المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر العود إلى القسطنطينيةوما جرى بعد ذلك من الأمور المرضية - المطالع البدرية في المنازل الرومية

[بدر الدين الغزي]

الفصل: ‌ذكر العود إلى القسطنطينيةوما جرى بعد ذلك من الأمور المرضية

رُدَّ بالعطاش على عيني ومَحْجرِهَا

تُروي العطاشَ بدمعٍ واكفٍ جاري

يا مُزْمع البين لا كان الرحيل فإن

كان الرحيل فإني غير صبَّارِ

إن غابَ شخصكَ عن عيني فلم ترهُ

فإنّ ذكركَ مقرون بإضمارِ

‌ذكر العود إلى القُسْطَنْطِينيّة

وما جرى بعد ذلك من الأمور المرضيّة

وكان رحيلنا من ذلك المكان الذي مرّ ذكره وتقدم، يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول المكرم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وسرنا والسماء متسترة بأجنحة الفواخت، والطرف من خوف ما يحصل من نؤها باهت، ولم نزل نسير ونلتهم الأرض التهام الضمير، ونرتبط بالجد ارتباط الفعل بالضمير، ونجول في وداة وأشجار، ونحوب في مياه كالأنهار، إلى أن انهار جرف بناء ذلك النهار، ونحن نصل السير بالسُّرَى، ونعاصى عاذل الكرى، واليباب يخفضنا إلى بطون وهاده، ويرفعنا إلى ظهور نجاده، والليل قد أرفلنا في بجاده وجللنا برداء سواده، والقمر

قد حجبه الغيم في أفقه، فلم يظهر من غربه ولا شرقه، وعَوَّض عنه بسناء برقه، والرذاذ يلطم الجباه، ويهجم على العيون والأفواه، وذيل الوحل على الأرض منسبل، وستره على بطحائها منسدل، (وسُلْطَان النوم عن الطرف ينعزل وعلى وصليه إلى المقل منفصل) والإعمال في السير متصل، وكل منا بحالة الخائف

ص: 254

الوجل، إلى أن اهتدينا بعد أن كدنا نضل، إلى المنزل المعروف بدل، وهو منزل إلى جانب البحر بين تلال في مضيق، ومنها يُنْزل في المُعديّة إلى قرب أزْنِيق فيقرب على الناس الطريق، وبها عمارة لابن هرسك للقاطنين والواردين، وعند المُعديّة على الدرب خان للمسافرين، وبظاهره عينٌ ماؤها معين، يصب في حوض كبير لورود الواردين، فنزلنا بذلك الخان، إلى أن آن وقت الفجر وحان، ونحن لا نهجع، ولا يستقر لنا مضجع، ودمعنا ودمع الغمام ذارف، وسقف الخان والسماء واكف، فبتنا بليلة نابغية وأحزان يعقوبية وتصبرات أيّوبية، لا نجد من تلك البأساء ملجأ ولا مقيلاً، ونلقي من أعيننا وأعين المزن بالليل قبل النهار سبحاً طويلاً، فعندما تجلّى وجه السحر، وذبح لضيف الصباح مطيّة الظلام ونحَر، خف القطر وقل، وتنازل من الوبل إلى الطل، فأخذنا في الترحال، وركبنا متون تلك الأوحال، وسمونا مع الماء سُموَّ حبابه حالاً على حال. ولم نزل نقطع مهامة وقفار، ونجوز في أودية كالبحار، يندهش بزمع فيها البصر ويحار، إلى أن وصلنا إلى كيكثبزة ضحوة النهار، فما ملنا إلى النزول ولا عُجْنَا، ولا عولنا على غير المسير ولا عرجنا، واستمر السير ذلك النهار جميعه والسحاب لا يكفكف دموعه، والشمس متسترة بخدرها لا تبرح خوف ذلك الزلق من وكرها، والأرض لا تثبت الرجل من كثرة الوحل على ظهرها، وتلك الجياد ترسف فيه كالراسف في الأقياد، وقد ضنى من ذلك القلب والفؤاد، والثياب منقوشة بأيدي الخيل من العاتق إلى الذيل، ووافانا (في

ص: 255

ذلك النهار) جماعة ممن كان صحبنا في الطريق، وممن عدّ

في ذلك الفريق، واتّسم لنا بسمة الرفيق، راجعاً كل منهم إلى بلده، مؤملاً لقي أهله وولده، فحمّلناهم أطيب السلام إلى أحبابنا بأرض الشَّام، وقد فنى القلب تحرقاً وثوب الصبر تمزقاً وتذكرنا مرارة الفراق وحلاوة اللقاء، فتزايد من الجوانح الالتهاب، ومن الدموع الانسراب والانسكاب، ولم يمكننا لهم إذ ذاك كتابة كتاب، وتمثلت بقول أبي حيَّان بوأه الله تعالى غرف الجنان:

لم أؤخر عمّنْ أحبُّ كتابي

لقلىً فيه أو لتركِ هواهُ

غيرَ أني إذا كتبتُ كتاباً

غَلَبَ الدّمْعُ مُقْلتي فمحاهُ

وأنشدتهم والقلب في شغل شاغل، والدمع من العينين سائل، للصلاح الإربليّ نديم الملك الكامل:

بالله عليك أيها المرتحلُ

بلغ عني أحبتي ما فعلوا

قل مات فإن قالوا متى قل لهم

من يوم فراقكم أتاه الأجَلُ

وأنشدتهم والفؤاد مُستعر والدمع مُنتثر وعلى الخدين مُنتشر والقلب لا

ص: 256

يسكن ولا يقر، لبعضهم:

أيها الرَّاكبُ المُيَمِّمُ أرْضِي

بلغن بَعْضِِيَ السَّلامِ لبَعْضِي

إنَّ جسمي كما تراهُ بأرْضٍٍ

وفُؤادي ومالكيهِِ بأرْضِِ

قد قضى الله بَيْننا بفراقٍ

فَعسَى باجتماعِنا سَوفَ يَقْضي

حقق الله رجاءنا وتقبّل دعاءنا بمنه وكرمه آمين.

