جاوبت لحنه الرقيق حمامه1

وقصيدة "ساعة في الريف ص158-162"، وقصيدة "ليلة الرابية ص170-172"، وقصيدة "الجنوب الخصيب" منها:

ويا وطني وأنت ولا أغالي

نجي الشعر شطآنًا وغابا

قرأت على شواطئك القوافي

محبرة تفيض بها عبابا

خضمًا تغرف الأمواج منه

صدى حلوًا وأنغامًا عذابا

تنام على جوانبه الرابي

معطرة مخدرة كعابا

وتغضو فوق ضفته الرواسي

نواهد عز خاطبها وغابا

تضم صدورها أغلى الأماني

وأحلالها وأكرمها رغابا

عذاري لم يفض لهن ختم

ولا كشف النقاب لها نقابا

فهل لي أن أراك وقد تجلت

بك الأحلام رائعة عجابا2

وأما في ديوان "الأغاريد" فقد ضمَّ قصائد هي: قصيدة "عودة إلى الطبيعة ص22-25"، وقصيدة "جبل فيفاء ص26-30"، وقصيدة "حديث من الظهران ص65-68"، وقصيدة "أغنية فيفاء ص79- 81"، وقصيدة "يا ربيع الحياة ص82-85".

وأما ديوان "أزاهير" فذكر السنوسي فيه قصيدة "جازان أغنية ص30-31"، وقصيدة "شمعة على الطريق ص32-34"، وقصيدة "عرس الفجر ص41-43"، وقصيدة "تحية إلى أبها ص74-76".

وأما ديوان "الينابيع" فاشتمل على قصيدة "الليل والريف ص90"، وأخيرا ديوان "نفحات الجنوب" يضم قصيدة "نفحة الياسمين ص62-64"، ومنها:

عرفتك يا نفحة الياسمين

كما يعرف العطر جاني الزهر

فأجبت فيك جلاء الحياء

وعز الإباء وطهر الخفر

وأكبرت فيك ضياء النهى

ولمع الذكاء وصفو الفكر

1 القلائد: 96/ 101.

2 القلائد: 173/ 178.

ص: 102

أشاعرة أنت واستضحكت

وغرد أغن أغر

ثملت بألحانه الحالمات

ورفرفت كالطير بين الشجر

يرقرقه نغمًا صافيا

شهي الحلاوة عذب الشجر1

وقصيدة "لؤلؤة الخليج ص112-119"، ألقاها الشاعر في قاعة المحاضرات بالمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون بدولة البحرين الشقيقة، وذلك في الأمسية الشعرية التي أقامها المجلس تكريمًا لأعضاء الوفد الأدبي السعودي، أثناء زيارته لدول الخليج، وكان الشاعر أحد أعضاء الوفد، وهم "الأساتذ أحمد فرح العقيلان، المستشار الثقافي بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، والأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي، السفير بوزارة الخارجية، والأستاذ الشاعر محمد علي السنوسي رئيس النادي الثقافي بجيزان، والأستاذ الشاعر الباحث والمحقق أبو عبد الرحمن بن عقل الظاهري، رئيس نادي الرياض الأدبي، والأستاذ محمد هاشم رشيد، عضو النادي الأدبي بالمدينة المنورة، والأستاذ الأديب حمد القاضي، مدير تحرير مجلة "المجلة العربية "يقول فيها:

ما بين كاظمية وبين زرود

والمنذر العملاق والجارود

أطرقت أصغي للخليج تهزه

نغمات طرفة وارتجاز لبيد

والبحر تلثمه الرياح فينثني

باللؤلؤ المنثور والمنضود

والمسك من دارين معطار الشذى

يهفو النسيم به ونفح العود

والسفن تمخر والضفاف يزينها

عزف القيان وزعردات الغيد

إلى قوله:

يجري العباب بها فتجري حفلًا

بالدر بين فريدة وفريد

تهدي إلى التيجان كل يتيمة

ملء العيون سنا كل مجيد

أيام كان الدر سلعة تاجر

وركاز سلطان وذخر عميد

حر الأصول كريمة أعراقه

صان من التصنيع والتقليد

يحظى بتقدير الملوك وعزهم

ويصان من عبث ومن تبديد2

وقصيدة "أبو ظبى" ألقاها الشاعر في قاعة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بدولة الإمارات العربية المتحدة "بأبي ظبي" في 23 / 7/ 1399"هـ ويقول: منها:

1 أزاهير: 62.

2 نفحات الجنوب "112/ 119.

ص: 103

رفقًا بقلبك من ظباء "أبو ظبي"

فالسحر في تلك المحاجر مختبي

وحذار من تلك العيون فإنها

لتعيد قلب الشيخ يخفق كالصبي

يا حلوة العينين حسبي من هوى

عينيك تسهيدي فغني واطربي

صحراؤنا العذراء لا ينمو بها

إلا الهوى العذري والحسن الأبي1

ودائمًا تغريه الطبيعة لأنه أحبها، وتلوح له بالمشاركة لأنه امتزج بها، وتهمس إليه بأسرارها فيفض بها في شعره، وتحنو عليه فتلتهب عاطفته، وتشرق له بابتسامتها وزورعها وأزهارها وثمارها فيخلدها في شعره، لأنها تستحق الخلود، فهي تعطي وتنشر الرخاء ولا تضمر كيدًا ولا أذى لأحد؛ لأنها مسرح الجمال، وموطن المتعة والانهيار، كيف تكون؟ والشاعر على أرضها قطع عمره فلم تبتئس وتقصر عن أداء واجبها، وتفجرت أحشاؤها بالعطاء الجزيل لينعم الإنسان عليها فهي جديرة بالحب من الإنسان، وحرية بالمشاركة والتعاطف والحنين، وفي النهاية نحن البشر منها وإليها {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ، والقرآن أعطى صورها بأنها كائن حي يعطي كعطاء الإنسان، وتضن حين تبخل السماء، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 3.

وكثيرًا ما يعود السنوسي إلى الطبيعة، وفي "عودة إلى الطبيعة" يقول:

قريتي قريتي الوديعة يا عش

ويا مقر جناحي

طبع الله حبك العذب في قلبي

ولم يمحه سوى الله ماحي

يا ربي لج بي هواها فما ينفك

نشوان من هوى ملحاح

كم ترشفت من جمال لياليك

فتونًا من الصبا والمراح

وتنشقت من حلال مجاليك

فنونًا من الشذى الفواح

في الدجى والنجوم تغزل أحلام

العذاري على صدور البطاح

والضحى والغيوم ترسم في الوادي

طلالًا ندية الأرواح

والنسيم النشوان يحتضن الزهر

رفيقًا كطيبة الفلاح

الذي قلبه أرق من الطل

وأصفى من الزلال القراح

والذي يزرع الحقول بذورا

وزهورًا بهمة وكفاح

والذي يملأ القلوب شعورًا

بجمال الطبيعة الممراح

1 نفحات الجنوب: 120/ 123.

2 سورة فصلت: آية 39.

3 الحج: آية 5.

ص: 104

إلى قوله:

قريتي قريتي الوديعة يا عرش

فؤادي ويا مقر جناحي

كلما ضمني دجاك ورقت

نفحات الصبا على الأدواح

وانتشى الكون بالعبير وراح

السيل يختال في السهول الفساح

يغمر الأرض بالنعيم غزيرًا

ويهز القلوب بالأفراح

نعمت روحي الكئيبة بالصفو

وصحت من الأسى والجراح1

وهكذا إلى آخر القصيدة في طبيعة هادئة وديعة، يحتضن القلب بدفئها وحنانها ويستقر الإنسان ويسعد في أحشائها؛ لأن الله فطر القلب على محبتها، فلن يتزحزح من موطنه مهما عصفت العواصف، فمن رحيق الليالي يرتشف الجمال من الصبا والمراح فتونًا وألوانًا، ويستنشق من الحدائق الطيب الفواح والنشر الشذي، وفي الليل تجسم النجوم أحلام العذاري حقائق الخير على وجه الأرض، والضحى والغيوم ترسم ظلالًا ساحرة بالندى الفواح، والنسيم رقيق طيب كرقة الفلاح، فالطبيعة عنده هي المعلمة والقدوة تعلمه الرقة وتطبع فيه الصفاء، فالرقة ارتشفها من الزهر ومن الطل، والصفاء انساب فيه من الماء العذب الزلال، تجاوب بين الانسان وبين الطبيعة، فيهتز الكون طربًا بالعبير، ويتدفق السيل يختال في السهول وتنغمز الأرض بالنعيم، وتهتز القلوب بالأفراح والسرور.

تلك هي خصائص الفن الرفيع في شعر الطبيعة الساحرة، التي أحبها الشاعر وأحبته، وتعاطف معها وتعاطف معه، وهام بها فألهمته أسرارها، وأنس إليها ففاضت عليه من خيراتها، فبادلها من شعوره شعرًا خالدًا لتبقى خالدة ما دامت الحياة.

والسنوسي يعشق وطنه، الذي نشأ فيه وترعرع، فيتغنى بسهوله وجباله، وحواضره وبواديه، فيشدو بمدينة جازان ويقول:

جيزان يا درة الجنوب

الباسم الناعم الخصيب

لكل قلب اليك شوق

مضمح من هوى وطيب

وأنت في روعة المجالي

وسحرها الفاتن اللعوب

عروسة الشعر والأغاني

منية النفس والقلوب

وأنت أنت الهوى المصفي

للفن وللحب والحبيب2

ويحيي أبها عروس الجنوب فيقول:

1 الأغاريد: 22/ 25.

2 أزاهير: 30/ 31.

ص: 105

تنورتها من وراء السحاب

وبي وله نحوها وانجذاب

فلاحت لعيني داراتها

لآلىء منثورة في الشعاب

تألقن والليل وصف الدجى

وأشرقن والصبح كث الضباب

نشاوى ترفرف أنفاسها

بروح الصبا وعبير الشباب

تنام بأحضانها الأمنيات

كنوم الجداول في حضن غاب

وأبهاء من وطني درة

يفوق المدى قدرها والحساب

ترى الشمس في جوها لوحة

وتحسبها صورة في كتاب

وتبدو الكواكب في أفقها

على قاب قوسين من كل باب

تبرح فيها جمال السمال

وألقى غلائله والنقاب

وباحت بأسرارها الكائنات

فشف السنا وتجلى اللباب

كأنك فيها على ربوة

من النجم أو رفرف من سحاب1

وجبل "فيفاء" متحف رائع يلهم السنوسي فنه، فهو مصدر الشعر ينفث لسانه سحرًا، وقلمه بيانًا، وخواطره فكرًا وعبرًا، ووجدانه خيالًا وانطلاقًا:

متحف من أشعة وظلال

في إطار من نضرة واخضلال

سابح في الفضاء يغمره النور

بفيض من السنا والجلال

مسرح الشعر والبيان ومسري

لمحة الفكر وانطلاق الخيال2

ويقول في "أغنية فيفاء":

لست فيفا أنت جنة

تلهم الشاعر فنه

إنه فوق بياني

جل من أبدع فنه

كل شيء فيك حلو

أنت يا فيفاء جنه3

رابعًا: المدح

شعر المدح عند السنوسي محدود، لم يستغرق كثيرًا من دواوينه، فقد سبق أن نوَّه النقاد بأن الشاعر لا يتكلف القول، ولا يقول ما لا يعتقد، ولا يمدح إلَّا من يستحق المدح، ولا يثني على أحد إلا بما هو أهل الثناء والتقدير، ولا يمدح إلَّا من يرى أنه أهل للمدح، وإذا مدح كان صادقًا في مدحه، قوي العاطفة في ثنائه وتقديره، في تجربة شعرية متدفقة قوية عميقة.

1 أزاهير: 74/ 76.

2 الأغاريد: 26/ 30.

3 الأغاريد: 79/ 81.

ص: 106

خصبة في معانيها وخيالها وصورها الأدبية كالشأن في سائر الأغراض الأدبية في شعره.

فأمَّا المدح في ديوانه "قلائد" فقد اشتمل على قصيدة "درة التاج ص1، 2" يمدح فيها الملك سعود في ملكه وحكمه، وقصيدة "البيعة ص3، 5" يمدح فيها الملك سعود ووليَّ عهده الفيصل، وقصيدة "خطاب العرش ص6، 7" يمدح فيها ملوك العرش السعودي، وقصيدة "وعد ملكي كريم ص8، 9"، يمدح الملك سعود -رحمه الله تعالى.

وأما المدح في ديوانه "الأغاريد" نجده في قصيدة "أجنحة التاريخ ص4، 5"، وقصيدة "وردة ص89-92" مهداة للشاعر الكبير عبد القدوس الأنصاري، وقصيدة "سوزان ص93-96" مهداة للشاعر عبد الله القرشي تحيةً لديوانه "سوزان"، وكذلك "نشيد الجيش العربي السعودي ص97، 99"، وقصيدة "لم يفتك القطار ص100-102" مهداة لصديقه الأستاذ شكيب الأموي.

وأما ديوانه "أزاهير" فقد ضمَّ قصيدة "البلبل الحيران ص17-19" مهداة إلى سمو الأمير عبد الله الفيصل، وقصيدة "من شعاع القناديل ص24، 25" مهداة إلى الشاعر الكبير الأستاذ أحمد قنديل، تحية لروحه الشاعرة، وفكاهته الساحرة.

وأمَّا ديوانه "الينابيع" فنجد قصيدة "لقاء القائد بالشعب ص45، 46"، وقصيدة "البحر الأخضر ص67-70" تحية وتهنئة، مهداة لصديقه الشاعر محمد حسن عواد بمناسبة انتخابه عضوًا بالمجلس الأعلى للعلوم الآداب والفنون، ورد عليها العواد بقصيدة يمدح فيها السنوسي بعنوان:"مواطن العطاء في الإنسان" يقول في مطلعها:

والوشي جاء منمقًا ومنمنمًا

والظرف طالعنا بها متبسمًا

واللمس كان موشَّحًا والحسن كان

مصرحًا واللطف كان مسلمًا

غرًّا من جيزان يرقصها النهى

تيهًا ويمنعها الحياء تقدمًا

أ "محمد بن علي" العالي الذري

نسبًا سلمت إذا ابن آدم سلما1

وأما ديوانه "نفحات الجنوب" فقد ضمَّ قصيدة "نايف في جازان ص44-51" استقبل بها السنوسي سمو الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية لمنطقة جازان؛ للتعرف على مطالبها واحتياجاتها، في شعبان 1398هـ، ومنها:

لك يا صاحب السمو مواقف

أنت فيها ملء النهى والعواطف

كان عبد العزيز يرنو بنور الله

لما ولدت سماك نايف

1 جريدة البلاد بتاريخ 17/ 11/ 1394هـ.

ص: 107

غمرت بالشذي الشواطئ والأرياف

حتى الذريّ وحتى النتائف

تحمَّلت في سبيل الرعايا

وقدة الصيف والرياح العواصف

وهكذا كل حاكم مستنير

راحة الشعب همه لا المصايف

قالها قبل أن أقول أبو حفص

فكانت أنموذجًا للخلائف

أنا لو ضاع في العراق بعير

جئت يوم الحساب والحشر خائف

إلى قوله:

إن جازان سلة الخبز ما زالت

تعاني عوائقًا وصوارف

قيدت خطوات وشلت قواها

فهي ظمأى وأنت كاللغيث واكف

فلماذا جازان يبدو محياها

كئيبًا وثغرها الحلو كاشف

وهي أم الحقوق والزروع والضرع

وبنت السيول طام وجارف

وهي مرسى الجنوب تكتظ بالتفريغ

والشحن من تليد وطارف

نحن في عصر نهضة وانطلاق

عزمها للصعاب والصخر ناسف

وحرى بأمة أنت منها

أن تراها على السحاب نوائف1

وقصيدة "رشة عطر ص75، 76"، أهداها السنوسي لأخيه غازي القصيبي، تحية لهديته النفيسة ديوانه "أبيات غزل" في عام 1396هـ، وقصيدة "ضياء الدين رجب"، لكنها أنين وأسى من خلال مدح السنوسي له.

والمدح في شعر السنوسي اصطبغ بصبغة طريفة، وارتدى ثوبًا جديدًا، فلم تغلب عليه النزعة الفردية، ولم تسيطر فيه عناصر المدح القديمة الشخصية، فالممدوح كالهزير لا يشق له غبار سيفه بتار، وكالبحر جودًا، وكالشمس رفعة، والقمر ضياء، يفك العاني، ويعفو عن الجاني، وهو الكريم الشجاع الهمام، ذو المروءة، والنجدة، وسليل المجد والرفعة والشرف، وهكذا مما استغرق فيه الشعراء القدامي.

لكن السنوسي لم يسلك هذا الطريق من المدح، بل كان المدح عنده يأخذ اتجاهين:

أحدهما: المدح للملوك والقادة، ولم ينهج فيه منهج السابقين من المدح الفردي والشخصي، وإنما خرج عنه وجعله مدحًا اجتماعيًّا لا شخصيًّا وتمجيدًا للقيم والمبادئ المتمثلة في الممدوح لا ثناء على الفرد وحده بصفاته الذاتية؛ ليقوم المدح عنده على المشاركة بين الممدوح وبين شعبة ورعيته، وهو شعور متجاوب بين الحاكم والمحكوم في بناء الوطن الحبيب، وهكذا السنوسي كان في مدحه للملك عبد العزيز -طيَّب الله ثراه، وابنه الملك سعود في القلائد،

1 نفحات الجنوب: 44/ 51.

