الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء
اختلف الفقهاء بشأن مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء، سواء كانت المصافحة للزوجة، أم للمحارم، أم للأجنبيّة، فضلاً عن اللمس المعتبَر أعمّ من المصافحة. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة مرجعُه إلى خلاف آخَر في أمريْن:
أحدهما: الاشتراك الواقع في لفظ "اللّمس" الوارد في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1. في كلام العرب؛ فإنّ العرب تُطلِقه على اللّمس باليد مَرّة، وأُخرى تُكنِي به عن الجماع. فهل هو هنا محمول على الحقيقة أم على المجاز؟
فمَن حمَلَهُ على الحقيقة - وهي مُجرّد اللّمس باليد -، قال بنقْض الوضوء بمجرّد اللّمس. ومِن هؤلاء مَن رآه من باب العامِّ الذي أُريد به الخاصّ، فاشترط قصْدَ الشّهوة أو وجودَها كالمالكية. وأمّا مَن حمَل اللفظ على المجاز -وهو الجماع - قال بعَدم نقْض الوضوء بمجرّد اللمس.
1 سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6.
وثانيهما: معارضة حديث عائشة في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه، ثم يُصلِّي دون وضوء1، لعموم اللّمس في الآية 2.
وتحقيق القول في مدى تأثير المصافحة على الوضوء يتّضح من خلال النّظر في المذاهب الآتية:
المذهب الأوّل: يرى أنّ الوضوء ينتقض إذا وقعت المصافحة بشهوة حتى ولو لم يجد لذّة، أو وجَد لذّة حتى ولو لم يقْصِدْها. ولا ينتقض إذا كانت بغير شهوة، أو كانت من فوق حائل كثيف. وإلى هذا ذهب المالكية، وهو أشهر الراويات عند الإمام أحمد، وهو مروي عن الحكم وحماد والليث، ورواية عن إسحاق والشعبي والنخعي وربيعة والثوري3.
واستدل هؤلاء بما يأتي:
أ - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
1 كما سيأتي تخريجه في الصفحة التالية.
2 راجع: بداية المجتهد لابن رشد 1/193، 194.
3 راجع: بداية المجتهد لابن رشد 1/193، 194، والمنتقى شرح موطإ مالك للباجي 1/389، وأحكام القرآن لابن العربي 1/563، والمغني لابن قدامة 1/245.
الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 1. فهذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ مُطلق اللّمس ناقض للوضوء، سواء أكان بشهوة أم بغير شهوة، غير أنّ السُّنّة قيّدَتْه بما كان بشهوة.
ونوقش هذا: بأنه ينبغي إبقاء الآية على ظاهرها؛ حيث تدلّ دلالة واضحة على نقض الوضوء باللمس المطلق، سواء بشهوة أم لا؛ فيجب إبقاء الأمر على ظاهره.
ودُفِع هذا: بأنّ هذا الظاهر يجب تقييدُه بالسُّنّة حيث دلّتْ على أنّ الذي يُنقض الوضوء هو ما كان بشهوة دون غيره.
ب - تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة:
فيما روي عن حبيب بن أبي ثابت2 عن عروة3 عن عائشة رضي الله عنها: "أن ّالنبي صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ".
1سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6.
2 حبيب بن أبي ثابت: فقيه الكوفة، أبو يحيى القرشي الأسدي مولاهم. حدّث عن ابن عمر، وابن عباس، وأمّ سلمة. توفي عام 119هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء 5/288-291.
3 عروة المزني: شيخ لحبيب بن أبي ثابت، مجهول من الرابعة.
راجع: تقريب التهذيب للعسقلاني 1/390.
قال عروة فقلت لها: مَن هي إلا أنتِ. فضحكتْ"1.
وما روي عن أبي روق2 عن إبراهيم التيمي3 عن عائشة: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قبّلها ولم يتوضأ"4.
و"حديث لمس عائشة لقدَمِه وهو يصلِّي، ولم يقطع صلاته حينما لمستْه السيدة عائشة"5.
وهذا يدلّ على أنّ اللّمس كان بلا شهوة. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسْتُه، فوقعتْ يدي على بطن قَدَمَيْه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك. وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيْتَ على
1 راجع: المسند 6/207، والترمذي 1/138، وأبو داود 1/46، وابن ماجة 1/168.
