الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: مصافحة المرأة الأجنبية
من خلال متابعة الأحكام الشرعية بشأن النظر والمصافحة وما في حُكمهما، يتّضح لنا: أنّ المحرّمات على التأبيد كالمحرّمات بالنسب أو الرّضاع أو المصاهرة، يجوز النظرُ إليهنّ ومصافحتُهنّ، والخلوة بهنّ؛ وهذا بخلاف المحرّمات بسبب الجمع مثْل: أخت الزوجة، أو عمّتها، أو خالتها؛ فإنّ هؤلاء يأخُذن حُكم الأجنبيّات بالنسبة للنظر والمصافحة والخلوة. وهذا من مهمّات الدِّين الإسلاميِّ الحنيف.
ومصافحة المرأة الأجنبيّة مُحرّمَة شرعاً، والإجماع على هذا حاصل بين الفقهاء - عند الخوف من الفتنة ولو بغلبة الظن -، لما في هذا من تأكُّد وجود الشهوة المؤدِّية إلى الحرام قطعاً. ولا فرق في هذا بين الصغيرة والكبيرة؛ فالحُكم واحد وهو: حُرمة المصافحة من الرّجل لها والعكس، لكونها أجنبيّة، ولكون الفتنة غيرَ مُؤتمَنة.
غير أنّ الخلاف حاصل بين الفقهاء بشأن مصافحة الرجل
للمرأة الأجنبية إذا أُمِنَت الفتنةُ وعُدمت الشهوة، كأن تكون المرأةُ المصافحة عجوزاً لا تَشتهِي، أو كان المصافِح نفسُه عجوزاً، أو هما معاً على هذا الحال.
فقد اختلف العلماء بشأن مدى جواز المصافحة مِن عدمه على مذهبيْن:
المذهب الأوّل: يرى جوازَ المصافحة طالما انعدمت الشهوة وأُمِنَت الفتنة؛ فلا بأس من المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية، والحال أنّ الفتنةَ مأمونة لعدم وجود دوافعِها عند المتصافحيْن: الرّجل والمرأة الأجنبيّة. وإلى هذا ذهب بعضُ الحنفية وبعض الحنابلة.
فقد جاء في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار": "أمّا العجوز التي لا تُشتهَى، فلا بأس بمصافحتها ومَسِّ يدِها إذا أمِن. ومتى جاز المسُّ جاز السفرُ بها. ويخلو إذا أمِن عليه وعليها"1.
وجاء في "رد المختار على الدر المختار" ما يُوضح ذلك: "قال
1 راجع: محمد بن علي الحصني المعروف بالعلاء الحصكفي 9/528 – 529.
في "الذخيرة": وإن كانت عجوزاً لا تُشتهَى، فلا بأس بمصافحتها أو مسِّ يديْها. وكذلك إذا كان شيخاً يأمَن على نفسه وعليها، فلا بأس أن يصافحها. وإن كان لا يَأمَن على نفسه أو عليها، فلْيجْتنِب. ثم إنّ محمداً أباح المسّ للرجل إذا كانت المرأة عجوزاً، ولم يشترط كوْنَ الرّجل بحالٍ لا يجامع مثلُه. وفيما إذا كان الماسّ هي المرأة، فإن كانا كبيريْن لا يجامع مثله ولا يجامع مثلها، فلا بأس بالمصافحة"1.
وجاء في "الآداب الشرعية والمنَح المرعيّة": "فتصافِحُ المرأةُ المرأةَ، والرّجلُ الرّجلَ، والعجوزَ والبَرْزة2، غير الشابة فإنه يَحرُم مصافحتُها للرجل. ذكَرَهُ في "الفصول"3 و"الرعاية"4".5
1 راجع: ابن عابدين 9/529.
2 هي: المرأة الكهلة العاقلة العفيفة التي لا تحتجب احتجاب الشَّوابِّ، بل تبرز للناس تجالسهم وتحدِّثهم.
راجع: لسان العرب لابن منظور 5/309.
3 لعليّ بن عقيل بن محمد البغدادي، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، كان قويّ الحجة. توفي سنة 513هـ..
4 الرعاية: رعايتان صغرى وكبرى، وكلاهما لابن حمدان الحنبلي المتوفى سنة 695هـ.
5 راجع: محمد بن مفلح المقدسي 2/257.
واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه من القول بجواز مصافحة الأجنبيّة عند انعدام الشهوة وأمْن الفتنة بما يأتي:
أوّلاً: من السُّنّة:
1 -
استدلّوا ببعض روايات أحاديث مبايعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تفيد أنّ المبايعة كانت تَتمّ بالمصافحة، وأنّ المرأة في هذا شأنُها شأنُ الرِّجال المبايِعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا:
* ما رواه ابن حبان عن أمِّ عطيّة1 في قصة المبايعة، قالت:"فمَدّ يدَه من خارج البيت ومدَدْنا أيديَنا من داخل البيت، ثم قال: اللهُمّ اشْهَدْ! "2 ففي الحديث: الإشارة إلى أنّ المبايعة كانت تقع بالأيدي لِما ورد فيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يمُدّ يدَه من خارج البيت ويَمدُدْن أيديَهنّ من داخله؛ وهو ما يفيد وقوعَ البيعة بالمصافحة.
ونوقش هذا: بأنّ مدَّ الأيدي من وراء الحجاب: إشارة إلى
1 نسيبة بنت الحارث، وقيل: نسيبة بنت كعب، من فقهاء الصحابة. لها عدّة أحاديث. وهي التي غسلت بنتَ النبي صلى الله عليه وسلم زينب.
راجع: سير أعلام النبلاء 2/318.
2 راجع: فتح الباري لابن حجر 8/636.
وقوع المبايعة، وإن لم تقَع مصافحةٌ؛ فلا دلالة فيه على دعْواكم. كما يحتمل أنّهنّ كُنّ يُشِرْن بأيدِيهنّ بِلا مُماسّة؛ هذا فضلاً عن أنّ حديث أمِّ عطية هذا من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن، وليس بالقوي لأنّ إسماعيل هذا ليس بالمشهور، وإنما يُستشهَد به1.
* ما رُوي عن أمِّ عطيّة أيضاً، فيما أخرجه الشيخان أنها قالت:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} 2 ونهانا عن النِّياحة، فقبضتِ امرأة يدَها فقالت: أسعَدتْني فلانة - يعني: قامت بالنياحة معي تراسلني - فأريد أن أجزيَها. فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. فانطلقت ورجعت، فبايعها"3.
فقد دلّ هذا الحديث على: أن المبايعة كانت تَتمّ بالأيدي؛ وهو ما يستفاد من قول السيدة أمِّ عطيّة: "قبضتِ امرأةٌ يدَها"؛ فإنّ هذا يُشعِر بأنّهنّ كُنّ يُبايعْنه بأيدِيهنّ4.
1 راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/65. وفتح الباري لابن حجر 8/636.
2 سورة الممتحنة. الآية: 12.
