الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النويرة، والبدر بن النَّصِيبيّ، وغيرهم، أن المشهور بحَلَب بابن بِلَال رجل جاهل لا يعرف شيئاً، وإنما روج أمره أمراؤه مماليك الحمزاويّ وأولاده، وإسكانه له في بيته خشية أن ينزل فيه رومي، وأنه سعى له في بعض وظائف ابن المستوفي فحصل له بذلك غنية وشهرة بعد فقر وخمول، وذكروا عنه تُرَّهات تدل على جهل كبير
لم أرَ ذكرها هنا، ورأيت من خالفهم في ذلك كله، وقال إنّه من حَمَلة العلم وأهله، والله أعلم بحقيقة أمره وبموافقة علانيته لسره، والذي يظهر هو الثّاني لكنّه رجل لا مداراة عنده لأنّه تركماني.
ذكر إرجاع ابن الفُرْفُور وما حدث بعد ذلك من الأمور
ولمّا كان يوم الاثنين ثالث شوال المبارك حضر أولقان من جهة بكاربكي بالشَّام أمير الأمراء الكرام عيسى باشا، البالغ من مراتب الكمالات ما شاء، وصحبتهما مكاتبات من الأمير المذكور تخبر بحضور مرسوم بعود القاضي ابن الفُرْفُور محتفظاً به للتفتيش عليه وتحرير ما نسب من المظالم إليه، وأن المتولي لذلك القاضي ابن إسرافيل المنصوب لقضاء الشّام مكانه وعدوه عيسى باشا المشار إليه
لتكمل في حقّه الإهانة، فنعوّذ بالله من زوال النعم ومفاجأة النقم، فطلع من الشّام أعز طلوع ورجع إليها والعياذ بالله أذلّ رجوع، فلمّا وصله ذلك الخبر حار وجبن وخار ولاذ واستجار، وذلّ بعد تجبّر وما أذلّ من هو جبّار، وانكسر بعد فخره وتكبّره وما أسرع كسر الفخّار، وقد دخلت عليه بعد بلوغي هذا الخبر، فوجدته في غاية الذلّة والاتضاع والاختضاع، ووجهه ممتقع غاية الامتقاع، ومنتقع نهاية الانتقاع، وهو وجماعته كما قال الله تعالى (إذ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كاظِمِينَ ما للظَّالِمِين مِنْ حَمِيم ولا شَفيعٍ يُطَاع)، فتوجع واشتكى وتأوه وبكى، ثم أظهر الجَلَد وأضمر البلوى، وقال الحمد لله ما لأحدٍ علينا تَبِعة ولا شكوى، ولا ظلامة ولا دعوى، وسوف يعلم أهل الشّام مقدار أيّامنا وحُسْن أقضيتنا وأحكامنا.
فطيّبتُ قلبه، وسكّنت لبّه، وقلت له: لا تخشَ من الرجوع؛ فإنّ مقامك عند النّاس مرفوع، وهذا إن شاء الله آخر القطوع، ثم عانقني معانقة المثكل المفجوع، وسقينا نبات الخدود بمياه الدموع، ثم أنجد وأتهمت، وأيمن وأشأمت، فعاد هو من الغد إلى الشّام، وانتقض من حبله الإبرام، وتهتّك حجابه، وانفضت عنه أحزابه، وشائنة
أحبابه وأصحابه، وتقطعت أسبابه، وأُبيعت أمتعته وأسبابه، وبيوته، وعماراته، وبساتينه، وجنيناته، وأراضيه وقراه، وأعيد لأربابه كل ما كان اغتصبه أو اشتراه، وتعدّى ذلك إلى سائر جهاته وجهات زوجاته وبناته، وخرج عليه من كان داخلاً فيه وراكناً إليه، وشدّد عليه في الحساب من كان يعدّه من الأحباب، فأتاه الخوف من جانب الأمن، ومن حيث أَمِلَ الربح جاءه الغُبْن:
رُبَّ من ترجو به دفعَ الأذى
…
عنك يأتيك الأذى من قِبَلهِ
ربما يرجُو الفتى نفعَ فتى
…
خوفُه أولى به من أملهِ
ولم يزل في محبسه بقلعة دِمَشْق، يُرْشق بسهام المصائب أي رشق، إلى أن مات به في السنة الثالثة في جمادى الآخر، فنسأل الله العفو والعافية الغامرة، في الدين والدنيا والآخرة، آمين.
