الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيؤمنني ويدعني في بلدي! فقال له اليهودي: يا مولاي، لا تفعل، فما آمنهم عليك! وجعل يحلف له بكل يمين يعتقده، أنه لو أقام عنده بقية عمره ما أَمَلَّه ذلك ولا ثقل عليه؛ فأبى إلا الخروج، فخلى بينه وبين ذلك؛ فخرج حتى أتى دار ذلك الكاتب بغَلَس1، فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه رحب به وأدنى مجلسه، وسأله أين كان في هذه المدة؟ فقص عليه قصته مع اليهودي، ثم قال له: اشفع لي عند هذا الرجل حتى يؤمنني في نفسي ويَمُنَّ عليَّ بتركي في بلدي! فوعده بذلك، وركب من فوره ودخل على الحكم، فقال له كل ما سمع من طالوت، ووشى به إليه؛ فأحضره الحكم إليه فعنفه ووبخه، فقال له طالوت: كيف يحل لي أن أخرج عليك، وقد سمعت مالك بن أنس يقول: سلطان جائر مدة خير من فتنة ساعة؟ قال الحكم: الله تعالى! لقد سمعت هذا من مالك؟ قال طالوت: اللهم إني قد سمعته. قال: فانصرف إلى منزلك وأنت آمن. ثم سأله أين استتر؟ فقال: عند يهودي مدة عام، ثم إني قصدت هذا الوزير فغدر بي! فغضب الحكم على أبي البسَّام وعزله عن وزارته، وكتب عهدًا ألا يخدمه أبدًا؛ فرُئي أبو البسام الكاتب بعد ذلك في فاقة وذل، فقيل: استُجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت -رحمه الله تعالى-.
1- الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
ولاية الحكم المُسْتَنْصر*
من الوافر2
........................
…
.........................
* يتضح من سياق الكلام أن هذه الترجمة للحكم المستنصر، وقد سقط القسم الأول منها، كما سقطت تراجم عدد من الأمراء الذين سبقوه، وهم: عبد الرحمن بن الحكم "ت 238هـ/ 853م"، ومحمد بن عبد الرحمن "ت 273 هـ/ 887م"، والمنذر بن محمد "ت 275هـ/ 889م"، وعبد الله بن محمد "ت 300هـ/ 913م"، وعبد الرحمن الناصر "ت 350 هـ/ 962م"، ثم الحكم بن عبد الرحمن المستنصر بالله "ت 366هـ/977م".
وهذا مطلع ترجمة الحكم المستنصر، نقلًا عن "بغية الملتمس" لابن عميرة الضبي:"ثم ولي بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ويلقب بالمستنصر بالله، وله إذ ولي سبع وأربعون سنة، يكنى أبا العاص، أمه أم ولد اسمها "مرجان". وكان حسن السيرة، جامعًا للعلوم، محبًّا لها، مكرمًا لأهلها. وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله هنالك، وذلك بإرساله عنها في الأقطار، واشترائه لها بأغلى الأثمان، ونفق ذلك عليه، فحُمل إليه. وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس، وشاور في استئصال شجرة العنب من جميع أعماله، فقيل له: إنهم يعملونها من التين وغيره، فتوقف عن ذلك".
2 هذه القصيدة لأبي عمر يوسف بن هارون الرمادي الكندي، وقد نظمها عندما أمر الحكم=
فقال وقد مضى ليل وثانٍ
…
ولم يسمعه غنى: ليت شعري
أجاري المُؤْنِسي ليلًا غناء
…
لخيرٍ قطعُ ذلك أم لشرِّ؟
فقالوا: إنه في سجن عيسى
…
أتوه به بليل وهو يسرِى1
فنادى بالطويلة وهي مما
…
يكون برأسه لجليل أمرِ2
ويمم جاره عيسى بنَ موسى
…
فلاقاه بإكرام وبرِّ3
وقال: أحاجة عرضت فإني
…
لقاضيها ومتبعها بشكرِ!
فقال: سجنتَ لي جارًا يسمى
…
بعمرٍو! قال: يُطلَق كل عمرو
بسجنى حيث وافقه اسم جار الـ
…
ـفقيه ولو سجنتهمو بوِتْرِ! 4
فأطلقهم له عيسى جميعًا
…
لجار لا يبيت بغير سكرِ!