2 أحمد بن محمد بن بكر الهزاني البصري، توفي في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
راجع: سير أعلام النبلاء 15/185-187.
3 إبراهيم بن يزيد التيمي تيم الرباب: كان شاباً صالحًا قانتًا لله، عالماً فقيهاً، كبير القدر، واعظًا. قتَله الحجاج. توفي عام 94هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء 5/60، 61.
4 أخرجه الترمذي 1/138، وأبو داود 1/46.
5 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/186، 187.
نفسك" 1. فهذا الحديث يدلّ على عدم نقض الوضوء بلمس المرأة. ومنه المصافحة 2.
ومما يؤكِّد هذا: حديثُ حَمْلِه صلى الله عليه وسلم لأمامة بنت أبي العاص3، فيما روى أبو قتادة4 رضي الله عنه قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمّ الناس، وأمامة بنت العاص على عاتقه. فإذا ركع وضَعَها، وإذا رفع من السجود أعادها"5. حيث دل هذا الحديث على أنّ لمس الإناث لا ينقض الوضوء6.
1 أخرجه مسلم 1/352، وابن ماجة 2/1262.
2 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/186.
3 أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي. كان صلى الله عليه وسلم يحملها في صلاته. هي بنت بنته زينب رضي الله عنهما تزوج بها علي بن أبي طالب في خلافة عمر، وعاشت بعده حتى تزوج بها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، فتوفيت عنده بعد أن ولدت له يحيى بن المغيرة. ماتت في دولة معاوية بن أبي سفيان.
راجع: سير أعلام النبلاء 1/330-335.
4 أبو قتادة الأنصاري السلمي، هو الحارث بن ربعي، وقيل: اسمه النعمان، وقيل: عمرو. فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحُداً والحديبية. وله عدّة أحاديث. توفي عام 54هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء 2/449.
5 أخرجه البخاري 5/2235، ومسلم 1/385.
6 راجع: المغني لابن قدامة 1/194.
ولا شك أنّ حمْله لها كان مجرداً من الشهوة، ومِن ثَمّ لم ينتقض وضوؤه. وهذا الوجه متحتِّم من أجل الجمع بين هذه الأدلّة وأدلّة نقض الوضوء مِن لمس المرأة. أي: أن الأحاديث الواردة بنقض الوضوء من لمس المرأة خاصّة بوجود الشهوة؛ فيبقى ما لا شهوة فيه على الأصل وهو عدم النقض. فالجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض ممكن؛ فيجب المصير إليه لأن العمل بكِلا الدليليْن خير من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، بأن تُحمل أدلّة عدم النقض على ما كان بغير شهوة، وتُحمل أدلّة النقض على المسّ المقترن بالشهوة.
جـ - قياس اللّمس غير المقترن بالشهوة على لمس ذوات المحارم، بجامع انعدام الشهوة في كلٍّ. ّ فكما لا ينتقض الوضوء بلمْس المحارم المجرّد من الشهوة، فكذا لا ينتقض وضوء من لمس مجرّداً من الشهوة1. هذا فضلاً عن قياس لمس الرجل لزوجته من غير شهوة على لمس المعتكف لزوجته بغير شهوة، وهذا جائز باتفاق العلماء؛ حيث ثبت: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدني رأسه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها فتُرَجِّلُه وهو معتكف"2 رغم أنّ ذلك مَظنّة مسِّها لَهُ ومَسِّه لها.
1 راجع: المغني لابن قدامة 1/194، 195.
2 حديث ترجيل عائشة لرأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف أخرجه البخاري 2/719.
كما أنّ الإحرام أشدّ من الاعتكاف. ولو مسّت المرأة المحُرِم بغير شهوة لم يأثمْ بذلك، ولم يجب عليه دم باتفاق الفقهاء1.
د - واستُدلّ بالعقل على عدم نقض الوضوء باللمس بدون شهوة، وقالوا إن الذي ينقض الوضوء هو اللّمس بشهوة فقط، لأنّ اللمس ليس بحَدث في نفسه، ولكنه نقض لأنه يُفضي إلى الحدث بخروج المذْي أو المني؛ فاعتبر فيه الحالة التي تُفضي إلى ذلك وهي حالة الشهوة2.
