الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّاسِ وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ مَوْتَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ حَيَاتَهُ إلَى وَقْتٍ آخَرَ، فَالْجَزْمُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ جَهْلٌ، وَهَذَا كَمَنْ قَالَ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ هَذَا مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ قد كَان يَمُوت أَوْ يُرْزَق شَيْئًا آخَرَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لَوْ لَمْ يُحْبِلْ هَذَا الرَّجُلُ لهَذِهِ الْمَرْأَة هَلْ كانت عَقِيمًا أَم يُحْبِلُهَا رَجُلٌ آخَرُ، وَلَوْ لَمْ تَزْدَرِعْ هَذِهِ الْأَرْضُ هَلْ كَانَ يَزْدَرِعُهَا غَيْرُهُ أَمْ كَانَتْ تَكُونُ مَوَاتًا لَا زرع بها، وَهَذَا الَّذِي تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ هَذَا لَوْ لَمْ يَتعلمهُ هَلْ كَانَ يَتَعَلَّمُه مِنْ هذا (1) أَمْ لَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ أَلْبَتَّةَ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
فصل
وأما الْغَلَاء وَالرُّخْص هَلْ هُمَا مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لَا
؟
فالجواب: إن جَمِيع مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ، وهُوَ رَبُّهَا وَخَالِقُهَا وَمَلِيكُهَا وَمُدَبِّرُهَا، لَا رَبَّ لَهَا غَيْرُهُ وَلَا إلَهَ سِوَاهُ لها، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُعِينٍ، بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ • وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِهِ لَيْسَ لَهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا شِرْكٌ فِي مِلْكٍ، وَلَا إعَانَةٌ عَلَى شَيْءٍ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يثبت بِهَا حَقّ (2)، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلشَّيْءِ مُسْتَقِلًّا بِمِلْكِهِ أَوْ يَكُونُ مُشَارِكًا فيه لَهُ فِيهِ نَظِيرٌ، أَوْ لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، فَيَكُونُ مُعِينًا لِصَاحِبِهِ كَالْوَزِيرِ أو الْمُشِيرِ وَالْمُعَلِّمِ وَالْمُنْجِدِ وَالنَّاصِرِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِلْك مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا لِغَيْرِهِ شِرْكٌ فِي ذَلِكَ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، فَلَا يَمْلِكُونَ
(1) في مجموع الفتاوى: (غيره).
(2)
في مجموع الفتاوى: (حق الغير).
شَيْئًا، وَلَا لَهُمْ شِرْكٌ فِي شَيْءٍ، وَلَا لَهُ سُبْحَانَهُ ظَهِيرٌ، وَهُوَ الْمُظَاهِرُ الْمُعَاوِنُ فَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ ولا معين وَلَا مُشِيرٌ ونظير، وَهو كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يُوَالِي الْمَخْلُوقَ لِذُلِّهِ؛ فَإِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُوَالِيهِ [عَزَّ بِوَلِيِّهِ]، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يُوَالِي أَحَدًا لغناه (1) تَعَالَى عن ذلك، بَلْ هُوَ الْعَزِيزُ بِنَفْسِهِ، و {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ، وَإِنَّمَا يُوَالِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَتفَضلِهِ وَإِنْعَامِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَالْغَلَاءُ بِارْتِفَاعِ الْأَسْعَارِ وَالرُّخْصِ بِانْخِفَاضِهَا، وهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا خَالِقَ لَهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، لَكِنْ هُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ سَبَبًا فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ، كَمَا جَعَلَ [قَتْلَ] الْقَاتِلِ سَبَبًا فِي مَوْتِ الْمَقْتُولِ، وَجَعَلَ ارْتِفَاعَ الْأَسْعَارِ قَدْ يَكُونُ لِسَبَبِ ظُلْمِ بعض الْعِبَادِ، وَانْخِفَاضِهَا قَدْ يَكُونُ لِسَبَبِ إحْسَانِ بَعْضِ النَّاسِ، وَلِهَذَا أَضَافَ مَنْ أَضَافَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ
(1) في مجموع الفتاوى: (لذلته).
الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ إلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أُصُول فَاسِدَة:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ.
وَالثَّانِي: أنَّ مَا يَكُونُ فِعْلُ الْعَبْدِ سَبَبًا لَهُ يَكُونُ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ إنَّمَا يَكُونُ بِهَذَا السَّبَبِ.