3 أخرجه البخاري 4/1856.
4 راجع: فتح الباري لابن حجر 8/636.
ونوقش هذا: بأنّ المراد بقبْض اليد: التّأخُّر عن القبول، والمصافحة ليست بلازمة لمدِّ اليد بحيث لا تتخلّف عنه. ويحتمل أنهنّ كُنّ يُشِرْن بأيدِيهنّ عند المبايعة بلا مُماسّة؛ فلا دلالة في الحديث على دعواكم 1.
كما أنّ هذا الحديث كالذي قبْله لم يُصرّح فيهما بالمصافحة بالبيعة؛ ولهذا فلا يَصحّ أن يُعارِضَا الأحاديثَ الصريحة الدالةَ على عدم مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في البَيْعة صراحة، لأنه من غير المعقول أن يُترك العملُ بالحديث الدّال على الحُكم صراحةً إلى ما لا يدلّ على الحُكم إلاّ احتمالاً. والمقرّر: أنّ الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمالُ، بَطلَ به الاستدلال.
وعلى كلِّ حال، فأحاديث المبايعة تفيد: أنّ البَيْعة كانت تَتمّ بالكلام وليست بالمصافحة؛ وهذا ما تُؤكِّدُه الأدلّة الصريحة التي استدلّ بها المذهب الثاني على منعْ هذه المصافحة.
وقد جاء في "روائع البيان": "الروايات كلُّها تُشير إلى أنّ البَيْعة كانت بالكلام، ولم يَثبُت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافَح النساء في بَيْعة
1 راجع: أدلّة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 32، 33.
أو غيرِها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يَمتنِع عن مصافحة النساء - مع أنّه المعصوم -، فإنما هو تعليمٌ للأُمّة وإرشادٌ لها لسلوك طريق الاستقامة. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهرُ الفاضلُ الشريفُ الذي لا يَشُكّ إنسانٌ في نزاهتِه وطهارتِه وسلامةِ قلْبِه - لا يصافح النساء، ويكتفي بالكلام في مُبايَعتِهنّ - مع أنّ أمْرَ البَيْعة عظيمُ الشّأن -، فكيف يُباح لغيره من الرِّجال مصافحة النساء، مع أنّ الشّهوةَ فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري فيهم مجرى الدم؟ وكيف يَزعُم بعضُ الناس أنّ مصافحة النساء غيرُ مُحرَّمة في الشريعة الإسلامية؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! "1.
وجاء في "السلسلة الصحيحة": "وجملةُ القول: أنه لم يَصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافح امرأةً قطّ، حتى ولا في المبايَعة، فضلاً عن المصافحة عند الملاقاة. فاحتجاجُ البعض لجوازها بحديث أمِّ عطيّة الذي ذكرته - مع أنّ المصافحة لم تُذكَر فيه–، وإعراضُه عن الأحاديث الصريحة في تنزُّهِه صلى الله عليه وسلم عن المصافحة، لَأمْرٌ لا يَصدُر من مُؤمنٍ مُخلِصٍ، لاسيما وهناك الوعيد الشديد في مَن يَمسّ امرأةً لا تحلّ له"2.
1 راجع: محمد علي الصابوني 2 / 527.
2 راجع: ناصر الدين الألباني 2/65 – 66.
2 -
واستدلوا أيضاً بما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت الأَمَةُ مِن إمَاء أهْلِ المدينةِ لَتأخُذ بيَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به إلى حيث شاءت"1. وفي رواية الإمام أحمد: "إن كانت الأَمَةُ من أهْل المدينة لَتَأخُذ بيَدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به في حاجتها"2.
وفي رواية أخرى له: "إن كانت الوليدةُ مِن ولائدِ أهل المدينة لَتجِيء، فتأخذُ بيَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يَنزعُ يدَه مِن يدِها حتى تذهبَ به حيث شاءت"3.
فهذا الحديث - على رواياته المتعدِّدة - يدلّ على جواز لمس أيدي النساء - من ذلك: المصافحة - حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بِيَد الأَمَة لِيَقضيَ حاجتَها، وما يَنزع يدَه مِن يدِها حتى تذهب4.
ونوقش هذا: بأنّ ظاهرَ الحديث غيرُ مرادٍ هنا، وإنّما المراد به: مزيد من التواضع من النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كان حالُه مع الضعفاء مِن الرِّفق والرحمة والانقياد. وجاء في "فتح الباري": "والمقصود
1 أخرجه البخاري 5/2255.
2 المسند 98.
3 المسند 3/174.
4 فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/326 – 327.
مِن الأخْذ باليد: لازِمُهُ وهو: الرِّفق والانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لِذِكْره المرأة دون الرجل، والأمَة دون الحُرّة، وحيث عمّم بلفظ الإماء - أيّ أَمَة كانت -، وبقوله:"حيث شاءت" - أي: من الأمكنة -. والتعبير بالأخْذ باليد إشارة إلى غاية التّصرّف، حتى لو كانت حاجتُها خارج المدينة والتمست منه مساعدتَها في تلك الحاجة، لَساعَدَها على ذلك. وهذا دالٌّ على مزيد تواضُعِه وبراءَتِه من جميع أنواع الكبْر صلى الله عليه وسلم1.
ودُفِع هذا: بأنّ الأَوْلى: حمْلُ اللّفظ على ظاهره، ولا يُصرَف عن هذا الظاهر إلاّ بدليل؛ ولا دليل2.
3 -
واستدلّوا أيضاً بما رواه الشيخان عن أنس بن مالك "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَدخل على أمِّ حرام بنت ملحان3 فتُطعِمه، وكانت
1 راجع: أحمد بن حجر العسقلاني 10/490.
2 فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/326.
3 أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جنوب الأنصارية، خالة أنس بن مالك، زوجة عبادة بن الصامت. ركبت مع زوجها في زمن معاوية، فصُرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فماتت. وكانت تلك في غزوة قبرس، فدُفنت فيها سنة 27هـ.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 1/189.
أمُّ حرام تحث عُبادة بن الصّامت1، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأطعَمَتْه، ثم جلست تَفْلي رأسه، فنام ثم استيقظ وهو يضحك
…
" الحديث2.
ففي هذا الحديث: الدليل على جواز مخالطة الأجنبيّات، حيث كانت أمُّ حرام أجنبيّةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا كان يَقِيلُ عندها، ويضع رأسَه في حِجْرها لِتفْليَ رأسه؛ وهو مظنّة الملامسة. وفعْل الرسول صلى الله عليه وسلم أكبرُ دليل على الجواز3.
ونوقش هذا بما يأتي:
* أنّ أمَّ حرام بنت ملحان كانت مَحرماً لرسول الله ص. قال ابن حجر: "قال ابن عبد البَرّ: أظنّ أنّ أُمَّ حرام أرضعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
1 عبادة بن الصامت بن قيس بن أحرم الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد. شهد بدراً. وقال ابن سعد: كان أحَد النقباء بالعقبة، وشهد المشاهد كلّها بعد بدر. وهو أوّل من ولي القضاء بفلسطين. ومات بالرملة أو ببيت المقدس سنة 34هـ.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 3/624، والأعلام للزركلي 3/258.