ثمّ فارقتهم والجوانح ملتهبة والدموع منسربة، وأنا ألتفت إليهم مرّة بعد أخرى، وأجرّ رجلي جراً وهلم جرا، إلى أن غابوا عن البصر، وعاد عيانهم إلى الأثر، وحديثهم إلى الخبر، ثمّ تذكّرت قدومهم إلى البلاد، وإخبارهم عني عند سؤال الوالدة والأولاد، فأنشدت:

كأني بأمي لا عدمت حنوها

إذا جاء من أرضي إلى أرضها قفلُ

يعمهم من نجوها كل سَاعَة

تسائلهم عني وعن حالتي الرسلُ

يقولون أين البدر أين مَحلّهُ

إلى ما انتهى لمَ لا أتى هل له شغلُ

أضامت به حَال أطالت له يد

أأخرهُ نقص أقدمه فضلُ

يقولون قد نال الأماني جميعها

وعمّا قليل سوف يجتمع الشملُ

ص: 257

وقد نشرت في الخافقين علومه

ومقدارُ سموا وقيمته تعلوا

ناشدتهم بالله ألا صدقتم

لديَّ أجدٌّ ما تقولون أم هزلُ

ولم نزل نسير، ونقطع حجّة ذلك الوحل الكثير، إلى أن حان وقت الأصيل، فبدت الشمس مصفرة كلون العليل، ونزل ذلك الوبل إلى مرتبة الطل، وشمر قليلاً ذيله المُهْطل، لكنه ما أهمل همله ولا أبطل، ولا أنعزل عن عمله ولا تعطّل، ووصلنا إلى قرية القَرْطَل:

والشَّمْسُ قد مَدَّتْ أدِيمَ شُعَاعِهَا

في الأرض تجنحُ غَيْرَ أنْ لم تَذْهَبِ

خِلْتَ الرَّذاذَ بُرادَةً من فِضَّةٍ

قد غُرْبلتْ من فَوق نِطْعٍ مُذْهَبِ

والقَرْطَل قرية لطيفة، تلاصق ساحل البحر وسيفه يضرب ماؤه في حيطانها، ويدخل أحياناً إلى بَعض بيوتها وأوطانها، وسكانها نصارى قد أكتسبوا ذلّة وصغارا، وألبسوا من هواء ذلك البحر نحولاً وصَفَاراً، وبها سمك كثير، وخان متسع كبير، وهو مُسَّبل للمسافرين، وبالقرب منه عين ماءٍ معين، وبظاهرها مزارع وبساتين، وقد مررت بها على بستان ذي فنون أفنان، فحيّاني بوجه مشرق، وحباني برداءٍ مغدق، وأنعشني بشذا رند معبق، وأدهشني بأصوات أطيار تنطق، حتى كأن بكل عود عوداً يخفق:

ص: 258

وما كنت أدري قبل ذلك والهوى

فنون بأن الرَّوض يهوى ويعشق

فحرّك سواكن أحزان، وأثار كمائن أشجان، وأذكرني بالأهل والأوطان، فترادفت لي زفرات وحَنين، وتتابعت مني عبرات وأنين، وتمثلت بقول بعض المغرمين:

تالله لقد سمعتُ بالدوح أنين

ورقاَء تنادي بنحيب وحنين

الإلفُ مجاوري وهذا كلفي

ما حَال قرين قد نأى عنه قرين

ثم بتنا بذلك الخان، والنوم لا تألفه العينان، ولا يعرف طريقاً للأجفان، والغرام للقلب مقلق، والبكاء للكبد مغلق، ولواعج الجوانح مع وجود ذلك البرد تحرق، وقد اجتمع هناك من أدمع العين والغمام نهر مغدق بل بحر مغرق، وذلك الليل بأذيال الوجود متعلّق، ولعُهوده أن لا يفاجئه الصباح متوثّق، والصباح في نومِه مستغرق، أو مقيد في قعر سجن لا فاكَ له منه ولا مُطلِقْ، أو ميت ثوى فحواه لحدّ مطبق ضيّق، ولم نزل نستشم رائحة أجناده (ونستنشق، ونسأل عنه) كل مغرّب ومشرّق، إلى أن سطع نوره المَشْرق، وتهلل وجهه من المَشْرق، ونحن نكذب

ص: 259

ولا نصدق، فحين ظهر دليله وبان، وقام بوجوده البرهان، ترحلنا من ذلك الخان، وفارقنا ذلك المكان، وسرنا نقتفي البيداء، ونعتلي كل ثنية جرداء، والشمس محجوبة عن الأبصار، والمطر تجلبه إلى تلك الأمصَار من جنود السحاب أنصار، ومن بعوث الرياح إعصَار، والنفوس منحصرة من ذلك غاية الانحصار، فلما تعالى النهار، انبثق ريق بناء ذلك الغيم عن مائه وانهار، وأرسل إلى الأرض مطراً كالأنهار، فصيَّر كل قرارة حفيراً، وغادر كل ربوة غديراً، وخطّ كل طريق خطاً، وجعل كل جانب شطاً، وكثرت بالأوحال الأوجال، ولم يبق للنفوس في ميادين الصَّبر مَجال، ولم نزل نسير على تلك الأحوال، وأكفّنا مرفوعة بالدُّعاء والابتهال، إلى أن وصلنا بلدة أُسْكُودار وقت الزوال، فذهب ذلك الكرب وزال، ثم نزلنا في المُعديّة قاصدين المدينة العظمى قُسْطَنْطِينيّة، ولما (فرغنا من الأرض وصحوها ومسراها وممشاها) وضمت إلينا تلك السفينة ودخلناها قلنا لمن معنا (اركَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاها ومُرْسَاها إنَّ رَبِيّ لَغَفُورٌ رَحِيم (فرحمنا الله بريح موافق مستقيم تسخر لنا به ذلك البحر، فامتطينا بركوبها

مطاه، وتذلل لنا فصفعنا بأجنحتها قفاه، ولم تزل تسير بنا ونحن قعود، وقد خدمتنا في هذه الخطرة السعود، وأنجزت لنا ببلوغ المقصود الوعود، فوصلنا أصيل ذلك اليوم إلى الساحل، وانطوت بحمد الله شقة تلك المراحل.