المذهب الثاني:
يرى أنّ الوضوء ينتقض بمصافحة المرأة بدون حائل مطلقاً، سواء كانت المصافحة بشهوة أم بغير شهوة. أمّا إذا وقعت المصافحة بحائل –ولو كان رقيقاً– فلا تنقض الوضوء. وإلى هذا ذهب الشافعية، والإمام أحمد في رواية له، وابن حزم. وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عمر وزيد بن أسلم من الصحابة، ومكحول والشعبي والزهري من التابعين، ومن الفقهاء
1 مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/238، والمجموع للنووي 2/38.
2 راجع: المغني 1/194، وبداية المجتهد 1/51، وتفسير الطبري 4/113.
كلّ من النخعي والأوزاعي في إحدى الروايتيْن عنه وإسحاق1.
واستَدلّ هؤلاء بما يأتي:
أ - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 2. فهذه الآية صريحة الدلالة على نقض الوضوء بالمصافحة؛ حيث إن قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} صريح في أنّ اللمس - ومنه المصافحة - من جملة الأحداث الموجِبة للوضوء. واللمس المذكور في الآية يُراد به مجرّد اللّمس باليد، بدليل أنّ الحق سبحانه عطَف اللّمس على المجيء من الغائط، ورتّب عليه الأمر بالتّيمّم عند فقد الماء؛ فدلّ ذلك على أنه من جملة الأحداث. واللّمس يُطلق حقيقة على اللمس باليد ومنه قوله تعالى:{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} 3. كما يُطلق اللمس مجازاً على الجماع، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
1 راجع: الأم للشافعي 1/62، والحاوي الكبير1/221، والمجموع 2/34، والمغني لابن قدامة 1/192، 193، والمحلى بالآثار لابن حزم 1/227، ونيل الأوطار للشوكاني 1/240، وسبل السلام للصنعاني 1/93،94.
2 سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6.
3 سورة الأنعام: الآية 7.
تَمَسُّوهُنَّ} 1. واللفظ إذا تردّد بين الحقيقة والمجاز، فالأوْلى حمْلُه على الحقيقة حتى يقوم دليل على إرادة المجاز، ولا دليل هنا. ويؤيِّد بقاءَ اللفظ على الحقيقة في هذه الآية: قراءةُ حمزة والكسائي: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} 2. فهي ظاهرة في إرادة المسّ دون الجماع.3
وأمّا مِن حيث عموم النّقض باللّمس - ومنه المصافحة -، فلأنّ الملامسة مُفاعلة، وهي لا تكون إلاّ مِن فاعليْن، فيُخاطَب بها الرجال والنساء على العموم، ويكون حُكمها ملْزماً للجميع دون تخصيص لواحد منهما، ولا تخصيص لجنس اللّمس من حيث كونه بشهوة أو بدون شهوة، حيث لا دليل عليه4.
ونوقش هذا بما يأتي:
* أنّ قولَكم بأنّ الآية حُكمها عامّ ومُلزِمٌ للجميع، دون تخصيص لجنس اللّمس هل هو بشهوة أم لا: قولٌ غيرُ مُسلَّم؛ وذلك لأنّ العموم الوارد في الآية مخصوص بالأحاديث التي تُثبِت
1 سورة البقرة: الآية 237.
2 راجع: تفسير القرطبي 2/188.
3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/185، والمجموع للنووي 1/35.
4 راجع: المحلى 1/227، 228.
عدمَ انتقاض الوضوء باللّمس؛ وعليه فإنه يتحتّم حمْلُ هذه الأحاديث على اللّمس المجرّد من الشهوة.
* أنّ قولَكم: إنّ اللفظ إذا تردّد بين الحقيقة والمجاز، فإنّ حمْلَه على الحقيقة واجب: قولٌ غيرُ مُسلَّم على الإطلاق؛ إلاّ أنه إذا كثُر استعمال اللفظ في المجاز، فإنه يُحمل عليه في هذه الحالة، كما هو الحال في "الغائط" حيث يُراد به عند الإطلاق:"الحدَث" مع أنه مجاز فيه؛ حيث إن حقيقته: المكان الذي اطمأنّ من الأرض.
* أنّ قولكم: إنّ الملامسة مفاعلة، وهي لا تكون إلاّ من فاعليْن، فهذا غيرُ مُسلَّم هو الآخر؛ وذلك لأنّ
المفاعلة هي الأخرى متصوّرة في صورة المسيس باليد1. هذا فضلاً عن أنّ لفظ "المفاعلة" قد يَرِد في الواحد، فيقال: سافر، وهاجر، وطابق النعل. ثم الجماع فعْل الرجل، ومن المرأة التمكين، ومثلُه جارٍ في اللّمس فإنه فعل يجري بين بَشَرتيْن كالجماع2.