2 أخرجه البخاري 3/1027، ومسلم 3/1518.
3 راجع: فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/327.
أو أختُها أمّ سليم1، فصارت كلٌّ منهما أُمَّه أو خالتَه مِن الرضاعة؛ فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمَحرَم أن ينالَه من محَارِمه". ثم ساق بسنده إلى يحي بن إبراهيم بن مزين. قال: إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تَفْلي أُمُّ حرام رأسَه لأنها كانت منه ذاتَ مَحرَم مِن قِبَل خالاته، لأنّ أمّ عبد المطلب جدِّه كانت من بني النجار. ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال: قال لنا ابن وهب: أُمُّ حرام: إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة؛ فلذلك كان يَقيل عندها، وينام في حِجْرها، وتفلي رأسه".
1 أمّ سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية، وهي: أمّ أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهرت بكُنيتها، واختُلف في اسمها. فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: مليكة، وقيل: الغميصاء أو الرميصاء. تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولد أنساً في الجاهلية. وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات، بها فتزوّجت بعده أبا طلحة الأنصاري وكان على الشرك يعبد وثناً من خشب. فجعلت مَهْرها إسلامه. وكانت معه في غزوة حنين. وشوهدت في أُحُد تَسقي العطشى وتُداوي الجرحى. ماتت سنة 30 هـ.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 8/227، والأعلام للزركلي 3/33.
قال ابن عبد البر: "وأيهما كان، فهي مَحرَم له. وجزم أبو القاسم بن الجوهري، والداودي، والمهلب، فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب قال: وقال غيره: إنما كانت خالةً لأبيه أو جدِّه عبد المطلب. وقال الجوزي سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أمّ سليم أختَ آمنة بنت وهب أُمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. وحكى ابن العربي ما قال ابن وهب"1.
ودُفِع هذا: بأنّ أُمَّ حرام ليست من محارم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أمّهاته مِن النسب ومن الرضاعة معلوماتٌ، وليست منهنّ أمُّ حرام ولا أحد من الأنصار. وجاء في "فتح الباري": "وبالغ الدمياطي في الرّدِّ على مَن ادّعى المحْرَميّة، فقال: ذَهل كلُّ مَن زعم أنّ أمّ حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أو من النسب، وكلّ مَن أثبت لها خؤولةً تقتضي مَحرميّة، لأنّ أمّهاتِه من النسب واللاتي أرضعْنَه معلومات ليس فيهنّ أحد من الأنصار البتّه سوى أمِّ عبد المطلب وهي: سلمى بنت عمرو بن زايد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجار. وأُمّ حرام هي: بنت ملحان
1 راجع: فتح الباري 11/80، 81.
بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور؛ فلا تجتمع أمّ حرام وسلمى إلاّ في عامر بن غنم جدِّها الأعلى؛ وهذه خُؤولة لا تَثبت بها مَحرميّة لأنها خؤولة مجازيّة. وهي كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقا صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي" 1، لكونه من بني زهرة، وهم أقارب أمِّه آمنة، وليس سعداً أخاً لآمنة لا من النّسب ولا من الرضاعة2.
* أنّ ذلك يُعدُّ من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي كان معصوماً يَملِك إِرْبَه عن زوجته، فكيف عن غيرها مما هو المنَزَّه عنه؟ وهو المبرّأُ عن كلِّ إثمٍ وعن كل فعْل قبيح وقولِ رفَث.
ودُفع هذا: بأنّ الخصائص لا تَثبت بالاحتمال. وثبوت العصمة مُسلَّم؛ لكن الأصل: عدمُ الخصوصيّة، وجوازُ الاقتداءِ به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصيّة دليل. وهذا الدفع أوردَهُ القاضي عياض.
* أنّ الحديث ليس فيه ما يدلّ على الخلوة بأمِّ حرام، لاحتمال أنّ ذلك مع وجود ولَد أو خادِم أو زوجٍ أو تابع أو نحوِ ذلك.
1 راجع: جامع الترمذي 3/649، والمستدرك 3/649.
2 راجع: أحمد بن حجر العسقلاني 11/81.
ودُفِع هذا: بأنّ ذلك مجرّد احتمال، ولو ثبت فإنه لا يَرفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسه في تَفلِيَة الرأس، وكذا النوم في حِجْرها، أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب.
ودُفع: بأنه كان بعد الحجاب جزْماً؛ حيث أفاد الحافظ: أنّ ذلك كان بعد حجّة الوداع.
وقد قال ابن حجر بعد أن أورد هذه الأوجُهَ والرّدَّ عليها في "فتح الباري": "وأحسنُ الأجوبة –يعني: الأوجُه–: دعوى الخصوصيّة، ولا يردّها كونُها لا تثبت إلاّ بدليل، لأنّ الدليل على ذلك واضح"1.
ثانياً: استدلّوا بالمعقول:
فقالوا: إنه إذا أُمِنت الفتنة، وتوافرت دواعي المصافحة، كالاختلاط بين الرجل وقرابته من النساء غير المحارم - كما يحدث مع القرابة في غير المدُن -، وكذا إذا زار القريب قريبةً له من غير مَحارمه، أو زارَتْه هي - كابنة الخال أو الخالة، أو ابنة العمِّ أو العمّة، أو امرأة العمِّ أو الخال -، أو مصافحة القادم من سفر، فالمصافحة - والحالة هذه - لا بأس بها، لِشيوع العُرف بذلك2. كما أنه ثبت
1 راجع: فتح الباري لابن حجر العسقلاني 11/81.
2 فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/302-307.
في الصحيح: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه وأمِّ سليم، فقيل له، فقال: "إنِّي أرحمها قُتل أخوها معي" 1. والمعروف: أنّ أمّ سليم هذه أخْت أمِّ حرام، ولعلّهما كانتا في بيت واحد كبير لكلٍّ منهما فيه منزل؛ من أجْل ذلك نسب هذا إلى هذه تارة ونسب إلى الأخرى تارة ثانية، مع العلم أنهما خالتا أنسٍ راوي الحديث، وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جَرت العادةُ مخالطة المخدومِ خادمَه وأهل خادمه، ورفْع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم2.
ونوقش هذا: بأن الخلطة لا تُبيح المحظور. وبالنسبة لحديث أنس غير مسلّم في موضع الاستدلال هنا، كما التعلّق بأمْن الفتنة غير مسلّم هو الآخَر؛ إذ كيف تُؤمَن الفتنة والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؟ 3 ولو كان أمْنُ الفتنة مُعتبَراً هنا لكان أوْلى به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه أنه لم يصافح امرأة قط 4. وأمّا القول بشيوع العُرف بذلك، فإنّ العُرف ليس له سلطان في تغيير الأحكام الثابتة
1 أخرجه البخاري 3/1046، ومسلم 4/1908..