واستخرنا الله تعالى سبحانه وقوى العزم على السفر صحبة جانم الحمزاويّ مع الخزانة، وقد كنت اجتمعت به مرتين بحَلَب والشَّام، وحصل منه غاية التعظيم والإكرام، ثم حصل بيني وبينه محبة زائدة، وصار له فيّ اعتقاد تام حتى كان لا يخاطبني إلاّ بمولانا شيخ الإسلام، وخرجت من حَلَب قبل الزوال من يوم الثلاثاء رابع شهر شوال، وكانت مدّة إقامتنا بها ستة أيّام نصفها مع الفطر ونصفها مع الصيام. وحَلَب مدينة عظيمة كبيرة قديمة، صحيحة الهواء، خفيفة الماء، واسعة الفناء، حسنة البناء، عظيمة المآثر والمعاهد، كثيرة الجوامع والمساجد، وكانت من الفتوحات العثمانيّة وإلى آخر دولة بني أميّة مُضافة إلى قِنَّسْرين، ولذلك قلّ ذكرها في كتب المؤرخين. ثم تدرجت في العمارة وقِنَّسْرين في الخراب والاندراس إلى أن
صارت قِنَّسْرين مضافة إلى حَلَب في أيام بني العباس، وافتتحت في سنة ست عشرة من الهجرة، وقيل سبع عشرة وقيل خمس عشرة، وبينها وبين قِنَّسْرين اثنا عشر ميلاً تزيد أو تنقص قليلاً، وهي من الإقليم الرابع أعدل الأقاليم إقليماً، ولذلك
أهلها أنضر الناس وجوهاً، وأصحهم جسوماً، وقبلتها موافقة لقبلة دِمَشْق الشَّام، ولها من الكور والضياع العظام ما يجمع سائر الغلات النفيسة كالفستق وحبة الخضراء والزيتون والتين، وكانت من أكثر البلاد أشجاراً وأحسنها بساتين، فأفناها كثرة وقوع الخلاف بين الملوك والسَّلاطين. وقلعتها حصينة مانعة شامخة عالية واسعة، يعجز عن مثلها الرائد، وتمتنع على الطالب والقاصد، تكاد تناطح نجوم الجوزاء وتتجاوز كرة الهواء وتناجي أبراجها بروج السماء، ويحيط بها خندق عظيم مملوء على الدوام، وبها بباب المقام بها مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبها كتابات قديمة رومانية من ذلك ما على الرخامة البيضاء التي هي الآن بالمدرسة الحلاوية، وهي شفافة إذا جعل تحتها نور ظهر من أعلاها أو جعل في أعلاها بان من أدناها، وعليها كتابة سريانية عُرِّبَت، فإذا هي: عُمِلَ هذا للملك قلطيانوس والنسر الطائر في رابع عشر درجة من برج العقرب، فيكون مقدار ذلك إلى تعريبه ثلاثة الآف سنة، وهذا اللوح أحضره السُّلطان الملك العادل نور الدِّين الشهيد من فَامِيَة، وكان يحشي فيه القطايف للفقهاء، وطوله يزيد على ثلاثة أذرع، وعرضه على ذراعين، وقد بذل الفرنج فيه مالاً جزيلاً فلم يجابوا إليه. ومن محاسنها جبل
الجَوْشَن، وهو من أنزه الجبال نباتاً ذا حسن معتدل الأرواح طيب الأنفاس، وبه كما يقال معدن النحاس، ومحاسن حَلَب كثيرة وخيراتها غزيرة، ومما قاله فيها صاحبها الملك الناصر ذو المناقب الغر والمآثر:
سقى حَلَبَ الشهباَء في كل أزمةٍ
…
سحابة غيثٍ نوؤها ليس يقلع
فتلك دياري لا العقيقُ ولا الغضا
…