1 راجع: الحاوى الكبير للماوردي 1/185، والمنتقى للباجي المالكي 1/390.
2 راجع: الانتصار لابن الخطاب الكلوذاني 1/316.
* أنّ الملامسة الواردة في الآية يُراد بها الجماع1؛ وهذا مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه حيث قال: "الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع، نكاح؛ ولكنّ الله تعالى كنى". وهذا مروي أيضاً عن علي بن أبي طالب، وبه قال عطاء والحسن البصري2.
واللمس، وإن كان مجازاً في الجماع، إلاّ أنه عُدل به في هذه الآية عن الحقيقة إلى المجاز، لوجود القرينة الدالة على ذلك، وهي: الأحاديث التي أثبتَتْ عدَمَ نقْض الوضوء باللّمس، خصوصاً وأنّ أسلوب الآية وتركيبَها يدلّ على أن المقصود باللّمس فيها هو: الجماع. وبيان ذلك: أنّ معنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} يعني: وقد أحدَثْتُم قبل ذلك، {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ؛ فأوجب الوضوءَ بغسل ومسح هذه الأعضاء المذكورة في الآية. ثم قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، أي: بالاغتسال من الجنابة. فأوجب الوضوءَ من الحدَث الأصغر، والغسلَ من الحدث الأكبر. ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
1 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/114 – 116، ومصنف ابن أبي شيبه 1/153، والمصنف لعبد الرازق 1/134.
2 راجع: الأوسط بن المنذر 1/115.
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يريد الجماع، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تتوضّؤون به من الغائط، أو تغتسلون به من الجنابة كما أمرْتكم به في أوّل الآية، {فَتَيَمَّمُوا} ؛ فأوجب في آخِر الآية التّيمّم على ما كان أوجب عليه الوضوء أو الاغتسال بالماء في أوّلها1.
ودُفِع هذا: بأنّ المراد باللّمس في الآية: حقيقتُه. وقول ابن عباس وعليّ معارَض بقول غيرهما من الصحابة، كعمر، وابن عمر، وابن مسعود. وهذا أوْلى من قول ابن عباس وعليّ، لأنه قول يُسنَد إلى الحقيقة وهي مقدّمة على المجاز، ولأنّ الحقيقة في هذه المسألة أحْوطُ للعبادة. والأصل في العبادات الاحتياط؛ ألا ترى: أنه لما تردّدَتْ "إلى" في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} بيْن أن تكون حدّاً وبيْن أن تكون بمعنى: "مع"، حُملَتْ على أنها بمعنى:"مع" المرافق، احتياطاً2؟ وعلى هذا، فإنّ اللّمس –ومنه: المصافحة– يُحمل في الآية
على حقيقته. ويُؤيِّد بقاءَه على المعنى الحقيقي: قراءة: {أَوْ لامَسْتُمُ} ؛ فإنّها ظاهرة في مجرّد اللّمس دون الجماع3.
1 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/128.
2 راجع: الانتصار لأبي الخطاب الكلوذاني 1/313- 315.
3 راجع: الحاوي الكبير للماردوي 1/185، والمنتقى للباجي المالكي 1/390.
ب - واستدلّ أنصار المذهب الثاني أيضاً بالسُّنّة فيما روي عن معاذ بن جبل1 قال: "أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لقِيَ امرأةً لا يعرفها. فليس يأتي الرّجل من امرأته شيئاً إلاّ قد أتاه منها، غير أنه لم يجامِعْها؟ قال: فأنزل الله هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 2. قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضّأْ ثُم صَلِّ". وقال معاذ: فقلتُ: يا رسول الله، ألَهُ خاصّة، أمْ للمؤمنين عامّة؟ قال: "بلْ للمؤمنين عامّة". 3
ففي هذا الحديث، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم السائلّ بالوضوء من غير تفصيل هل كان اللمس بشهوة أمْ لا؟ فدلّ ذلك على نقض
1 معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي: صحابي جليل، كان أعلَمَ الأمّة بالحلال والحرام. أسلم وهو فتًى، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين جعفر بن أبي طالب. شهد العقبة مع الأنصار السبعين، وشهد بدراً، وأُحُداً، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعَثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً ومرشداً لأهل اليمن. توفي عقيماً بناحية الأردن ودفن بالقصير المعيني "بالغور" عام 18هـ.
راجع: الأعلام للزركلي 7/258.
2 سورة هود: الآية 114.
3 راجع: الترمذي 5/291، والمسند 5/244.
الوضوء بمجرّد لمس المرأة مطلَقاً1.
ونوقش هذا: بأنّ الحديث الذي تمسّكْتُم به مُعَلٌّ بالانقطاع، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعْ من معاذ؛ حيث إنّ معاذاً توفي في خلافة عمر، وتوفي عمر وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلامٌ صغيرٌ ابن ستِّ سنين2؛ كما أنّ أصْل القصّة في "الصحيحيْن" وغيرهما بدون الأمر بالوضوء والصلاة3؛ وكلّ ذلك يوجب ردَّه.
وعلى فرض التسليم جدلاً بصحّة هذا الحديث، فإنه لا دلالة فيه على النقض، لأنه لم يثبت أنّ الرجل كان
متوضِّئاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضِّئاً عند اللمس فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتقض وضوؤه4. كما يحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمَرَه بالوضوء للتبرك وإزالة الخطيئة لا للحدَث. هذا فضلاً عن أنّ الحال التي ذكَرها الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشكّ أحد في أنها لا تخلو من
1 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/186.
2 راجع: جامع الترمذي 5 /291.
3 راجع: البخاري 1/196، ومسلم 4/2116.
4 راجع: نيل الأوطار للشوكاني 1/195.
شهوة. فهل يُتصوّر أن يلتقي رجل بامرأة ويأتي منها ما يأتي الرجل من امرأته غير المجامعة، وتخلو هذه الصورة من شهوة؟
المذهب الثالث: يرى أنّ مصافحة المرأة لا تنقض الوضوء مطلقاً؛ لا فرق في ذلك بين كونها بشهوة أم لا، وقعت بحائل أم لا؟ وإلى هذا ذهب الحنفية، وفي رواية للإمام أحمد، وهو مروي عن ابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومسروق، والحسن، والثوري1.
واستدل هؤلاء بما يأتي:
أ - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 2. فقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يُراد به الجماع الذي يوجد الجنابة. وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين قال: "الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع، نكاح؛ ولكنّ الله تعالى كَنى". ومثله مروي عن عليّ بن أبي طالب، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري3.
1 راجع: شرح فتح القدير 1/48، وأحكام القرآن للجصاص 2/519، والمغني لابن قدامة 1/194، 195.
2 سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6.
3 راجع: الأوسط لابن المنذر 1 / 114، 115.
ويؤيد هذا: قولُه تعالى: {أَوْ لامَسْتُم} على وزن: "فاعَلْتُمْ"، والمفاعلة لا تكون إلاّ بين شخصيْن وذلك هو: الجماع1.
ونوقش هذا: بأنه لا يُسلَّم لكم ما ذهبتُم إليه من تفسير الملامسة بالجماع. وما روي عن ابن عباس وعليّ وغيرهما مُعارَض بما ثبت عن عبد الله بن مسعود وابن عمر، وكذلك عمر، وعمار، وابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين -؛ فقد ثبت أنهم قالوا:"القُبلة من الملامسة، وما دون الجماع من الملامسة"2. ومثْل هذا روي عن الزهري، وعطاء بن السائب، ومكحول، والشعبي، والنخعي3. أمّا بالنسبة لقولكم: "إنّ الملامسة مفاعلة، وهي لا تكون إلا بيْن اثنيْن"، فمدفوع بأنّ لفظ "المفاعلة" متصوّر من جانب واحد، يقال: سافر، وهاجر، والفاعل واحد4.
1 راجع: الانتصار للكلوذاني 1/315، واللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/146.
2 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/116 – 118، والموطأ 1/ 65، والانتصار للكلوذاني 1/314.
3 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/118 – 120.
4 راجع: الانتصار للكلوذاني 1/316، 317.
ب - استدلّوا أيضاً بالسُّنّة، ومن هذا:
1 -
ما رُوي عن أبي روق إبراهيم التيمي، عن عائشة:"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّلها ولم يتوضّأ"1. وفي رواية عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن عائشة ل: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل امرأةً من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضّأْ". قال عروة: فقلت لها: "من هي إلا أنتِ. فضحكتْ"2.