ص: 108

ومدحه للملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- في قصيدته "لقاء القائد بالشعب" يقول فيها:

يا أبا خالد يحييك شعب

حبه فيك قد أذاب فؤاده

أنت أعطيته الرعاية والعطف

فأعطاك قلبه ووداده

أنت أعطيته السعادة والعز

فأعطاك مخلصًا أكباده

أنت حققت حلمه وأمانيه

وحسدت بالفعال مراده

كل يوم لنا ابتهاج وعيد

بأياديك نهضة وإشادة

أيّ شعر يوفيك حقك والشعر

عيي وإن أجاد جياده

أنت فوق القصيد فوق الأناشيد

خلالا وعزة ومجاده

غير أن الشعور يتخذ الشعر

سبيلًا إلى العلا مستجاده

وإذا الروض جاده القطر

غني كل طير ورغردت كل غادة

عشت يا فيصل العروبة للشعب

إمامًا وفي يديك القيادة1

وأشاد السنوسي بالملك فيصل في قصائد كثيرة ذكرتها في مكانها من الغرض الأول وهو الشعر الإسلامي؛ لأنني رأيت فيصلًا فيها قد أصبح شخصية عالمية، وزعامة إسلامية كبرى، ذابت فيها فرديته في قضايا الأمة الإسلامية ومبادئها السامية، فأصبحت هذه القصائد لا تمجِّد شخصه، وإنما هي تصوير لواقعنا الإسلامي والعربي، وتعبير عن مبادئ التشريع الإسلامي، فخرجت عندي بذلك على قصائد المدح المعروف، والتي دخلت فيها القصيدة السابقة "لقاء القائد بالشعب" لأنها أدخل في باب المدح، لكنها مع ذلك ليست مدحًا فرديًّا، لكنه مدح تجاوبت فيه أصداء الراعي مع الرعية يتمسكون جميعًا بالقيم والمباديء في سبيل نهضة بلادهم ووطنهم السعودي، فهو مدح جديد وهو "المدح الاجتماعي".

ولست مع الدكتور بكري شيخ أمين في أنَّ السنوسي كان معظم شعره في الغزل والمدح كسائر الشعراء في عصره، فيقول ما نصه:

"فريق من الشعراء انحاز إلى الموضوعات التقليدية فكانت معظم قصائده في الغزل أو المديح أو في غيرهما كابن عثيمين، وعبد الله الفيصل، وغادة الصحراء، ومحمد بن علي السنوسي، وفؤاد شاكر، وأحمد الغزاوي، وأحمد جمال"2.

والسنوسي ليس كذلك، فقد رأينا أن معظم الأغراض عنده غلب عليها غرض الشعر

1 الينابيع: ص45/ 46.

2 الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية: ص274/ 275.

ص: 109

الإسلامي، ولم يكن عنده غزل بالمعنى التقليدي الذي ذكره، ولكن غزله صبه الشاعر في شعر وجداني تأملي جديد، وكذلك المدح لم يكن تقليديًّا كما قرنه بغيره من الشعراء، بل صبغ مدحه بصبغة جديدة في ثوب طريف، وهو المدح الاجتماعي لا الفردي.

ثانيهما: والاتجاه الآخر في مدحه جديد كله، في طريقه عرضه وفي موضوعه، وفي طريقة أدائه، وفي مزجه بالطبيعة ومظاهر الحياة، فهو مدح للعلم والشعر في ذات عالم وذات شاعر، أخذ إطارًا محدودًا محليًّا ووطنيًّا، لا إطارًا عالميًّا حضاريًّا كما سنرى في غرض عند الشاعر أطلقت عليه شعر الحضارة والعلم وسيأتي بعد، ومن شعره في هذا الاتجاه الثاني قصيدة "البلبل الحيران" التي أهداها الشاعر إلى صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر المبدع "عبد الله الفيصل" قال1:

رُبَّ لحن جماله لا يبيد

صاغه للقلوب قلب عميد

نحسد الطير في رباها ولا

نعلم ماذا يكابد الغريد

ووراء السنا فؤاد شقي

ووراء الدجى فؤاد سعيد

قلت للصادح المرفرف في

الروض علام الأنين والتسهيد

ولك الظل والشذى والأزاهير

نشاوي يحلو بين الوجود

والزلازل النمير والنور والنوار

والنبع صافيًا والورود

والندى والنسيم والأفق الطليق

ورحب من الفضاء مديد

وسماء كما تشاء وآفاق

كما تشتهي وكيف تريد

وليس الأمس مشرق يملأ النفس

جلالًا واليوم زاه مجيد

فشدا شاكيًا وردد صوتًا

عبقريًّا له جمال فريد

ماج في رحبة السكون وفا

ضت في معانيه روعة وخلود

كان "وحي الحرمان" من فيضه

السمح ومنه أنغامه والقصيد

في طراز من البيان رشيق

لا غموض فيه ولا تعقيد

في ثغور الحسان منه أغاريد

ومنه على النحور عقود

وله في فم المغني أناشيد

وفي عوده له تغريد

وهو كالماء سلسبيلًا وكالنور

صقيلًا قديمه والجديد

1 ردًّا على قصيدته "حيرة" التي أهداها إلى الشاعر السنوسي في جريدة البلاد - عدد 2930 بتاريخ 8/ 7/ 1388هـ، ومطلعها:

أنا في حيرة أموت وأحيا

كل يوم وأدمعي في شهود

ص: 110

كان "ابن المعتز" يعتز بالشعب

وإن رفرفت عليه البنود

ومضى واسمه يردده التاريخ

لحنًا يزينه الترديد

وحياة الهنا أجل وأبقى

يا أمير العلا رعتك السعود

فالسنوسي هنا لا يمدح سمو الأمير الشاعر بصفات المدح التقليدية المشهورة عند الشعراء القدامى، ولكنه يمدح عبقريته الشعرية، وإلهامه الأدبي في القصيد، فالشعر الجميل لا يبيد؛ لأن عميد الشعر صاغه للقلوب من وحي عبقريته التي امتزجت بالطبيعة والحياة، فهي خير وسيلة للوحي والإلهام؛ لأننا لا ندري لغة التغريد عند الطيور، ولا ما وراء السنا، ولا في حنايا الظلام والظل، والشذى والأزاهير، والزلال النمير والنور والنوار، والنبع الصافي، والندى والنسيم، والأفق الطليق، والفضاء الواسع، والماء والآفاق، والأمس المشرق، والنهار الصافي

لا ندري ما وراء ذلك، لكن "وحي الحرمان" صور كل ذلك من فيض الشاعر السمح، وأنغامه في بيان رشيق، لا غموض فيه ولا تعقيد، فأصبح في ثغور الفاتنات أغاني وأناشيد، وعلى نحورهنَّ عقود ولآليء، وفي الحياة كان ماء عذبًا سلسبيلًا، ونورًا مشرقًا مصقولًا؛ لأنه لحن الخلود الذي يبقى يردده التاريخ، كما رددته من قبل ألحان الخليفة الشاعر "ابن المعتز" يرن صداه خالدًا في جنبات الخلود.

وأظنك أنت معي الآن فيما اتجهت إليه، وهو أن هذا المدح جديد في أسلوبه ومنهجه، حيث تقمص مظاهر الطبيعة، لتعبر بوحيها كما يهدف الشاعر، ولها من الإيحاء والألغاز والأسرار ما يبهر العقل، ويستبد بالقلب، ومن وحي الطبيعة وأسرارها كان ديوان الشاعر "وحي الحرمان"، وليس فيه نبرة من مقومات المدح القديم، اللهم إلا أن الشاعر شبَّه الملوك بالملوك، شبَّه الأمير عبد الله الفيصل بالأمير العباسي عبد الله بن المعتز، إن كلًّا منهما ملك شاعر سطر التاريخ لهما الخلود بشعرهما وإبداعهما الفني.

ومن شعر المدح للسنوسي في هذا الاتجاه قصيدة "من شعاع القناديل" التي أهداها الشاعر إلى أخيه الشاعر الكبير أحمد قنديل يقول1:

حلوة هذه القناديل حلوه

فترنم بها سرورًا ونشوه

مرح آسر ولفظ ضحوك

لطفه يجذب الكسائي نحوه

كلما تموج بالهزل والجد

وفي هزلها وفي الجد صحوه

تنطوي في دعابها حكم العقل

رقاقًا بلا جفاء ونبوه

صاغها شاعر يرفرف كالطير

على نبعه ويختار صفوه

شعره مثل روحه رفة الزهر

رواء ورنة العود غنوه

1 أزاهير: 24/ 25.

ص: 111

وكذلك قصيدته "وردة" التي أهداها إلى الأستاذ الكبير عبد القدوس الأنصاري تحية لكتابه "تاريخ جده" ومطلعها:

أضاف إلى سنا التاريخ جده

كتاب صيغ في "تاريخ جده"

إلى قوله:

كتابك تحفة للتاريخ فنًّا

وأسلوبًا وتحقيقًا وجوده

زففت به إلى الدنيا عروسًا

لأعتاب مقدسة وسده

تألق حسنها وأضاء حتى

أعاد شبابها للبحر مده

ففاض على جوانبها غزيرًا

ومد ذراعه خيرًا وزنده

وصفق قلبه الجياش شوقًا

إلى ثغر الحجاز وهز قده

وغازل في شواطئها الأماني

ترف نضارة وتموج رغده

وغرد للجمال وقد تجلى

يضم الروض سوسنه ورنده

بلغت أبا نبيه ذرى المعالي

بنفس للمعالي مستعده

ومن حمل اليراع وكان جلدًا

على تبعاته أعطاه مجدة1

وفي هذه القصيدة يمدح السنوسي العلم والتاريخ في شخص العالم المؤرخ، لا على طريقة المداحين المقلدين للقدماء، ولكن في نهج جديد، وأسلوب طريف، فكتاب الأنصاري تحفة في التاريخ أسلوبًا وتحقيقًا وجودة، وعروس زفت إلى الدنيا على أبواب الأرض المقدسة الطاهرة، وفي حصن من حصونها، فأشرق جمالها على الحياة، وأعادت للبحر سيادته وقوته، ففاض غزيرًا على جوانبه، يصفق قلبه شوقًا إلى ثغر الحجاز في رقصات رشيقة ودلال مع الشواطئ، يرف نضارة، ويموج ثراء، ويعزف أوتار الجمال، فتهتز الأزهار والسوسن طربًا وشوقًا؛ لأن كتابه قد بلغ المعالي بهمته، ومنحه التاريخ مجدًا وخلودًا.

لا تجد وصفًا من أوصاف المدح التقليدي في هذه الأبيات التي اقتصرت عليها، وبقية القصيدة التي تسير على هذا النهج والأسلوب والطريقة الجديدة في المدح والثناء.

وكذلك مثل قصيدة "سوزان"، فهي كما يقول السنوسي باقة من شعور كريم

مهداة للصديق الشاعر حسن عبد الله القرشي تحية لديوان "سوزان" ومطلعها:

"سوزان" هذا الاسم من ركبه

يا ما أحيلاه وما أعذبه

من ذوب السكر في جرسه

فذاب حتى كدت أشربه

1 الأغاريد: 89/ 92.

ص: 112

وهكذا إلى آخر القصيدة، وكذلك قصيدته "البحر الأخضر" مهداة للصديق الشاعر محمد حسن عواد ومطلعها:

الأرض يحيها السحاب إذا همر

ويحيلها قلبًا وينطقها فما1

وهكذا في قصائده كثيرة وردت في الينابيع والأغاريد والأزاهير والقلائد، تسير على هذا النمط من المدح في ثوب طريف واتجاه جديد.

خامسًا: الشعر الاجتماعي:

وهذا الغرض لا نستطيع أن نحكم عليه بأنه غرض أدبي قديم، بل هذا الغرض لا بُدَّ أن يكون جديدًا؛ لأنه يصور المجتمع الذي يخالطه الشاعر، ولا شك أن هذا المجتمع يختلف عن المجتمعات التي سبقته بما يتناسب مع المرحلة التاريخية التي يعيشها الإنسان، فإنسان اليوم الاجتماعي غيره بالأمس، والمجتمع في المستقبل يختلف كثيرًا؛ لأنه يمثل مرحلة تاريخية نابعة من عصره ومجتمعه، ولذلك كان هذا الغرض جديدًا في أسلوبه ونهجه ومعانيه وموضوعاته.

وجاء هذا الغرض في بعض دواوينه مثل قصيدة "صورة شعرية ص44، 45"2، وقصيدة "اليتيم السعيد"3، وقصيدة "أتمنى"4، وقصيدة "لكل صابون ليفة"5، وقصيدة "كوكب الشرق"6.

وفي "صورة شعرية" يقول السنوسي في مقدمتها: "مهداة إلى كل وزير في بلادي الفتية" منها:

يا معالي الوزير إن الوزارة

علم رائع السنا بل مناره

يرقب الشعب نورها وصداها

أينما حلَّ ليله ونهاره

مثل ما ترقب المراصد نجمًا

تجتلي نوره وترعى مداره

ومن الشعب تستمد المعالي

ما لها من جلالة ونضاره

1 الينابيع: 67/ 69.

2 الأغاريد: 44/ 46.

3 الأغاريد: 86/ 88.

4 أزاهير: 9/ 12.

5 أزاهير: 13/ 14.

6 الينابيع: 87/ 89.

ص: 113

والوزير العظيم يحتضن الشعب

وآماله ويلقي دثاره

يتبنى أحلامه وأمانيه

بروح قوية جباره

بسهر الليل كي يحقق رؤيا

قومه في تقدم وحضاره

واضعًا عينه على كل فرع

وجهاز وشعبة وإداره

يتقصى ويستحث ويوصي

ويهز الكراسي الدواره

ويمد الموظفين بروح

منه وهاجة تشع حراره

وهكذا إلى آخر القصيدة التي يصور فيها كل وزير في أي بلد كان، ولا في تصويره ما يشير إلى الحدود الوطنية، ولا إلى بلد معين، بل جعل صورته الشعرية إلى كل مسئول وزيرًا كان أو غيره، في تصوير عام يشمل كل من يتحمل مسئولية الشعب، وينوب عن المجتمع في كل مشاكله ويسهر على راحته؛ ليحقق آماله وأمانيه، ويدفع الأذى عنه، ويرفض التأخر والرجعية، وذلك بروحه القوية الجبارة، ويمدده البناء الوهاج، حتى يدفع أمته قُدُمًا إلى الأمام، لترقي إلى مدارج الرقي والحضارة.

وهذا تصوير اجتماعي لكل وزير، بل لكل مسئول في أي موقع من مواقع العمل والإنتاج، في أي بقعة من بقاع العالم، ولذلك احتل شعره الاجتماعي مركزًا عالميًّا، فهو شعر إنساني عالمي بروح إسلامية عالمية، تحب الخير للإنسان في أي مكان، فكان السنوسي الشاعر السعودي الوحيد التي ترجمت قصائده إلى لغة أوروبية، ولعل هذا الجانب الإنساني الإسلامي العالمي في شعره هو الدافع الأساسي لانتشار شعره في العالم الغربي بلغة أخرى غير لغته العربية.

ومن روائع شعره الاجتماعي قصيدته "اليتيم السعيد"1:

راح يزهو عليه ثوب جديد

وعلى ثغره ابتسام سعيد

"برعم" من براعم الجيل مازال

طريًّا غصينه الأملود

أيقظته أشعة "العيد" ينساب

على الكون فجرها المولود

فصحا تشرق البراءة في عينيه

والطهر والرضا والسعود

هب من نومه يغني كما غنى

على الأيك بلبل غريد

وارتدى ثوبه القشيب وهزت

قلبه الطاهر النقي البرود

فمضى يملأ الشوارع رقصًا

وغناء يفيض منه الوجود

مرحًا في طفولة يستحب الر

قص منها ويستلذ النشيد

الأغاريد: 86/ 88.

ص: 114

مرَّ من جانبي يزقزق كالعصفور

في كل خطوة تغريد

فهفت مهجتي إليه حنانًا

أبويًّا يضمه ويزيد

وتأملته مليًّا وفي قلبي

سؤال به لساني يميد

وسألت الوليد في نشوة العيد

وقد سر بالسؤال الوليد

أين من أنت يا بني؟ وأصغيت

إليه وبي اشتياق شديد

فرنا باسمًا إليَّ بعين

شاع في لحظي الجواب السديد

أنا يا سيدي يتيم ولكني

"سعيد" لا بائس أو شريد

سكني وارف ومائي مسكوب

وزادي مرفه منضود

وفؤادي تربة من يد العلم

يدبره وقلب ودود

فانتشى قلبي المغرد وانثالت

قوافيه واستفاض القصيد

صورة شعرية طريفة، تجسدت في تجربة شعرية عميقة وصادقة لكل يتيم، لا في شخص اليتم الذي تسلطت عليه منافذ الإدراك عند الشاعر أثناء التقاطه الصورة الحية النابضة، فاليتيم صوَّره الشعراء قديمًا وحديثًا، ولكن السنوسي تميِّز عن غيره من الشعراء في طريقة العرض ومعالجة الموضوع، من أهم المميزات:

أولًا: أقام الشاعر حوارًا قصصيًّا بينه وبين اليتيم الذي خدعه عن اليتم مظهره وشكله، وصرفه عن الحقيقة فرحه وبهجته بالعيد، حتى تورط الشاعر في سؤال قد تكون عاقبته غير محمودة لو كان الولد يتيمًا بائسًا شقيًّا؛ لأن صورة اليتيم في القصيدة تتحرك في إطار مجمع مثالي، يؤمن بواجبه نحو الضعفاء والمساكين، فلا يرضون لأنفسهم أن يتجمد عضو مشلول في جسد الأمة الواحدة التي توحد بينها صفة الإنسانية والعلم والمعرفة، وحينما يكون المجتمع كذلك، يصير مجتمعًا أخلاقيًّا مثاليًّا رفيعًا، لا تجد فيه بائسًا ولا شقيًّا، بل ترفرف على الجميع ألوية السعادة وبنود الحبور، يقول اليتيم:

أنا يا سيدي يتيم ولكني

سعيد لا بائس أو شريد

سكني وارف ومائي مسكوب

وزادي مرفه منضود

ثانيًا: إن الشاعر جعل سبب الأسباب في سعادة اليتيم لا ترجع إلى العطف والحنان، ولا في كفاية الزاد والكساء، ولا في بحبحة العيش والثراء، وإنما ترجع إلى العلم، فهو وحده كفيل بتحقيق السعادة لليتيم، فبالعلم والمعرفة تعمر القلوب والعقول، فتفيض بالبر والخير والمودة والمحبة؛ لأن العلم هو الغنى الحقيقي، والثراء الدائم، الذي يطيل كنزًا خالدًا لصاحبه.

والعلم والشريعة والقرآن يسمو باليتيم محمد صلى الله عليه وسلم إلى شرف الرسالة، فيكون خير البشر.

ص: 115

جميعًا وأشرفهم وأفضلهم عند الله عز وجل، وعند الناس خلودًا وبقاءً وتشريعًا ونورًا ومعرفة واستقامة وبناءً وتقدمًا وحضارة.