وتلك ربوعي لا زَرُودَ ولَعْلَع
وقال نفيس الدِّين الآمديّ:
سقى حَلَبَِاً ومن فيها سحابٌ
…
كدمعي حين يهمي بانسجام
فإنّ بها وإن شطّت مغاني
…
أحبّاء على قلبي كرامُ
وقال الشيخ زين الدِّين بن الورديّ:
عليك بصهوةِ الشّهباء تلقى
…
بجوشنها محاربةَ الزمانِ
فللغرفات في الفردوس طيبٌ
…
يضوعُ شذاه من باب الجنانِ
وللصَّنَوْبريّ:
فاخري يا حَلَبُ المُدْ
…
نَ يزِدْ جاهُكِ جَاهَا
فإذا ما كانت المدنُ
…
رِخاخاً كنتِ شاها
فلما أن عزمنا على الرحيل منها في اليوم المذكور، لم يتخلف أحد من الأصحاب عن الحضور، ثم أخذوا في أصناف الوداع وهم بين مثن وداع وباك ومتأسف على عدم ملازمة الاجتماع، وأنا أودعهم والجوانح ملتهبة، والدموع منسربة، والشوق بالقلوب لاعب، وغراب البين بفرقة الإخوان ناعب، ثم أخذت في أسباب الترحال وأنشدت بلسان الحال والقال:
ليت شعري أنلتقي بعد هذا
…
أم وداعاً يكون هذا اللقاء
فاذكروني وزودوني دعاء
…
خير زاد تزودوني الدُّعاء
ثم لما قدموا الجواد، قرأ في قفاي ابن الشيخ حسين (إنَّ الذِي فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ لرادُّكَ إلى مَعَاد)، ثم أنشد البيتين المجربين في عود من قيلا في قفاه إلى محل وطنه سالماً واجتماعه بقائلهما بعون الله كما نصّ عليه في الإحياء حجة الإسلام الغزالي أمدنا الله تعالى بمدده المترادف المتوالي، وهما:
يا من يريد الرحيل عنّا
…
أسعدك الله في ارتحالك
كان لك الله خَيْرَ واقٍ
…
أمْنَّك الله في المسالك
والله تعالى يقدر ذلك، أنّه سبحانه القادر المالك، ثم ذهبنا إلى حارتنا الأخرى وهي حارة الجلّوم إلى زاوية الشيخ محمد الكواكبي بلغنا الله تعالى ببركته ما نحب ونروم، وكان لنا عند حفيده الشيخ عمر جزيئات، فوجدناه قد تقاضاها على أتم
الحالات، وتلقانا هو وأعيان أهل المحلَّة مودعين، وباكين من ألم الفراق متوجعين، ثم خرجوا معنا مشاةً من باب أنْطَاكِيَة إلى قاطع النهر، ثم جاوزوا العمران وانتهوا إلى البرّ، فحلفنا عليهم في العود فعادوا بعد الدُّعاء وقراءة الفاتحة، فجزاهم الله تعالى خيراً على أفعالهم الجميلة ونياتهم الصَّالحة، فلما عطف المودعون بالعود لقطرهم والرجوع، وتبرأ التابع من المتبوع، وطفيت نيران الوداع بمياه الدموع، ترادفت على القلب أشجانه، وتزايدت كروبه وأحزانه، ثم وقفت هناك وقفة المسلم، وودعت البلاد الشَّاميّة وداع المتأمّل المتألم، وأنشدت:
خليليَّ هذا موقفٌ من مُتَيَّمِ
…
فَعُوجَا قليلاً وانظراهُ يسلمِ
ثم سرت وقلبي في تلك التلاع وتلك الأجارع، وقد فارقت الصبر عند مفارقة تلك المنازع، وودعت الجلد عند وداعي تلك المجامع والجوامع، وقد خامرني الفَرِق واستولى على جفني الأرق، وأولعت بما يولع به المشفق، وأنفقت دمعي وكل