فإن أحببت قل لجوار جارٍ
…
وإن أحببت قل لطِلاب أجرِ
فإن أبا حنيفة لم يَؤُبْ من
…
تطلبه تخلصه بوزرِ5
وتلخيص هذه الحكاية التي نظمها أبو عمر في شعره، أن أبا حنيفة6 رحمه الله كان يجاوره رجل كيال، فكان كل ليلة يأخذ سمكة ورغيفًا وشيئًا من النبيذ، فإذا صلى العشاء الآخرة أكل ثم شرب، حتى إذا انتشى رفع عقيرته7 واندفع ينشد هذا البيت: من الوافر
أضاعوني وأي فتًى أضاعُوا
…
ليوم كريهةٍ وسداد ثَغْرِ
= المستنصر بإراقة الخمور في الأندلس، ومطلعها "بغية الملتمس: 18":
بخَطب الشاربين يضيق صدرِي
…
وتُرْمِضنى بليَّتهم لَعَمْرِي
وهل هم غير عشاقٍ أُصيبوا
…
بفقد حبائب ومُنوا بهجرِ
1-
في بغية الملتمس: "أتاه به المُحارس وهو يسري". وعيسى هو: عيسى بن موسى صاحب الشرطة في بغداد لعهد الرشيد العباسي.
2-
الطويلة: لباس للرأس، كان الإمام أبو حنيفة النعمان -وهو المقصود هنا- يلبسه عندما كان ينهض لأمر جَلَل.
3-
يممه: قصده.
4-
في البغية: "لوتر".
5-
الوزر: الحمل الثقيل، أو الذنب.
6-
هو أبو حنيفة، النعمان بن ثابت التيمي بالولاء: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. وُلد في الكوفة، وتوفي سنة 150 هـ/767م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 323/13".
7 العقيرة: الصوت.
فلا يزال يعيده حتى يغلبه النوم، وكان أبو حنيفة -على ما اشتهر عنه- يحيي الليل كله صلاة، فلما كان في بعض الليالي فقد صوت ذلك الرجل، فقال لبعض من عنده: ما فعل جارنا هذا الذي كان يغني كل ليلة؟ أهو مريض أم غائب؟ فقالوا له: إنه مسجون! فقال: ومن سجنه؟ فقالوا: خرج في الليل لبعض حاجته فلقيه أصحاب عيسى بن موسى صاحب الشرطة، فأتوا به فأمر بسجنه؛ فلما أصبح أبو حنيفة لبس ثيابه وركب دابته وقصد عيسى بن موسى في بيته، فلما أُعلم عيسى بمكان أبي حنيفة خرج يتلقاه مسرعًا، وبالغ في تكريمه وبره، وسأله عن حاجته، فقال: لي في سجنك جار اسمه عمرو، فقال عيسى: يُطلق كل من كان اسمه عمرو بسجني من أجل جار الفقيه! فأطلقه وخلقًا كثيرًا معه؛ فأتى الرجل أبا حنيفة يتشكر له، فلما وقعت عينه عليه قال له: أضعناك؟ قال الرجل: لا والله، بل حفظت الجوار -حفظك الله-!
والبيت الذي نظمه أبو عمر وكان يغني به الرجل جار أبو حنيفة، هو للعَرْجي1، رجل من ولد عثمان بن عفان2، سجنه المغيرة خال هشام بن عبد الملك3 وعامله على مكة، فلم يزل بسجنه إلى أن مات وخرجت جنازته من السجن.
ولأبي عمر هذا شعر كثير جيد، وهو من الطبقة الثالثة من طبقات شعراء الأندلس؛ فمما على حفظي له أول قصيدة يمدح بها أبا علي القالي4 المتقدم الذكر5، وهي: من الكامل
مَنْ حاكمٌ بيني وبين عذولي
…
الشَّجْوُ شجوي والعويل عويلِي6
1- هو أبو عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي القرشي، المعروف بالعرجي: شاعر غزل مطبوع، ينحو في شعره ومغامراته منحى عمر بن أبي ربيعة، وأكثر شعره في الغزل.
توفي نحو 120هـ/ نحو 738م. "الأغاني، الأصفهاني: 362/1".
2-
هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، المعروف بذي النورين: ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ولد ونشأ بمكة، وتوفي سنة 36هـ/656م. " شذرات الذهب، ابن العماد الحنبلي:40/1".
3-
هو هشام بن عبد الملك بن مروان: خليفة أموي. ولد في دمشق، وبويع بالخلافة بعد وفاة أخيه يزيد، وتوفي سنة 125هـ/743م. "الأعلام، الزركلي: 86/8".
4-
هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون القالي: لغوي، شاعر، أديب. دخل قرطبة في أيام عبد الرحمن الناصر واستوطنها. توفي سنة 356 هـ/967م. "بغية الملتمس، الضبي: 216".
5-
من المحتمل أن يكون المؤلف قد ذكر القالي عند الحديث عن ولاية عبد الرحمن الناصر، الذي كان أميرًا على الأندلس وقت وصول القالي إليها.
6-
العذول: الكثير العذل، وقد عذله عَذْلًا وتعذالًا: لامه. الشجو: الحزن. العويل: حرارة الحزن والحب من غير نداء ولا بكاء، أو هو رفع الصوت بالبكاء والصياح.
أَقْصِرْ فما دين الهوى كفر ولا
…
أعتدُّ لومك لي من التنزيلِ1
عجبًا لقوم لم تكن أذهانهمْ
…
لهوًى ولا أجسادهم لنُحُولِ
دقت معاني الحب عن أفهامهمْ
…
فتأولوه أقبح التأويلِ2
في أي جارحةٍ أصون معذبي
…
سلِمتْ من التعذيب والتنكيلِ3
إن قلت في عينى فثَمَّ مدامعي
…
أو قلت في قلبي فثم غليلِي4
لكن جعلت له المسامعَ موضعًا
…
وحجبتُها عن عَذْلِ كل عذولِ
هذا ما بقي في حفظي منها. وكان أبو عمر هذا من مقدمي شعراء الحكم المستنصر، وكان مختصًّا بأبي الحسن المُصْحَفي5، منضويًا إليه؛ وهو الذي حمله على هجو محمد بن أبي عامر6، فلما أفضى الأمر إلى محمد قبض على المصحفي واستصفى أمواله ووضعه في المُطْبِق، فلم يزل به حتى مات جوعًا وهزالًا. وأما ما كان من أبي عمر الشاعر فإنه أوسعه عقوبة ونكالًا، وأمر بتغريبه7، فشفع له عنده في أن يتركه ببلده، فأذن في ذلك، غير أنه خرج الأمر من جهته ألا يكلمه أحد من العامة ولا من الخاصة؛ أمر مناديه أن ينادَى بذلك في جميع جهات قرطبة. فأقام أبو عمر هذا كالميت إلى أن مات موتة الوفاة في آخر أيام أبي عامر.
وكان لحكم المستنصر مواصلًا لغزو الروم ومن خالفه من المحاربين، فاتصلت ولايته إلى أن مات في صفر سنة 366، فكانت مدة ولايته منذ بُويع له إلى أن مات ست عشرة سنة وأشهرًا؛ وانقرض عقبه بعد موت ابنه هشام المؤيد، لم يعش له ولد غيره.
1- أقصر: فعل من أقصر عن الشيء: كفَّ ونزع عنه. أعتد: أظن. التنزيل: ما نُزِّل على الأنبياء والرسل من كلام الله سبحانه وتعالى.
2-
تأوَّل الكلام وأوَّله: فسره ورده إلى الغاية المرجوة منه.
3-
أصون: أحفظ. التنكيل: من نكَّل به: عاقبه بما يردعه ويروع غيره عن إتيان مثل صنيعه.
4-
الغليل: شدة العطش وحرارته، أو الغيظ.
5-
هو أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي: حاجب الحكم المستنصر. غلبه المنصور بن أبي عامر على مكانته بعد وفاة الحكم، ثم نكبه، كما تقدم أعلاه.
6-
هو أبو عامر، محمد بن عبد الله بن عامر بن محمد أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري القحطاني، المعروف بالمنصور بن أبي عامر: أمير الأندلس في دولة المؤيد الأموي، وأحد الشجعان الدهاة. توفي سنة 392هـ/ 1002م. "بغية الملتمس: الضبي: 105".
7-
التغريب: النفي عن البلاد.