ففي هذيْن الحديثيْن: الدلالة الواضحة على عدم نقْض الوضوء بلمْس المرأة مُطلقاً، لأن القُبلة أعظم اللمس، وقد فَعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلّى ولم يتوضّأ؛ وهذا نصّ في الموضوع.
ونوقش هذا: بأنّ هذيْن الحديثيْن لا يَصحّان؛ فقد ضعّفهما وطعَن فيهما أهلُ الحديث. فقد قال أبو داود في روايته لحديث إبراهيم التيمي: "هو مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئاً"3. وقال عنه الترمذي أيضاً: "لا يصحّ أيضاً، ولا نعرف
1 أخرجه الترمذي 1/138وقال: "هذا لا يصح أيضاً"، وأخرجه أبو داود 1/45 وقال:"مرسل".
2 تقدم تخريجه في صفحة 88.
3 راجع: سنن أبي داوود 1/45.
لإبراهيم التيمي سماعاً من عائشة. وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء".1
وقال الترمذي عن حديث عروة: "وإنما ترَك أصحابُنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، لأنه لا يصحّ عندهم، لحال الإسناد". ثم روى عن علي بن المديني قال: "ضعَّف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث جدّاً وقال: "هو شبْه لا شيء"2.
وفي هذا يقول ابن قدامه: "وأمّا حديث القُبلة، فكُلُّ طُرُقِه معلومة. قال يحيى بن سعيد: "احْكِ عنِّي أنّ هذا الحديث شِبْهُ لا شيء". قال أحمد: "نرى أنه غلّط الحديثيْن جميعاً –يعني: حديث إبراهيم التيمي، وحديث عروة -؛ فإن إبراهيم التيمي لم يصحّ سماعه من عائشة، وعروة المذكور ههنا: عروة المزني ولم يدرك عائشة". كذلك قاله سفيان الثوري، قال: "ما حدّثنا حبيب إلا عن عروة المزني. ليس هو عروة بن الزبير"3.
ودُفع هذا: بأنّ هذا الحديث صحّحه ابن عبد البَر وجماعة.
1 راجع: جامع الترمذي 1/138.
2 راجع: جامع الترمذي 1/138، 139.
3 راجع: المغني 1/193.
وعلى فرْض التّسليم بضعفه، فإنه يتقوّى بكثرة الرواة، وينجبر بكثرة وتعدّد الروايات، وبحديث عائشة في لمسِها لقَدَم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته1.
ورُدَّ هذا الدّفع: بأنه على فرْض التّسليم بصحّته، فإنه يُمكن حمْلُه على أنّ القُبلة كانت من فوق حائل، ولا يمتنع أن يُطلق اسم القُبلة على ذلك.
وطُعن في هذا الرّدِّ: بأنّ القول بذلك فيه تكلّف واضح، ومخالفة للظاهر2.
ودُفع هذا الطعن: بالتسليم بأنّ اللّمس أو القُبلة كانت بغير حائل، إلاّ أنه يحتمل أنّ التقبيل كان بغير شهوة. وقد قال ابن قدامه: "
…
قد يُمكن أن يُقبِّل الرجل امرأتَه لغير شهوة برّاً بها وإكراماً لها ورحمة. ألا ترَى إلى ما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم "أنه قَدِم مِن سفر فقَبَّل فاطمةَ"3؛ فالقُبلة قد تكون لشهوة ولغير شهوة
…
"4.
1 راجع: تحفة الأحوذي 1/252، وسبل السلام للصنعاني 1/94، ونيل الأوطار للشوكاني 1/246.
2 راجع: الانتصار لأبي الخطاب الكلوذاني 1/226.
3 راجع: التمهيد لابن عبد البر 21/179، ومسند أحمد 6/296.
4 راجع: المغني 1/193.
ومن هنا، يبقى الحديث محتملاً، ويسقط الاستدلال به1.
2 -
ما رواه أبو قتادة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤُمّ الناس، وأمامةُ بنت العاص على عاتقه. فإذا ركَع وضَعها، وإذا رفع من السجود أعادها"2.
فهذا الحديث يدلّ على: أنّ لمس الإناث لا ينقض الوضوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامةَ بنتَ زينب ابنتِه وهو في الصلاة، ولو كان اللمس ناقضاً للوضوء لما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فِعْلِه3.
