الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا».
فَالرِّزْقُ الْحَرَامُ هو مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ، وَكَتَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ مِمَّا دَخَلَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَلِفَاعِلِهِ مِنْ غَضَبِهِ وَذَمِّهِ وَعُقُوبَتِهِ مَا هُوَ له أَهْلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
الْإِيمَانُ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ
؟
الْجَوَابُ: إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَشَا (1) النِّزَاعُ فِيهَا لَمَّا ظَهَرَتْ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة فِي الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ وَهِيَ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ جَرَتْ فِيهَا أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا هُنَا. لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَارَ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ - صَارَتْ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَخْلُوقٌ. وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ، فَصَارُوا يَقُولُونَ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، أَوْ تِلَاوَتُنَا أَوْ قِرَاءَتُنَا له مَخْلُوقَةٌ. وَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ مُجَرَّدَ أصواتهم (2) وَحَرَكَاتِهِمْ بَلْ يُدْرِجُونَ (3) فِي كَلَامِهِمْ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي نَقْرَؤُه بِأَصْوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا، وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَالُوا: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ. وَرَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي، وَمَنْ قَالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. وَتَكَلَّمَ النَّاسُ حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ، وَأَدْخَلُوا (4) فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ، مِثْلَ قَوْلِه:«لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَصَارَ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَخْلُوقَةٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا؛ فَبَدَّعَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَؤُلَاءِ، وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» أَفَيَكُونُ قَوْلُ
(1) في مجموع الفتاوى: (نشأ).
(2)
في مجموع الفتاوى: (كلامهم).
(3)
في مجموع الفتاوى: (يدخلون).
(4)
في مجموع الفتاوى: (وأدرجوا).
«لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَخْلُوقًا. وَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ: هِيَ مَخْلُوقَةٌ مُطْلَقًا كَانَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ: أَلْفَاظنَا وَتِلَاوَتنَا وَقِرَاءَتنَا الْقُرْآن مَخْلُوقَةٌ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِمَخْلُوق لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَقْرَءُونَ قُرْآنًا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا عنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْكَلَامَ قَدْ يُسمعَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَهَذَا سَمَاعٌ مُطْلَقٌ - كَمَا يَرَى الشَّيْءَ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً - وَقَدْ يَسْمَعُهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَيَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ سَماعًا مُقَيَّدًا - كَمَا يَرَى الشَّيْءَ [فِي] الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ رُؤْيَةً مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً - ولما قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ خُوطِبَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ يَسْمَعُ سَمَاعًا مُقَيَّدًا مِنْ الْمُبَلِّغِ، لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ (كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة.
ثم بعد ذلك حدث أقوال أخر، فظن طائفة أنه سمع من الله ثم) مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ الْقَارِئِ مِنْ اللَّهِ، ومنهم مَنْ قال: إنَّ صَوْتَ الرَّبِّ حَلَّ فِي الْعَبْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ظَهَرَ فِيهِ وَلَمْ يَحِلَّ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا نَقُولُ ظَهَرَ وَلَا حَلَّ، ثم مِنْهُمْ مَنْ يقول: الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْمَعُ مِنْهُ صَوْتَانِ: مَخْلُوقٌ، وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ يَسْمَعُ الْمَعْنَى الْقَدِيمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ الله مَعَ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْمُحْدَثِ، قَالَ هَؤُلَاءِ: يَسْمَعُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، كَمَا قَالَ أُولَئِكَ: يَسْمَعُ صَوْتَيْنِ قَدِيمًا
وَمُحْدَثًا، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَالَتْ: لَمْ يَسْمَعْ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ حِكَايَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ عِبَارَتُهُ لَا حِكَايَتُهُ، وَمِنْ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَنْ قَالَ: يُسْمَعُ شَيْئَانِ الْكَلَامُ الْمَخْلُوقُ الَّذِي خَلَقَهُ، وَالصَّوْتُ الَّذِي لِلْعَبْدِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُبْتَدَعَةٌ، لَمْ يَقُلْ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَلَكِنْ أَلْجَأَ أَصْحَابَهَا إلَيْهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْأَلْفَاظِ وَاشْتِبَاهٌ فِي الْمَعَانِي، فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: سَمِعْت زَيْدًا (1) وقِيلَ: هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ، فَإِنَّ هَذَا يُقَالُ عَلَى كَلَامِهِ الَّذِي - تَكَلَّمَ هو بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُ إذَا سُمِعَ مِنْهُ سُمِعَ بِصَوْتِهِ، وَإِذَا سُمِعَ مِنْ غَيْرِهِ سُمِعَ من ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ لَا بِصَوْتِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَفْظَ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يُقَالُ مَعَ الْقَرِينَةِ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ، وَإِنْ ترْجمَ عَنْهُ بِلَفْظِ آخَرَ، كَمَا حكى اللَّهُ كَلَامَ مَنْ يَحْكِي قَوْلَهُ مِنْ الْأُمَمِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا قَالُوا بِلَفْظٍ [عِبْرِيٍّ] أَوْ سُرْيَانِيٍّ أَوْ قِبْطِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوضِع أُخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ نِزَاع فِي مَسْأَلَتَيْ الْإِيمَانِ والْقُرْآنِ [بِسَبَبِ] أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانِي مُتَشَابِهَةٍ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ كَالْبُخَارِيِّ - صَاحِبِ الصَّحِيحِ - وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ. وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - تعالى - وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ السنة (2) عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ، وأصوات العباد مخلوقة، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ.
وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، وَجَرَى لِلْبُخَارِيِّ مِحْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا مَاتَ أَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ أَن لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ
(1) في مجموع الفتاوى: (كلام زيد).
(2)
في مجموع الفتاوى: (المسلمين).
الْبُخَارِيَّ رحمه الله مَاتَ بَعْدَ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رحمه الله بِنَحْوِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، تُوُفِّيَ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُحِبُّ الْبُخَارِيَّ وَيُبجلُّهُ (1) وَيُعَظِّمُهُ، وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ الْإِمَام أَحْمَد فَهُوَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ، وَلَمَّا صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَهُ فِي «خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ» وَذَكَرَ فِي آخِرِ كِتَابِه الصحيح (2) أَبْوَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ لَفْظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَالْقَائِلونَ (3) بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ [ينْتسبُونَ](4) إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ، (وَكلَام الطَّائِفَتَيْنِ كلام من لَمْ يَفْهَمْ ذرة من كَلَامِ)(5) أَحْمَد - رضوان الله عليه.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَالُوا: أَحْمَد وَغَيْرُهُ إنما كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لَفظت (6) بِالْقُرْآنِ؛ لأنَّ اللَّفْظَ هُوَ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ.
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ: إنَّهُ مُتَّبِعٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ [إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَمَذْهَب] الْحَدِيثِ ويَقُولُونَ: إنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا كَانَ يَقُولُهُ أهل (7) السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ بَسَطْنَا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، خلا الْبُخَارِيُّ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ.
(1) في مجموع الفتاوى: (يجله).
(2)
في مجموع الفتاوى: (الكتاب) بدل (كتابه الصحيح).
(3)
في مجموع الفتاوى: (القائلين).
(4)
في مجموع الفتاوى: (ينسبون).
(5)
في مجموع الفتاوى: (وكلا الطائفتين لم تفهم دقة كلام).
(6)
في مجموع الفتاوى: (لفظي).
(7)
في مجموع الفتاوى: (أئمة).
وَقَدْ رَأَيْت طَائِفَةً تَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ كَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَرُدُّونَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ يَقُولُونَ: إنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَذَكَرُوا رِوَايَاتٍ كَاذِبَةٍ لَا رَيْبَ فِيهَا، والقول الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنَيْهِ - صَالِحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ - وَحَنْبَلٍ والمروزي وفُوْرَان وَمَنْ لَا يُحْصى يبين أَنَّ أَحْمَد كَانَ يُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ [وَهَؤُلَاءِ] وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ المروزي فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ «السُّنَّةِ» ، وَذَكَرَ بَعْضَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ «الْإِبَانَةِ» وغيره، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده فِيمَا صَنَّفَهُ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ: لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ رحمه الله أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ، فاللفظ هو فعل العبد يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ فعل الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَأَمَّا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعِبَادُ فَلَيْسَ مَخْلُوقًا.
وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ولا قال إنه قديم، بل وَلَا قَالَ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ، وَإِنَّمَا قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلَا قَالَ قط أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ وَأَفْعَالِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، لَا صَوْته بِالْقُرْآنِ وَلَا
لَفْظه بِالْقُرْآنِ، وَلَا إيمَانه وَلَا صَلَاته، وَلَا شَيْء مِنْ ذَلِكَ، ولَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ انْقِسَامًا كَثِيرًا، فَالَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَدِيمٌ فِي هَذَا وَهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ، فَيَقُولُونَ: الْأَقْوَالُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أو قَدِيمَةٌ وَفعَالُ (1) الْإِيمَانِ مَخْلُوقَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي أَفْعَالِ الْإِيمَانِ: إنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا مَخْلُوقٌ، وَأَمَّا الطَّاعَاتُ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكْ (2) عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ، وَيَقُولُ: لَيْسَ مُرَادِي بِالْأَفْعَالِ المركبات (3)، بَلْ مُرَادِي الثَّوَابُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَحْتَجُّ هَذَا بِأَنَّ الْقَدَرَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالشَّرْعَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيَجْعَلُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ هِيَ الْقَدَرُ وَالشَّرْعُ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ القدرة (4) وَالْمَقْدُورِ، وَالشَّرْعِ وَالْمُشَرَّعِ (5)، (فَإِنَّ الشَّرْعَ) الَّذِي هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ، وَكَذَلِكَ قَدَرُ الله الَّذِي هُوَ عِلْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَمَّا الْمُقَدَّرَاتُ: الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ وَالْأَعْمَالُ فَكُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ.
وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَائِلِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كُلُّهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ، لَا مَعْنَى قَائِمٌ بِالذَّاتِ، وَلَا أنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْقدمِ بِحَرْف وَصَوْتٍ قديمين، وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْقدمِ بِحَرْف قَدِيمٍ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَإِنَّما الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأن اللَّه لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، فَكَلَامُ الله لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ (6) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الصَّوْتَ الْمُعَيَّنَ قَدِيمٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} الآية كَمَا قد بَسَطْت الْكَلَامَ [فِي غَيْرِ هَذَا
(1) في مجموع الفتاوى: (وأفعال).
(2)
في مجموع الفتاوى عبارة زائدة، لعلها سقطت من هذه النسخة، وهي:(ومنهم من يمسك فلا يقول مخلوقة ولا غير مخلوقة).
(3)
في مجموع الفتاوى: (الحركات).
(4)
في مجموع الفتاوى: (القدر).
(5)
في مجموع الفتاوى: (المشروع).
(6)
في مجموع الفتاوى زيادة: (قديم).
الْمَوْضِعِ] عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ.
فمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلْهُ فَيْضًا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ في (1) النُّفُوسِ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ بَائِنًا عَنْهُ، كَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة والنجارية وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ كَقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ الْأَشْعَرِيِّ (2)، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قديمة كَقَوْلِ ابْنِ سَالِمٍ [وَطَائِفَة.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، كَقَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ وَطَائِفَةٍ].
وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا قَدْ بَسَطْت أَلْفَاظَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَلَمَّا ظَهَرَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَكَانَتْ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ مَخْلُوقٌ.
وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْقَطَّانُ لَهُ فَضِيلَةٌ وَمَعْرِفَةٌ رَدَّ [بِهَا] عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ نفاة الصِّفَاتِ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ شُبْهَةِ الْجَهْمِيَّة كُلَّ التَّخَلُّصِ بَلْ ظَنَّ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَتَّصِفُ بِالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ [بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ] بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يُحِبُّ الْعَبْدَ وَيَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ وَيَسْخَطُ بَعْدَ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، بَلْ (ما زال) مُحِبًّا رَاضِيًا أَوْ غَضْبَانَ سَاخِطًا عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ • الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، وَقَالَ
(1) في مجموع الفتاوى: (على).
(2)
في مجموع الفتاوى: (والأشعري).
تَعَالَى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وَقَالَ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذِ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَنَنْفِيَ مَا نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاللَّفْظُ الْمُجْمَلُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ به الْكِتَاب وَالسُّنَّة لَا يُطْلَقُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِهِ (كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ): الرَّبُّ مُتَحَيِّزٌ، أَوْ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، أَوْ هُوَ فِي جِهَةٍ، أَوْ هو فِي غير جِهَةٍ. قِيلَ: هَذِهِ أَلْفَاظ مُجْمَلَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، وَلَا نطق أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ بِإِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا، فَإِنْ كَانَ مُرَادُك بِقَوْلِك إنَّهُ متحيز، أنه مُحِيط بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ أو يفتقر إليها، فالله تعالى غني عن كل شيءٍ لا يفتقر إلى العرش ولا إلى غيره من المخلوقات، بل هُوَ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ، وكذلك هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُك بأَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَلي عَلَيْهَا فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ فوق سماواته على عرشه بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ، مِثْلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ
وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوضِع آخَرَ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ «الْجِهَةِ» إنْ أَرَادَ بِالْجِهَةِ أَمْرًا مَوْجُودًا يُحِيطُ بِالْخَالِقِ أَوْ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فَكُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لله، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مفتقر إلَيْهِ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَن كل مَا سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهَذَا معنى صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجِهَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الْجِهَةِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ «الْجَبْرِ» إذَا قَالَ: هَلْ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ، أَوْ غَيْرُ مَجْبُورٍ؟ قِيلَ له: إنْ أَرَدتَ بِالْجَبْرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ، أَوْ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَهُوَ يَفْعَلُهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْجَبْرِ أَنَّ الله خَالِقُ مَشِيئَته وَقُدْرَته وَفِعْله، فَاللَّه خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَكذلك إِذَا قَالَ: الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قِيلَ لَهُ: مَا تُرِيدُ بِالْإِيمَانِ؟ أَتُرِيدُ بِهِ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ كَقَوْلِهِ: {لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ} وَإيمَانُهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ، فَهذا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، أَوْ تُرِيدُ به شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ؟ فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَجَمِيعُ أَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ، وَلَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَلَا يَقُولُ هَذَا مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ. فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ ظَهَرَ الْهُدَى وَبَانَ السَّبِيلُ، وَقَدْ قِيلَ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ، ومثل هذه المسألة وَأَمْثَالِهَا مِمَّا كَثُرَ فِيهِ نزاعُ النَّاسِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذَا حصِلَ (1) فِيهَا الْخِطَابُ ظَهَرَ فيها الْخَطَأُ مِنْ الصَّوَابِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَنَّ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَثْبَتُوهُ، وَمَا نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَفَوْهُ، وَمَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بلَا نَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ [اسْتَفْصَلُوا فِيهِ قَوْلَ] الْقَائِلِ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ نَفَى مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ أَثْبَتَ
(1) في مجموع الفتاوى: (فصل).