2 راجع: فتح الباري 11/81.
3 راجع: البخاري 2/717، ومسلم 4/1712.
4 راجع: البخاري 2/967، ومسلم 3/1489.
بالكتاب والسُّنّة، إلا حُكمٍ كان قيامُه من أصله بناءً على عُرف شائع، فإنَّ تبدُّلَ ذلك العُرفِ من شأنه أن يُؤثِّر في تغيير ذلك الحُكم؛ إذ هو في أصله حكمٌ شَرطيٌّ مرهون بحالة مُعيّنة، وليس الموضوع الذي نحن فيه الآن من هذا في شيء1.
المذهب الثاني: يرى حُرمة مصافحةِ الأجنبيّة مُطلقاً، وأنّه لا فرْق بين حالة وحالة. فلا يجوز للرجل مصافحة الأجنبيّة. وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة.
فقد جاء في "بدائع الصنائع": "
…
وأمّا حُكم مسِّ هذيْن العضويْن: الوجْه والكفّيْن، فلا يحلّ مَسّهما"2.
وفي "تبيين الحقائق": "ولا يجوز له أن يمَسّ وجهَها ولا كفّيْها وإنْ أمِن الشّهوة، لوجود المحرم وانعدام الضرورة والبلوى"3.
1 راجع: فقه السيرة للدكتور محمد سعيد البوطي صفحة 283.
2 راجع: الكاساني 5/184.
3 راجع: فخر الدين الزيلعي 6/18.
وجاء في "عارضة الأحوذي": "
…
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصافح الرجال في البَيْعة باليد، تأكيداً لشدّة العقد بالقول والفعل؛ فسأل النساء ذلك، فقال لهن:"قوْلي لامرأةٍ كقولي لمائة امرأة"، ولم يصافِحْهنّ، لما أوعز إلينا في الشريعة من تحريم المباشرة إلاّ مَن يحلّ له ذلك منهن
…
"1.
وفي "كفاية الأخيار": "واعلَمْ أنه حيث حرُم النّظر حرم المسّ بطريق الأوْلى، لأنه أبلغ لذّة
…
"2.
وجاء في "الأذكار المنتخبة من كلام سيِّد الأبرار": "
…
وقد قال أصحابنا: كلّ مَن حرُم النظرُ إليه حرُم مسُّه، بل المسُّ أشدّ؛ فإنه يحلّ النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوّجها
…
ولا يجوز مسّها في شيء من ذلك"3.
وفي "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب": "
…
إلاّ الشّابّة الأجنبية فتَحرُم مصافحتُها كما في
"الفصول" و"الرعاية"، وجزم في "الإقناع" كغيره لأنّ المصافحة شرّ من النظر"4.
1 راجع: الحافظ ابن العربي 7/95.
2 راجع: تقي الدين الحصني 1/353.
3 راجع: محيي الدين النووي صفحة 240.
4 راجع: محمد السفاريني 1/280.
واستدلّ هؤلاء على ما ذهبوا إليه بالسُّنّة والمعقول على النحو الآتي:
أ - فمِن السُّنّة:
استدلّوا بأحاديث متعدِّدة، منها:
1 -
ما رواه معقل بن يسار1 رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعَن في رأسَ أحدِكم بمِخْيَطٍ 2 مِن حديد، خيرٌ له من أن يَمَسَّ امرأةً لا تحِلّ له"3.
فهذا الحديث يدلّ دلالة صريحة على حُرمة مسّ المرأة الأجنبيّة، ومن هذا: المصافحة؛ حيث رتّب الشارع على مسِّ المرأة التي لا تحلّ له وعيداً شديداً وهو: الطّعْن بِمِخْيَطٍ من حديد. وترتيب الوعيد الشديد على فعْل الشيء يدلّ على حرمته؛ وفي هذا
1 معقل بن يسار بن عبد الله بن معبر بن حراق المزني، أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان. وسكن البصرة، ونهر معقل فيها منسوب إليه، حفره بأمْر عمر.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 7/184، والأعلام 4/271.
2 المِخْيَط: مِن: الخيْط وهو: السِّلك. يقال: خاط الثوب يخيطه خياطة فهو مَخِيط. وهو آلة الخياطة كالإبرة ونحوها
…
راجع: مختار الصحاح 1/82، والمعجم الوسيط صفحة 265.
3 المعجم الكبير 20/211.
يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: "وفي الحديث وعيد شديد لمن مسّ امرأةً لا تحلّ له؛ ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء لأنّ ذلك مما يشمله المسّ دون شك"1.
ونوقش هذا بما يأتي:
* أنّ الحديث ضعيف لا تقوم به حُجّة. فالحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، ولم يُصرِّح أئمة الحديث بصحّته؛ ولهذا كان مثْل هذا الحديث لا يُعتمَد عليه في استنباط الحكم الشرعي2.
ودُفِع هذا:
بأنّ الحديث سنده قويّ، ولا يقدح في صحّته عدمُ إخراج أصحابِ الكتب المشهورة له؛ فكَم من أحاديث صحيحة لم تُخرج في هذه الكتب. وقد صرّح الهيثمي والمنذري بأنّ رواته ثقات من رجال الحديث الصحيح3. وقال الألباني عن سنده بأنه جيِّد.
1 راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/448.
2 راجع: فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/322.
3 راجع: مجمع الزوائد 4 / 326، والترغيب والترهيب 3 /87.
هذا فضلاً عن أنّ الحديث ليس هو الدليل الوحيد في المسألة التي معنا الآن؛ فالاستدلال به إنما هو من قبيل التأكيد والاستئناس.
* أنه على فرْض التسليم بصحّة الحديث، وإمكان الأخذ به في التحريم، فإنه غير واضح الدلالة في تحريم المصافحة؛ وذلك لأنّ كلمة "المسّ" الواردة في الحديث لا تَعنى مُجرّد لمس البشرة دون شهوة، كما هو الحال في المصافحة العادية وإنما تعني - حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسُّنّة المطهّرة - أحَدَ أمريْن:
أحدهما: أنها كناية عن الجماع؛ وهو ما فسّر به ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1، فقال:"الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرّفث، والجماع، نكاح؛ ولكن الله سبحانه يكني". وفي هذا المعنى قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} 2، وقوله:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} 3.
1 سورة النساء: الآية 43.
2 سورة آل عمران: الآية 47.
3 سورة البقرة: الآية 237.
وثانيهما: أنها تعني ما دون الجماع من القُبلة والمعانقة والمباشرة. ولا شك أنّ هذه الأمور لا تخلو من الشهوة غالباً؛ ومن ثَمّ فإنّ المسّ المجرّد من الشهوة لا يتناوله هذا الحديث، وإنما يتناول المس بمعنيَيْه السابقيْن1.
ودُفع هذا: بأنّ كلمة "المسّ" تُطلق حقيقة على مجرّد لمس البشرة للبشرة، وتُطلق مجازاً على الجماع أو ما دونه. ومعلوم أنّ اللفظ إذا أُطلِق وجَب حمْلُه على حقيقته، ولا ينتقل إلى المجاز إلا إذا تعذّر الحملُ على الحقيقة، أو وُجدت القرينة الصّارفة له من الحقيقة إلى المجاز.
وحمْل اللّفظ على حقيقته هنا غير متعذِّر. وما المانع من شمول اللفظ هنا لمعنيَيْه الحقيقي والمجازي؟ فقصْره على المعنى المجازي فقط فيه تحكّم. ويُمكن أن يُحمل عليه في مسألة نقْض الوضوء بمصافحة المرأة الأجنبية لوجود القرائن القوية الدالة على عدم نقْض الوضوء باللمس المجرّد من الشهوة. ولا يلزم من حرمة المصافحة نقضُ الوضوء، لانفكاك الجهة. ولنا عَوْد - إن شاء الله
1 راجع: فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2 /323.
تعالى - بمزيد من التفصيل لهذه المسألة عند الحديث عن مدى نقض الوضوء بمصافحة المرأة الأجنبية.
2 -
ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُتِب على ابن آدم نصيبُه من الزِّنى، مُدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زِناهما النّظر، والأُذنان زِناهما الاستماع، واللِّسان زِناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زِناها الخُطَى والقلب يهوى ويتمنى ويُصَدِّقُ ذلك الفرج ويُكذبه"1.
فهذا الحديث يدلّ على حظِّ ابن آدم من الزِّنى؛ وهو: إمّا زنىً حقيقيٌّ بإيلاج الفرْج في الفرْج الحرام، وإما زِنًى مجازيٌّ، وهو يتحقق بالنظر الحرام، أو بالاستماع الحرام، أو بالكلام المحرّم مع أجنبيّة، أو بمسِّ المرأة الأجنبية باليد، أو بالمشي بالرِّجل إلى الزِّنَى؛ وكل ذلك محرّم. فقيّد الحديث حُرمة مصافحة الأجنبية.
وجاء في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني مع كتاب الفتح الرباني" في باب: كراهة مصافحة النساء: "وأحاديث الباب تدلّ على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ولمْس بَشَرتِها بغير حائل.
1 أخرجه البخاري 5/2304، ومسلم 4/2047.
ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة "، وذكر الحديث. ثم قال: "واليدُ زِنَاها البطش، والبطش معناه: اللّمْس"1.
ويقول الإمام النووي رحمه الله "معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيبُ من الزِّنى؛ فمنهم من يكون زِنَاه حقيقياً بإدخال الفرْج في الفرْج الحرام. ومنهم من يكون زِناه مجازاً بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزِّنَى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمسِّ باليد بأن يمسّ امرأة أجنبية بيده أو يُقبِّلها، أو بالمشي بالرِّجل إلى الزِّنَى، أو النظر، أو اللّمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك"2.
3-
أحاديث مُبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم منها:
* ما أخرجه الشيخان عن عروة بن الزبير3 رضي الله عنه أنّ عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم
1 راجع: أحمد عبد الرحمن الساعاتي 17/351.
2 راجع: شرح النووي على صحيح مسلم 8 /457.
3 عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، أبو عبد الله: أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. كان عالمًا بالدِّين، صالحاً كريماً. انتقل إلى البصرة، ثم إلى مصر، فتزوج وأقام بها سبع سنين، وعاد إلى المدينة فتوفي فيها عام 93 هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء 4/421-434، والأعلام 4/226.
يَمتحِنُهنّ، عمَلاً بقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} 1 - قالت عائشة: - فمَن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، فقد أقرّ بالمحبّة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقرَرْن بذلك من قولهنّ قال لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انْطلِقْنَ. فقد بايعْتُكُنّ". لا والله! ما مسّتْ يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ؛ غير أنه بايَعَهُنّ بالكلام. والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلّا بما أمَر الله. يقول لهن إذا أخذ عليهن: "قد بايَعْتُكُنّ كلاماً"2. وفي رواية أخرى: "النبي صلى الله عليه وسلم يُبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ، وما مسّتْ يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأةٍ إلا امرأة يَملكها"3.
* ما روتْه السيدة أميمة بنت رقية4 رضي الله عنها قالت: "أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نُبايعُه. فقلنا: "يا رسول الله، نبايِعُك على أن لا
1 سورة الممتحنة: الآية 10.
2 أخرجه البخاري 5/2025، ومسلم 3/1489.
3 أخرجه البخاري 6/2637، ومسلم 4/1908، والترمذي 5/411.
4 أميمة بنت رُقَيْقَة -بقافيْن مصغّرة- بنت عبد الله بن نجاد، وأمّها: رُقَيْقَة بنت خويلد بن أسد، أخت خديجة -رضي الله عتها-. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقال هي بنت بجاد بن عبد الله بن عمير بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة القرشية التيميّة.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 7/510.
نُشرك بالله شيئاً، ولا نَسرق، ولا نَزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرْجلنا، ولا نَعصيك في معروف" قال:"فيما استطعتن وأطَقْتُنّ". قالت: فقُلنا: الله ورسولُه أرْحَم بنا منّا بأنفسنا. هَلُمّ نبايِعْك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لواحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة"1.
* ما رواه عمرو بن شعيب2 عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو3: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُصافح النساء في البيعة"4.
ونوقش هذا بما يأتي:
1 أخرجه مالك في الموطإ 2/982، وأحمد في المسند 6/357، والنسائي في سننه7/149.
2 عمرو بن شعيب بن محمد السهمي القرشي، أبو إبراهيم، من بني عمرو بن العاص، من رجال الحديث كان يسكن مكة، وتوفي بالطائف سنة 118هـ.
راجع: الأعلام للزركلي 5/79.
3 عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم من قريش، صحابي من النساك من أهل مكة. كان يكتب في الجاهلية، ويحسن السريانية، وأسلم قبل أبيه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكتب ما يسمع منه، فأذن له. وكان كثير العبادة. حمل راية أبيه يوم اليرموك، وشهد صفِّين مع معاوية، وولاّه الكوفة مدة قصيرة. توفي عام 65هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء 3/79-94، والأعلام 4/111.
4 أخرجه أحمد 2/213، والطبراني في المعجم الكبير 24/180.
* أنه وردت بعضُ روايات أحاديث البيعة بما يفيد: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُبايع النساء مصافحةً من فوق حائل.1 فقد روى الإمام أحمد عن شهر بن حوشب2 قال: حدثتني أسماء بنت يزيد:3 "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء المسلمين للبيعة، فقالت له أسماء: "ألا تَحسر لنا عن يدك يا رسول الله؟ ". فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لست أصافح النساء؛ ولكن آخُذ عليهن" 4.
فهذا الحديث يفيد: أنه صلى الله عليه وسلم كان يُبايعُهنّ مصافحةً من فوق
1 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 4/234.
2 شهر بن حوشب، أبو سعيد الأشعري، شامي الأصل، سكن العراق. وكان يتزيا بزيِّ الجند، مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية. كان من كبار علماء التابعين. ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وتوفي عام 100هـ.
راجع: الأعلام للزركلي 3/178.
3 أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية، من أخطب نساء العرب، ومن ذوات الشجاعة والإقدام. كان يقال لها: خطيبة النساء. وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى للهجرة، فبايعتْه، وسمعت حديثه. وحضرت وقعة اليرموك، فكانت تسقي الظمأى وتضمد جراح الجرحى. توفيت عام 30هـ.
راجع: الأعلام للزركلي 1/306.
4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/454، وابن راهويه في مسنده 4/183.
حائل، ولم يُذْعِن لطلب أسماء بالمبايعة دون حائل، موضحاً صحّة ما فعَله.
كما نقل الحافظ ابن حجر: أنّ أبا داود روى في "المراسيل"1 عن الشعبي: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببُرد قطري فوضعه على يده وقال: لا أصافح النساء"، ونحو ذلك عن عبد الرازق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً، وكذا عن سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم. وأخرج يحيى بن سلام في "تفسيره" عن الشعبي:"أنهنّ كنّ يأخذْن بيده عند المبايعة من فوق ثوب"2.
ودُفِع هذا: بأنّ حديث أسماء بنت يزيد عند الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب، وقد قال فيه الحافظ:"صدوق، كثير الإرسال والأوهام"3؛ فلعلّ هذا الحديث مما أوهم عليه فيه، فضلاً عن أنّ الحديث ليس فيه ما يدل على أنّ المصافحة وقعت
1 راجع: المراسيل صفحة 274.
2 راجع: فتح الباري 8 /636.
3 راجع: تقريب التهذيب لابن حجر 1 /341.
بحائل أو بغير حائل؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصافح النساء. وهذا النفي منه ينصرف إلى مطلق المصافحة، سواء أكانت بحائل أم بدون حائل؛ حيث إنّ اللفظ يشملهما جميعاً.
وبالنسبة لما نقله الحافظ عن أبي داود وغيره، فهذه كلّها مراسيل لا تقوم بها حجّة ولا تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تَقضى بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة، وأنه ما بايعَهنّ إلا كلاماً؛ وهذا ما يفيده حديث السيدة عائشة السابق ذكْره، وكذا السيدة أميمة بنت رُقَيْقَة. وفي هذا يقول الحافظ العراقي1:"هذا هو المعروف. وزعْم أنه كان يصافحهنّ بحائل لم يصحّ. وإذا كان هو لم يفعل ذلك - مع عِصْمته وانتفاء الريبة -، فغيْرُه أوْلى بذلك"2.
* وقال في مناقشتهم للدليل الذي نحن بصدده الآن: "إنّ
1 الحافظ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن العراقي، قاضي الديار المصرية. رحل إلى دمشق فقرأ وعاد إلى مصر، فارتفعت مكانته إلى أن وَلِيَ القضاء عام 824هـ، وتوفي بالقاهرة عام 826هـ.
راجع: الأعلام للزركلي 1/148.
2 راجع: فيض القدير 5 /186، وبلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني 17/350.
امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء في البيْعة يُعَدّ واقعةَ عيْن لا تتناول غيرَها؛ ولهذا فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أُصافح النساء" لا يُعَدّ على إطلاقة، لأنه قاله في خصوص البيعة"1.
ودُفِع هذا: بأنّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما تقرّر لدى علماء الأصول. وفي هذا يقول الشيخ محمد الحامد في كتابه:"حكم مصافحة المرأة"، جواباً عن هذا الوجه في المناقشة: "هذا زعْم ساقط لما تقرّر لدى العلماء أنه لا عبرة بخصوص السبب إذا كان اللفظ عاماً، وهو هنا كذلك؛ فتَحرم مصافحتُهنّ مطلقاً؛ بل إن دلالة الحديث على تحريمها دلالة أوّليّة إذ قد امتنع عنها صلى الله عليه وسلم حال المبايعة، مع أنّ الأصل فيها أن تكون معاقدة بالأيدي ومصافحة بها، فلَأَنْ تكون ممنوعةً في غير هذا الموطن أوْلى وأجْدر. والأحاديث التي رويناها في تحريم المسّ تُصحِّح الفهم وتورثة السلامة، وتنأى بالمرء عن هذا المنزلق الخطِر؛ فإن المرأة مشتهاة خِلْقة، واللّمْس مثيرُ شهوة الوِقاع، وهي أعصى الشهوات للدين والعقل؛ فكل سبب يدعو إليها في غير حلّ ممنوع في الإسلام
1 راجع: أدلة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 36.
ومحظور؛ إذ الوسائل لها أحكام المقاصد".1
* قالوا: "إنه قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يصافحُ نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان النبي يجلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه، فجعل صلى الله عليه وسلم يشترط عليهنّ البيعة وعمر يصافحُهن"، كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كلّف امرأة وقفت على الصفا فبايعَتْهنّ".
وقيل: "إنه صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء، فغمس يده فيه، ثم أمر النساء فغمَسْن فيه أيديَهن"2.
ودُفع هذا: بأنّ هذه الروايات لم تثبت بسند صحيح يُحتجّ به، فلا تقوم بها حُجّة. وقد عارضتْ ما ورد في الصحيح في شأن المبايعة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يُبايِعُهن كلاماً دون مصافحة. وفي هذا يقول ابن العربي:"وذلك ضعيف؛ وإنما ينبغي التعويل على ما روي في الصحيح"3.
1 حكم مصافحة المرأة للشيخ محمد حامد صفحة 10، وأدلة تحريم مصافحة الأجنبية للشيخ محمد إسماعيل صفحة 36.
2 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 4 /234، وفتح الباري 8 /636.
3 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 4/234.
وقال الحافظ وليّ الدين أبو زرعة العراقي: "ولا يصحّ شيء من ذلك". ثم قال عمّا روي عن عمر: "وكيف يَفعل عمر رضي الله عنه أمراً لا يَفعلُه صاحبُ العصمة الواجبة"1.
* إن الاستدلال على تحريم المصافحة بترْك النبي صلى الله عليه وسلم لها حال بيْعة النساء غيرُ مفيد في الاستدلال، وذلك لأنّ الاقتداء به صلى الله عليه وسلم لا يكون إلاّ في الأفعال، وليس في التروك2.
ودُفِع هذا: بأن الاستدلال بأحاديث البيعة وترْك المصافحة حالَ البيعة ليس هو الدليل الوحيد لدينا؛ بل هناك أدلّة أخرى مُتعدِّدة وردت وسَترد. ومع هذا، فإن مسألة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في التروك كلام خلاصته فيما يأتي:
بأنّ ترْك النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون مقصوداً، وقد يكون غيرَ مقصود.
أ - فالترك غير المقصود: سلْب محضٌ، وهو لا يدل على جواز ولا كراهة ولا تحريم، وهو ليس محلاً للقدوة؛ وذلك كترْك النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دخول الحمّامات. فلا يُحتجّ بهذا على كراهة أو
1 راجع: طرح الترثيب شرح التقريب 7/44، 45.
2 راجع: أدلة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 37.
تحريم، لأنهم ما قصدوا التّرك ولا أمكنهم دخولها فلم يدخلوها، لأنه لم يكن في بلادهم وقتئذ حمّام. وكذا ترْكه صلى الله عليه وسلم أنواعاً من القوت واللباس والمركب والمساكن ممّا لم يكن موجوداً بالحجاز في عصره صلى الله عليه وسلم، فلا يدلّ ذلك على أنّ ترْك الانتفاع بذلك الطعام أو اللباس والمراكب والمساكن سُنّة1.
ب - والترْك المقصود، وهو الذي يُعبّر عنه بالكفِّ أو الإمساك أو الامتناع، وهو على أقسام:
القسم الأول: الترْك لِدَاعي الجِبِلّة البشرية، كتَرْكه صلى الله عليه وسلم أكلَ لحم الضّبِّ مُعلِّلاً ذلك بقوله:"لم يكن بأرض قومي، فأجِدُني أَعَافُه"2. كما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك ما لا يشتهيه من الطعام ولا يَعيبُه. فقد ثبت في حديث أبي هريرة: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط. إنِ اشتهاه أكَلَه، وإن كَرِهَه تَرَكه"3.
1 راجع: مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/313،314، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام للدكتور محمد الأشقر 2/45، 46.
2 أخرجه البخاري 5/2060، ومسلم 3/1543 من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري 2/730، ومسلم 3/1633.
وهذا القسم لا يدلّ في حقِّنا لا على تحريم ولا على كراهية.
القسم الثاني: الترْك الذي قام الدليل على اختصاصه به، وهو ترْكه صلى الله عليه وسلم لما حُرِّم عليه خاصّة، كترْكه أكْلَ الصّدَقة، وقد قال في هذا فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه:"إنّا لا تَحِلّ لنا الصّدَقة"1.
وهذا القسم لا يدل أيضاً في حقِّنا لا على تحريم ولا على كراهة، وإن كان البعض يرى أنه يُقتدَى به صلى الله عليه وسلم في الأفعال التي اختصّ بها على سبيل الاستحباب.
القسم الثالث: الترْك بياناً أو امتثالاً لمجمَل معلوم الحُكم عامٍّ لنا وله؛ فيُستفاد حُكْم التّرك من الدليل المبيّن والممثّل. ومثال ذلك: تركه للإحلال من العمرة مع صحابته، وقال فيما روته عنه أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها:"إني لبّدْتُ رأسي، وقلَّدتُ هدْيِي، فلا أحلّ حتّى أنْحَر". 2 فقد امتثل صلى الله عليه وسلم للنّهْي الوارد في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 3. وهو ترْك التّمتّع لأنه كان قد ساق الهدْي؛ وبهذا تبيّن حُكم مَن ساق الهدْي، وهو تحريم الحلق لظاهر النهي الوارد في الآية.
1 أخرجه البخاري 2/542، ومسلم 2/751.
2 أخرجه البخاري 2/568، ومسلم 2/902.
3 سورة البقرة: الآية 196.
ومثال الترك الامتثالي: ترْكه صلى الله عليه وسلم الصلاة على المنافقين لما نزل قوله سبحانه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} 1. وهذا القسم تشترك فيه الأمّة في الحُكم وهو: التحريم مع رسول الله ص.
القسم الرابع: الترْك المجرّد، وهو: ما ليس من الأقسام السابقة، وهو نوعان:
الأوّل: ما عُلم حُكمه في حقِّه بدليل من قول أو استنباط. وهذا النوع ينبغي أن يكون حُكمنا فيه كحُكمِه صلى الله عليه وسلم، عملاً بقاعدة المساواة في الأحكام.
الثاني: ما لم يُعلَم حُكمه في حقِّه صلى الله عليه وسلم؛ فما ظهر منه أنّه ترَكه تعبُّداً وتقرّباً، نحمله على الكراهة في حقِّه، ثم يكون الحكم في حقِّنا كذلك، أخذاً من قاعدة المساواة في الأحكام. وما لم يظهر فيه ذلك، نحْمِله على أنه من الترك المباح.
وهنا نقرِّر بأن مصافحة النساء أمْر ترَكه النبي صلى الله عليه وسلم في مقام البيان والتشريع، مع وجود المقتضي –وهو: البيعة–، وعدم المانع من المصافحة؛ فينبغي أن يكون حكمُه التحريم. وهو نفس حُكم القسم الثالث من التروك، لأنه لا فرق بين الفعل والترك في التّأسِّي فيهما.
1 سورة التوبة: الآية 84.
جاء في كتاب "إرشاد الفحول": "ترْكه صلى الله عليه وسلم للشيء كفِعْله له في التّأسِّي به فيه"1.
وعلى أية حال، فإنّ أقل ما ننتهي إليه: أنّ كراهة المصافحة هي الحُكم في حقه، وبالتالي في حقِّنا. فإذا أُضيفَ إلى ترْكه هذه الأدلّةُ الأخرى، فإنّ التحريم هو المرجَّح في هذا الخلاف 2.
ب - ومن المعقول:
بعد أن استدل القائلون بحُرمة مصافحة المرأة الأجنبية بالسُّنّة، شرعوا في عرض ما يَعضد ذلك من المعقول.
فقالوا: لقد حرّم الشارع الكريم الزِّنَى، وحذّر من فتنة النساء في غير ما موضع، فمِن هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الدنيا حلوة خضرة، وإنّ الله مستَخْلِفُكم فيها فناظرٌ كيف تعملون؛ فاتّقوا الدنيا! واتّقوا النساء! فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"3.
1 راجع: محمد علي الشوكاني 1/225.
2 راجع: أدلة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 41.
3 أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري في الذكر والدعاء، الحديث رقم 2742، والترمذي في الفتن، وقال:"حديث حسن صحيح"، الحديث رقم 2191، وابن ماجة في الفتن، الحديث 4000.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أسامة بن زيد رضي الله عنه: "ما تركْتُ بعدي فتنةً هي أضرّ على الرِّجال من النساء"1. والعقل يقتضي أنّه إذا حَرّم الشارع أمراً فإن هذا التحريم يَسري أيضاً بالنسبة للأسباب المؤدِّيَة إليه؛ ومِن ثَمّ وضَع الشارع الحكيم الاحتياطات اللازمة لسَدِّ باب هذه الفتنة، فحرّم النظرَ الحرام، والتبرجَ، والخلوة بالأجنبية، وذلك من باب سدِّ الذرائع. وبدون شك، فإنّ مسّ المرأة الأجنبية يُحرك كوامنَ النفس، ويفتح أبواب الفساد، ويُسهِّل مداخل الشيطان. من أجْل ذلك، كان القول بحرمة المصافحة؛ وهو أوْلى من تحريم النظر. وهذا يُحقِّق المقصود من قوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 2. فالنهي في هذا الخطاب يشمل مجرّد الدّنُوِّ منه باقتراف المقدّمات التي تُؤدِّي إليه. وفي هذا يقول صاحب "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": "وإنّما أمر بغضِّ البصر خوفَ الوقوع في الفتنة. ولا شك أنّ مسّ البدن للبدن أقوى في إثارة الغريزة، وأقوى داعياً إلى الفتنة، من النظر بالعين؛ وكلّ مُنصف يعلَم صحّة ذلك"3.
1 أخرجه البخاري 5/1959، ومسلم 4/2098.
2 سورة الإسراء: الآية 32.
3 راجع: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي 6 /257.
وهكذا قال صاحب "أدلّة تحريم مصافحة الأجنبية": "ولا يجوز أن يُعترَض على إعمال قاعدة "سدّ الذرائع" هنا بسلامة نيّة مَن يُصافح الأجنبية وطهارة قلبه، لأنّ الشريعة السّمحة تحظر الفعل المؤدِّي إلى الفساد بغضِّ النظر عن نيّة صاحبة، لأن المنظور إليه في هذا الباب هو مآلات الأفعال، أي: ما تُؤدِّي إليه؛ فما دام المآل فاسداً كان الفعل المؤدَّي إليه ممنوعاً، سدّاً لذريعة الفساد، وإن لم يَقصد فاعلُه الفسادَ بفعله. فإذا خفِي القصد والنيّة، فالراجح عدم اعتبار القصْد لأنه غيرُ منضبط. ولا بدّ أن نعتبر المنضبط لأنّ التشريع لِمجموع الناس وليس لطائفة مخصوصة"1.
الترجيح: من خلال النظر فيما سبق مما قاله العلماء بشأن حُكم الشرع في مصافحة المرأة الأجنبية، على ما تقرّر من وصْف للأجنبية، وتحليل ما استدلّ به كلُّ فريق، ومناقشة ما أورده من أدلّة تشعّبتْ مسالكُها وتعدّدت طرقُ مناقشتها، فالذي يترجّح هنا الآن هو: القولُ بحرمة مصافحة المرأة الأجنبية مطلقاً، وأنّ هذا هو الأوْلى بالقبول، وهو الأقرب إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، والمحقِّق لمبدأ السلامة بالاعتماد على جانب الحيطة، والحرص على البعد عن كلِّ ما يَجُرُّنا إلى الفتنة المحرّمة شرعاً.
1 راجع: الشيخ محمد إسماعيل صفحة 18، 19.
ويُقوِّي هذا ما يأتي:
1 -
ثبوتُ عدم مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مطلقاً حال البيعة مع وجود المقتضي وعدم المانع، هذا فضلاً عن أنه لم يفعل هذا، مع عِصْمته صلى الله عليه وسلم وانتفاء الرِّيبة عنه، فغيْره أوْلى بذلك. كما أنّ كلّ الشّبهات التي أوردها المجوِّزون أمكن الردُّ عليها. وفي هذا يقول الشيخ الشنقيطي: "
…
فيلزمنا ألاّ نصافح النساء اقتداءً به صلى الله عليه وسلم
…
وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيْعة: دليلٌ واضح على أنّ الرجلَ لا يُصافح المرأة، ولا يَمسُّ شيءٌ من بَدنِه شيئاً مِن بَدَنها، لأنّ أخفّ أنواع اللّمس المصافحة؛ فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يَقتضيها - وهو وقت المبايعة - دلّ ذلك على أنها لا تجوز. وليس لأحد مخالفتُه صلى الله عليه وسلم لأنه هو المشرِّع لأُمَّته بأقواله وأفعاله وتقريره"1.
2 -
أنّ كلّ مُنصِف يعلَم صحّة أنه مما لا شك فيه: أنّ مَسَّ البدن للبدنِ أقوى في إثارة الغريزة وأقوى داعياً إلى الفتنة من النّظر بالعين؛ وقد نهى الله سبحانه عن مقدِّمات الفاحشة سَدّاً لِباب
1 راجع: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6 /256.
الافتتان والتّلذّذ بالمرأة الأجنبية، لاسيما في هذا الزمان الذي قلّ فيه الوازعُ الدِّينيّ، وقد قال تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 1. وفي هذا إفادةُ النّهي عن كلِّ ما يُؤدِّي إليه؛ ولِذا حرَّم الله سبحانه الخلوةَ بالأجنبية، وإدامةَ النظر إليها. وقد أمَر بغضِّ النظر خوف الوقوع في الفتنة، وفي هذا يقول الشيخ الشنقيطي: "إنّ ذلك ذريعةٌ إلى التّلذُّذ بالأجنبية لِقلّة تقوى الله في هذا الزمان، وضياعِ الأمانة، وعدمِ التّورّع عن الرِّيبة
…
فالحقُّ الذي لا شك فيه: التباعدُ عن جميع الفِتَن والرِّيَب وأسبابها، ومِن أكْبرِها لمسُ الرَّجل شيئاً من بدن الأجنبية؛ والذريعة إلى الحرام يجب سَدُّها
…
"2.
3 -
ـ جاء في فتاوى اللجنة الدائمة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ما يلي:
أولاً: أنه لا يجوز أن يضع رجلٌ يدَه في السلام في يدِ امرأة ليس لها بمحرم، ولو توقَّتْ بثوبها3.
ثانيًا: لا يجوز للمسلم أن تمس بشرته بشرة امرأة من غير محارمه
1 سورة الإسراء: الآية 32.
2 راجع: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/257.
3 راجع فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17/29 الفتوى رقم 1742.
لا بمصافحة ولا غيرها، سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة1.
ثالثًا: لا يجوز للمرأة المسنة – العجوز ولا غيرها من النساء مصافحة الرجل الأجنبي
…
وهذا يعم الكبيرة والصغيرة لخوف الفتنة2.
هذا، ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا: أنّ الذي ترجَّح الآن من القول بتحريم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية مُراعىً فيه الدِّقّة في تحرير محلِّ النزاع على نحو ما سبق، بخصوص بيان المحرّمات على التأبيد وهنّ اللائي يجوز الخلوة بهن والنظر إليهن والسفر بهن ومصافحتهن إذا أُمِنَت الشهوة، لِيبقى التحريم الذي ترجّح هنا قاصِراً على المرأة الأجنبية عن الرجل. وهذه بطبيعة الحال هي التي تستدعي الحيطة والحذر في التعامل معها، فضلاً عن طبيعة بُعْدها في درجة القرابة عن الرجل؛ فلا أقلّ من التحوّط بتحريم مصافحتها، سَدّاً لباب الفتنة، وإعمالاً لقاعدة الأصول المقتضيةِ تحريم مقدّمة الحرام بنفس درجة ذلك التحريم، والله تعالى أعلم.
1 راجع: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17/32 الفتوى رقم 2759.
2 راجع: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17/47 الفتوى رقم 16420.