وَهَذِهِ أُصُول بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ (في الصحيح) أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا، وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ السَّمْعِيَّةُ (1)، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (من السلَفِ وَالأَئِمَّة)(2) وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُونَ إنَّ الْعِبَادَ لَهُمْ قُدْرَةٌ وَمَشِيئَةٌ وَإِنَّهُمْ فَاعِلُونَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَيُثْبِتُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ الْحِكَمِ.
وَمَسْأَلَةُ الْقَدَرِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ ضَلَّ فِيهَا طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ، طَائِفَةٌ أَنْكَرَتْ أَن اللَّه - تعالى - خَالِق كُلِّ شَيْءٍ، أو أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا لِأَفْعَالِهِ، أو أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي مَقْدُورِهَا، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِغَيْرِهِ، أو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَ شَيْئًا لِحِكْمَة، كَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُجْبِرَةِ الَّذِي ينتسب كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى السُّنَّةِ، فَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَأما الثَّانِي: وَهُوَ إنَّ مَا كَانَ فِعْلُ الْعَبْدِ أَحَدَ أَسْبَابِهِ كَالشِّبَعِ والري الَّذِي يَكُونُ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَزُهُوقِ النَّفْسِ الَّذِي يَكُونُ بِسبب الْقَتْلِ، فَهَذَا قَدْ جَعَلَهُ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ فِعْلًا لِلْعَبْدِ، وَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ يَجْعَلُوا لِفِعْلِ الْعَبْدِ فِيهِ [تَأْثِيرًا بَلْ مَا] تَيَقَّنُوا أَنَّهُ سَبَبٌ، قَالُوا: إنَّهُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَلَا يَجْعَلُونَ للْعَبْد فعلًا لِذَلِكَ كَفِعْلِهِ لِمَا قَامَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ، وَلَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا أَسْبَابه (3)، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ جَعَلَ فِعْلَ الْعَبْدِ
(1) في مجموع الفتاوى: (السمعية والعقلية).
(2)
في مجموع الفتاوى: (بين سلف الأمة وأئمتها).
(3)
في مجموع الفتاوى: (في أسبابه).
مَعَ غَيْرِهِ أَسْبَابًا فِي حُصُولِ مِثْلِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ النَّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ • وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَالْإِنْفَاقُ وَالسَّيْرُ هُوَ نَفْسُ أَعْمَالِهِمْ الْقَائِمَةِ بِهِمْ فَقَالَ فِيهَا: {إلَّا كُتِبَ لَهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ: «إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ» فَإِنَّهَا بنَفْسهَا عَمَلٌ، بنَفْس كِتَابَتِهَا يَتحصلُ بِها الْمَقْصُودُ، بِخِلَافِ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْجُوعِ الْحَاصِلِ بِسفرِ الْجِهَادِ، وبِخِلَافِ غَيْظِ الْكُفَّارِ وبِمَا نِيلَ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ نَفْسَ أَفْعَالِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ مِنْهَا أَفْعَالُهُمْ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} فَبَيَّنَ أَنَّ مَا يحدثُ الْآثَار (1) عَنْ أَفْعَالِ الْعبدِ يكتب لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُمْ كَانَتْ سَبَبًا فِيهَا، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» .
وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَلَاءَ وَالرُّخْصَ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ فِي ظُلْمِ بَعْض الناس، بَلْ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ قِلَّةَ مَا يَخْلُقُ أَوْ يَجبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا كَثُرَتْ الرَّغَبَاتُ فِي الشَّيْءِ وَقَلَّ الْمَرْغُوبُ فِيهِ ارْتَفَعَ سِعْرُهُ، وَإِذَا كَثُرَ وَقَلَّتْ الرَّغَبَاتُ فِيهِ انْخَفَضَ سِعْرُهُ، وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ قَدْ لَا تَكُونُ سَبَبًا مِنْ الْعِبَادِ، وَقَدْ يَكُونُ لِسَبَب لَا ظُلْمَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ ظُلْم، وَاللَّهُ يَجْعَلُ الرَّغَبَاتِ فِي الْقُلُوبِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ:
(1) في مجموع الفتاوى: (من الآثار).