امرءٍ بما عنده ينفق، ورحم الله زهيراً المهلبيّ، فعن حالي عبر بقوله:
إلى كَمْ جفوني بالدموع قريحةٌ
…
وحتامَ قلب بالتفرقِ خافقُ
ففي كلِ يومٍ لي حنين مجددٌ
…
وفي كل أرضٍ لي حبيبٌ مفارقُ
ومن خُلقي أني ألوف وأنه
…
يطول التفاتي للذين أفارقُ
وأقسِمُ ما فارقت في الأرض موضِعاً
…
ويذكرُ إلاّ والدموعُ سوابقُ
ولم أزل أسير ممتعاً من شميم عَرَار نجد، ومحملاً أنفاس الصبا حقائب الوجد، وقد أخذ مني البين أخذته، وفلذ من فؤادي فلذته، واستولت على قلبي كروب جمّة وخطوب مُدْلَهِمّة، منها فراق الوالدة والأولاد والأهل، وسلوكي من ذلك طريقاً ليس بالهين ولا بالسهل، ثم انفرادي صحبة من لا أثق به على نفسي بعد اجتماعي بأهل مودتي وأنسي، وتبدلي من أمن الإقامة بخوف السفر، وبخشونة عيش أهل البدو من رفاهية عيش أهل الحضر، وتغربي في بلاد لم أعرفها، وائتلافي مع
وجوه لم آلفها، فصرت في حالة دونها مفارقة الحياة لولا ما أرتجيه من تدارك لطف الله، فما أشبه تلك الحال بما تخيله الأمير حُسَام الدِّين الحَاجِريّ الإرْبِليّ، حيث قال:
لمَّا نظرَ العذّالُ حالي بُهِتُوا
…
في الحالِ وقالوا لوم هذا عَنَتْ
لا تحسبُ إلاّ أننا نعذِله
…
من يسمع من يعقلُ من يلتفتْ
وأتمثل في الإنشاد بقول العماد:
بالله عرفت ما بحالي صنعوا
…
خلوه بنار شوقهم ينصدعُ
ما لم أر شملي بهم يجتمعُ
…
ما أحسبني بعيشتي أنتفعُ
وأتوجع مما ألقاه متخلقاً بقول زين الدِّين الكاتب ابن عبيد الله:
لم تجد همي ولا ولهي
…
أم مفقودٍ لها وَلَهُ
ما بقاء الروحُ في جسدي
…
غيرُ تعذيب لها وَلَهُ
ثم ألتمس بقول القائل متمثلاً:
وعَسَى إلهي أن يمنَّ بنظمنا
…
عِقْدَاً كما كنّا عليهِ وأفْضَلا
فلَرُبّما نُثِرَ الجُمَانُ تَعَمّداً
…
ليكونَ أحسنَ في النّظامِ وأجمَلا
وأنسخ الوحشة بالإيناس بما جرى على لساني إذ ذاك من قول بعض الناس:
أبشر بخيرٍ عاجلٍ
…
تنسى به ما قد مضى
فلرب أمرٍِ مسخِطٍ
…
لك في عواقبِهِ الرضى
إن شاء الله تعالى، واستمر بنا السير متصل الأعمال، غير مخفق المساعي والآمال، إلى بلوغ الشمس من غاية الرفعة المآرب، غير منهبطة في المشارق ولا منحدرة في المغارب، فوصلنا حينئذٍ إلى المنزل المبارك بظاهر قرية الأَثارِب، ثم بتنا بها ليلة الأربعاء خامس شهر شوال نقاسي كرب تلك الأحوال، ونعاني خطوب هاتيك الأهوال، ونعالج شدّة الأشواق، ونتوجع من ألم الفراق، ونطارح
ذوات الأطواق، وننشد قول أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان في نحو هذا الشأن:
أقول وقد ناحتْ بقربي حمامةٌ
…
أيا جارتا هل بات حالُك حالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى
…
ولا خطرت منك الهموم ببالي
أتحمل محزونَ الفؤادِ قوائمٌ
…
على غصنٍ نائي المسافة عالي
أيا جارتا ما أنصفَ الدهرُ بيننا