ونوقش هذا: بأنّ حمْلها لا يقتضى مباشرة بدَنها؛ إذْ يحتمل أنها كانت موشّحة برداء أو بقفّازيْن وجوربيْن، أو كان ثوبها سابغاً يغطي يديْها ورجليْها4، فضلاً عن أنها من ذوات الأرحام لأنها ابنة بِنْتِه زينب؛ والوضوء لا يجب من لمس المحارم عند الشافعية في أحد القوليْن. كما أنه لا وضوء عندهم في لمس الصغيرة على أحَد القوليْن5.
1 راجع: المغني 1/193.
2 أخرجه البخاري 5/2235، ومسلم 1/385.
3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/187، والمغني لابن قدامة 1/194.
4 راجع: المحلى بالآثار 1/229.
5 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/131.
كما أنه يحتمل أنّ اللمس كان بِلا شهوة –وهو الظاهر–، فلم ينتقض الوضوء لأنّ المدار في نقض الوضوء على قصْد اللّذة أو وجودها –عند المالكية والحنابلة–، لا فرق في ذلك بين الأجنبيّة وذات المحارم، والكبيرة والصغيرة؛ فاللمس الناقض هو الذي تتحقّق فيه الشهوة، ومتى وُجدت فلا فَرْق بين الجميع1.
3 -
ما رواه أبو هريرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقَدْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش، فالْتمسْتُه، فوقعتْ يَدي على بطْن قدَميْه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك. وأعوذ بك منك؛ لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيْتَ على نفسك" 2.
فهذا الحديث يدلّ على عدم نقْض الوضوء بلمس المرأة
- ومنه المصافحة - لأنّ الطاهرة عائشة ل لمسَتْ قدَم رسول الله بِيَدها وهو يُصلِّي، ولو كان ناقضاً للوضوء لما مضَى في صلاته3.
ونوقش هذا: بأنّ هذا الحديث يحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان داعياً في غير الصلاة.
1 راجع: المغني لابن قدامة 1/194.
2 تقدم تخريجه في صفحة 89.
3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/184.
وهذا جائز للمُحدِث؛ وليس من شرط الدعاء كونُه في صلاة، كما يحتمل أن يكون اللمس من فوق حائل1.
ودُفِع هذا: بأنّ الظاهر: أنه كان في صلاة ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلاّ بِيَقين. وأمّا دعوى الحائل، ففيها تكلّف ظاهر؛ حيث ثبت عن عائشة أنها قالت:"كنت أنام بيْن يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورِجْلاي في قِبْلتِه؛ فإذا سجَد غمَزَني فقبضْتُ رِجْلي، فإذا قام بسَطْتُهما". قالت: "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح"2.
فقولها: "فإذا سجد غمزني" ظاهر في أنّ اللّمس كان بلا حائل، لأنّ حقيقة الغمز إنما هو باليد، ومنه:
غَمْزُك الكبْش: إذا جسَسْتَه لتنظر أهو سمين أم لا؟ والرِّجْل الغالب عليها ظهورُها من النائم، لاسيما مع الامتداد3.
جـ - واستدلّوا كذلك بالقياس، حيث قاسوا لمسَ الرّجل للمرأة –ومنه: المصافحة - على لمس الرّجُل للرّجُل وقالوا: لو كان لمسُ المرأة ناقضاً للوضوء، لكان لمسُ الرّجلِ للرَّجُل ناقضاً أيضاً،
1 راجع: المحلى بالآثار 1/229، والحاوي الكبير 1/187.
2 أخرجه البخاري 1/150، ومسلم 1/367.
3 راجع: المجموع للنووي 1/35.
كما أن جماع الرّجل الرّجل كجماعه المرأة موجب للغسل، كما قاسوا لمس المرأة عموماً على لمس المرأة المحرم وعلى لمس الشعر1.
ونوقش هذا: بأنّ قياس لمس المرأة على لمس الرجل قياسٌ لا يصحّ، لأنّ الرّجل ليس مظنّة لشهوة. كما أنّ قياس المرأة عموماً على لمس المحارم وعلى لمس الشعر قياسٌ مع الفارق، لأن لمس المحارم لا نُسلِّم أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً، ولو سلّمناه فلا نُسلِّم لهم القياس أيضاً، لأنّ المحارم ليست محلاً لشهوة شرعاً2، ومازال الناس قديماً وحديثاً يتعارفون على أن يعانق الرّجل أُمّه وجَدّته ويُقبِّل ابنتَه حال الصِّغر قُبلةَ الرّحمة، ولا يرَوْن ذلك ينقض الوضوء ولا يُوجب وضوءاً عندهم3.