ثم دخلنا المدينة، وحصلت إن شاء الله تعالى الطمأنينة، وكان استقرارنا بالمنزل الذي أفرده لنا السيد وتفضّل، وذلك النهار الذي هو يوم الخميس ثاني عشر الشهر قد تحوّل، والليل الذي هو مسفر عن يوم الجمعة قد عَوّل، والقلب يصبو لمنازله ولا كأوّل

ص: 260

منزل، ويحن لأحبابه ولا كالحبيب الأوّل، وأقمت بذلك المنزل وتلك الدار ستة عشر يوماً لا يقرّ لي من البعاد قرار، ولا أجد جلداً ولا أطيق اصطبارا، ولا أطعم النوم إلاّ غرارا، وقد وهيت من فراق على فراق بداهية دهيا، وبقيت لا ميتاً مع الأموات ولا حيّاً مع الأحياء، وكلما تمثّلت لتلك المعاهد، وسألت عن تلك الموارد، لا أجدها إلاّ صماً عميا، فلم أزل أتطارح في تلك المنازل، وأتجرع غصص المنايا من خطب البين النازل:

وأنتسم نواسم تلك المعالم

فيفوح لي كالعنبر المتنفس

ونمشي حفاة في ذراها تأدباً

نرى أننا نمشي بوادٍ مقدّسِ

وقد تزايد الشوق وربا، وزاد القلب هُمُوماً وكربا، وأثار فيه حربا زبوناً وحَرَبا، وتطايرت من نيران القلوب زفراته شرراً ولهبا، واعتلت من محاني الضلوع على الربا، وبلغ سيل العيون من محاجرها الزُبا، وكلَّ حُسَام الصبر ونبا، وعثر جواد الاحتمال وكبا، وأنا مع كل ذلك أستخبر عن أخبار ذلك الحبيب ولا خبر ولا نبأ، وقد طال الليل وأظلم واحلولك ولا نوم، وشابهه في نعته ما بعده من اليوم:

فلم أرَ أُنساً قَبلَهُ عادَ وَحشَةً

وبَرداً على الأحشاء عادَ غَليلا

ومَنْ تَكُ أيّامُ السّرورِ قَصِيرَةً

بهِ كانَ ليلُ الحُزنِ منه طَويلا

وأُنْشِدُ قول القائل مترجياً:

ولرُبَّ نازلةٍ يضيقُ لها الفتى

ذَرْعاً وعندَ الله منها المخْرَجُ

ص: 261

ضاقَتْ فَلَمَّا اسْتحكمتْ حَلقَاتُها

فُرِجَتْ وكان يظنها لا تُفْرَجُ

فما راعني إلاّ دخول البشير عليَّ بقدومه، ثم اجتلاء طلعته الشريفة مع تسليمه، فتلاقينا بالتحية وتلافينا، وبكينا حتى انكبينا، ووالينا الحمد لله تعالى وأثنينا، وكم من نعمة لله تعالى علينا، فدنا الأنس، وانشرحت النفس، ونُسخ باليوم ما وقع بالأمس، وأخذنا نتفاوض مفاوضة الأصدقاء، ونتحدث عن أخبار ذلك السفر وآثار أولئك الرفقاء، ولا تسل عن حسن هذا الاجتماع وأنس هذا اللقاء:

حديث تخال الروح عند سماعه

لما هُزّ من أعطافِهِ تترنح

فكان بذلك لنوم عيني سبيل، وعهدي بالنوم عهد طويل، وهو في الحقيقة لم يفارقني بل هو في كل حالة مرافق، وليس تألم القلب لمفارقته له وإنما هو لتألم الأجساد، فإنه وإن نزح عن العين ما برح في الفؤاد، فهو في الحقيقة لم يخرج عن شعار أجداده وهو السواد:

حضرت فكنت في بصري مقيماً

وغبت فكنت في أقصى فؤادي

وما شطت بنا دارٌ ولكن

نقلت من السواد إلى السوادِ

ص: 262

وما زلنا بذلك نجتلي أنوار المحاضرة، ونجتني نوَّار المذاكرة، ونلتقط نثير لآلىء الفوائد، وننظم عقود المقاطيع والقصائد، ونرد من العلوم أجلّ المصادر وأعذب الموارد، ونوالي أهل الولا، ونختص بذوي السؤود والعلا، ويتردد إلينا للانتفاع جماعة من الفضلاء، ولنشير إلى ذكر جماعة أيضاً ممن اجتمعنا به أو اجتمع علينا في مدينة قُسْطَنْطِينيّة أم الممالك الرُّوميّة وتخت سَلطنة الممالك الإسلاميّة، وكذلك في الرحلة الأزنكميدية.

فأولهم وأولاهم، وأعلمهم وأعلاهم، الشيخ الأوحد، والإمام الأمجد المعروف بحاجي جلبي (عبد الرحيم بن علي) ابن المؤيد. وقد قدّمنا بعض ترجمته وذكر

محبته وأخوته ومودته، وقد حصل لي منه قبول تام، وكنت عنده بمقام سام، يسمّني بالعالم المُدَقِّق، والعارف المُحَقِّق، وقد استفدتُ منه واستفادَ مني، وأخذتُ عنه وأخذَ عني، واستجزته لولدي أحمد ولمن سَيُحَدِّث لي من الأولاد، ويوجد على مذهب من يرى ذلك، ويسلك هذه المسالك. فممَّا أخذ عني مؤلفي المسمى ب الزّبدة في شرح البردة، وتفسير آية الكرسي، وبحث وتحقيق أوضحته في معنى الكلام النفسي، وقصيدتي القافيَّة القافيَة، التي هي ببعض مناقب شيخ الإسلام وافية، وقصيدتي الخائية المعجمة، وحل بعض طلاسم الكنوز المعظمة، وأنّ كتابه خَلَاّقٌ عَلِيم، وحملها ينفع لدفع الطاعون، وأنّه مجرّب كما رواه لنا الأئمة الواعون، وأنشدته لنفسي:

من رامَ أن يبلغ أقصَى المنى

في الحشر مع تقصيره في القربْ

فليخلص الحب لمولى الوَرَى

وَالمصطفى فالمرء مَع من أحبْ

ص: 263

ولشيخ الإسلام رضي الله عنه:

إن تكن عن حال الذين احتباهم

ربهم عاجزاً وتطلب قربا

حب مولاك والذين اصطفاهم

تبق معهم فالمرءُ مع من أحبَّا

ومما أفادني إياه نقلاً عن بعض العارفين أنّ الإنسان إذا قال رَبَّنَا خمس مرات ودعا أُستجيب له، واحتج بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام (رَبَّنَا إني أَسكَنتُ مِنْ ذُريَّتي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرعٍ عِندَ بَيتكَ المُحَرَّم) إلى قوله:(رَبَّنَا وَتَقَبَّل دُعَائي رَبَّنَا اغفِر لي ولوالديَّ وللمؤمِنِينَ يَومَ يقُومُ الحِسَابُ) فاستحضرت في الحال دليلاً آخر ببركته، وهو قوله تعالى:(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) إلى قوله: (رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدتَّنا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَومَ القيامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ)، وهي تمام الخمس، ثم عقبها بقوله:(فاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم) فَسُرَّ بذلك كثيراً وشكر ودعا.

ومنهم ولده العَلَاّمة المُحَقِّق والفَهَّامة المُدَقِّق الرافع قواعد هذا البيت والمؤسس، ملا عليّ جلبي المدرّس، فرع الأصل العزيز، وطبع الأدب المحجل أسلاك الدرر وسبائك الإبريز، المُعْترف له في ميدان البلاغة فرسان البراعة بالسبق والتبريز، أحد المشيخة الذين تفرط بحلى أنبائهم كل أذن مصيخة، فترسخوا للعلا وتوشحوا بغر الحلا، وكرعوا في بحر علم لا يكدره الدلا، لم يزل متحلياً من الشيم الفاضليّة بأنفسها دراً،

ص: 264

متجلياً في سعودها الشارقة بدراً مُتخليّاً عن كل ما يعقب الإقبال على السعادات إدباراً، متسنّماً من ذروة مراتب الصفات وصفات المراتب أحصاها منالاً وأسماها مناراً، متبسماً من أخلاق المجد ومجد الأخلاق أزهرها نضارة وأنضرها إزهاراً متنسماً من رياح الأريحية نفحة طيبة ونسيماً معطاراً، (أحضره والده لديّ، فسلّم عليّ وتودّد إليّ، وصار بيننا وبينه أكد صُحبة وأشدّ محبّة).

ومنهم أخوه الشّاب النجيب، والفاضل الأريب، الواصِلُ إلى رُتبة النهاية في المبادىء، والفائق بفضله الحاضر من أقرانه والبادي، سيدي أبو الهدى عبد الهادي، شاب نشأ في عبادة الله، وراعى في صغره من الهَدْي والهُدَى أباه، اختطفته يد المنيّة في صباه، ودعاه ربه إلى جواره فلبّاه، فمات بالطّاعُون شهيداً في صفر الخير سنة سبع وثلاثين وتسعمائة، ونحن إذ ذاك ببلدة أزنكميد، رحمه الله تعالى، وكان قد جمعه أبوه عليَّ، وأمره بالتردد إليَّ، وحضر مجلسي عند أبيه، وسمع ما صدر منّي من البحث فيه.

ومنهم أخوه أيضاً الطفل الزكيّ والشَّاب الذكي، الموسوم بسمة الولاية، والملحُوظ بعين العناية، ذو الأنُس الظاهر، والخُلق الطاهر، محيي الدِّين عبد القادر، أحضره والدُه إليّ، وأمره بالمثول للاستفادة بين يديّ، أنشأه الله تعالى نشوءاً صالحاً، وجعله من متاجر الخيرات رابحاً بمنّه وكرمه.

ومنهم الشيخ الإمام العَِلَاّمة القدوة العمدة الفَهَّامة، فرع الحسب الصميم، ونبع

الأصل الكريم، وطبع الفضل العميم، وطوْع الخلق العظيم، قدوة الأئمة، وواحد أسانيد الأمة، قاضي القُضاة، وإمام الفقهاء والنُحاة، وربّ العقل الوافر والحصاة، روض العلم الوارف الظلال والفيء، والوافر الريع والري، قاضي أماسْيَة وما معها

ص: 265

القاضي عبد الحيّ ابن أخي حاجي جلبي المشار إليه، أفاض الله نعمه عليه، اجتمع بي وبوالدي بالشَّام عند قدومه إليها قاصداً بيت الله الحرام، فصار بيننا وبينه صُحبة ومودّة ومحبّة.

ومنهم الفاضل اللبيب، والعالم الأَريب، الباسق في شجرة كريمة الأعراق، ساطعة الإشراق، طيبة الأثمار والإيراق، محرزاً في ميدان طهارة الأردان قصب السباق، متميزاً في عنفوان الشباب بحُسن الخلق وإحسَان الأخلاق، ابن قاضي العسكر الإمام عبد الرَّحمن أخي حاجي جلبي أيضاً المسمّى هو بعبد الرَّزاق، انقصف غُضر أجله في ريعانه، وكبا جواد أمله في ميدانه، فلبّى داعي ربه إذ دعاه، وأجاب ندائه مسارعاً للقياه؛ فمات شهيداً بالطّاعُون في شهر صفر المذكور قبل ابن عمّه المُشار إليه بأيام رحمه الله، وكان قد اجتمع بي مُسَلّماً، وأخذ عني متفهّماً.

ومنهم المقرّ العالي الكريم، والجناب السامي الجسيم، المولوي الإمامي العالمي العلاّمي زين ممالك الإسلام، وحسنة الليالي والأيّام، ورجل الكمال والكلام، وحامل فخر الأقلام، ولواء الشرع المنيف والأحكام، ونجل الشراة الأعلام، غرّة الزمن البهيم، وبورد الآمال الهييم، الفائق بدرر علمه وكلمه على الدارين، قاضي قضاة العساكر المنصورة الرُّوم إيليه محيي الدِّين بن الفنّاري.

