الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسجد، فذكرت دعوة أخي سليمان»، ومثل ما «مشى حتى فتح الباب لعائشة» ومثل ما قال لابن مسعود:«إذنك عليَّ أن ترفع الحجاب وأن تسمع لسِوادي حتى أنهاك» رواية مسلم.
فهذه السنن تدل على جواز ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال التي ليست من عمل الصلاة، لكن أُبيحت في الصلاة للحاجة ولا تقطع الصلاة، وكان أبو برزة معه فرسه - وهو يصلي - كلما خطا يخطو معه خشية أن يتقدمه. وقال أحمد: إن فعل كما فعل أبو برزة فلا بأس. وظاهر مذهب أحمد وغيره أن هذا لا يقدر بثلاث خطوات ولا ثلاث فعلات، كما قضت به السنة، ومن قيده بثلاث - كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد - فإنما ذاك إذا كانت متصلة، فإذا كانت متفرقة فيجوز وإن كانت زائدة على ثلاث، إذا لم يتصل أكثر من ثلاث، والله أعلم.
فصل
*
وأما السؤال عن سماع الغناء
؟
فالجواب: إن سماع الغناء والدفوف والشبابات وما يُذكر معه كإخراج اللاذن
ودخول النار ومؤاخاة النساء يُسأل عنه على وجهين:
أحدهما: هل هو قربة وطاعة وطريق إلى الله شرع سلوكه لأولياء الله المتقين وعباده الصالحين وجنده الغالبين أم لا؟
والثاني: إذا لم يكن قربة فهل هو حلال أم حرام؟
والمسألة الأولى أهم وأنفع وأظهر من الثانية؛ فإن الذين يجتمعون على ذلك من المشايخ وأتباعهم المنتسبين إلى الدين والفقر والزهد وسلوك طريق الله لا يعدون ذلك من باب اللعب واللهو وتضييع الزمان فيما لا ينفع كما يلهو بعض العامة في الأفراح والغناء وغيره، بل هو عندهم طريق للقوم المشار إليهم بالدين، ومنهاج لأهل الزهد والعبادة وأهل السلوك والإرادة، وذوي القلوب من الرجال أهل المقامات والأحوال، فإنما يفعلونه قاصدين به صلاح القلوب والدخول في زمرة أهل الوجد (والرزق والمشروب)(1)، وتحريك وجد أهل المحبة بالمحبوب، إلى أمثال ذلك مما يطول وصفه. ويحصل لهم فيه أنواع من الأحوال العجيبة والموارد الغريبة ما يعرفه من الرجال أهل المعرفة بهذا الحال، فمنهم من يصعد في الهواء، ومنهم من يبقى راقصًا في الهواء، ومنهم من يصير ذاهبًا وجائيًا على الماء، ومنهم من يُؤتى بشراب يسقيه للفتى، أو غيره من الجلساء، أو بزيت فيوقد به المصباح بعد مقاربة الانطفاء، ومنهم من يخاطب بعض الحاضرين بلسان الأعجمي، ويكاشفه سر الخفي وإذا أفاق لم يدر ما قال كالمصروع بالجني ومنهم من يشير إليه، ومنهم من يسلب بعض المنكرين عليه قلبه ولسانه حتى لا يستطيع قراءةً ولا دعاءً ولا ذكرًا، وقد يمسك لسانه فلا يستطيع أن يقول لا عُرفًا ولا نُكرًا، ومنهم من يباشر النار بلا دهنٍ ولا حجرٍ طلق ولا غير ذلك من أمور الطبيعة بل يبقى بالنار تتأجج في يديه وثيابه، ومنهم من يأتيه زعفران ولاذن من حيث لا يدري، وقد يأخذ بيده حصاة فتسلت من يده ويجعل مكانها سكرة، إلى أمثال هذه العجائب التي يطول وصفها التي يظنها من لا يعرف
(1) قال المحقق: (كذا في الأصل).
حقيقة وأنها (1) من كرامات الأولياء الصالحين، وأنها دالة على ولاية صاحبها من الأدلة والبراهين، وقد بُسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، لكن نذكر هنا ما يليق بهذا الجواب، فنقول: يجب أن يُعرف أصلان عظيمان:
أحدهما: أنه لا طريق إلى الله يوصل إلى ولايته وكرامته ومحبته ورضوانه إلا بمتابعته رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الآية، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«[إن الله قال]: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بُدَّ له منه» . فالطرق التي بعث الله بها رسوله هي التقرب إلى الله بالفرائض، وبعد الفرائض بالنوافل، لا يتقرب إليه إلا بفعل واجبٍ أو مستحب و [يستوي] في ذلك الأمور الباطنة في القلوب والظاهرة للعيان، فحقائق الإيمان الباطنة في القلوب موافقة لشرائع الإسلام الظاهرة على الأبدان. وما ليس بواجبٍ ولا مستحب عند أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ولا عند أئمة المسلمين المعروفين ولا مشايخ الدين المتقدمين - كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وغيرهم - فليس في هؤلاء من حضر هذا السماع المحدث ولا أمر به، بل هذا ظهر في الإسلام في
(1) كذا في المطبوع.
أواخر المائة الثانية فأنكره أئمة الدين، حتى قال فيه الشافعي: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. والتغبير الذي ذكره الشافعي هو إنما كان أن يضربوا بقضيب على جلدة كالمخدة ونحوها، لم يكن بعد قد أظهروا الشبابات الموصولة والدفوف المصلصلة، ولما سُئل الإمام أحمد عن هذا التغبير قال: إنه بدعة. ونهى عن الجلوس مع أهله فيه، وكذلك يزيد بن هارون وغيرهم من الأئمة.
وحضره طائفة من المشايخ، لكن كان من الذين حضره من رجعوا عنه وتابوا منه، وأما الجنيد فلم ينقل أحد قط أنه رقص في السماع ولا حضر سماع دفوف وشبابات بل قد قيل: إنه حضر التغبير في أول عمره، ولم يكن يقوم فيه وأنه في آخر عمره تركه، وكان يقول: من تكلف السماع فُتن به، ومن صادفه استراح به. يعني: أنه يسمع آيات تناسب حاله من محبة أو حزن أو خوف، وما سمعه الإنسان بغير اقتصادٍ منه فهذا لا يدخل تحت الأمر والنهي، كنظرة الفجأة، وشم الرائحة بغير اشتمام، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يسد أذنه لما سمع زمارة راع، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قام بسد أذنيه، فإن السد لم يكن واجبًا إذ ذاك؛ لأنه سماع لا استماع، وإنما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الاستحباب، هذا على قول من يُثبت الحديث، فإن من أهل الحديث من قال: هو منكر كأبي داود وغيره.
والكلام في مسألة السماع كثير منتشر، وقد كُتب فيه في غير هذا الموضع مما لا يتسع هذا الموضع لإعادة (1)، وذكر فيه الكلام على من حضره مِنَّا ومن أهل الخير والدين والصدق، وأن لهم في ذلك من التأويلات ما لأمثالهم، فإن المجتهد المخطئ يغفر الله له خطأه ويثيبه على حسن قصده وما يفعله من الطاعة، ومن استفرغ وسعه في طلب
(1) كذا في المطبوع، ولعلها:(لإعادته).
رضا الله فاتقى الله ما استطاع كان من عباد الله الصالحين، وإن كان قد أخطأ في بعض ما اجتهد فيه كالذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف، والذين استحلوا متعة النساء منهم، والذين استحلوا بعض الأنواع المسكرة، والذين استحلوا القتال في «الجمل» و «صفين» و «الحرة» وفتنة ابن الأشعث وغير ذلك، ولما سُئل الإمام أحمد عن التغبير فقال: إنه مُحدَث. ونهى عن حضوره، فقيل له عن أهله: أيهجرون؟ فقال: لا يبلغ بهم هذا كله.
فيجب بيان الحق الذي بعث الله به رسوله، وبيَّن أنه لا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه الله، وأن من اجتهد من أهل العلم والدين فحرم (1) أشياء بتأويله واجتهاده وهي مما حرمه الله، أو اتخذ دينًا باجتهاده ظن أنه من دين الله ولم يكن في نفس الأمر من دين الله، فله حكم أمثاله من أهل الاجتهاد، ويعطى حقه ويثنى عليه بما فيه من العلم والدين، وإن لم يجز اتباعه فيما أخطأ فيه وخالف فيه سنة الرسول مع اجتهاده وتأويله، فهذا أصل.
والأصل الثاني: أن كرامات أولياء الله يكون سببها فعل ما أمر الله به ورسوله من الواجب والمستحب، ثم السابقون المقربون من الأولياء المتبعون يستعملونها فيما يقرب: إما حجة للدين، وإما حاجة للمسلمين، والمقتصدون يستعملونها في أمور مباحة، وأما استعمالها فيما حرم الله ورسوله كالظلم والعدوان محرم.
وأما ما كان سببه بدعة كالأحوال التي تحصل لأهل السماع البدعي فهي أمور شيطانية يضل بها الشيطان أهل الجهل، ويغوي بها أهل الغي، وهذا وهذا يبطل بحقائق الإيمان كقراءة آية الكرسي وغيره مما يطرد الشيطان، والله أعلم.
(1) قال المحقق: (كذا في الأصل ومقتضى الكلام أن تكون: فأحل).