وأمّا القياس على الشّعَر، فغير المسلّم لهم أيضاً، لأنّ الشعَر لا يُلتذّ بلمْسه وليس محلاً للشهوة. وقد أبطل أمام الحرميْن القياس في هذا الباب4.
1 راجع: الانتصار للكلوذاني 1/324، والمجموع للنووي 1/37.
2 راجع: الأوسط لابن المنذر 1 /131.
3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/187.
4 راجع: المجموع للنووي 1/37، والحاوي الكبير للماوردي 1/187، 188.
د - واستدلّوا بالمعقول:
وقالوا: إنّ اللمس ليس بحدَث في ذاته، كما أنه ليس من أسباب الحدَث غالباً، فأشبَهَ لمس المرأةِ المرأةَ والرَّجلِ الرَّجلَ، ولا ينقض الوضوء بهذا1.
ونوقش هذا: بأنّ قولكم: "إن اللّمْس ليس بحدَث في ذاته" مُسلَّم، إلاّ أنه اعتُبِر ناقضاً للوضوء لأنه يُفضى إلى خروج الحدَث، فاعتبرت الحالة التي تُفضي إلى الحدث بحسب الغالب وهي: حالة الشهوة2. وهذا يخالف لمسَ المرأةِ المرأةَ والرَّجلِ الرّجلَ؛ فإنّ هذا اللمس ليس مظنّة الشهوة.
الترجيح:
من خلال النظر فيما قاله الفقهاء بشأن مدَى تأثير المصافحة للمرأة على الوضوء، بذكْر ما قالوه وأدلّتهم، ومتابعتها بالمناقشات الواردة عليها، يُمكن القول الآن بأنّ الرّاجح:
هو ما ذهب إليه أنصار المذهب الأوّل، - وهُم: المالكية، والمشهور عند الحنابلة – القائلون بنقْض الوضوء بمصافحة المرأة إذا
1 راجع: الانتصار لأبي الخطاب الكلوذاني 1 /324، 325.
2 راجع: المجموع 1 /37.
وقعتْ بشهوة، وإلاّ فلا، لأن هذا القول هو الأوْلى بالقبول بمراعاة أنّه لا تعارض بين ما ترجّح هنا وبين ما ترجّح بالنسبة لأحكام المصافحة للمرأة – على نحو ما سبق -، والذي ترجّح فيه الحرمة بالنسبة للمرأة الأجنبية، لأن المسألة التي معنا الآن - وهي مدى نقض الوضوء بالمصافحة - شاملة للأجنبيّة وغير الأجنبيّة، ولا يلزم من حرمة مصافحة الأجنبية نقض الوضوء بهذه المصافحة حيث إن الجهة منفكّة. وبهذا التوضيح يحصل التوفيق بين ما رجّحناه هنا، وما ترجّح من حرمة مصافحة المرأة الأجنبية، وما اتّفق عليه العلماء بشأن حرمة مصافحة المرأة الأجنبيّة عند تأكّد الفتنة بوجود الشهوة.
هذا، والذي دفعني إلى ترجيح هذا المذهب: أنّ القول به يؤدِّي إلى الجمع بين الأدلّة التي ظاهرُها التعارض؛ وهذا أوْلى من إعمال أحدِها وإهمال الآخَر. فهو مذهب وسط بيْن طرفيْن، يجمع بين الأدلّة، ويَدْفع التعارض عن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا فضلاً عن أنّ القول به فيه: رفْعٌ للحَرج ودفْعٌ للضرر الذي يترتّب على القول بنقض الوضوء مطلقاً. كما أنّ القول بعدم نقض الوضوء بالمصافحة مُطلقاً حتى ولو تحقّقت الشهوة قولٌ فيه تساهل واضحٌ لا يُمكن أن تطمئنّ النفوس إليه، خاصّة وأنّ القول به يفتح مجالاً لمرضى القلوب والنفوس لِيَزيغوا عن سبيل الهدى والرشاد. والله تعالى أعلم.