…
تعالي أقاسِمُك الهمومَ تعالي
تعالي تَريْ روحاً لديَّ ضعيفةً
…
تَردَّدُ في جسمٍ يُعَذَّبُ بالي
أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقةٌ
…
ويسكتُ محزونٌ ويندُب سالي
لقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلةً
…
ولكنَّ دمعي في الحوادث غالي
فلما طرب طائر السحر، وأذهب نسيمه ما بقلب الساهر من الوَحْر، وطرزت طرة الظلام يد الإصباح، وأرسل الفجر في رداء الليل خيط الصباح، ترحّلنا من ذلك المنزل بعد صلاة الصبح، وسألنا من الله تعالى المعونة والنجح، ثم جزنا وقت الإشراق على الرصيف، وهو عجيب الوضع والترصيف، طول نصف ميل أو ينقص عنه بقليل، ثم سرنا بوادي العَمْق ونزلنا بوسطه وسايرنا النهر الجاري هناك وحللنا بشطه، وذلك وقت الضحى الأعلى من النهار، وما أشبه ذلك المنزل بقول أبي القاسم بن العطَّار:
نزلنا بشاطئ النهرِ بينَ حدائقٍ
…
بها حَدَقُ الأزْهار يستوقفُ الحَدَقْ
وقد نَسَجتْ كفُّ النَّسيم مُفَاضةً
…
عليه وما غَيْرُ الحُبَابِ لها حَلَقْ
فنزلنا هناك كيما نستريح ونقيل، ونزيح علل الرفاق والدواب ونزيل، ثم أخذنا في التحميل والترحيل، وسرنا نحثّ في المسير والرحيل، فوصلنا منزلة يغره وقد تضمخت صفحات الربى بخلوق الأصيل، وأرْزَمَت المطايا على الدعة أرْزَام الفَصيل، بعد أن قطعنا جسرها الطويل، وهو جسر محكم البناء متّسع الفناء لكنه
تهدم من طول الزمان، وعليه مكتوب عمارة مولانا السُّلطان الملك الأشرف قايتباي، تغمده الله بالرحمة والغفران، فبتنا بها تلك الليلة، وهي ليلة الخميس، فلما تبسّم وجه الشرق بعد التعبيس، وآذن روح الصبح بالتنفيس، رحَّلنا الخيل والبغال عوضاً عن حمر النعم والعيس، ثم سرنا ذلك النهار وهو سادس شوال جامعين بين الاعتكار والتَغْليس، في عقاب من عقبات، وحدر من مهاوي حدرات، وغياض وأشجار، وفياف وقفار، ومهامةٍ ينقطع فيها الرفيق عن الرفيق، ومسالك غاية في السعة وأخرى نهاية في الضيق، وكان ابتداءً السير في ذلك النهار:
في بسيطٍ من الفيافي إذا ما
…
سابقَ الطرفُ فيه عادَ حسيرا
وانتهينا إلى عقاب وجدنا
…
في ذراها من العقاب كثيرا
وسلكنا ما بين حَزْنٍ وسَهْل
…
وقطعنا دماثياً ووعورا
وصَعَدنا إلى السماء ارتفاعاً
…
وهبطنا إلى القرار حُدورا
وقضينا مناسكَ الهمّ فيه
…
ونفرنا من الكروب نفورا
فأول عقبة تلقّيناها عقبة بَغْرَاص ذات الجموح والشماص، فما حصل منها النجاة والخلاص، حتى زالت الشمس ولات حين مناص، وهي مشتملة على أشجار خضرة، ومفاوز مقفرة، ومسالك مزلة وعرة، ودورات ولفتات وعطفات وفتلات، وفي آخرها خان ومقيل وأشجار عظيمة تحتها ظل ظليل ونسيم يشفي العليل، (ومياه كثيرة) خصرة تروي الغليل، وهناك مسجد قديم البنيان، يجري الماء فيه في مثل الشاذروان، ويتحدر في ذلك المكان على حصباء كالدر والمرجان، وقد قيل:
وتحدّثَ الماءُ الزلالُ مع الحصا
…
فجرى النسيمُ عليه يسمع ما جرى
وكأن فوقَ الماء وشياً ظاهراً
…
وكأن تحت الماء دُرّاً مُضْمَرا
فيا له من نعيم في عقاب ورحمة بعد عذاب، وراحة في بؤس، وبشر في عبوس،
فترامينا على ذلك الماء الزلال، وارتمينا بين تلك الظلال، فاسترحنا ساعة في ظل تلك الشجرات، ونقعنا الغُلَّة من ذلك العذب الفرات، وخفف عنا ذلك النسيم من شدة السموم بعض ما نجدْ، حتى كان ذلك المكان بقول المَنازي قد قصد:
وَقَانَا وقدةَ الرَّمْضَاء ظِلُّ
…
سَقَاهُ مضاعَفُ الظّلِ العميمِ
نزلنا دَوْحَهُ فحنَا عَلَيْنَا
…
حُنُوَّ المرضِعاتِ على الفَطيمِ
يُراعي الشَّمْسَ أنَّى قابلتنا
…
فيَحْجُبها ويأذَنُ للنَّسيمِ
وسقانا على ظمأ زُلالاً
…
ألذَّ من المُدَامِ مع النديمِ
تروعُ حَصَاهُ حاليةَ العذارى
…
فتلْمُسُ جانبَ العقدِ النظيمِ
وتعارفنا في ذلك المكان بالقاضي كمال الدِّين التادفي قاضي حَلَب، ثم مَكَّة كان فوجدنا عنده لطافة وحشمة وظرافة، ثم صار بيننا وبينه أكد صحبة وأشد مودة ومحبة، ثم استقبلنا من ذلك المحل والمركز العقبة المعروفة بعقبة المركز، وهي عقبة طويلة مديدة صعبة وعرة شديدة، تقطع الأسباب، وتخلع الألباب، وتذكر بالصراط والميزان والحساب، كأنما الخطابيّ عناها بقوله:
سلكت عقاباً في طريقي كأنها
…
صَيَاصِي دُيُوك أو أكُفَ عُقَابِ
وما ذاك إلاّ أنّ ذنبي أحَاط بي
…
فكان عِقابي في سلوك عِقابِ
ورأينا في طيّها مَعدن الدَّهْنَج، وجبالاً من آس عرف طيبها يتأرج، وغياض ماؤها سلسبيل وطلها سَجْسَج، ورياض سقفها مفوف وبساطها مدبج، وقفار نيران حرها يتوهج، وسمومها يلفح الوجوه ويلفج، وسبل وعرة المدرج عسرة المنهج، يضيق الصدر من حَزُونها ويحرج، فلم نزل نرقى ربوات يخيل لراقيها أنه لامس النجوم، ونهبط وهدات يظن من هوى فيها أنه لابس التخوم، ونسلك مسالك كالصراط إلاّ أنه غير المستقيم، يضل العقل فيها ويتحير ويهيم، ويقاسي القلب من هولها العذاب الأليم، وقد اشتدّت حمارَّة القَيْظ، والنفوس من جواز تلك العقبة
الكؤود تكاد تميز
من الغيظ. فلم نزل ذلك اليوم في شغل شاغل حتى جمعنا بين طرفي البكر والأصائل، وولى ذلك النهار الطائل وعطفه في الثوب القصير رافل، وأخذت الشمس في الاصفرار من ذلك المنظر المهول، وعزمت على الفرار وصممت على الأفول، فنزلنا حينئذٍ بمرج متسع قاطع قلعة المركز، قد ألبسه الربيع ثياباً سُنْدسيّة طرَّفها بأنواع الزهر وطرز، وسحب عليه النسيم أذياله، فاكتست من عرفه شذا، وجرت في خلاله عيون كالأنهار سالمة من الكدر والقذا، ودارت كاسات رحيقها فانتشى الغصن مستنبذاً، وروى العشب واغتذا، وجاوره البحر المالح فلم يحصل له بمجاورته