ومنهم المقرّ الكريم العالي، الجامع أشتات المعالي، حسنة الأيام والليالي، عَلَاّمة الزمان، ووحيد الأقران، والمشار إليه بالبنان والبيان، زين الأكابر والأماثل، ورأس الأعيان الأفاضل، ومقصد المتلمس والسائل، ومحطّ رِجْل أمل الآمل،

ومغيث الفقراء واليتامى والأرامل، ذو السيرة الحسنة المشكورة، قادري جلبي قاضي قضاة

ص: 266

العساكر الأناظولية المنصورة، أدام الله بهجة الدنيا ببهجة سُلطانه، ووالى تمهيد ربوعه وتشييد أركانه، وضاعف السعد في أمره وشأنه، قد اعتنى بأمري غاية العناية، وحصل منه كل تعظيم ورعاية، وقررني في تدريس حسن جليل نفيس، ابتداءً منه من غير سؤال، ولا طلب ولا التماس بحال، هذا مع نزر اجتماعي عليه وعدم ملازمتي له وقلّة ترددي إليه، وإنّما كان كلام الباشا معه بسببي وتحريضه عليه بما يتعلق بي بسبب كتابة براءات بتجديد ما بيدي من الجهات وشؤون أخرى لا تبرز، وقد انقضى كل منها بحمد الله وتنجز.

ومنهم قاضي قضاة المسلمين وأولى وُلاة الموحدين، وينبوع العلم واليقين، العادل العدل في أحكامِه، والجزل في إقدامه، والمراقب لله في فعله وكلامه، عين إنسان الزمان، وإنسان عين البيان، قاضي القُسْطَنْطِينيّة سَعْدي بن عيسى بن أمير خان، ما قُرن به فاضِل في الرُّوم إلاّ رجحه، ولا أُلقي إليه مُبهم من العلم إلاّ كشفه وأوضحه، له صادقات عزائم، لا تأخذه في الله لومة لائم، إلى عفّة ونزاهة وإيابة، وهمّة عليّة وصيانة، وطلاقة وجهٍ وبشرة، وناء جميل يتضوّع نشره، مع خَلق وضيّ وخُلق رضي:

يقابلني له خلق وضي

لصدق بشره خلق رضي

مع إجلال وتعظيم، ومبالغة في التكريم، واعتراف بالفضل الجسيم، عامله الله بفضله ولطفه العميم.

ص: 267

ومنهم الشيخ العَلَاّمة والقدوة الفَهَّامة، والإمام الأوحد، والهُمام الأمجد، مولانا خجا جلبي بن مولانا محيي الدِّين محمد، أحد المدرسين الثمانية، ذو همّة عليّة، وفطنة ألمعيّة، ووقار ما مثله وقار، ومآثر كأنها عَلمٌ في رأسه نار، ومفاخر طوالعُها صبح ونهار، وسجايا عريقة المجد ماجد الأعراق، خليقة بالحمد حميدة الأخلاق،

قد سقته العلوم زلالها، ومدّت عليه ظلالها، وأحلّته الجلالة حِلالها، وسقته الأصَالة عذبها وسلسَالها، فعلا قدراً، ولاح في سماء السناء بدراً، وصار لأولئك الصدور صدراً، وقع بيني وبينه بحث في أنّ النعت في قوله تعالى (لا يُسمِنُ ولا يُغني مِن جُوع) متعلق بطعام أو بضريع فهو مال، وأنا قلت: متعلق بضريع، وذكرَ كل منّا حجته في ذلك، ثم أوردتُ عليه ظاهر الحصر منّا مع أنه طعامهم الزَّقُّوم، وهو غير الضريع، وشرابهم الحميم، فأجَابَ بأنّ ذلك يختلفُ بتعدد الأشخاص، واعترضت. . . في الصفوة فإنه جزم بها مكسورة الصَّاد لا غير، فقلتُ لهُ بل هي مثلثة الصَّاد، وبيننا وبينه محبّة وصُحبة، وهو يتأدَّب معي كثيراً، ويجلّني إجلالاً كبيراً، وهو صهر مولانا حاجي جلبي أخو زوجته الكبرى، وهي أم ولده الكبير.

ومنهم الإمام العَالم العَامِل، والهُمام الأمجد الكامل، القدوة الأمّة، وأحد أئمة الأمة، ذو المناقب الرضيّة المرضيّة، والأخلاق الزكية، الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد شمس الدِّين شمسي جلبي أحد مدرسيّ الثمانية، بيننا وبينه محبّة وصُحبة، ومصَافاة وَمُوافاة، وذكر لي أنّ سنّهُ دون الخمسين سنة، مع أنّه نقي الشيبة ذو شيبة حسنة، وأنشدته بحضرة مولانا حاجي جلبي لشيخ الإسلام تقي الدِّين بن دقيق العيد بسندي إليه قوله:

ص: 268

وددتُ بأن الشيبَ عاجل المنى

وقرَّب من عهد الشباب مزارَهُ

لأكسب من عصر الشباب نشاطَهُ

وأكسب من عصر المشيب وقارهُ

فَسُرَّ بذلك وابتهج واستبشر، وحمد الله تعالى وشكر.

ومنهم الشيخ الصالح العَالم الأوحد الكامِل الخير الجيّد المقرئ المجود، الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحَلَبيّ الأصل، ثم القُسْطَنْطِينيّ الخطيب والإمام بجامع المرحوم السُّلطان محمد، اجتمع بي مرّات وتودّد، وصار بيننا وبينه أعظم

مودة وأوكد، وأعارني من كتبه عدّة أيّام تآليف ما ألفته ببلاد الرُّوم كتفسير آية الكرسي وشرح البُرْدَة، والله يعاملنا وإياه والمسلمين بلطفه الخفي وبره الحفيّ وجوده الوفي بمنه وكرمه آمين.

ومنهم الشيخ النبيل الوقور، المنسوب للعلم، والموسوم بالحلم، والمعدود من ذوي العقل والحصاة، والمشار إليه في أعيان القضاة، قاضي المنزلة ثم الخانكة، فتح الله صحِبَنَا من حَلَب إلى الرُّوم، وتكلمنا مَعَهُ في بعض العُلوم، وصار بيننا وبينه مواددة ومجاملة، ومصادقة ومخاللة، وممَّا سألني عنه لبس الوشق فأجبته بأنه كالسمور والقول بالحلّ هو المعتمد والذي عليه الجمهور، وبحثت معه في وجه ذلك بما لا يسع هذا الكتاب ذكره، وسأوضح الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في الرسالة التي أفردتها للكلام في ذلك وشرعت في تأليفها، والله تعالى يقدر إتمامها والنفع بها.