وفؤادي تربة من يد العلم

يدبره وقلب ودود

فانتشى قلبي المغرِّد وانثالت

قوافيه واستفاض القصيد

ومن شعره الاجتماعي أيضًا قصيدته "أتمنَّى" ومطلعها1:

أتمني أنني لا أتمنى

فلقد بت بآمالي معني

المنى يا للمني من زورق

مارسًا يومًا ولا نحن وصلنا

يصور صديقًا يتمنى له موفور السعادة وراحة البال ورضى النفس؛ لأنه يطوي بين أحشائه قلبًا فاسدًا، وصدرًا يغتلي حقدًا، ونفسًا تفيض حسرة وألمًا، وفكرًا محمومًا بالبغض والكراهية.

ثم يتمنى لعدوه أن يبصره الله بالحق، وأن يدير يديه لا بالسلاح والنار، ولكن بالدليل والعقل والبرهان، وإلَّا كان فظًّا غليظ القلب، جهولًا لدودًا.

ثم يتمنَّى لرئيسه حكمة وللمرءوسين نشاطًا وأمانة، كل يؤدي واجبه، مهما كان الإنسان مظلومًا.

ثم يتمنى لوليده أن ينشأ نشاة صالحة مثله، ينزع في شبابه عن إجلال وحب ورياسة مترفعًا عن صغائر الأمور، عاشقًا للمعاني النبيلة والأخلاق السامية.

وفي المقطع الأخير يتمنى لمجتمعه أن يكون رائد الفكر قوي المشاعر، ميقوظ الوجدان، يرفض الزيف، ويعشق المجد، ويسمو إلى المعالي في فكر أصيل، ومنهج قويم، وضمير حي طاهر.. يتمنى كل ذلك لكن الأماني زورق تتلاعب به الأمواج وتعصف به الرياح، ويرتطم بالصخور والعقبات عبر الأزمان والأجيال يقول في المطلع الأخير:

أتمنى أن أرى مجتمعي

لوذعي الفكر مصقول الشعور

يرفض الزيف نهاه ويرى

وعيه اليقظان ما خلف القشور

يعشق المجد ويمشي للعلا

مستقل الفكر شفاف الضمير

المنى يا للمنى من زورق

لم يزل يجري بنا عبر العصور

أما قصيدته "لكل صابون ليفة" يصور فيها "النفاق والمنافق" في أبشع صورة، وأقبح.

1 أزاهير: ص9 وما بعدها.

ص: 116

منظر، فهو كالحرباء يتلوّن حسب أغراضه وحاجاته بألوان كثيرة، بل الحرباء قد استحيت منه؛ لأنه بلغ في طبعه المر، وخداعه العلقم، ونفاقه اللاذع حدًّا، اندفع به إلى مواطن الخزي والاعتداء، حين أخذ المنافق مكان الحرباء ودورها ليؤدي وظيفتها التي خلقت من أجلها {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

يقول السنوسي1:

أصدقائي أم أصدقاء الوظيفة

أنتم يا ذوي النفوس الضعيفه

الأولى تهزأون بالمثل العليا

وتلهون بالمعاني الشريفه

بسمات ملونات وأخلاق

وصولية غلاظ سخيفه

ونفاق ملون تخجل الحرباء

منه فتثني مكسوفه

تتدلى وتستكين وتنماع

وتغدو لكل صابونة ليفه

فإذا ولت الوظيفة ولوا

وأثاروا عليك حربًا عنيفه

خلق يشمئز منه كريم النفس

والطبع الخصال المنيفه

يا لنفسي من أنفس تقذف الحبر

عداء من الثياب النظيفه

وعلى كل جانب من قذاها

قذر يزكم الأنوف وجيفه

خضت في بحرها وكنت غريرًا

فطفا موجهًا وكانت حصيفه

أوجه كالبلاط لا تنبت الزهر

وإن كانت المياه كثيفه

وقلوب مثل الكهوف ظلامًا

والضحى يغمر الوجود مخيفه

غير أني وإن تألم قلبي

فهو ما زال كالظلال الوريفه

لست خبًّا والخب قد يخدع

البر وهذه حكاية معروفه

سادسًا: شعر الحضارة الحديثة

ومن الأغراض الجديدة في شعر السنوسي ما أنشده في التقدم العلمي والأدبي الحديث، ومظاهر الحضارة المعاصرة، فيصور هذا التقدم من خلال مشاعره وخواطره في تجربة شعورية مشحونة بالعاطفة القوية التي تجاوبت مع أحداث عصره، واستجابت لوسائل التقدم الحضاري، فأخذت موقعها من شعره، بعد أن أخذت مواقعها من حياتنا كلها العملية والنظرية على السواء، فالشعر القوي النابض والصادق هو قطعة من الحياة التي يعاني تجربتها الشاعر، ومقطع من شريط الدنيا له منزلة كبيرة بمقدار ما يسهم في تطور الحياة ويشارك في بناء حضارتها كجزء من أجزاء التاريخ البشري إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

1 أزاهير: ص13/ 14.

ص: 117

فأمَّا الديوان الأول "القلائد" فنجد قصيدة "في موكب الفن ص42-51" يصور فيها السنوسي شخصيات روَّاد الأولمب الخالد، تقديرًا لفنِّهم الشعري الذي يمثل حضارة الأدب السعودي المعاصر، وكانت هذه الندوة في هذه المرة في دار الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل تكريمًا للسنوسي في 2/ 6/ 1376هـ، وفيها كوكبة من شعراء الأولمب وأدبائه سبق ذكرهم، وقصيدة "أحمد أمين العالم والأديب المصري الكبير ص88-95" يسمو بما قدمه الرجل للعلم والأدب والنقد في عصره، وهذه أبيات منها:

ثمن المجد أن تعيش غريبًا

فيلسوفًا أو شاعرًا أو أديبًا

تتحدى عواصف الفكر والرأي

وتلقي سلم النهى والخطوبا

يا حياة كانت على العلم أزكى

من حياة الربيع خصبًا وطيبًا

فجرت في مسارب الكون نبعًا

وهي تستقطر الحياة حبوبًا

"فجرها" و"الضحى" على الأفق

العلمى مجدًا يخلدان الغروبا

حملت من رسالة الفكر نورًا

ومضت تنشر اللواء القشيبا

تستثير الحقول من كل فن

من فنون النهى وتحيي الجديبا

دقة العالم الذي يزن اللفظ

ويستخلص النضار المشوبا

وخيال الأديب وهو شعور

جنحت روحه وهبت هبوبًا

أيها الباحث المجدد للشرق

تراثا يحيى النهى والقلوبا

عجب هذه الحياة وسر

أعجز العلم كشفه والطبيبا

في رحاب الوجود تحتل ذكراك

مكانًا من الخلود رغيبًا

عاليًا عاليًا تمر به الأيام حسرى

والدهر يمشي دبيبا1

وقصيدة المنهل ص179-186" بمناسبة اليوبيل الفضي للمجلة، وما شاركت به في بناء حضارة المملكة في الفكر والأدب، وقصيدة "مولد النور ص197-203" بمناسبة افتتاح محطة الكهرباء بجازان في الليلة الأولى من شهر ذي القعدة عام 1378 هـ، ومنها:

قلت ماذا أرى وقد برق النور

ولم ترتجز هناك بروق

تتسامى إلى الفضاء ويعلو

كعمود الصباح منها العمود

تتدلى بها المصابيح "كالطلح"

على كل "قائم" عنقود

لا فتيل ولا ذبال ولا شمع

فماذا إذن وكيف الرقود

همست كهرباؤنا وأجابت

وعلى ثغرها المشح نشيد

1 القلائد: 88/ 93.

ص: 118

إنني شلة تحكم في العلم

والعلم حاكم لا يجيد

موقدًا ما تشاء منِّي إذا أحببت

نورًا مطفئًا ما تريد

أنا من "طاقة" يولدها الماء

ومن قوة حواها الحديد

جل من سخر السموات والأرض

وما فوقها لمن يستفيد

إن "فلتًا" وإن "واتًا" و"أمبيرًا"

عقول عظيمة وجهود

تلك أسماؤهم تشير إليهم

في رموز لها جمال فريد

أي عصر هذا وأية دنيا

شادها سيد البلاد سعود

المطارات والقطارات والأضواء

والهاتفات والتعبيد

والرقي الحديث والعمل البناء

والانطلاق والتشييد

قد قرأنا عن الحضارة والعمران

والملك وما روته الجدود

واستمعنا إلى التاريخ والأسفار

تبدي حديثها وتعيد

ورأينا حضارة ما رآها

"قيصر" في جلاله و"الرشيد"

إي وربي لم يركب "التكسي"

هارون ولا سار في القطار الوليد

سهر الليل بالقناديل كسرى

وعلى الشمع كان يقرأ يزيد

أين تلك العصور من عصرنا العلمي

نورًا لا يعتريه الخمود

ويصوغ الأقمار تجري مع

الأفلاك سيارة مداها بعيد

خضعت للورى المسافات فيه

وتهاوت حواجز وحدود

وتساوي بنعمة العلم

الآلات والفن سيد ومسود

وجرت هذه الحياة كما تجري

الينابيع كل يوم تزيد.

لو رآها لبيد ما سئم الدنيا

ولا ضاق بالحياة "لبيد"1

وهكذا إلى آخر القصيد من مطلعها حتى نهايتها تصور حضارة العلم الحديث، وما قدمه للبشرية من وسائل التقدم والرقي التي لا تحتاج إلى جهد في أناقة ورقة وانتظام، فقد تعددت وسائل الحضارة في القصيدة التي تفجرت عن الكهرباء وهي التكسي والقطار، والهاتف والمطار والطيران، وتعبيد الطرق وتشييد العمارات والمؤسسات، والأقمار الصناعية العابرة للقارات والمحيطات، والطاقة والذرة، والآلات والمعدات الحديثة، وغيرها من وسائل التقدم العلمي والحضاري في تصوير أدبي رائع وخيال خصب موفور، وأفكار عميقة رحبة، وصور شعرية غزيرة بالأضواء والألوان والظلال والإيحاء والأشعة التي تخطف الأبصار ويغوص في أعماقها العقل -عقول عظيمة وجهود- في رموز لها جمال فريد، والرموز هي الفولت - الوات - الأمبير" أي عصر هذا وأية دنيا؟!

1 القلائد: 197/ 203.

ص: 119

وقصيدة "جامعة سعود ص212-219" التي توارت وراء جامعة الرياض حينًا، ليعود سعود إليها كما كانت من قبل جامعة الملك سعود بعد خمس وعشرين عامًا من افتتاحها، وذلك في الاحتفال باليوبيل الفضي لها في عام 1402هـ، ومطلعها:

العلم أقوى سلاح في يد الأمم

فاصرع به الجهل تحيا خافق العلم

واملأ حجاك به نورًا فإن له

فجرًا من الحق يجلو كل مبهم

وجددوا عزة الأجداد وإنكموا

أحفاد قوم محو أمية الأمم

كانوا أساتذة الدنيا وسادتها

في الحرب والسلم والتشريع والنظم1

وأما الحضارة في "الأغاريد" في قصيدة "طموح ص51-53"، وقصيدة "إلى غزاة الفضاء"، ومنها 2:

عيشوا على الأرض أحبابًا وإخوانًا

ونسوقها أزاهيرًا وريحانا

وطهروها من الأحقاد واتخذوا

طريقكم في سبيل الحق أعوانًا

وأنفقوا ذهب الدنيا وفضتها

للخير والبرِّ أرواحًا وأبدانا

وانقذوها من الوحش الذي ابتليت

به الحضارة آمادًا وأزمانًا

وامشوا على ظهرها هونًا فما برحت

تحس في خطوكم بغيًا وعدوانًا

ليس الحضارة "صاروخًا" و"قنبلة"

ولا التمدن "أقمارًا" و "أفرانا".

إن الحضارة أسماها وأرفعها

أن تحسن المشي فوق الأرض إنسانًا

إلى قوله:

"محمد" رائد الدنيا وقائدها

إلى المحبة أجناسًا وألوانًا

شريعة كشعاع الشمس نيرة

الناس في ظلها كالمشط أسنانًا

فاءت إليها شعوب الأرض واعتصمت

بحبلها وسمت أمنًا وإيمانًا

من المدينة من أطوادها انطلقت

لا من "نيورك" ولا "موسكو" وإيفانا

"مدينة النور" عاد النور منطلقًا

من لا بتيك قويا مثل ما كانا

وفي "أزاهير" من الحضارة العلمية "رحلة القمر ص26، 29"، وفي "الينابيع" قصيدة "تحية المعهد العلمي ص85، 86"، وفي نفحات الجنوب" قصيدة "جزيرتي ص9، 23، في عام 1397هـ، وقصيدة "على آلة التلفاز ص71، 74" في عام 1397هـ ومطلعها:

1 القلائد: 212 / 219.

2 الأغاريد: 73/ 76.

ص: 120

على آلة "التفاز" للفن ألوان

بها ابتسمت أبها وأشرق جازان

ضغطت على أزراره فتألقت

بشاشته البيضاء حور وولدان

روائع علم أتقن العقل صنعها

وكم رفع الإنسان علم وإيمان

رأيت بها من صحن بيتي عوالما

تطالعني والجو برق وهتان

لقيت بها صحبي وبيني وبينهم

مسافات أبعاد طوال وأزمان1

وقصيدة "المنهل في عامه الثاني والأربعين ص77-79" في عام 1398هـ، باعتبارها تؤدي رسالتها العلمية والأدبية والحضارية، في اثنين وأربعين عامًا مضت عليها، وقصيدة "هموم الحياة ص92-94"" يصوّر فيها الحضارات المعاصرة، من فلسفات شيوعية ورأسمالية، وكيف هوت وسقطت أمام حضارة الإسلام، وشموخها في كل عصر، فالسكينة والنور واليقين في الإسلام، ومطلعها:

يا هموم الحياة إن فؤادي

لا يباليك فاقصري أو تمادي

إنني في سكينة من هدى الدين

ونور اليقين ذخري وزادي

كتب الله لي حياتي ورزقي

فتنحِّي يا فلسفات العباد

من شيوعية يصير بها الإنسان

ترسًا في آلة الحداد

و"رأسمالية" يزيد يها الإنسان

بؤسًا في سعيه لازدياد

أنا آمنت بالذي خلق الكون

وما فيه من هدى وفساد2

وقصيدة "على ضفاف دجلة" ألقاها الشاعر في قاعة ابن النديم بمقر اتحاد الأدباء العرب ببغداد، في الملتقى الأدبي الذي أقامه الاتحاد تكريمًا لأعضاء الوفد الأدبي السعودي، وكان السنوسي أحد أعضاء الوفد3.

أما قصيدة "العقاد العملاق" يقول فيها السنوسي، منها:

عاش للفكر عيشة الزهاد

وهو في ثروة من الأمجاد

ثروة ثرة من العلم والجسم

تجلَّى بها رفيع العماد

علم تنتهي إليه ذرى الأعلام

والنابغين والرواد

كان في الشرق قلعة من قلاع الفكر

جبارة لصد الأعادي

1 نفحات الجنوب: 71/ 74.

2 نفحات الجنوب: 92/ 94.

3 نفحات الجنوب: 104/ 111.

ص: 121

لم يكن ينحني لغير جلال الحق

والحق منطق العقاد

قلم رائع البيان وعقل

عبقري ذو قوة واعتداد

إن أفاض الحديث قلت جرى

السيل وفاض العباب من كل واد

وإذا أوجز الكلام ترامت

قطرات الندى على الأوراد

وإذا ما عدا يوضح فهمًا

نشر النور في سواد المداد

وإذا ما مضى يجادل خصمًا

جاء برهانه كما الفجر هادي

حجة النابغين في أدب الضاد

ونبراس كل هادٍ وشاد

كم له من يد على اللغة الفصحى

وتاريخها تبزّ الأيادي

تحتمي في ذراه من كل أفاك

وتزهو به على كل ناد

مات يا للمصاب.. الله.. إني

لأحس الأسى يذيب فؤادي

لا لم يمت أبو "العبقريات"

النشاوي و"الترجمات" الجياد

إلى قوله:

وأفاقوا على الحقيقة "والمذياع"

يهتز من فم رعاد

كان صوت العقاد يصهل من فيه

فأضحى صدًى لذاك الجواد

رحم الله ذلك الكاتب العملاق

في كل مذهب واعتقاد1

لا أظن أحدًا يقول إن هذه القصيدة في رثاء العقاد، نبرات الحزن والأسى والدموع التي تسير في ركاب الرثاء ولا نحس بها هنا، وإنما الذي نراه ونسمعه هي شموخ العقاد العملاق الذي ما زال خالدًا في التراث الحضاري من بعده، الذي ملأ الأفق، مما جعل السنوسي ينسي الغرض وهو الرثاء، ويصور ما هو أهم وأجدى للبشرية، وهو الأعمال الجبارة التي شيدها العقاد في الفكر والعلم والأدب والفلسفة والإسلام واللغة الفصحى وسواها موسوعات العقاد، في كل مذهب واعتقاد.

لهذا يا أخي لا تلمني إن قلت: إن هذه القصيدة وأمثالها والتي تسير على نهجها مدحًا أو رثاء هي أدخل في غرض الحضارة لا في غرض الرثاء، كما لا أرضى أن تكون هذه مرحلة متطورة من مراحل تطور الرثاء؛ لأن شعر الحضارة في العصر الحديث ينبغي ألا يكون غرضًا أدبيًّا تابعًا، بل يجب أن يكون غرضًا أساسيًّا يقف شامخًا بجوار الأغراض الأدبية الأخرى، كيف لا وقد أصبحت وسائل التقدم الحضاري تسد الأفق، وتسيطر على الحياة وتأخذ المنزلة الرفيعة في قلوب الناس وعقولهم إنها ليست غرضًا مستقلًّا فحسب، بل هي أساس الأغراض ومصدرها، وفي النهاية غرض الأغراض الأدبية الحديثة.

1 الأغاريد: 58/ 61.

ص: 122

ومثل هذا الغرض الجديد في شعر السنوسي يسمو بالشاعر إلى منزلة رفيعة بين شعراء العصر الحديث، الذي يعيش مع عصره بعقله وقلبه ووجدانه وعاطفته وأدبه وتصويره الشعري.