أذى، فبتنا بتلك البقعة المتسعة ليلة سابع شوال وهي ليلة الجمعة، ورحلنا منها عندما اكتهل الليل وشاب، وأقبل النهار يخطر في برود الشباب، وغردت الحمائم على أعوادها، وأعربت بعجمتها عما أكنته من الشجو في فؤادها، فأثارت تباريح أشجان لم تبرح، وأفاضت مياه أجفان لم تنزح، وترنمت متمثلاً في تلك البقاع بقول عَدِيّ ابن زَيْد المعروف بابن الرِّقَاع العامِليّ:
ومما شجاني أننَّي كنتُ نائماً
…
أعلَّل من بَرْدِ الكرى بالتنسمِ
إلى أن دَعتْ ورقاء في غصنِ أيكةٍ
…
تُرددُ مبكاها بحُسْنِ الترنمِ
ولما تلاقينا وجدتُ بنانها
…
مخضبةً تحكى عُصَارةَ عَنْدَمِ
فقلت خضبتِ الكفَّ بعدي هكذا
…
ولم تحفظي عهدَ المشوقِ المتيمِ
فقالت وأذكتْ في الحَشَا لاعج الهوى
…
مقالة مَنْ بالودِ لم يتبرَمِ
بكيتُ دماً يوم النوى فمسحته
…
بكفي فاحمّرتْ بناني من دمي
وحَقِكَ ما هذا خضابٌ خضيبةٍ
…
سوى أنت بالهنان والروم متهمِ
ولكنني لما رأيتكَ راجلاً
…
وقد كنتَ لي كفي وزندي ومعصمِ
فلو قبل مبكاها بكيْتُ صبابةً
…
لسعدي شفيتُ النفس قبل التندُّمِ
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا
…
بكاها فقلت الفضل للمتقدمِ
ثم سرنا في بسيط من الأرض عريض مرآه لا يخترقه النسيم بمسراه، يكاد البصر يقف عند مداه مشتمل على ربيع مريع ذي زهو بديع، وأشجار من الآس عنبرية الأرواح والأنفاس، يجلب منظرها أنواع الإيناس، ثم نزلنا الضحى الأعلى كيما نستريح ونريح، ونزيل بعض العلل ونزيح، بمكان قرب قراقابي ومعناه الباب الأسود، وهو باب قديم مقنطر بالحجارة السود، مرصف منضد، لكنه من تطاول الزمان قد تهدم وتهدد، ثم سرنا منه فنزلنا (والشمس قد) عصفرت أبرادها ودنى في
العين الحمئة إيرادها بمكان يعرف بأستك، بهمزة مفتوحة على وزن مرتك، عند عين ماء نمير تجاه بسطه، وربيع قد فرش بُسطه، وأظهر سروره وبَسطه، وأخرج سوسانه ولسانه وقرطه، فبتنا به ليلة السبت ثامن شوال، ثم عزمنا على الترحال وشددنا الخيل وحملنا البغال:
حين شابَ الدُّجى وخَافَ من الهَجْرِ
…
فغطّى المشيبَ بالزعفران
فلمّا سرنا قليلاً لحقني الأمير جانم ومعه جماعة فسلموا وقالوا: أردنا المثول لخدمتكم في هذه الساعة. فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: سؤال حضر. فقلت: ما السؤال؟ فتقدم الأمير جانم وقال: هو عن قوله تعالى (إنّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) فقلت: ما المقصود؟ فقال: الضمير في خَلَقَهُ وما بعده على من يعود؟ فقلت: على عيسى. فقال: قد وقع بين علماء القاهرة فيه إشكال فإنّه قال خَلَقَهُ من تُرابٍ فتم الخلق بهذا المقال، ثم قال له كن هذا تحصيل حاصل أي وهو محال، فقلت: كلا، بل المقصود بقوله خَلَقهُ من تراب صور هيكله الجسماني، وبقوله ثم قال له كن نفخ فيه الروح وأتم فيه البشرية والخلق الإنساني. فشكر وأثنى وذكر أنّ ذلك التحقيق لم يسمعه إلاّ منّا، ولم يزل يتودد ويتواضع ويتلطف ويتخاضع، فلما تعالى النهار وترافع، وتوالى حره وتتابع، وصلنا إلى مدينة المَصِّيْصَة بعد أنّ سلكنا