ص: 269

ومنهم الشيخ الأوحد، والأصيل الأمجد، ذو البيت الذي طارت مناقب نزاهته كل مطار، وانتظمت أسلاك أصالته في أجيادِ الأسطار، وسَرَتْ نسمات فضيلته سرى نسمات باسمات الأزهار، وهمت سحاب سماحته كالغيث المدرار، فسما في سماء المجد علماً راسخ القواعد، مشار إليه من كل غائب وشاهد، حيناً للصلة وآونة للعابد، تصطفيه الرُّتب العلية السَّنية، وتتنافس فيه الخطط الشرعيّة السُّنِّية، فطوراً مقدماً في أندية الأمراء والأعيان، وتارة صدراً في قُضاة العدل والإحسان، القضائي الكمال التَّادفيّ قاضي حَلَب ثم مَكَّة. كان صحبني من حَلَب إلى البلاد الرُّوميّة، فأسفر عن أعذب أخلاق، وأكرم أعراق، وأحسن طوية، وأنشدني من نظمه قصيدة تائيّة، ومقامه أكبر من الشعر، وأعلى في القيمة وأغلى في السعر.

ومنهم الشيخ النبيل، والفاضل الأصيل، فخر النبلاء، وأوحد الفضلاء، القليل الأنظار والأشباه، قاضي أزنكميد محيي الدِّين محمد ابن قاضيها لطف الله، حضر

لدينا ببلده للسلام، ثم أرسل هدية من الدجاج والفاكهة والأغنام. وبعث إلينا ألغازاً فقهيّة وغيرها رآها في كتاب عنده ولم يدر ما هي فحللناها له وأجبناه عنها.

ومنهم الشاب النيّر، الديّن الخيّر، الصَّالح الذكي، الفاضل الزكي، اللطيف الذات والطِبَاع، المباين بحسن الأخلاق أهل تلك البقاع، عين الأزلام والأصحاب (الحاج مصلح الدِّين لطفي بن الحاج) محمد الأزنكميديّ الشهير بابن القَصَّاب من أعْيَان بلدة أزنكميد وكبارها وموسريها ورؤسائها وتجارها، أقمنا عنده

ص: 270

ببيته ببلدة أزنكميد في عيش رغيد، وإكرام ما عليه من مزيد، كما تقدّم ذكر ذلك مع ما اتفق لنا هنالك، وقد أخذ عني وسمع مني وقرأ عليَّ حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الملكين وإسرائهما به، ورؤيته لإبراهيم الخليل عليه السلام، ومالك خازن النار عليه السلام وأصحاب التنور والسابح في البحر وما مع ذلك الحديث المشهور بطوله وبعض كتابي الزبدة في شرح البردة وبعض شرحي المنظوم على الألفية وغير ذلك، واستجازني بما يجوز لي وعني روايته له ولأولاده الثلاثة عبد الكريم المراهق وعبد اللطيف السداسي وعبد المطلب الثلاثي، ثم اجتمع بي في القسطنطينية عند رحلته إليها للملازمة، والله تعالى يرزقنا وإياه حسن الخاتمة بمنه وكرمه آمين.

ومنهم الشيخ الجليل الكبير النبيل المتخشع الخاضع المتواضع الشهير بالدين والخير السائر بين أمثاله أحسن سير، شيخ محمد المتولي بعمارة السلطان سليم خان تغمده الله بالرحمة والرضوان، وهو قرابة شيخ كمال ناظر النظَّار بالشام كان سلم مرات متواضعاً وملتمساً للبركة والدعاء، وأضافني إلى منزله واحتفل فيما هيئه من مأكله وأحضر ابنه وولديّ كمال وهما محمد وجمال للسلام عليَّ والمثول بين يدي، والله تعالى يُصلح الأحوال ويوفقنا لما يحب في الحال والمال بمنه وكرمه آمين.

ومنهم الشيخ العالم، المواظب على الخير والملازم، العَالِم الأريب، البليغ الأديب، الفصيح الخطيب، المتولي خطابة العمارة المذكورة، وخوجا باش الينكجرية المنصورة، رجل لطيف الذات، كامل الأذوات، مشتهر بعلمه وفضله، ذو رَغبة في الخير وأهله، وبيني وبينه أكدّ صحبة وأشد محبّة، والله تعالى يعاملنا وإياه والمسلمين بخفي لطفه ووفي كرمه آمين.

ومنهم الشيخ الأمجد، والفاضل الأوحد، والحافظ للقرآن المجيد، والمقرئ بالإتقان

ص: 271

والتجويد، يوسف سِنَان جلبي بن عبد الله، سار محْفِل بعمارة السُّلطان سليم شاه المشار إليها أعلاه. رجل مشتهر بالديانة والعفّة والأمانة والقراءة الحسنة والطريقة المستحسنة، محب لنا مصافي، مكافيء بالخير وموافي. في غاية اللطف والحسن والمروءة وعلو الهمّة، والله تعالى يغمرنا وإياه والمسلمين بالمغفرة والرحمة آمين.

ومنهم الشيخ العَلَاّمة، والقدوة الفَهَّامة المشهور بالفضل، والمشتهر بالعلم والعقل، البالغ في فضائله الثُريَّا، والراقي في فضائله مقاماً عليَّا، الشيخ شمس الدِّين محمد المصريّ الشهير بمهيَّا، حضر لديّ وسلم عليَّ وتودد في سلامه، وتلطف في مخاطبته وكلامه، والله تعالى يبلغنا وإياه والمسلمين الأمل، ويوفقنا للإخلاص في القول والعمل آمين.

ومنهم القاضي المشهور بالعدل، المنسوب للعلم والفضل، ذو الهمّة العليّة الرفيعة، والفكرة المطيعة والطبيعة، المشتهر بحسن الطوية، عبد الصمد قاضي الزاوية كان ثم شيخ الأشرفيّة، وقع بيننا وبينه مجالسات ومباحثات ومؤانسات وتذكرت هنا قول بعضهم:

ورقيع أراد أن يَعْرف النحو

بزي العناد لا المستفتي

قال لي: لست تعرف النحو مثلي

قلت: سلني عنه أجب في الوقتِ

قال: ما المبتدا وما الخبر المجرور

أخبر، فقلت: تنقم يف وَعْذتِ

ص: 272

ومنهم الشيخ النبيل العريق الأصيل، محيي الدِّين (يحيى بن بركات بن المرجانيّ، المكّي الأصل، النيّر الوجه، الأسود الشاش المشهور بابن قايماز قراباش، رجل الكمال والكلام، وصاحب الحال والمقام، ذو الأذكار المأثورة والأوراد، الشائع بين الأرْوام في أعلى مقامات الاعتقاد، بيننا وبينه صحبة وخُلَّة ومحبّة، وتودد وتردد، والله تعالى يصلح أحوالنا، ويبلغنا والمسلمين آمالنا بمنه وكرمه).

ومنهم المقام العالي، ذو المفاخر والمآثر والمعالي، الأميري الكبيري العلائي علي ابن المرحوم السعيد الشهيد مولانا السُّلطان المؤيد أحمد بن مولانا المرحوم السعيد الشهيد السُّلطان الملك الأشرف إينال، سقى الله عهدهما شآبيب الرحمة والأفضال، وحرس سعده وثبت مجده، أحلته هنالك الأقدار، واطمأنت به في تلك المدينة الدار، منعزلاً عن مداخلة الناس إلاّ بالتودد والتلطف والإيناس، حضر مُسلّماً عليَّ ومتودّداً إليَّ. وبيننا وبينه مواددات لطيفة، ومنافثات ظريفة، والله تعالى يحرس من كل سوء ذاته الشريفة بمنه وكرمه آمين.

وليكن هو آخر سردهم، وخاتمة عدهم، وواسطة عقدهم، وأمّا من دون هؤلاء فجماعة لا يحصى لهم عددا، ولا يبلغ الضابط لهم أمدا، وهذا القدر كاف، وبحصول المقصود واف، ولنرجع إلى سياق الرحلة المباركة إن شاء الله تعالى فنقول:

فلمّا استقر بنا الركاب في مدينة قُسْطَنْطِينيّة في دار مولانا المشار إليه، بعد العود من الرحلة الأزنكميدية، على ما شرح من الأحوال المرضية، نرتع في رياض مجاورة ومحاورة، ونكرع في حياض مؤانسة ومذاكرة، وَفَدَ الشتاء بقوته حاشراً عساكره وجنوده، وناشراً راياته الدكن على الوجود وبنوده، فأرسلت الرياح نشراً بين يدي الرحمة، وتتابعت الأنواء والأنداء كقطع ليل مدلهمة، وتفتحت أبواب السماء بماء منهمر، وتفجرت الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، ووقع

الثلج، وغمر النهج، وامتلأ به الفج والمرج، وستر سواد الأرض ببيض المطارف وحاد على الربا والوهاد بتالدٍ من ذلك وطارف، كما قال السري الرفاء:

ص: 273

أما ترى الثّلْجَ قد خاطت أنامِلُهُ

ثوباً يُزَرُّ على الدنيا بأزرارِ

نارٌ ولكنها ليست بمُبْديةٍ

نُوراً وماء ولكن ليسَ بالجاري

فيصبح الناس وصباحهم أبيض، وجناحهم لا ينهض، والعروق لا تنبض، والبروق لا تومِض، والنيران مقرورة، وشياه الجليد مطرورة، والوجوه في عبوس، والوجود في بؤس، قد جمدت الأبدان حتى كأنها بلا نفوس، فأقمنا نكابد من ذلك الحال في تلك الأيّام عيشاً مريراً، واستمرينا أيّاماً عديدة نشابه أهل الجنّة بلا تشبيه في أنّا لا نرى فيها شمساً ولكن زمهريراً، ونشرب المياه من كأس كان مزاجها بالثلج كافورا، ونتخذ النار من البرد جُنَّة، ونرضى بها ونحن المؤمنين بأن تكون لنا جَنَّة، ولم يزل البرد مشتد الشكيمة، ماضي العزيمة، قد تهدد وتوعد، وأبرق وأرعد، والأنواء متواردة، والأنداء متوافدة، وإن لم تكن متتابعة، ولا كبقية السنين متزايدة، فإنّ هذا العام على ما شرح ولله الحمد أقلّ برداً من بقية الأعوام، كما أجمع عليه من سكن الرُّوم من العرب والعجم والأرْوام، واستمر جيش الغمام محاصراً ليالي وأيّام، يجرد بوارقه، ويخوف بصوت رعده صواعقه، ويفوق عن قوسه الممدود في الأفق نبل وبله، ويبعث تحت مدد قطره سرايا سيوله، فيستولي على الربى بخيله ورجله، والثلوج قد شابت منها قلوب الرجال، كما شابت بها مفارق الجبال، إلى أن هزمه الربيع بجنده، وغلبه بجيوش زهره وشوكة ورده،

ص: 274

وأراح النفس من روعة برده برائحة رائع عراره ورنده، وأصبحت السماء صاحية، والشّمس وإن تسترت أحياناً مسفرة ضاحية، وأركان الرفاهية غير واهية، ومعالم العافية غير عافية:

ووجوه هاتيك الرياض سوافر

غيد تزان من المياه بأعين

والأرض تجلى في رداء أخضر

والجو يبرز في قناع أدكن

والرُبى قد تعممت بمُلوَّنات الأزهار، وأراقم المذانب قد انسابت في مغائر الأنهار، والزمن قد استقبل آذاره، وخلع في بسيطة عذاره، وقد أشرق الجو بإشراق الخمائل والنبات، وتلك المدينة قد أحدقت بها الأنهار من سائر الجهات، ونحن نمرح في جهاتها، وتسرح العين في منتزهاتها، ونسير في مفترجات تلك الأقطار، إلى أن قضينا أكمل الأوطار، وتمتعنا من تلك المنازل الرفيعة بالحدائق الغضيّة والنسيم المعطار، بحيث تضاحك الوَرد والبهار، وتفاوح الرند والعرار، والطير قد تكلّم، والعود قد ترنم. وقد خيم السرور، وتضاعفت بتضاعيف البحر الحبور، ومضى لنا مع مولانا السيد فيه يوم حسن، وحسن يوم تممت حسنه البدور ووفيت بوفائه النذور:

يوم لنا بالبحر مختصر

ولكل يوم مسرة فضرُ

ص: 275

والسفن تعدو في العباب بنا

والماء مرتفع ومُنْحدرُ

فكأنما أمواجهُ عكن

وكأنما داراته سررُ

ومضى لنا يوم آخر في البرّ قد غاب عذاله، وكملت أوصافه وخلاله، وتم حسنه وجماله:

في رياضٍ من الشقائق أضْحَتْ

يتهَادى بها نسيمُ الرِّياحِ

زُرْتها والغمَامُ يجلدُ منها

زهَراتٍ تفوقُ لونَ الرّاحِ

قلْتُ: ما ذَنبها؟ فقال مجيباً:

سرَقَتْ حُمْرَة الخدودِ الملاحِ

فنزلنا بها تحت سرحات مؤنقة، ودوحات مورقة، متضوعة بعرف الزهر معبقة، في أرض سندسيّة اللباس، ذات مطارف متنوعة الأجناس، بين خامات زرع تموج يدافعها موج البحر، وتلوح طلائعها من كتائب الزهر، فماء الندى مسكوب، ورواق الظل مضروب، والريح يصفق والغصن يتثنى والقُبَّر يصرصر والبلبل

يتغنى والحمام ينوح ويندب، ويشكو من جوى دهره ويعتب، فتذكرتُ به نوح الغريب بفقد بلاده، وتأوهه لنأيه عن أهله وأولاده، واندفع لسان الحال قائلاً في إنشاده، حاكياً ما

ص: 276

توجع منه القلب وتألم ومضمنا لتضمين بيت أبي كَبِير الهُذَلي لعوف ابن مُحلَّم:

أفي كلِّ عامٍ غُربةٌ ونزُوحُ

أما للنوى من وَنيةٍ فيريحُ

لقد طلَّحَ البينُ المشتُّ ركائبي

فهل أرَينَّ البينَ وهو طليحُ

وأرَّقَني بالروح نوحُ حمامة

فُنحتُ وذو البثِّ الغريبُ ينوحُ

على أنها ناحَتْ ولم تُذْر دمعةً

ونحتُ وأسرابُ الدموع سُفُوحُ

وناحتْ وفَرْخَاها بحيثُ تراهما

ومن دون أفْرَاخي مَهَامهُ فيحُ

ألا يا حَمامَ الأيْك الفُكَ حاضِرٌ

وغُصْنُكَ مَيّادٌ ففيمَ تَنوحُ

لعلّ إلهي أن يمنّ بفضلهِ

فتُلقى عصا التَّطواف وهي طَريحُ

ويسكن قلبٌ دائم خفقانه

وينعم جفن بالبكاء قريحُ

ص: 277

فاستجاب الله سبحانه وتعالى، وضاعف برّه وفضله ووالى، وهيَّأ أسباب العود إن شاء الله تعالى إلى الوطن، والرجوع إلى الأهل والسكن، وذلك أنّا لما خرجنا من الأوكار، وسرحنا في روضات الجنات بعد ملازمتنا موقد النار، وانتشرنا في تلك الأرض، وجمعنا في اجتماعنا بالأصحاب بين النافلة والفرض، اهتم الوزير بأمرنا غاية الاهتمام، وأظهر عزم الرجال وكذلك قاضي العسكر وغيره، الى أن نجح الأمر إن شاء الله تعالى بالتمام، وحَصَلَ المقصود إن شاء الله تعالى على الكمال، ولله الحمد على توافر نعمائه وتكاثر امتنانه كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سُلطانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، يكافئ مزيد كَرَمِه ويوافيه.

ومما حدث في هذه الأيّام أن ورد عليَّ كتب من بلاد الشَّام من الأهل والأقارب والمعارف، يتضمن أنّ ابن إسرافيل قاضي دِمَشْق كتب عروضاً بغالب الوظائف،

وذلك من غير معرفة سابقة، توجب عَداوَة أو مُصَادقة، وإنما ذلك بإيحاء بعض المعاندين، من الأعداء والحاسدين، والعجب أن لا نكير من الأصحاب مع الكثرة، ولا إعانة منهم على المعادين ولا نصرة، مع سلامة أهل الشَّام من أذانا، وانتفاعهم بتعليمنا وفتوانا، ولعل ثَمَّ عذر من الإخوان اختفى علينا الآن، هذا كلّه مع اقامتي في كل جهة من النواب جماعة، والقيام بشعائرها ومصالحها حسب الاستطاعة، وغيبتى في باب السُّلطان، والاعتناء بأموري في بلاد الرُّوم من أركان الدولة والأعْيَان، فذكرت ذلك لهم فأنكروه وأعظموه جداً وأكبروه، ثم كُتِبَ لي بحمد الله بجميع جهاتي تجديد، وحكم سُلطاني جديد، وأُضيف الى ذلك ما كان أُخْرِجَ منها عنّا، ونُزِعَ بالعدوان والتدليس منّا، وازددنا من فضل الله تعالى جهات أخرى، فحصل بذلك للمحبين البشرى، وازداد الشانيؤن خسراً وقهراً، وكان ذلك بحمد الله تعالى من اللطف الخفي والمن الوفي، وبالله تعالى استعين واكتفي،

ص: 278

ومما جرى على الجنان فنطق به اللسان قولي:

حاولتُ من دَهري الأمانَ فراغا

فأريتهُ عَمَّا طلبتُ فراغا

ويئْست من أهليه أجمعهم فما

أرجو مراءً منهم حنى أو راغا

والصبر عنهم قد سلكتُ سبيلهُ

وعلى الحَشا أفرغتهُ إفراغا

كم قد شَرِقت بغُصَّةٍ منهم وما

لاقيتُ ممَّا قد غصصتُ مساغا

غصبوا الثعالب طبعهم فتراهمْ

لا يسأمونَ عن المُرَادِ رَواغَا

وكأنهم صُبغوا بحالكِ لؤمهمْ

طبعاً يزيد مدى الزمان صباغا

ولجأت للرحمن فيما أبتغى

فبلغت مما أرتجيه بلاغا

وأنالني باللطفِ حَظاً وافرا

وعليَّ أسبغ ظله إسبَاغَا

وأراحنى بعد العَناء بمنّه

فضلاً وأبلغني المنى إبلاغا

فلهُ تعالى الحمدُ مني ما اهتدى

قلبٌ الى سُبُل الهُدَى أو زَاغا

هدانا الله إلى سبُل الهدى ووقانا، وحمانا من الضلال والردى وكفانا (بمنه وكرمه كيد الحساد ومكر العدا آمين)

ص: 279