سابعًا: الوصف:

والوصف من الأغراض الأدبية في شعر السنوسي، نجد في ديوانه "الأغاريد" قصيدة "يا قلمي ص33-35"، وقصيدة "الكتاب ص69-72، وفي أزاهير" نجد قصيدة "الحصان المقيد ص72، 73"، يقول في قلمي:

هلمَّ إليَّ يا قلمي

هلم فقد طغى ألمي

فأنت إذا أشرت يدي

وأنت إذا صرخت فمي

وأنت نجي أهاتي

وأناتي ونبض دمي

وأنت إذا بكيت أسى

دموعي فضن في كلمي

وأنت إذا صبوت هوى

وغنيت الهوى نغمي

وأنت ملاذ آمالي

إذا ضاقت بها هممي

أبثك ما أنوء به

من الأرزاء والنقم

فتصغي لي بلا ضجر

ولا ملل ولا سأم

حملتك في سبيل الحق

والآداب والقيم

وكنت وما أزال بها

رضيعًا غير منفطم

أهيم بها وإن جرحت

مناي وحطمت حلمي

وأعشقها على الآلام

والضراء والسقم

وأسري في ظلام الدرب

مرفوعًا بها علمي

كما سار الدليل على

ضياء النجم في الظلم1

مع أن خصائص الوصف تقوم على تصوير ظواهر الأشياء من غير استبطان لأعماقها، وتجاوب معها، لهذا انصرف السنوسي عنه إلى الأغراض الحية النابضة ولم نجده إلَّا في ثلاث قصائد. لكن الشاعر تجاوب مع القلم وكأنه صديق له ونجيّ يناجيه إليه آلامه، فهو هواه ونغمه الشجي يبثه همومه، فيصغي إليه بلا سأم ولا ضجر، وهو خير من يحمل الأمانة في سبيل الحق والعلم والآداب والقيم، مهما لقي في سبيل ذلك من العنت والآلام وتجشم الضراء والأسقام، يسير إلى غايته مرفوع الجبين في ظلام الليل وعقبات الحياة لتحقيق الهدف الواضح أمامه كوضوح النجم في الظلام الدامس.

1 الأغاريد: 33/ 35.

ص: 123

فالشاعر جعل من القلم شخصًا يحسّ ويتألم ويتحمَّل الأمانة ويدافع عنها في سبيل الحق والقيم، إنه إنسان عاقل له رسالة يؤديها في الحياة كالشاعر تمامًا، ولولا أنَّ القلم لا يدخل في مظاهر الطبيعة لقلنا بأن القصيدة من شعر الطبيعة؛ لما فيها من تشخيص قوي نابض، وهذه أهم سمات الوصف عند السنوسي.

ثامنًا: الرثاء:

والرثاء هنا يسير على النمط التقليدي القديم غالبًا، على العكس من القصائد التي رثي بها الشاعر الملك فيصل في "وا فيصلاه" فقد غلب على القصيدة معالجة القضايا الإسلامية والعربية، ولذلك أدخلتها في غرض الشعر الإسلامي.

وكذلك قصيدة "العقاد العملاق"، فقد أخضعها السنوسي بموهبته الشعرية وثقافته الواسعة إلى شعر الحضارة والفكر التقدمي المعاصر، لذلك أدخلتها في شعر الحضارة كما سبق.

أما غرض الرثاء فيظهر عنده في "القلائد" مثل قصيدة "دمعة وفاء ص208-211" في ذكرى الفقيد محمد سعيد بامهير، الذي كانت حياته في جازان مثلًا رائعًا للتضحية في سبيل الوطن، ونموذجًا ساميًا من التفاني في خدمة الصالح العام.

وقى "الينابيع" قصيدة "أبو حسن ص63-66" يقول الشاعر في مقدمتها "دمعة حزن وأنه أسى على فقيد الأدب والنبل والشهامة والمعالي المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان، الذي وافته المنية في القاهرة بتاريخ 2/ 2/ 1391هـ" يقول:

"أبا حسن" لا الحزن يجدي ولا الدمع

وإن كان في قلبي لوقدهما لذع

تصاممت لما قيل مات "محمد"

سرور قلوب كم به جبر الصدع

فلما تبينت الحقيقة لم أجد ملاذًا

سوى ما سنه الله والشرع

إلى الله إنا راجعون وكلنا

سيذهب لا فرد سيبقى ولا جمع

أبا حسن ما العمر إلا مسافة

من المهد حتى اللحد غايتها القطع

مشيت إليها في أناة وحكمة

بخطو رصين لا غبار ولا نقع

وكنت المجلي سيرة وشمائلًا

يهيم بها الرائي ويعشقها السمع

مضيت كما يمضي الشجاع مخلفًا

وراءك ذكرًا دونه الومض واللمع

وأنت العصامي الذي شاد مجده

بنفس لها في كل مكرمة صنع

تساميت حتى بات كل مثقف

يجلك إجلال الهوى والهوى طبع

يرى فيك أخلاق الكرام تجسمت

ممثلة يزهو بها الأصل والفرع

أبا حسن غاض السرور الذي جرى

على كل قلب من تدفقه نبع

وضوع روض كان في كل مهجة

بك اتصلت يندي بها النبت والزرع

ص: 124

وهكذا إلى نهاية القصيدة في وصف محاسن الممدوح الشخصية وشمائله التي اتصف بها في حياته، وعصاميته التي شاد بها مجده وخلقه الكريم الذي يتسامى به الأصل والفرع، وغيرها من الصفات التي لا يجدي على صاحبها الحزن ولا يرده الدمع، ولا يجبر الصدع، وليس أمام الإنسان إلَّا أن يلوذ بربه ويرجع، ويصير ولا يجزع، فالبقاء لله وحده سبحانه، وهذه صفات فردية تتصل بشخص المرثى، ولم يصورها الشاعر في قيم مطلقة، بل كان الحزن في الرثاء يتجه إلى شخصه لا إلى الإشادة بالقيم وتمجيدها لذاتها، كما في قصيدة رثاء الملك فيصل والعقاد وغيرهما، وعلى ذلك يكون هذا الغرض الأدبي من الأغراض القديمة التي سار فيها الشاعر على منهج القدماء في فن الرثاء.

تاسعًا: الهجاء

والهجاء عند السنوسي من الأغراض التي تناولها في شعره، لكن في ثوب جديد يخرج عن الهجاء التقليدي عند القدماء؛ لأن الشاعر لا يهجو شخصًا بعينه، ولا يهجو بألفاظ واضحة في السباب، أو صريحة في الشتم، فيهجو الانحراف الذي يخالف ما عليه المجتمع من تقاليد وعادات، ويذم التفسح الذي يخرج به عشاقه عن العرف السائد، وذلك في قصيدته "القدر الفنان" يقول في مقدمتها:"رمزنا بها إلى بعض الشباب المتفسح"1.

رأيته وهو يمشي مشي فنان

كأنه فارس في وسط ميدان

يهز عطفيه إعجابًا بحلته

ويمسح الشعر من آنٍ إلى آن

في "بدلة" تبرز الأعطاف ماثلة

أركانها وزواياها "كفستان"

فقلت ماذا أرى يا قوم هل مسخت

طباع صحبي وإخوتي وأقراني

إني أرى بينكم قردًا فكيف أرتي

وكيف ألبستموه لبس إنسان

فقال شيخ طريف الروح يعجبه

حبك الفكاهة في جد وإتقان

لا يا أخي إنه "قرد" مثقفة

أخلاقه عبقري الفكر والشان

وسوف تسمع منه كل رائعة

من البيان المصفى والنُّهَى البان

"فكان ما كان مما لست أذكره"

من الهراء ومن إسفافه الداني

فقلت للشيخ إعجابًا بنكتته

وبالطرافة في أسلوبه القاني

القرد قرد وإن رقت شمائله

وإن تعلم نطق الإنس والجان

تراه يرقص في جد وفي هزل

ليضحك الناس منه مثل "طرزان".

يلغو ويلهو ويأتي من عجائبه

بالمضحكات كأحلى قرد فنان

1 أزاهير: 15/ 16.

ص: 125

فالسنوسي هنا ساخر أكثر منه هجَّاء، وهجاؤه ليس على النهج التقليدي من التصريح بالمهجوِّ حتى يلصق العار باسمه وشخصه، ولم يتخذ ألفاظ السباب والقبح والفحش مادة لتصويره الأدبي، وإذا اضطر إلى ذلك اكتفى بالتكنية والرمز والإيحاء إلى ما يريد في لفظٍ عفّ، وتعبير غير مسفّ، يرتفع السنوسي عن ذكره فيقول مثلًا:"فكان ما كان مما لست أذكره".

وكذلك فالشاعر أدار حوارًا في الهجاء بينه وبين شيخ صاحب تجربة وخبرة في السخر والفكاهة؛ ليفيض شعره بالحركة والحيوية، ويكون أقدر على تصوير السخر وأوقع في النفس.

وكذلك جعل الشاعر الهجاء في قضية عامة، طرحت على العرف السائد في عادات قومه وتقاليدهم، فهو يهجو القضية ذاتها، ولا يهبط إلى هجاء شخص بعينه ولا إنسان باسمه، وإنما يهجو صورة هذا التغير، ويسخر من ذلك التطور الذي خرج على عادات قومه وتقاليدهم.

والسخر أقوى من الهجاء في الشعر، بل هو المرحلة المهذبة من مراحل تطور الهجاء في أدبنا العربي؛ لأن الهجاء شتم وإقذاع للتشفي وردع الخصم بألفاظه المعروفة بلا حجة ولا تعليل، فالمهجو هكذا أمره من الأوصاف الخبيثة مما لا يحتاج إلى برهان.

أمَّا السخر فهو هجاء يقوم على المقدمات والأسباب، ويستقر في النفس عن تعليل وتدليل، ويأخذ بالقلب والعقل معًا عن حجة واقتناع.

وابن الرومي كان يمثل مرحلة التطور في الهجاء العربي؛ حيث تطور الهجاء على يديه في بعض القصائد والمقطوعات إلى السخر، وإن ابن الرومي قد برع في الهجاء المكشوف، والبذيء في قصائد أخرى، لكنه يعد أول شعراء العرب الذين نقلوا الهجاء إلى طور آخر أسمى منه وهو "السخر"، وشعره الساخر اشتهر بين الأدباء والنقاد ومنه قوله في البخيل:

يقتر عيسى على نفسه

وليس بباق ولا خالد

فلو يستطيع لتقتيره

تنفس من منخر واحد

ولقد ميّزت بين الهجاء والسخر والضحك والعبث واللعب بصورة واضحة، حتى لا أضطر إلى التكرار1.

عاشرا: الأناشيد

للسنوسي مهارته الشعرية في الأوزان الخفيفة العذبة السائرة، والتوقيعات الموسيقية، التي تحمل المعاني الإنسانية والوطنية، والإسلامية، فيتغنى بها أبناء الوطن لخفتها وعذوبتها، وما تحمل

1 البناء الفني للصورة الأدبية في شعر ابن الرومي: للمؤلف.

ص: 126

من شحنات قومية ووطنية وإسلامية، وما تهدف إليه من سمو الهدف ورفعة المقصد، وذلك في أناشيده التي سارت مع الزمان والمكان في المناسبات الوطنية والرسمية، مثل "نشيد الجيش العربي السعودي":

نحن أبطال الجزيرة

المثنَّى والمغيرة

نحن جيش الحق

والحق علم

قد رفعناه على

أسمى القمم

وجعلناه منارًا

للأمم

نحن أبطال الجزيرة

المثنَّى والمغيرة

نحن جيش وحَّد الله ولبَّى

وأجاب الدعوه الكبرى وهبّا

ومضى يضرب في الآفاق ضربًا

في سبيل الله جل الله ربًّا

نحن أبطال الجزيرة

المثنى والمغيرة1

وكذلك نشيد "الحرس الوطني ص105 - الينابيع"، ونشيد "طلبة مدارس الحرس الوطني ص106، 107 - الينابيع"

وله أناشيد أيضًا في ديوانه "نفحات الجنوب" مثل "نشيد العروبة ص127، 128"، ونشيد "الفرسان ص129"، ونشيد "فرحة العيد ص130"، يقول في "نشيد العروبة":

أحب الحجاز أحب اليمن

ونجدًا أحب وأهوى عدن

وأعشق لبنان مأوى النجوم

وأهوى الكنانة أخت الهرم

بلادي بلاد الهدى والشيم

وفاس ووهران والرافدين

وعمان والقدس صنو الحرم

وأصبو إلى جلق والكويت

وأهوى المنامة ذات الخضم

بلادي بلاد الهدى والشيم

بلاد العروبة أنى تكون

بلادي العزيزة ابنا وعم

أحب هواها وشطآنها

وأهوى منازلها والقمم

بلادي بلاد الهدى والشيم

وصنعاء صنعاء ذات الذرى

ومسقط مهوى الندى والكرم

يرف على جانبيها الشذي

ويهفو الصبا نحوها والنسم

بلادي بلاد الهدى والشيم2

1 الأغاريد: 77/ 97.

2 نفحات الجنوب: 127/ 128.

ص: 127

الحادي عشر: الشعر الوطني

وتناول السنوسي في الشعر الوطني بناء الوطن السعودي والسمو به في منازل الرقي والحضارة، وحثَّ أبنائه على المشاركة والإسهام في التقدم، والعمل المتواصل في المشروعات الضرورية التي تدفع بالأمة إلى الرخاء والكفاية، واشتمل ديوانه "القلائد" على قصيدة "نداء ص10، 11" لأبناء المملكة العربية السعودية ليشاركوا في فجر النهضة، يقول في مطلعها:

بني وطني إنَّا على فجر نهضة

تصد الدجى أنى تدجى وتصدع

ومنها:

مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم

فسيروا كما سار على الدهر واصنعوا

وما الفخر بالماضي إذا لم يكن له

من الحاضر الزاهي بناء مرفع

خذوا بأكف الأسد من أسهم العلى

نصيبًا فإن الحاضر اليوم أوسع

يد الدهر لا تسخو بمجد لعاجز

ضعيف ولا تندي ولا تتبرع

وما قيمة الأوطان إن لم يكن لها

"رجال" يلوذون الشقاء لينفعوا

جرت حكمة الدنيا على الناس أنها

تصد لمن صدوا وتسعى لمن سعوا

حصدنا الضنى لما زرعنا له المنى

وجل حصاد المرء من حيث يزرع1

وقصيدة "قطوف وأصداء" قالها الشاعر بمناسبة أنباء المشروع الزراعي في جازان، التي كانت حديث النوادي والأسمار، استحوذت أصداء هذا المشروع على اهتمام الجمهور، لما ينطوي عليه من بشائر النهضة والعمران، ومن خلجات القلوب المتعطشة إلى الحياة السعيدة والمجد الأثيل، فكانت هذه القصيدة تحية للفجر المرتقب والأمل المنشود يقول فيها2:

أمل لاح في سماء الوجود

ذهبي السنا زكي الورود

لبسته تألقًا وأذالت

فيه جازان ضافيات البرود

ومنها:

شاقها مولد "النهوض" فهبت

تتبارى إلى احتضان الوليد

وجلته طوالع اليمن والمجد

وحفت به نجوم السعود

وأظلت "رؤاه" أضواء "فجر"

لغد أسعد وعيش رغيد

1 القلائد: 10/ 11.

2 القلائد: 24/ 31.

ص: 128

هاتف في مواكب "النهضة الكبرى"

وفي مطلع النجاح الأكيد

يعلن الفرحة التي أعلنته

بلسان العلى رجال السدود

تلك بشرى النهى بإقبال عصر

من عصور التقدم المنشود

أشرقت في جلاله الأرض بشرًا

ومشت في ركابه المشهود

إنما هذه "الزراعة" أصل

لفروع ولبنة لمشيد

في تضاعيفها بشائر مشروع

لعذب من المياه برود

أصبحت كالجنان وارفة الظل

على منهل شهي الورود

نحن في فترة التطور والتكوين

والانتقال والتجديد

فاحشدوا حولها الكفايات وامضوا

حسرا عن سواعد من حديد

واستحثوا الخطى هوًى واشتياقًا

نحو مستقبل أغر مجيد

وقصيدة "آل سعود في التاريخ" يشيد فيها بآل سعود وما حققوه للوطن من مجد وتقدم ورقي وحضارة بعد كفاح طويل وجهاد في سبيل الله، يقول1:

عرش على الشرق للدنيا وللدين

أشم يختال بالشم العرانين

مدعم بالهدى والحق متشح

بالنور يسطع من وحي وتلقين

أحيا النفوس وأجرى في أعنَّتها

روح التحرر من غل الشياطين

سما "بآل سعود" فرعه ورسى

بهم على الدهر في عز وتمكين

أبطال معركة الإسلام في زمن

مضرج بالضحايا والقرابين

يضمخون ثرى الأوطان من دمهم

عطرا ويفدونها من كل "نيرون"

وينثرون على الآفاق "أمثلة"

من الشمائل عطراء الرياحين

بعرشهم رفع الإسلام رايته

على الجزيرة خضراء الأفانين

وأشرق الحق كالصبح المبين سنًا

وأصبح العدل مضبوط الموازين

إلى آخر القصيدة وقد اقتصرت على بعض أبيات منه، وكذلك قصيدة "القهر"، وهو جبل يبلغ ارتفاعه حوالي "290" كيلو مترًا، وقد اشتهر هذا الجبل بصعوبة مسلكه، ووعورة أخلاق ساكنيه، وهم قبائل بدوية تدعى الريث، لعبت في تاريخ الجنوب أدوارًا عديدة غايتها السلب والنهب، وكان آخرها حركة التمرد والعصيان التي قامت بها القبائل عام 1375هـ في عهد جلالة الملك سعود المعظم، وهذه القصيدة صدى من أحداث الماضي والحاضر2 ومنها:

1 القلائد: 124/ 129.

2 القلائد: 150/ 157.

ص: 129

أدر اللحن رائعًا جبارًا

كصدى "الرعد" يملأ الأقطارا

وأتل من رائع البطولات

فصلًا عربيًّا يخلد الأشعارا

إنه موقف يلوح محياه

جلالًا وعزة وانتصارا

قهر "القهر" غازيًا ومغيرًا

وأذل العصاة والأشرارا

أوقدوا فتنة فكانت وقودًا

للظاها تأججًا واستعارا

أيقظت في "تهامة" و"عسير"

أنفسًا حرة وقومًا غيارا

عقدوا الراية السعودية الخضراء

وساروا في ظلها أحرارا

يعلنون الولاء محضًا لعرش

رفع الله سمكه وأدارا

أقبلوا في قبائل وحشود

تخذت حبها "سعودًا" شعارا

إنها دولة لها جعل الله

من الحق والحق أنصارا

هي لم تألهم أناة ولم تب

خل عليهم روية واصطبارا

إلى آخر القصيدة وقد اقتصرت على بعض أبيات منها، وهي تصور رأب الصدع في هذا الجبل وعودة الريث إلى المشاركة في بناء الوطن الحبيب.

ص: 130

التصوير الأدبي في شعر السنوسي:

خلعت صحافة المملكة العربية السعودية على شاعرها السنوسي "شاعر الجنوب"، فهو بحق زائد من رواد الشعر الحديث في المملكة، ورائد الشعر في الجنوب منطقة عسير. يقول أحد رواد الشعر الحديث في المملكة يصف زميله في الريادة الحديثة، وهو الشاعر الكبير محمد حسن عواد يصف السنوسي:

ولطالما عبق "الجنوب" وطالما

صدح "الجنوب" بلحنه وترنما1

وهذه المنزلة السامقة ترجع إلى موهبته الشعرية الرائدة، وشاعريته القوية المتدفقة، فقد كان أكثر شعراء الجنوب شعرًا؛ إذ صدر له حتى الآن خمسة دواوين: القلائد - الأغاريد - أزاهير - الينابيع - نفحات الجنوب. وما زال ينشر الجديد من شعره في الصحف والمجلات والندوات حتى الآن. يقول عنه صاحب مجلة "المنهل" الأستاذ عبد القدوس الأنصاري:

"قدم الصديق الأديب الأستاذ محمد بن علي السنوسي من جازان وهو شاعرها"، ويقول الشاعر محمود عارف:"في ندوة سمر ساحر جمعتني دعوة كريمة من الأستاذ الجليل عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة "المنهل" بصفوة من الشعراء والأدباء السعوديين في حفلة أقامها في داره العامرة، ليلة الجمعة الموافق 2/ 6/ 1376هـ، تكريمًا لشاعر الجنوب الأستاذ محمد بن علي السنوسي"2.

ولقد كان للديوان الأول "القلائد" وحده صدى عميق في أرجاء العالم العربي، هزَّ به مشاعر الأدباء والنقاد والشعراء حتى أخذ منزلته السامية بين شعراء العصر الحديث المجددين على مستوى العالم العربي، يقول عنه الشاعر الدكتور مختار الوكيل:

"إن شعر السنوسي يمتاز بذلك الصفاء الروحي الأصيل، ويبرز لنا صوفية عذبة رقيقة مستحبة، ولعله أقرب ما يكون شبهًا بشاعرين من إخواننا الشعراء المصريين، هم الأستاذ حسن كامل الصيرفي، والأستاذ صالح جودت، وهما من رفاقي في رحاب أبولو"3.

ويقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أيضًا:

1 جريدة البلاد: 17/ 11/ 1374هـ.

2 مجلة المنهل: جمادى الثانية 1376هـ.

3 نفحات الجنوب: التقديم.

ص: 131

"هو شاعرنا الذي تعتز به المملكة العربية السعودية، وتضعه في الصف الأول من بين شعرائها الأبرار.. شعراء الشباب المبدعين.. شعراء الأدب الرفيع، واللسان العف، والضمير النقي من الشوائب والأوضار"1.

والسنوسي الشاعر في مدرسة التجديد المحافظ هو خير من يسير على المنهج في المذهب الأدبي لهذه المدرسة الجديدة في الشعر السعودي الحديث، فهو في تجديده يحافظ على الأصالة العربية الإسلامية في المعاني والأغراض، والألفاظ والأساليب، والنظم والتراكيب، والخيال والصور، والوزن والقافية، والاتجاه والمذهب، وسوى ذلك من خصائص هذه المدرسة التي سبق أن وضحناها بالتفصيل.

خصائص الألفاظ والأساليب:

والسنوسي مع تطلعه المستمر إلى التجديد يحافظ على أصالته العربية الإسلامية في شعره، فما زالت ألفاظه جزلة فخمة قوية، وكلماته عذبة سهلة مناسبة كانسياب الماء الصافي الزلال، وأساليبه متينة محكمة، وتراكيبه رصينة متلاحمة، ونظمه دقيق متفجر بالمعاني والايحاءات الشاعرية، يقول الأستاذ محمد سعيد العامودي:

وأعتقد أن لثقافة السنوسي المتعددة الجوانب أثرها في شعره بصورة عامة، إلى جانب موهبته الفنية المعطاءة، ولعله من هنا يبدو لنا ما نلمسه في شعره غالبا من نبض في الأسلوب، وحيوية في الألفاظ وعمق في المعاني، وسمو في الأغرض"2.

فالأسلوب النابض هو المتدفق بالمشاعر، والمتفجر بالشاعرية والألفاظ الحية هي التي أخذت مكانها من النظم، فمنحها الحركة والحيوية، وانتقلت بذلك إلى عالمها المحس لا المجرد في أوضاع اللغة مع سلامتها من الوحشية والغرابة، وتنافر الحروف وثقلها؛ لأنها نبعت من عاطفة شاعر متمكِّن في اللغة.

"ما أروع الشعر، ينبع من عاطفة شاعر متمكن في اللغة، جامع لأعنة الأسلوب العربي الرائع، مع سعة أفق وذهن وإخلاص مبدأ، وصدق عاطفة، وصحة بيان.

وهذا الصفات اللامعة احتشدت كلها في هذا الديوان الأغر "القلائد" الذي يخرجه للناس شاعر ضليع، ذو قوة في البيان وإشراقة في الفكر، وروعة في المنطق، وجدة في الأسلوب"3.

1 مقدمة القلائد: ص - ذ.

2 مقدمة الأغاريد: الأستاذ محمد سعيد العامودي - ل.

3 مقدمة القلائد: الأستاذ عبد القدوس الأنصاري - ز

ص: 132

وحينما نقلب النظر في تأمل مع ما ذكرناه من شعره ستقف على هذه الخصائص الفنية للألفاظ والأساليب، ولا يمنع هذا من وضع اليد والحس عليها هنا من خلال هذه الأبيات لنؤكد ما سبق ولنشخص المعالم بالتحليل والنقد، يقول السنوسي في الطبيعة:

يا ربا لج بي هواها فما ينفك

نشوان من هوى ملحاح

كم ترشفت من جمال لياليك

فتونًا من الصبا والمراح

وتنشقت من جلال مجاليك

فنونًا من الشذى الفواح

في الدجى والنجوم تغزل أحلام

العذارى على صدور البطاح

والضحى والغيوم ترسم في الوادي

ظلالًا ندية الأدواح

والنسيم النشوان يحتضن الزهر

رقيقًا كطيبة الفلاح

الذي قلبه أرق من الطل

وأصفى من الزلال القراح

إلى قوله:

كلما ضني دجاك ورقت

نفحات الصبا على الأدواح

وانتشى الكون بالعبير وراح السيل

يختال في السهول الفساح

يغمر الأرض بالنعيم غزيرا

ويهز القلوب بالأفراح

نعمت روحي الكئيبة بالصفح

وصحت من الأسى والجراح1

ترى الجزالة والفخامة في الألفاظ، وفي موسيقى قوية تدخل الآذان بلا استئذان في:"نشوان - ترشفت - فنونًا - الصبا والمراح - جلال مجاليك - الشذى الفواح - أحلام العذارى - صدور البطاح - ندية الأدواح - النسيم النشوان - الزلال القراح - إلى آخره من الألفاظ".

وكذلك التراكيب محكمة رصينة، والأساليب قوية متماسكة فلا ترى فيها قلقًا ولا اضطرابًا ولا ضعفًا ولا تهتكًا، ولا لحنًا وسوقية، فالنجوم تغزل أحلام العذارى على صدور البطاح، والضحى والغيوم ترسم في الوادي ظلالًا ندية الأدواح، وهكذا وهكذا.

أما صور الخيال التقليدية في هذا النص فناهيك عنها، إنها تطل برأسها في كل بيت، فالصور القديمة نراها في "يا ربا لج هواها" - ترشفت من جمال لياليك" - فنونًا من الصبا والمراح""تنشقت من جلال مجاليك فنونًا من الشذى الفواح"، "تغزل أحلام العذارى على صدور البطاح"، "ترسم في الوادي ظلالًا ندية الأدواح"، "والنسيم النشوان

1 الأغاريد: 23، 24.

ص: 133

يحتضن الزهر"، وهكذا تكون الخصائص الفنية التي تدل على الأصالة الأدبية في الألفاظ والأساليب والصور القديمة. وأقرب شعره إلى الأصالة العربية الذي تسير على منهج الفحول من الشعراء القدامي ديوانه الأول "القلائد" يقول في شذى الرياض"، منها:

هب نفح الصبا فقم حي نجدًا

وتنشق شذى الرياض المندى

واعتصر من هواك لحنًا ذكيا

ريقًا كالنسيم صفوا وبردا

وتمهل فهذه جلبة الشعر

ومجرى الجياد قبسًا وجردا

سرح الخاط المشوق وجدد

"امرأ القيس" والنوابغ عهدا

تلك آثارهم وهذي مغانيهم

وروض الشباب ما زال يندى

كلما هبت الصبا هبت الروح

طيوفًا وردّد الفكر أصدا

نفحات من الفراديس رفت

أقحوانًا وأرجوانًا ورندا

عب منها الهواء عطرًا وذابت

فوق صدر الفضاء مسكًا وندا

أرج شيق العبير وروح

عطر الكون بالجمال وندى

يسكب النور والعطورويضفي

من ظلال النخيل والروض بردا

حي لحن الصباح وأبسط ذرا

عيك وضم النسيم شوقا ووجدا

وامتزج بالصبا الشغوف وقبل

نفسا قبل الخمائل خدا

نسج الفجر في غلائله الطل

وجاك السنا حريرا وسدى

واصطفاه "رسالة" من ريا

نجد وأنفاسها سلامًا وودا

ترد "النيل" و"الفراتين" و"الأرز"

و"غمدان" و"الخليج" و"بردى"

وترود الضفاف تهمس "للزيتو

ن" نجوى و"للجزائر" وعدا1

وهكذا إلى نهاية القصيدة "وهي طويلة" تعود بنا إلى عصر أبي تمام والبحتري وابن المعتز والمتنبي وغيرهم من فحول الشعراء.

الوزن والقافية:

السنوسي يعشق أوزان الخليل وقوافيه، ويعد الخروج على عمود الشعر في الموسيقى تمردًا على الأصالة، وتمزقًا لطبيعة الشعر الأصيل المتميز على النثر الأدبي، والشعر المنثور، وإذا ما تجوز في موسيقاه، كما يتجوز شعراء عصره، نراه ينزل إلى مستوى الموشحات الأندلسية كالمخمسات، والمقطعات الشعرية، التي تختلف فيها القافية في كل مقطع مع الاحتفاظ بالبحر

1 القلائد: 76/ 81.

ص: 134

العروضي حتى نهاية القصيدة في كل المقطعات، هذا أقصى ما يخرج به الشاعر عن السمت الخليلي، وذلك مثل قصيدة "عودة الماضي" تسير على نظام المقطعات وسبق ذكرها1.

وقصيدة "أتمنَّى"2 وقد مرّت هي كذلك.

ولا يكتفي السنوسي بالمحافظة على القالب الموسيقي والالتزام به فحسب، بل كثيرًا ما يقلقه الخروج عليه والتمرد على الخليل بن أحمد، من شعراء التفعيلة الذين يطيرون وراء كل هيعة، ويرددون صدى كل ناعق، فيهجم عليهم وعلى عشاق الشعر الحر، تارة بالإفصاح عن اللحن الشعري القوي الذي يعبر فيه الشاعر عن أصالته العربية في الشرق والغرب:

نغمة من لغة الإنسان

في شرق وغرب

يفهم القلب معانيها

بلا حرف ولا كتب

ويعيها غير محتاج

إلى ضم ونصب

وإلى أنغامها الحلوة

يهفو ويلبي

ويناغيها إذا ناغت

بتحنان وحدب

إنها أفصح من أفصح

شعر المتنبي

إي وربي إنه ابني

إنه "عصفور قلبي"3

ويعبر عن أصالة الشاعر أيضًا في قصيدته "الكلمات والشاعر":

في عالم الكلمات دنيا

للشعر والشعراء عليا

في ظلها للفكر منطلق

وللأرواح لقيا

في عالم الكلمات دنيا

سقيًا لها مني ورعيًا

كم بت في أحضانها

أستلهم الأضواء وحيا

وأساهر الأشواق منطلقا

بها فكرًا ورأيًا

وأذيب للظامئين حيا

وللغافقين وعيًا

والشاعر الفنان دنياه

من الكلمات تحيا4

وتارة يتفجر السنوسي ثائرًا على الشعر الحر، وعلى شعراء التفعيلة، والخارجين على الشعر

1 القلائد: 34/ 41.

2 أزاهير: 9/ 12.

3 الأغاريد: 55/ 57.

4 مجلة الأديب: 1394هـ

ص: 135

العمودي، وذلك في ثورة عنيفة، ولهيب مشتعل، شاعرًا وناقدًا ومؤرخًا وثائرًا، يقول في قصيدته "الشعر الحر"1:

لا العود عودي ولا الأوتار أوتاري

ولا أغاريدكم من شدوي وأطياري

من أين جئتم بهذا الطير ويحكمو

لا الريش ريشي ولا المنقار منقاري

إني أرى في جناحيه وسحنته

سمات "اليوت" لا سيماء "بشار"

وصرت أسمع ألفاظًا مقلقة

طرق المسامير في دكان نجار

ألبستموني ثيابًا لا تشرفني

كأنها فوق جسمي حبل قصار

سود وحمر وصفر لا انسجام لها

كرسم "بيكاس" يعي فهمه القاري

ماذا تقولون: تجديد؟ لقد هزلت

وسامها كل مهذار وثرثار

ما الشعر؟ هل هو ألفاظ مسيبة

بلا قيود رديء للمنطق الهاري

الشعر هندسة كبرى تكاد ترى

في النسج واللفظ منه روح فرجار

والوزن للشعر روح وهي إن فقدت

أضحى جسادا بلا حس كأحجار

قصيدة النثر مثل المشي جامدة

والشعر كالرقص في سيقان أبكار

ورب حرف صغير الشأن يرفضه

لحن المشاعر في ترنيم قيثار

تأبى الحروف التي صيغت نماذجها

من رعشة الروح في أعماق أسرار

إن تلتقي معكم في سبق خاطرة

عرجاء تحجل في ميثاء مهيار

لكل فن أصول يستقل بها

شتان ما بين سباك وعمار

تبينوا بعض ما تبغون وانطلقوا

في الروض ما بين أزهار وأثمار

وجنبونا غثاء لا جمال له

ولا رواء ولا يوحي بإكبار

إن كل لابد من فن نجدده

فجددوا في مضامين وأفكار

وأنطقوا الصخر في ترنيم قافية

كرعشة الضوء في لمع السنا الساري

حرية الشعر في إشراق فكرته

وفي تساميه عن لغو وإقذار

وأن يكون لكم في كل معترك

رأي جهير وعزم غير خوار

أما كفى أننا فقر ومخمصة

نستورد الغرب نيكلًا بخسًا بدينار

والشعر نور ونار والنفوس لها

طبع الفراشات عشق النور والنار

ورب ذي قلم أعطى لأمته

ما ليس يعطيه فيها نهرها الجاري

فالسنوسي شاعر عمودي يسير على درب القدماء في المحافظة على البحر العروضي الخليلي، والالتزام بالقافية؛ لأنها روح الشعر، ودونها يكون جسدًا بلا روح، وجمادًا لا يشعر

1 الينابيع: 96/ 98.

ص: 136

ولا يحس، بل نثرًا يقوم على توقيعات جامدة، أشبه بالمثنى الذي لا يثير انتباهًا، ولا يوقظ حسنًا.

أما إيقاع الشعر فهو كرقص الغادة، تعزف بسيقانها موسيقى شجية تثير المشاعر، وتستلهم الوجدان؛ لأن الشعر هندسة كبرى، وانسجام بين الألفاظ بعضها مع البعض الآخر، وترابط بينها وبين معانيها.

بينما الشعر الحر يقوم على حشد الألفاظ بلا روابط، وانسجام بين إيقاعاتها ومعانيها بما يتجافى مع طبيعة الشعر ومنطق العقل؛ لأنه غريب على الذوق العربي الأصيل، يحمل في طياته سمات الغرب، وينزف بدم "اليوت" لا بسمات الشرق ونشره الفواح الذي يعبق الدنيا بطيب "بشار بن برد"، فالشعر الحر ثرثرة وهذر وغثاء لا روعة فيه ولا جمال، ولا رواء ولا إكبار، وإذا كان للشعراء من دور لا بُدَّ منه في التجديد، فليتسابقوا ويتنافسوا إلى التجديد في المنهج والمضمون، لا في اللغو والعبث، وليتباروا في المعاني البكر والأفكار الجادة البناءة، لا في هدم مباني الشعر، وتمزيق طبيعته، ليكون الشعر جنديا، يدفع بالأمة إلى الحضارة والرقي في عزم وشجاعة وقوة، لنحافظ على الأصالة العربية الإسلامية، ونترفع عن التقليد الأعمى للغرب في كل شيء، بما لا يتناسب مع الروح الشرقية وعراقتها، فقد كان الشعر ولا زال نارًا ونورًا، وينبغي أن يكون كذلك؛ لأن الإنسان لا يزال يعشق نور العلم، ويدفع عن نفسه بنار الحرب، فكثيرًا ما أعطى الشعر، ولا يزال يعطي الشاعر لأمته لبناء الأخلاق والأجيال، أكثر مما تعطيه الأرض من الطعام والشراب فهما معًا قوام الحياة وركيزة الحضارة الإنسانية.

وبهذا يحافظ السنوسي في مذهبه الأدبي على الأصالة العربية الإسلامية في شعره كما رأينا، وهو في نفس الوقت يعشق التجديد في المضمون والمعاني والأفكار، والمغازي والأغراض، والخيال والصور، وسبق الحديث عن التجديد في الأغراض، فقد لبست معظمها ثوبًا جديدًا قشيبًا في معانيها ومضامينها وغايتها ومغزاها، وسنتحدث عن التجديد في الخيالات والصور الأدبية في مجال التصوير الأدبي.

التشخيص في التصوير الأدبي:

خيال السنوسي بعث الحياة في المعاني والمجردات، وحرك الأفكار والجمادات في صور أدبية حية تموج بالحركة والحياة، وتنبض بالحيوية والقوة. وتشع منها الألوان والأضواء والظلال، وترتسم في شكل يتناسب مع طبيعة الغرض، وحجم يتفق مع المغزي وغير ذلك من عناصر التصوير الأدبي الغني بالخيال الخصيب العميق.

فالجبل "فيفاء" ليس صخرًا ولا حجرًا، ولا ترابًا ولا مدرًا، ولكنه بخيال الشاعر إنسان

ص: 137

قويّ يتحدى العواصف والزلازل، وشجاع شامخ يصاول العوالي والمعالي، يترفَّع عن الأرض وهو منها وعليها، ليعشق النجوم في السماء وهو غريب عنها وتحت ظلالها، ويزاحم في ذلك كواكب السماء وهم أحق وأجدر بمن في الأرض.

مهابته مشرئبة في صلف وغرور، وشموخ وكبرياء، قد تجلت هامته بالخضرة اليانعة، وتعممت بالزهور الفواحة، وهكذا يكون دور الخيال في التشخيص وبعث الحياة وبث الروح يقول السنوسي:

"جبل" تعشق النجوم مجاليه

وتصبو إلى ذراه العوالي

يزحم النيرات منكبه الضخم

ويحتله بالسها والهلال

مشرئب إلى السماء برأس

صلف في شموخه متعال

أخضر السفح أزهر السطح مصقول

الحواشي زاهي الربى والتلال1

فعناصر التصوير الأدبي تظهر في الحركة المتجددة في استمرار من استعمال الفعل المضارع "تعشق - تصبو - يزحم - يحتك" الذي يدل على الحدوث والمستقبل والاستمرار، وتظهر في الألوان الزاهية: في خضرة المجالي وذرى المعالي والسفح الأخضر، والسطح الأزهر، وصقل الحواشي، وزهو الربى والتلال، ولمعان السها، وبريق الهلال، وتظهر في حجم الجبل فهو ضخم من الرواسي يتربَّع على الأرض متطلع إلى المعالي وإلى السماء، وتظهر في شكل "فيفا"، فهو إنسان لا جبل له منكب يشرئب برأسه في شموخ وتعال وكبر وصلف وغرور قد تعممت هامته بالخضرة وفاحت منها نشر الزهور، وهكذا أحكمت الصورة الأدبية بعناصر التصوير الشعري التي تثريها بالألوان والأضواء والحركة والحجم والشكل2.

أما ليل السنوسي في الريف غير الليل في المدن، فهو ملك ضافي الجناحين يضم الحياة والأحياء في دفء وحنين، يسري إلى النفس ليداعب العينين بالنوم، وهو فيلسوف في سكونه ووقاره، يتأمَّل ويتدبر أحوال الناس فيطرق عجبًا وخجلًا من هفواتهم، وهو شاعر عبقري سابح في وحيه وإلهامه، لا يدري عن عمره شيئًا، وهو طاهر متجرد عن المفاسد والمعاطن، وعاشق ذاب غارقًا في حبه، لا يعنيه شيء كان أو لم يكن، وهو صامت يحلق بالأرواح في العالم الغني بالجمال، يسري هدوؤه وسجوه بين الأحشاء في نعومة وصفاء، ليؤلف بين روح السماء

1 الأغاريد: 27.

2 ميزت بين الروافد في الصورة الأدبية وبين العنصار فيها - انظر كتابي: الصورة الأدبية - تأريخ ونقد، دار الحارثي بالطائف عام 1401هـ.

ص: 138

وجسم الأرض متجسدًا في أسمى المعاني وأروع الصور، يقول السنوسي في "الليل في الريف"1:

الليل في الريف غير الليل في المدن

فافتح ذراعيك للأرياف واحتضن

واستقبل الليل فيها إنه ملك

ضافي الجناحين يغري العين بالوسن

كأنه فيلسوف مطرق عجبًا

مما يرى في حياة الناس من درن

أو شاعر عبقري الفكر منغمر

في لجة الوحي لا يدري عن الزمن

أو خاطر في ضمير بات منفصلًا

بطهره ومزاياه عن الإحن

أو عاشق غارق في حب فاتنة

فليس يعنيه شيء كان أو لم يكن

صمت يحلق بالأرواح في أفق

من الكون ثري بالجمال غني

يضفي الهدوء عليه من نعومته

صفو يضيء به الإحساس في البدن

وتلتقي في معانيه وصورته

روح السماء وجسم الأرض في قرن

الروح الإسلامية في التصوير الأدبي:

الخيال في الشعر قد ينحت صوره الأدبية من صخور الطبيعة وجبالها وأنهارها وبحارها، وأرضها وسمائها، وطيورها وبلابلها، وزروعها وأشجارها، وقد ينسجها الخيال من تاريخ أمة قد اندثرت حضارتها، وحطم الفساد شموخها، وأذل الضلال أنوفها.

وقد يمنح صوره من حضارة خالدة، ورسالة طاهرة، شع نورها في جنبات الدنيا، وتردد صداها بين جوانب الحياة، وهذا الخيال هو الذي سيطر على شعر السنوسي، فترى الصورة عنده تستمد روافدها من نبع الإسلام الصافي، وتتلاحم عناصرها من نور الحضارة الإسلامية، ويكون ذلك بالضرورة إن كان الغرض إسلاميًّا، مثل قصائده في الشعر الإسلامي التي سبق ذكرها في فصل الأغراض مثل قصيدة "الرسالة والرسول"، وقصيدة "ثاني اثنين"، "أذان الفجر"، "دعوة الحق" وغيرها.

وحينما يتخيل السنوسي "الجزيرة" العربية، يصورها بقوله:

1 الينابيع: ص90.

ص: 139

هي الجزيرة فاقبس أيها الساري

هدى من البيت أو نورًا من الغار

واستلهم الرشد من آي ومن سور

وضاءة وأحاديث وآثار

ترقرقت في شفاه الضاد وامتزجت

بقلبه وجرت كالسلسل الجاري

واطلعت أمة كالشمس عالية

هي العروبة ذات المجد والغار

مجد يدعمه الإسلام لا صنم

من الأساطير مشدود بأحجار1

وهكذا إلى آخر القصيدة؛ حيث يريد الشاعر أن يتحدث عن الجزيرة العربية ذاتها، وعن أهلها الذين اشتهروا بالكرم والنجدة والمروءة، فإذا بخياله يجتاز التاريخ بسرعة فينسى منه كل شيء إلَّا نور الإسلام الذي تبددت أمامه أساطير الجزيرة، وتجسدت عروبتها في البيت الحرام والوحي والغار، والقرآن والحديث، والسير والآثار، وغيرها من الصور الرائعة التي نسجها من نور الإسلام لا من أساطير الجزيرة ومتاهاتها وغيلانها وجنها وشياطين الشعراء.

وربما يرد على الخاطر أن الشاعر مضطر إلى صبغ صوره الخيالية بالروح الإسلامية حين يكون الغرض في الشعر الإسلامي بالذات، فهذا القول مردود لأمرين:

أحدهما: إنَّ الشاعر قد يستغني عن التصوير الخيالي بالتعبير الحقيقي كما هو الحال في شعر آل الحفظي السابق، وعندهم قد خلا الشعر من الصور الخيالية الرائعة، التي توقظ الاحساس وتلهب العواطف، وليس السنوسي كذلك، بل نسخ خياله بالصور الأدبية من النبع الإسلامي الصافي.

ثانيهما: وهو أدل من الأول، أنَّ الصور الخيالية التي نبعت من الروح الإسلامية عند السنوسي سيطرت على شعره كله في جميع الأغراض حتى في شعره الوجداني وغزله العفيف، فترى الصور الإسلامية تطل في الغزل من حين لآخر، يقول في "رحلة القمر":

قال لي وهو ساخر

وهو لا يحسن السخر

أيها الشاعر الكبير

أما جاءك الخبر

وصل القوم للسماء

وطافوا بها زمر

واستفاقت حبيبتي

من خداع ومن خدر

لم يعد حسن وجهها

أبدًا يشبه القمر

بعد ما ديس وجهه

ومشى فوقه البشر

1 الأغاريد: 1/ 3.

ص: 140

قلت مهلًا خلني

من هواء وهذر

ذاك شيء علمته

منذ وعى قلبي الفكر

كانت الأرض والسماء

أما تقرأ السور

فتق الله رتقها

فاندحى الكون وانتشر

إلى قوله:

سوف تبقى حبيبتي

أبدًا تشبه القمر1

فهو مستمد من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} 2.

ومن قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 3.

ويقول السنوسي في "حسناء الريف":

تختال من دل ومن صبوة

في حسنها النشوان من غير راح4

فهي تزهو بجمالها وتختال بدلالها، وتميس بحسنها كالنشوان لا من خمر وراح، فقد حرمها الإسلام، ولكن من سحر حلال وجمال مشروع، وليس هذا القول مردودا يقول السنوسي في آخر بيت لهذه القصيدة وهو:

فإنها في مهجتي منية

وفي فمي لحن وشهد وراح

فالراح في البيت الأخير على العكس من الراح في البيت الأول، الذي لا يحتمل في معناه غير الخمر، بدليل أنَّ الشاعر نفاه بكلمة "غير"، أمَّا الراح في البيت الثاني فيحتمل الطيب أو الراحة أو الخمر، واحتماله الخمر بعيد؛ لأن المقصود من الخمر أثرها في نشوة القلب والعقل والبدن، ولا عبرة في تذوقها بالفم؛ لأن التذوق بالفم ليس هو مقصودها، فالشاعر يريد من الراح الثانية مجرد الطعم والتذوق وليس السكر في الصورة، بدليل أن الشاعر جعل اللحن أيضًا من مذوقات الفم "وفي فمي لحن" بينما الأذن تهتز للحن وتطرب لا الفم، إلا إذا قصد الشاعر أن يتحدث الفم عن طرب الأذن باللحن الجميل.

1 أزاهير: 27/ 29.

2 الأنبياء: آية 30.

3 النازعات: آية30.

4 أزاهير: 39.

ص: 141

وأما سبحات السنوسي في الليل، فيحلق خياله بين دياجيره؛ لينسج صوره مما طواه الليل بين صفحاته من نور الإسلام وحضارته، يقول في قصيدته "الليل والشاعر":

هدأ الليل فاهدئي يا مشاعر

ودعيني من الرؤى والخواطر

هذا الليل وانطوت في دياجيه

قلوب كليمه ونواظر

بات قلبي يحنُّ شوقًا إلى الماضي

وروحي تئن حزنًا لحاضر

أنا من أمة رعى الله ماضيها

لقد كان جوهرًا من جواهر

كان منها الهادي إلى الحق والحامي

حماه من كل طاغ وفاجر

كان منها محمد وأبو بكر

وعثمان والزبير وعامر

وعلى وطلحة والمثنى

وأبو حفص والشهيد ابن ياسر1

الصور الخيالية:

للسنوسي صورة الأدبية التي صاغها على النهج القديم على نحو ما عند الشعراء الفحول، وسبق أن ذكرت بعضها في الحديث عن الأسلوب.

وله أيضًا صوره الخيالية الجديدة والمبتكرة التي نبعت من حياته وعصره، وتجربته الذاتية التي تعبر عن شخصه، فهي توحي بأنه أوّل من استولدها على نمط لم يسبق إليه، وذلك حين يصور ترفع الصائم عن الكذب والزور والإثم بصورة المستاك مما يضر الفم والأسنان والجسد كله فيقول:

واستاك إذ يستاك من

كذب وزور واحترام2

وحين يصور العابرة الفاتنة في أناقتها ورشاقتها وتقاسيمها وتوقيعاتها بصورها بلحن مناسب، وتوقيع موسيقي مراق، وجلال ملائكي طاهر، لا جمال بشري.

خطوات ممسوقات وجسم

في تقاسيمه لحون مراقه

غيد آسر ودل فتون

وجمال ملائكي الطلاقة3

وحين يحلق خياله في أبها، وهو محلق بالطائرة في الفضاء، يتنورها من وراء السحاب في وله وشوق، والطائرة تطوي الأفق طي السجل الكاتب تتهادى في حمحمة، لتستوي على الجو

1 أزاهير: 48.

2 الأغاريد: 16.

3 الأغاريد: 36.

ص: 142

اندفاعًا كالعقاب، وتطفو فوق الذرى كالحباب، وإذا بدارات أبها كاللآليء المنثورة في الشعاب

صورة أدبية بديعة للطائرة، وهي تحمحم في سماء أبها، وتطوي السحب طيًّا، وهي من الصور الحديثة والجديدة في شعرنا العربي الحديث، يقول السنوسي في قصيدة "تحية إلى أبها":

تنورتها من وراء السحاب

وبي وله نحوها وانجذاب

وقد طار في نحوها طائر

طوى الأفق طي السجل الكتاب

تهادى وحمحم ثم استوى

على الجو منطلقًا كالعقاب

وحرم يلوي الذرى الشامخات

وينساب من فوقها كالحباب

فلاحت لعيني داراتها

لآليء منثورة في الشعاب

تألقن والليل وحف الدجى

وأشرقن والصبح كث الضباب1

ومن الصور البديعة التي اخترعها خيال السنوسي في شعر عسير من الأدب السعودي صورة "المنظار الكاشف":

قالها لي وهو يستزيد المرايا

شكل نظارتيك حلو الزوايا

قلت لكنها تريني قشورًا

حين أرنو ولا تريني الخفايا

لم؟ لم يخترع لنا العلم منظارا

يرينا ماذا تسر الحشايا

قال: لو كان ذاك أقفرت الدنيا

ولم تأتلف عليها البرايا

هبه. قد كان. لا. ولن

ترني بعد إذا ما كشفت عنيا2

وهي من الصور الأدبية الكلية التي تعبر عن لقطة واحدة من مشاهد الحياة بعمق ودقة، مع أنَّها تضم بين أجزائها صورًا جزئية لا تقوم بذاتها، ولكن يحتاج القارئ في فهمها أن تكون متلاحمة مع ما قبلها وما بعدها، لتعطي تصويرًا كليًّا دقيقًا عن المنظار المكبَّر، وما يوحي بالطلاء الكاذب، حين تصور الأشياء على غير ما تراه العين المجردة القوية، حتى تنقل الشيء المرئي بدقة دون خداع وتزييف للحقائق.

ويوم أن يكون للمنظار الكاشف دور في إطهار ما يخفيه الإنسان ستكون نهاية التآلف والتواد؛ لأن البشر لا يخلو من عوارض النقصان، الذي هو من طبيعة الإنسانية، عند ذلك لا تجد صاحبًا ولا صديقًا ولا معينًا ولا أخًا.

1 أزاهير: 74.

2 الينابيع: 35.

ص: 143

لذلك كان الإسلام حكيمًا حينما بنى أحكامه على التنفيذ والعمل والتصرف والفعل والسلوك، لا على البنية وحدها مجردة من العمل؛ لأن الإنسان قد يضمر شرًّا لآخر، فإن رجع عنه أو بقي في صدره ولم يخرج إلى حيز التنفيذ لا يعاقب عليه صاحبه، إلا إذا تحولت النية إلى سلوك، وحينئذ يستحق الإنسان العقاب.

صورة أدبية كلية بديعة رائعة؛ لأنها أوحت إلينا بتلك المعاني البكر عن طريق ذلك المنظار الكاشف، وهي آلة حديثة من وحي علم العصر الحديث.

ومن الصور الكلية الفريدة في شعر الجنوب، صورة "لمع السراب"1:

أرح عينيك من لمع السراب

وقلبك من أمانيه العذاب

وعد عن القشور وإن تراءت

رقاقا في الضباب وفي السحاب

فقد فاض الطلاء على حياة

تفيض بها الكئوس بلا شراب

يضوع عبيرها من غير عطر

وتزخر كالبحور بلا عباب

وتزهو بالرياص بلا زهور

وتزهو بالثمار بلا لباب

يشيب شبابها من غير شيب

ويبدو شيبها مثل الشباب

تتيه بها الجسوم بلا علوم

وتفتخر الفهوم بلا كتاب

مموهة تروق العين حسنا

خضاب في خضاب في خضاب

فقد صبغ السراب حياة عصر

مخضبة الأظافر والإهاب

وصرت أشك حتى في مياه

أخوض بها ولو بلت ثياب

وفي قصيدة "وحشة قلب" 2 يقول في مطلعها:

عالم صاحب ودنيا عنيفة

ميكانيكية الحياة مخيفة

كهربتنا سلوكها بسلوك

أحرق الروح والمعاني اللطيفة

كل شيء فيها تعقد حتى

الأكل والشرب والتحايا الخفيفة

إلى قوله:

حرت يا نفس فيك فالتمسي دربًا

وعيشي أحلامك الفيلسوفة

تعسَّفت من حضارة ما لها قلب

ولا للسلام فيها وظيفة

1 جريدة المدينة المنورة رقم3376/ 17/ 4/ 1393هـ.

2 نفحات الجنوب: 32/ 36.

ص: 144

صورة أدبية رائعة نبعت من تجارب الشاعر في حياته ومن واقع عصره الذي يعيشه بوجدانه ومشاعره، وجدان الشاعر ومشاعر الأدب، عاش السنوسي ردحًا من حياته مديرًا لشركة كهرباء جازان، تصدّع أذنيه حركة الماكينات المولدة للكهرباء بأصواتها القاسية العنيفة، وأسلاكها المعقدة الكثيفة، فيكاد الإنسان أن يفقد نفسه وسط هذا الزحام الصاخب، ولا ترتد إليه حتى يعود إلى سحر الطبيعة والحياة الفطرية التي نأت بعيدًا عن تعقد الإنسان باسم الحضارة والتقدم.

هذا المقطع "الميكانيكي" الصغير المعقد، انتقل إلى العالم الصاخب، والدنيا العنيفة، فأصيبت هي الأخرى "بميكانيكية" مخيفة، كهربت سلوكها سلوك الإنسان، فأحرقت القيم والمبادئ الإنسانية في الحياة لا الأسلاك، فتعقد فيها كل شيء، حتى الأكل والشرب والتحية، لهذا أصبح القلب في وحشة والنفس في حيرة من هذه الحضارة التعيسة، فلا قلب فيها ينبض بالحياة، ولا مكان فيه للأمن والسلام.

صورة بديعة جديدة نبعت من واقع عصر الشاعر وحياته، وتجربته مع الحياة.. إنها صورة قائمة حزينة تعبِّر عن وحشة القلب، وغربته في هذا الزمان.

وعناصر الصورة قد تلاحمت من هذا المقام، فالحركة بطيئة من كثرة المدات في الكلمات "حروف اللبن" وألوانها قائمة، فالصخب والعنف والميكانيكية والخوف والكهربة والحرق، والتعقيد والحيرة والفلسفة والتعاسة.. كلها توحي باللون القائم، والضباب المحير، والتيه الضليل. وطعم ذلك كله مر وعلقم، ورائحته تشمئز منه النفوس ذات عادم يخنق النفس.

تلك عناصر التصوير الأدبي من حركة، وطعم، ورائحة في هذه الصورة الأدبية البكر الرائعة.

وفي قصيدة "الظل والضوء" يقول السنوسي1:خرافة كل مفتون بها فان

أعيش في الظلِّ أو في الضوء سيان

خرافة كل مفتون بها فإن

الظل والضوء ألوان وأصبغة

لا باهت ثابت منها ولا قاني

فهم ووهم ولا شيء خلافهما

الوهم من مارج والفهم روحاني

فإن ركبت جناحا وانطلقت به

محلقًا غير آفاق وألوان

فلا تظنن أن الأرض قد ذهبت

أو أنها خليت من كل إنسان

1 نفحات الجنوب: 68/ 70.

ص: 145

الأرض ثابتة والنفس ذاهبة

وأنت منها وفيها عائد ثاني

ضحكت من زمني هزؤًا وسخرية

وربما ضحك المجني للجاني

ترف شم الرواسي نضرة وندى

وملء أعماقها نيران وبركان

وتغضب القمة القعساء إن سقطت

فيها النسور وأضحت وكر غربان

فعش حياتك مرفوع الجبين ولا

تكن عبدها في أي ميزان

التقسيم العقلي يفسد الشعر، وينقله من عالمه إلى عالم العلم والمنطق، والتدليل الصريح على الحقيقة في الشعر يتناقض مع منهجه لأمرين لا ثالث لهما، هما، فهم أي "عقل وحق"، ووهم أي "وسوسة وباطل"، فالأول مصدر الدين والروح، والثاني يتفجر من مارج من نار.

فالعجيب ليس في هذا التقسيم العقلي، ولكنه في الشاعر ذاته، كيف نبضت صورته الشعرية هنا بمشاعره، واصطبغت بوجدانه المحموم، وسرى الروتين العقلي فيها، كما يسري النسيم على الطل والندى والشذى، فيتضوع الجو أريجًا رقيقًا كرقة مشاعره في هذه الصورة الشعرية البديعة.

كما نجد إبداع السنوسي في تصوير التناقض على نحو غير مألوف ومتعارف، فيصور الإنسان الضعيف المغلوب على أمره، المهزوم من دهره، بصورة القوي المنتصر الذي لا يأبه لأحداثه، فيضحك وهو الضعيف المجني عليه من الدهر، وهو القوي الجاني استهزاء وسخرية.

وكذلك يصور هذا التناقض بصورة الجبل الذي ازدهى بالخضرة وتوفر بالنضرة، وتلطف بالماء والندى، ولكنه في باطنه يتفجر لهيبًا وبركانًا، ويندلع موتًا ونيرانًا.

وكذلك تغضب الشوامخ، موطن النسور ملوك الطيور، حين يعشش في جنباتها الغربان، وبين أوكارها الخسيس من الطيور؛ لأن شموخها يناجي شوامخ الطيور، ويأبى في جنباته سواقطها، التي تجد السكن والأمن في أوكاره.

صورة أدبية رائعة تفيض بعناصر التصوير بما يتناسب مع الظل، وهو "الباطل والفساد والشيطان والضلال"، وما يتلاءم مع الضوء، وهو "الحق والعقل والدين والخير"، فيمنح الشاعر صوره الأدبيه عناصرها الشعرية بما ينسجم مع الظل أو الضوء: فالوهم نار، لونها أحمر حارق، وريحها سموم لافح، وطعمها لاذع يكوي، والفهم روحاني، لونه لطيف، وريحه نسيم عليل، وطعمه حلو كحلاوة الإيمان، والوهو أيضًا كالبركان في أعماق الجبال، والبركان نار ولهيب، لها لونها وطعمها وريحها كما سبق، والفهم كذلك كالنضرة والخضرة والماء في شم الرواسي، لونها أخضر، وطعمها لذيذ وممتع، ورائحتها طيبة زكية، وحركتها تتماوج مع النسيم في الصباح، وتتعانق مع الرياح في النهار والليل.

ص: 146

إنها صورة شعرية اكتملت فيها عناصر التصوير الأدبي من لون وحركة وطعم ورائحة، مثل القطعة الحية من الطبيعة الساحرة، والحياة النابضة.

ومن الصور الجديدة البديعة التي تسير مع عصر الشاعر، وتتجاوب مع أصداء الحياة العالمية، وما يموج فيها من طغيان وظلم للذين أزهقت أرواحهم، وانتزعت أموالهم، واستعمرت أوطانهم بالباطل

وباسم المبادئ الإنسانية المتحضرة، وباسم حرية الإنسان في عصر استعمار الإنسان لا حريته، يقول السنوسي في "الحق المهان" 1:

يخزي الضمير ويجرح الإحساسا

حق يهان فلا يثير الناسا

وعجيبة أن تستمر عصابة

تطأ الهدى وتلوث الأقداسا

رعنا أسكرها الغرور فأمعنت

بطرًا وزادت خسة وشراسا

تلهو وتبعث لا تقيم لمنطق

وزنًا ولا لمبادئ مقياسا

ومنظمات الحق

كل جهودها

للحق لا تتجاوز القرطاسا

لا مجلس الأمن استعاد وقاره

وأقام هيبته وثار حماسا

كلا ولا جمعية الأمم انتهت

يوما إلى حكم يرد شماسا

ويقال إن العصر عصر مبادئ

فضلى تقيم الوزن والقسطاسا

الوحدة الفنية:

قضية الوحدة في القصيدة من أهم قضايا النقد الحديث الجديرة بالدراسة والتطبيق في الشعر ونقده الحديثين، فقد شغلت النقاد والشعراء على السواء، وخاصة بعد المنافسة بين المذاهب الأدبية الحديثة ومدارسها النقدية، مثل مدرسة المحافظين ومدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، ومدرسة المهاجر، وكذلك المذاهب "الكلاسيكي"، والمذاهب "الرومانسي"، والمذهب "الواقعي"، وغيرها، ووقف الجميع في صمود يدافع عن الوحدة الفكرية في بناء القصيدة، بل بالغ بعضهم في تطبيق الوحدة العضوية على الشعر الغنائي أيضًا، كالشأن في الموضوعي والمسرحي والتمثيلي، وأن منهج القصيدة القديمة التي تقوم على تعدد الأغراض والموضوعات لا يتناسب مع هذا العصر، الذي يتسم بالتقدم في العلوم والفنون والآداب على أساس من الذوق الرفيع، والفكر العميق، والعقل التجريبي.

لذلك كان من الضروري أن تكون القصيدة الشعرية صدى لهذه الحضارة العميقة، فتقوم على أساس من الوحدة الفكرية والموضوعية في بناء فني متكامل، وتصوير أدبي تنسجم فيه

1 الينابيع: ص41.

ص: 147

الصور الجزئية والألفاظ والأساليب والإيقاع والموسيقى مع المعاني والأفكار والعرض والعاطفة والتجربة الشعورية، في تلاحم قوي وتلاؤم انسيابي، فلا يصطدم الذوق الأدبي حين يتذوق القصيدة باضطراب في أسلوبها، أو تناقض في معانيها، أو تعدّد في أغراضها، أو يفزع بنشاز في إيقاعها أو بقلق في موسيقاها، ولا يشعر بتهتك يبدد تلاؤم الصورة مع الخيال والعاطفة والمعاني، غير ذلك مما يؤثر في تمزيق الوحدة الفنية في القصيدة فتنهار في ميزان النقد المستقيم.

وعلى ذلك فالوحدة الفنية هي: أن تتلاءم التجربة الشعورية والعاطفية والخيال والمشاعر والأحاسيس والمعاني والأفكار والغرض والمغزى وغير ذلك مما يتصل بالمضمون والمحتوى للقصيدة فيتلاءم هذا كله مع البناء الفني لها، وهو انسجام الألفاظ والأساليب والصور الجزئية والتجسيم والتشخيص، والإيقاع الداخلي والخفي والموسيقى الخارجية في الوزن والقافية، لتتلاحم هذه العناصر كلها في انسجام وتناسب، واتساق وتلاحم، كالشأن في المخلوق السوي، الذي تكاملت أجزاؤه في أحسن تقويم1.

والسنوسي في شعره يلتزم الوحدة الفنية غالبًا، فتقوم القصيدة عنده من المطلع إلى آخر بيت على غرض واحد، تدور حوله الأفكار والمعاني، وتتجاوب مع المشاعر والعاطفة والخيال في البناء الفني للقصيدة وحينئذ يتلاءم المضمون في العمل الفني مع الألفاظ والأساليب والصور والموسيقى والإيقاع.

ولا تجد قصيدة في دواوين السنوسي الخمسة قد تعددت فيها الأغراض، بل تحقق الاتساق والتلاحم بين الغرض وبين تصويره الأدبي، وهذا لا يحتاج إلى ذكر أمثلة وشواهد، فقد سبقت قصائد كثيرة في باب الأغراض، وبقية القصائد في الدواوين تسير على هذا النهج من الوحدة الفنية.

لكن الذي يحتاج إلى التنصيص عليه، وهو ما يخرج فيه الشاعر عن الوحدة الفنية من صور لا تتلاءم مع الغرض في القصيدة، وهذا قليل ومتناثر بالنسبة لمنهجه في الالتزام بالوحدة الفنية في شعره، وسأوضح بعض الشواهد على ذلك بالتحليل والنقد.

صورغير متلائمة:

الرثاء غرض أدبي ينصهر في بوتقة التجربة الحزينة وفي محمى العاطفة الشعورية القائمة،

1 انظر كتابي: البناء الفني للصورة الشعرية: دار الحارثي بالطائف. فقد وضحت فيه الوحدة الفنية دفعًا للتكرار. نشر عام 1401هـ.

ص: 148

فتقطر أسى، وتذوب ألمًا وحزنًا، فإذا ما جاء الشاعر بلفظ أو صورة من حقل الأعجاب والبهجة والسرور، يبدِّد شمل الوحدة الفنية، ويذهب بتلاحمها.

وهذا ما حدث للسنوسي عندما كان يرثي معالي الشيخ محمد سرور الصبان، الذي وافته المنية في مصر بتاريخ 2/ 12/ 1391هـ يقول1:

تصاممت لما قيل مات "محمد"

سرور "قلوب" كم به جبر الصدع

فلا محل لذكر سرور القلوب هنا؛ لأنه يبدد قتام الحزن المتلائم مع الرثاء، وكذلك قوله في نفس القصيدة:

أبا حسن غاض السرور الذي جرى

على كل قلب من تدفقه نبع

وضوح روض كان في كل مهجة

بك اتصلت يندي بها النبت والزرع

فالسرور وإن غاض بموته، لكنها تبرق بالبهجة، مما لا يتناسب مع الرثاء والحزن، وكذلك الروض الذي كان يفوح طيبه في حياة المرثي، فيزدهر به النبت والزرع، يبدد قتام الحزن في القصيدة؛ لأن نشر الروض وازدهار الزرع والنبت، كان ينبغي ألا يكون لها مكان من التصوير الأدبي، لعدم التلاؤم بحال مع الرثاء والحزن.

ومما يؤخذ على الشاعر تمزيقه جمال التصوير الشعري بكلمة ليست هي من حقل الشعر، وإنما هي من حقل العلوم، ومن مجال العقل لا العاطفة، مثل كلمة "مقياس":

يا فتنة القلب ومهوى البصر

جاوزت مقياس جمال البشر2

وكذلك الكلمتان "إيجاز - المختصر" فهما يختصان بعلوم البلاغة ومنطق العقل أكثر من التصوير الشعري يقول3:

ورق في خصرك حتى استوى

إيجازه في قدك المختصر

وكذلك مما يبدد التصوير الأدبي العربي الأصيل استعانته ببعض الكلمات الأجنبية التي يمجها الذوق العربي السليم، مثل كلمة "الديزتو"4:

1 الينابيع: 63.

2 أزاهير: 35.

3 أزاهير: 35.

4 أزاهير: 34.

ص: 149

تجري عليك "الديزتو"

تختال والفرد فرها

وكذلك قوله:

زاره ساكن "الألب""أبوللو"

رائدًا ينشد الجمال المثالي

موازنة ونقد:

السنوسي شاعر محافظ في تجديده، يتجاوب مع الواقع الذي يعيشه ويحياه، فالشعراء القدامي صوروا النغم والغناء في الشعر العربي القديم، وخاصة الشاعر المصور ابن الرومي، وتناوله كذلك شعراء في العصر الحديث مثل العقاد والمازني وإبراهيم ناجي وغيرهم1، وتأثر الجميع كثيرًا بابن الرومي في تصويره الغناء الساحر الجذاب في قوله يصور صوت "وحيد" المغنية:

ظبية تسكن القلوب وترعا

ها وقمرية لها تغريد

تتغنى وكأنها لا تتغنى

من سكون الأوصال وهي تميد

لا تراها هناك تجحظ عين

لك فيها ولا يدر وريد

من هدوء ليس فيه انقطاع

وسجو وما به تبليد

مدَّ في شأو صوتها نفس

كاف كأنفاس عاشقيها مديد

فتراه يموت طورًا ويحيا

مستلذ بسيطه والنشيد

فيه وشي وفيه حلى من النغم

مصوغ يختال فيه القصيد

في هوى مثلها يخف حليم

راجح حلمه ويغري رشيد

ما تعاطى القلوب إلا أصابت

بهواها منهن حيث تريد

وتر العزف في يديها مضاء

وتر الرجف فيه سهم سديد

عيبها أنها إذا غنت الأحرار

ظلوا وهم لها عبيد2

فالصوت الشجي مع هدوئه متصل لا ينقطع، ومع سموه حي غير متبلد، مديد كأنفاس العاشقين، ساعد في مده طول النفس، وأرقه الدلال، ولطفه الوله، حتى كاد أن يختفي، فيموت طورًا ويحيا طورًا، ويتعانق النغم على مسرح الغناء فيتخذ قبة تحيط بالسامعين،

1 عقدت موازنة نقدية في كتابي: البناء الفني للصورة الأدبية عند ابن الرومي. نشر عام 1976م

2 المرجع السابق ص221، 361.

ص: 150

في صورة حيّة نابضة، ينسجم فيها الوشي المنساب مع الألوان، ويتجاوب فيها اللحن المتماوج مع موجات الهواء، فيتراقص معه القصيد، ويختال فيه النشيد، فيستبد بالقلوب، ويشنف الآذان، فيعشقه المستمع؛ ليقع في غرامه لا في غرام وحيد، ويصور ابن الرومي الغناء أيضًا في صورة أخرى فيقول:

كل طفل يدعى بأسماء شتى

بين عود ومزهر وكران

ذات صوت تهزه كيف شاءت

مثل ما هزت الصبا غصن بان

يتثنى فينفض الطل عنه

في تثنيه مثل حب الجمان

صيغ من طبع صوتها كل لحن

معها من لحون تلك الأغاني1

ويأتي السنوسي في العصر الحديث ليصور هو أيضًا الغناء في سحر وقوة متأثرًا بابن الرومي فيما سبق؛ لكنه يتجاوب فيه مع أصداء عصره، فيقول الشاعر في صوت "كوكب الشرق أم كلثوم".

يا كوكب الشرق طال الليل بالساري

فقصريه بألحان وأوتاري

وسلسلي فيه صوتًا ملء نبرته

صفو الندى والشذى والكوثر الجاري

ورددي في دجاه شدو ساجعيه

يذوب بين يديها كل قيثار

مديه في الليل ينداح الصباح سنا

وفي الضحى يتردى ثوب أقمار

فنانة الضاد كم للضاد من نغم

على شفاهك منه ذوب مضمار

جلوته فجلوت الفن مرتفعًا

يموج بين أغاريد وأشعار

صوت إذا حركته في الدجى سحبت

أردانها الريح في غيناء معطار

يلقاك بالسحر في الألفاظ منطلقًا

وبالحنان المصفى والجوى النار

وغنة ما وعت أذن ولا سمعت

بمثلها منذ أزمان وأدهار

كأنما في أغانيها وفي فمها

أنغام إسحاق أو ألحان موزار

تهزه فتهز الشرق أجمعه

قلبًا بقلب وأفكار بأفكار

يصغي إليها كما يصغي الحبيب

إلى حبيب في مناجاة وأسرار

إن قلت: يا ليل قال الليل من طرب

أو قلت يا عين لم تهدب بإشقار

تعلو به طبقات الجو صادحة

فينتشي كل نجم في الدجى سار

آنا تضخمه أنا ترققه

فعل الهوى والتصابي بين سمار

كأنه في يديها غصن ناضرة

تسمو به ثم تدنو ذات منقار

كم بات يصغى إليها كل ذي كبد

حرى اللواعج من شوق وتذكار

1 المرجع السابق ص221، 361.

ص: 151

فراغ يطغى صداه وهي صادحة

بصوتها العذب من سيل وأنهار

غنت للشرق ألحان الخلود هوى

وللعروبة لحن المجد والغار

من كان يجعل شوقيًّا وقد صدحت

بشعره آب عنه كاتبًا قاري

ولا يرى في غناها ذو الحجي حرجًا

وذو وقار يرزي به زار

قمرية النيل ما للنيل واجمة

ضفافه وأساه مائج جار

غاضت بعينيه أنوار الهوى وذوت

بكفه خضر أوراق وأزهار

ولاح في صفحتيه ذعر شاكله

وحيدها بعد سن يائس هار

ما كل طير هزازًا حين تسمعه

كلا ولا كل ذي ريش بطيار1

صورة أدبية كلية رائعة لتصوير النغم والغناء، تسير على النهج الفني لصورة ابن الرومي، فكلاهما يهزان الوجدان والنفس هزًّا قويًّا، لدقتهما في التصوير، وقوتهما في التأثير، وقد اتفق الشاعران في خصائص، وافترقا في أخرى، فأما الخصائص التي اتفقت عند الشاعرين -والفضل لمن سبق- هي:

أولًا: كلاهما وصف المغنية بالجمال، وصورها بصورة جميلة في الطبيعة الساحرة، فمغنية ابن الرومي "وحيد" ظبية وقمرية في الليل، ومغنية السنوسي كوكب الشرق في الليل الساري وقمرية النيل.

ثانيًا: سحر الغناء عندهما ينساب إلى الأسماع، ويتسلل إلى القلوب في خفاء، حتى لا يشعر السامع بمصدر اللحن، فالمغنية "وحيد" ثابتة الأوصال منسابة العينين بلا جحوظ ولا حملقة، ولا معاناة في إخراج الصوت، ولا انتفاخ في الأوداج والعروق، فيخرج النغم هادئًا متصلًا، لا انقطاع فيه ولا عواصف، بل يتصاعد ساجيًا ممدودًا دائفًا كأنفاس العاشقين، وأما ألحان "كوكب الشرق" فتتسلل كالندى الصافي، وتفوح كالشذى المعطر، وتعذب كالكوكثر الجاري، فهو ينداح في الليل ممدودًا، حتى يفجر إشراق الصباح ونور الضحى.

ثالثًا: الشاعران مزجا سحر النغم بالسحر المذاب في مظاهر الطبيعة، فالصوت تهزه "وحيد" كيف شاءت، يستجيب له كل المعاني والألفاظ طائعة منقادة، مثل ما يستجيب غصن البان لريح الصبا، ويهتز طربًا له، فيتثنى ذهابًا وإيابًا، ويتناثر الطل كحبات الفضة، أما نغم "كوكب الشرق" فينساب في الليل والدجى والصباح والضحى، ويعلو طبقات الجو، فينتشي النجم طربًا، وينقاد طوع أمرها كالغصن اللين، الذي يتراقص مهتزًّا على أنغام الطير الصداح، وهو كالسيل في تدفق الأنهار، وكالماء في النيل عذوبة، وليس كل طير يمتع في الغناء.

1 الينابيع: 87/ 89.

ص: 152

فصفة النفاق تأصَّلت في المنافق كالشأن في شجر الخلاف، فمنظره ساحر فتان، ومخبره مر خداع، كالغصن الأخضر أخاذ الشكل والرونق مرير الذوق كالعلقم.

ويدل على أصالة النفاق في المنافق ما توحي به الصورة من التجدد والاستمرار عن طريق الفعل المضارع "يورق، ويأبى" وكذلك القصر بتقديم الخبر "وما له ثمر"1.

يقول عبد القاهر: "انظر إلى المعنى في الحالة الثانية، كيف يورّق شجره ويثمر، ويفتر ثغره ويبسم، وكيف تشتار الأرى من مذاقه كما ترى الحسن في شارته"2.

وصورة أخرى لابن الرومي في النفاق يقول:

ملك النفاق طباعه فتثعلبا

وأبى السماحة لؤمة فاستكلبا

فترى غرورًا ظاهرًا من تحته

نكد فقبح شاهدًا ومغيبًا

ولشر من جربته في حاجة

من لا تزال به معنى متعبا

أما شاعرنا السنوسي فيصور النفاق في قصيدته "لكل صابون ليفه":

بسمات ملونات وأخلاق

وصولية غلاظ سخيفة

ونفاق ملون تخجل الحرباء

منه فتنثني مكسوفة

تتدلى وتستكين وتنماع

وتغدو لكل صابونة ليفة

فإذا ولت الوظيفة ولوا

وأثاروا عليه حربًا عنيفة

خلق يشمئز منه كريم النفس

والطبع والخصال المنيفة

يا لنفسي من أنفس تقذف الحبر

عداء من الثياب النظيفة

وعلى كل جانب من قذاها

قذر يزكم الأنوف وجيفة

خضت في بحرها وكنت غريرًا

فطفا موجها وكانت حصيفة

أوجه كالبلاد لا تنبت الزهر

وإن كانت المياه كثيفة

وقلوب مثل الكهوف ظلامًا

والضحى يغمر الوجود مخيفة

غير أني وإن تألم قلبي

فهو ما زال كالظلال الوريفه

لست خبا والخب قد يخدع

البر وهذه حكاية معروفة3

1 انظر كتابي: شاعرية ابن الرومي بين الأصالة العربية والدعوى الرومية دار المريخ - الرياض 1402.

2 أسرار البلاغة ص91.

3 القصيدة كاملة سبقت في الشعر الاجتماعي.

ص: 153

ولا كل ريش يستطيع الطير في الهواء، فهو صوت فريد في مجال اللحن والغناء.

ومع ذلك فقد غلب على تصوير ابن الرومي للغناء التجرد عن مظاهر الطبيعة وخاصة في القصيدة الأولى، وساد عند السنوسي تجسيم الغناء في مظاهر الطبيعة.

أما ما اختلف فيه الشاعران فهو مدى استجابة المستمعين للغناء، فجمهور "وحيد" تجاوزوا حب الطرب والغناء إلى ما هو أكثر من ذلك من الغراء والإغراء، مما يخشى على العاقل الذي رجح عقله، ويخاف على الرشيد؛ لأنها تصبي القلوب بحبها، فالجمهور عندها مزعزع الإيمان ضعيف العقيدة، يخشى على دينه، ويخاف من الوقوع في حبال الشياطين.

لكن جمهور كوكب الشرق يحب غناءها المجرد عنها، فذو العقل لا يتردى في حرج من غنائها، وذو الوقار والاتزان يجد في وقارها واتزانها ما تستجيب له نفسه يقول:

ولا يرى في غناها ذو الحجي حرجًا

وذو وقار ولا يزري به زار

لأنها غنَّت للشرق الإسلامي ألحان الخلود في حضارة الإسلام وغنت للعروبة التي سما بها الإسلام في سماء المجد، كما غنت للرسول صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه الوحي، وصاحب الغار والذي أقام حضارة الإسلام بعد الهجرة النبوية المباركة.

فجمهورها قوي في إيمانه متمسك بعقيدته، يزداد إيمانًا حينما ينساب الغناب في حضارة الإسلام، فتسبد بقلبه تلك الحضارة فيزداد اقتناعًا بعقيدته وحبًّا لها لا لكوكب الشرق، التي لم تتخذ الدلال وسيلة للإغراء في الغناء، كما اتخذته "وحيد" مغنية ابن الرومي.

ومن الصور التي تأثر بها السنوسي صورة المنافق في الشعر العربي القديم، ذكر عبد القاهر الجرجاني في تعليل بلاغة الكلام قول ابن لنكك:

في شجر السرو منهم مثل

له رواء وما له ثمر

وقول ابن الرومي:

فغدا كالخلاف يورق للعين

ويأبى الإثمار كل الإباء

وقوله الآخر:

وإن طرة راقتك فانظر فربما

أمر مذاق العود والعود أخضر1

1 أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني ص91 تحقيق محمد رشيد رضا.

ص: 154

والتأثر ظاهر بصورة النفاق بين الشاعرين وبخاصة في صورة ابن الرومي الأخيرة، فالمنافق في مكره ودهائه ورداءة طبعه كالثعلب يؤثر منفعته، ولا يسعى إلا لحاجته الذاتية، فهو ثعلب في طباعه، يسير هادئًا لينًا في خفاء وتحفظ كالقط الأليف. والمنافق في لؤمه كالكب المسعور يهش للقادم سماحة، ويداعبه غدرًا؛ لينقضَّ على فريسته كالذئب في غدره وخيانته، فهو في الظاهر مستوي الخلقة، متكامل السمت، يتستر وراء الغرور والوقار، ويتشدق بالنصيحة، ويتلاعب بالحكمة، لكنه من الباطن يتفجر عن غدر ونكد، وينطوي على حقد وشر، فلا يسلم من يتعامل معه من مخالب الغدر، فيظل يعاني منه آلامًا ومرارة ومتاعب.

والمنافق عند السنوسي كالحرباء، بل الحرباء تخجل منه، وتعرض عنه مكسوفة، وتلك طبيعة المنافق في تكوينه، يلبس لكل حال لبوسها، ويتقلب حسب الأغراض والأهداف، كما تتأقلم الحرباء حسب اختلاف البيئات، وتغاير الألوان في الجبال والرمال، لتكون قطعة متجانسة مع الأرض التي تعيش عليها.

لكن الصورة عند ابن الرومي أدق وأعمق حين صور المنافق بالثعلب والكلب المسعور؛ لأن المنافق غالبًا ما يخدع الناس لحسن ظنهم فيه، وينال منهم كما ينهش الكلب المسعور فريسته، بعد الهدوء والمسالمة وحلاوة اللسان على العكس من الحرباء فتتلون ولا تؤذي أحدًا.

أما السنوسي يصور المنافق حين يتعامل مع الآخرين، الذين لا يسلمون من شره وأذاه، كمن يلطخ الثياب البيضاء بالحبر الأسود، والمنافق أشد من الوباء الذي يعدي في خفاء، فيزكم الأنوف بمرضه، ويقتل النفوس بجيفته المنتنة.

وبصورة أيضًا بأرض بور، بل كالبلاط الذي لا ينبت زهرًا ولا يجلب خيرًا، مهما فاضت المياه، ويصور قلب المنافق في ظلمه وظلامه كالكهوف المظلمة تغشيها الدجنة باستمرار، فتأوى إليه الحيات والعقارب، والحشرات السامة، ومع كل ذلك فهو ضعيف لا يقوى على مواجهة الحق، رقيق كالظلال الوريفة تمزق النسيم اللطيف.

وتلك صورة جديدة تفرَّد بها السنوسي عن سابقيه، وكذلك موضوع القصيدة، كانت منه لفتة لطيفة وطريفة حين طوع المثل العام الذي يجري على كل لسان، وهو "لكل صابونة ليفة" ليجعل منه موضوعًا شعريًّا وغرضًا أدبيًّا، ليفيض الشعر عليه بالإيحاء والقوة والشاعرية، والموضوع في ذاته صورة جديدة للمنافق في عصرنا الحديث.

والسنوسي بهذه الصورة الطريفة للمنافق التي أطنب فيها حتى صارت قصيدة، تضع الشاعر في مكانه البارز بين شعراء عصره ولا تقل عن صورة المنافق في الشعر القديم، وإن اتصفت بالإيجاز والقصر؛ لأن الشعراء السابقين فضل السبق، ولشاعرنا السنوسي فضل الزيادة.

ص: 155

في صورة الجديدة التي تتناسب مع عصره، ولو خلت منها قصيدته لما وجدت طريقها إلى قلب القارئ، ولما أخذت مجالها في النقد والموازنة الأدبية.

وبهذا يكون الشاعر السنوسي أشهر شعراء الجنوب في منطقة عسير، بل شاعر الجنوب كما أطلقت عليه صحافة المملكة، ومن الرواد الأوائل لشعراء المملكة الذين كان لهم دور كبير في القفزة السريعة للشعر الحديث، حتى تعددت مدارسه ومذاهبه الأدبية، وكان أيضًا أشهر شاعر في مدرسة التجديد المحافظ في مذهبها الأدبي لشعر الجنوب خاصة وشعر المملكة عامة.

ولقد كانت الدراسة السابقة للسنوسي التي قامت على التحليل والنقد، والاستقراء والموازنة، ووضعت هذه الدراسة الفنية علامات بارزة على الطريق من أهمها:

أنَّ السنوسي كان مجددًا في معظم الأغراض الأدبية وفي الموضوعات، وكذلك في معظم الأفكار والمعاني، وخاصة بالنسبة للشعر السعودي خاصة، والشعر العربي بصفة عامة.

"إن للسنوسي مكانته بين شعرائنا البارزين، فهو صاحب "القلائد" ولقد كان لديوانه القلائد وما يزال صداه الطيب الجميل في أوساطنا الأدبية، إنه أول شاعر من شعرائنا يترجم له بعض شعره إلى لغة أوربية

إن أهم سمات شاعرنا السنوسي في اعتقادي أنه لا يحاول أن يتكلف أو يظهر بغير حقيقته، أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل لثناء أو مدح، وإنما هو في كل ما طالعته من شعره لا أراه إلا حريصًا كل الحرص على التزامه لهذه السمة، سمة الصدق في التعبير"1.

ويكفي الشاعر الفذ أن يكون في شعره صادقًا يعبر بصدق عن شاعريته، وهل يحتاج التجديد في الأغراض الأدبية إلا الصدق الفني، الذي كان من أبرز مظاهر التجديد في الشعر الحديث بعد الركود والجمود في العصر السابق الذي قضي تمامًا على الصدق الفني في الشعر. وقال باحث عن السنوسي:"ومن أهم سماته أنه لا يتكلف، أو يقول ما لا يعتقد، أو يمدح من لا يرى أنه أهل للمدح"2.

ويقول صاحب المنهل: وأعتقد أن ديوان القلائد لصاحبه الشاعر الأستاذ محمد بن علي السنوسي "والاسم هذا كالمسمَّى"

سيثبت بصدوره أن الشعر العربي الأصيل الذي جمع بين المبنى والطرافة والتجديد في المعنى، هو حي ولا يزال حيًّا ذا تأثير فعال في المجتمع والأفراد

يؤز

1 الأستاذ محمد سعيد العامودي: مقدمة الأغاريد ك. ل.

2 د. كامل السوافيري.

ص: 156

النفوس الظامئة إلى الحياة الطامحة أزًّا، ويدفعها إلى محيط العمل والنشاط دفعًا، ويوقد فيها جذوة الحربة والحماسة، ويخلق فيها الحركة والانطلاق إلى الأمام على الدوام.. ويساند حركات الاستقلال والاستبسال في نيل المطالب العليا، كما كان من قبل ألف عام، أيام البحتري وأبي تمام، وأيام أبي الطيب المتنبي، وأخيرًا أيام البارودي وشوقي وحافظ، ومن سار على دربهم من فحول الشعراء"1.

والسنوسي كان مجددًا في تحفظ للتصوير الأدبي كما رأينا ذلك في مكانه، فقد بعث الحياة والقوة في الألفاظ الشعرية وأساليبه، وأعاد لها عراقتها الأصيلة كما كانت عند الفحول من الشعراء، كما أنه طوَّع الأساليب في جزالة وعذوبة وقوة وإيحاء لقضايا عصره وفكره واتجاهاته، وكذلك كان خياله عميقًا خصبًا يمنح صوره الأدبية جدة وابتكارًا، مما دفع النقاد إلى أن يسجلوا له هذه الخطوات المباركة في التجديد، يقول أحدهم:

"إن شعر السنوسي يملأ نفسي ويشعرني أنه يخرج من نفس عربية مؤمنة صادقة قوية اليقين بعروبتها وإسلامها"2.

ويقول الأستاذ محمد سعيد العامودي:

"وأعتقد أن لثقافة السنوسي المتعددة الجوانب أثرها في شعره بصورة عامة إلى جانب موهبته الفنية المعطاءة، ولعله من هنا يبدو ما نلمسه في شعره غالبًا من نبض في الأسلوب، وحيوية في الألفاظ وعمق في المعاني، وسمو في الأغراض"3.

وأمَّا الموسيقى الشعرية فقد اتخذ الشاعر القالب الموسيقي العربي العمودي، فالتزم بحرًا واحدًا وقافية واحدة في القصيدة الواحدة، ورأينا ثورته العنيفة على الشعر الحر في القصيدة التي سبق ذكرها، والتي أعلن فيها أن طبيعة الشعر العربي الأصيل تأبى ذلك كل الإباء، وإذا كان ولا بُدَّ من التجديد فيكون في المعنى والمضمون بما يتناسب مع العصر الحديث وقضاياه الكثيرة.

ولم يتزحزح السنوسي عن القالب الموسيقى إلّا قليلًا، وذلك في نظام المقطعات القائمة على البحر العروضي مع تعدد القافية في كل مقطع من مقاطع القصيدة، وليس هذا غريبًا على طبيعة الشعر العربي، بل هو نظام الموشحات الأندلسية مثل قصيدة "أتمنى" السابق ذكرها.

1 الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: مقدمة القلائد: ج.

2 مقدمة: نفحات الجنوب ص8.

3 مقدمة الأغاريد ص. ل.

ص: 157

وأشاد بشعر السنوسي الشاعر الأمير عبد الله الفيصل بقصيدة عنوانها "حيرة" يقول في مطلعها:

أنا في حيرة أموت وأحيا

كل يوم وأدمعي في شهود1

ويصف الشاعر محمد حسن عوّاد أحد رواد الشعر العربي في السعودية شعر السنوسي، ويشيد بروعة شعره في قصيدته "مواطن العطاء من الإنسان" منها هذه الأبيات:

الوشي جاء منمقًا ومنمنمًا

والظرف طالعنا بها متبسمًا

واللمس كان موشحًا والحسن كان

مصرحًا واللطف كان مسلمًا

غراء من جيزان يرقصها النهى

تيها يمنعها الحياء تقدمًا

أنسيت أنك آنذاك منشأ في

حلبة والنسج لم يك محكمًا

إني وأنت مواطني ومسايري

في الشعر أصمت إذ أراك ملعثمًا

لكن سواك من الذين تعاظموا

أو كابروا الفكر القوي القيما

من كل من جعل التشاعر مهنة

فإذا انبريت له أسف وبرطمًا

فقد امتطوا عوجاء حين تأثموا

والفكر أكبر أن يرام تأثمًا

والفن يرفض أن يكون ممرغًا

والحسن يشجب أن يداهن نومًا

مسخ الفتي منهم رواء شبابه

فكأنه هرم ولما يهرما

ورسالة التجديد عند لفيفهم

"خطب" يراه مذمما ومحرمًا

هي ذي المفاهيم التي أصليتها

نقدا وكان كما عرفت مسممًا

هم هؤلاء -ولست أنت- هم الأولى

قد خوصموا نقدا مضى متجهما

عش للوفاء "أبا علي" مثلما"

يرجو الوفاء من الوفاء وفوق ما

ولأنت من أهليه فابق أرومة

عربية نسلت عزيزًا مسلمًا2

والسنوسي

"شاعر ضليع ذو قوة في البيان، وإشراقة في الفكر، وروعة في المنطق، وجدة في الأسلوب، هو شاعرنا الذي تعتز به المملكة العربية السعودية، وتضعه في الصف الأول من بين شعرائها الأبرار شعراء الشباب المبدعين.. شعراء الأدب الرفيع، واللسان العف، والضمير النقي من الشوائب والأوضار3.

1 جريدة البلاد: عدد 2930 - 8/ 7 / 1388هـ.

2 جريدة البلاد 17/ 11/ 1394هـ.

3 عبد القدوس الأنصاري: مقدمة القلائد: 1.

ص: 158