مسالك وعرة عويصة، وهي مدينة بكثرة الأشجار والمياه مخصوصة يجري بفنائها نهر جَيْحَان وبها عليه جسر عظيم البنيان وعليها بابان يقفلان عليه إلى الآن وقد كانت من غُرَر البلدان، وانتشأ بها جماعة من الأعيان، لكنها الآن خربت،
وأكلت الدهور على محاسنها وشربت، وتركت ساحتها كدار ميّة بالعلياء فالسند، وغادرتها منفضة الفناء منقضة البناء كأن لم يكن بها سيد ولا سند، ولم يغن بها بالأمس أحد، لم يبق منها غير رسومها الواهنة الواهية وأطلالها العالية البالية وأزقّتها الخالية الخاوية:
طلولٌ إذا دمعي شكا البينَ بينها
…
شكا غير ذي نُطْقٍ إلى غيرِ ذي فَهْمِ
(وقد تراجعت الآن في العمران والتحقت بصغار البلدان).
وجَيْحَان بجيم بالفتح ثم ياء آخر الحروف بالسكون، ثم حاء مهملة وآخره نون، نهرٌ معروف بالعظم، زاخر الأمواج كالبحر الخضم، يقارب في كبره نهر الفرات، وماؤه لطيف عذب فرات، يلتوي التواء الأرْقَم، وينسحب انسحاب المخرم، وينعطف انعطاف السوار بالمعصم:
فجَدْولهُ في سَرْحَةِ الماء مُنْصلٌ
…
ولكنه في الجزع عطْفُ سوارِ
وأمواجهُ أردافُ غيدٍ نواعِمٍٍ
…
تَلَفَّعْنَ بالآصال رَيْطَ نُضَارِ
ولابن الأبّار:
ونَهْرٍ كما ذابَتْ سَبَائكُ فضَّةٍ
…
حكى بمِحَانيهِ انْعِطَافَ الأراقِمِ
إذا الشَّفَقُ استوْلى عليهِ احْمِرارُهُ
…
تَبَدَّى خَضيباً مثل دَامي الصَّوارمِ
يمر ببلاد السيس بين تلك الجبال والشعوب، ثم يسير في حدود بلاد الرُّوم من الشمال إلى الجنوب في وداة وجبال وتلال حتى يمر بالمَصِّيْصَة من جهة الشَّمال، ويسير بجوانبها من مشارقها إلى مغاربها، فلما وافيناها وحللنا بها نزلنا بها في علوة، وذلك يوم السبت ضحوة، يصاحبنا الهواء الرطب ونسيمه، والأرج العنبري
وتقسيمه، والنفس النجدي الذي هو في الصحّة شقيقه وقسيمه، في ظل شجرة بُطْم في غاية الكبر والعظم، كثيرة الأغصان، غزيرة الأفنان، يكاد يستظل بظلها أكثر من ألف إنسان. ذات طول عظيم وقوام قويم، يرجع عن بلوغ طرفها طرف العين كليلا، ولا يشفى من نظره لأعاليها عليلا، ولا يروى من ترائيهِ لأقاصيها غليلاً، وقد قسنا أصلها باليدين فكان أربعة باعات وشبرين، قد فاقت الأشجار طيباً ونضرة وعظماً، فيا لها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فهي من أغرب ما عايناه وأعجب ما شاهدناه، وقد جرى في نعتها والقريحة جامدة، ونيرانها بعد ذكائها وتوقدّها خامدة، ما تمثله الجنان ونطق به اللسان ورقمه البنان، وهو قولي: