الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولية بنى حَمُّود
وكان من جملة جنده رجلان من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، يسميان القاسم وعليًّا ابني حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضى الله عنهم-؛ فجعلهما قائدين على المغاربة، ثم ولى أحدهما سبتة وطنجة، وهو علي الأصغر منهما؛ وولى القاسم الجزيرة الخضراء، وبين الموضعين المجاز المعروف بالزُّقاق، وسعة البحر هنالك اثنا عشر ميلًا، وقد ذكر فيما قبل.
وافترق العبيد إذ دخل البربر مع سليمان قرطبة، فملكوا مدنًا عظيمة وتحصنوا فيها، فراسلهم علي بن حمود المذكور -وقد حدث له طمع في ولاية الأندلس- فكتب إليهم يذكر لهم أن هشام بن الحكم إذ كان محاصرًا بقرطبة كتب إليه يوليه عهده، فاستجابوا له وبايعوه، فزحف من سبتة إلى مالقة، وفيها عامر بن فَتُّوح الفائقي، مولى فائق مولى الحكم المستنصر؛ فاستجاب له وأدخله مالقة، فتملكها علي بن حمود وأخرج عنها عامر بن فتوح، ثم زحف بمن معه من البربر وجمهور العبيد إلى قرطبة، فخرج إليه محمد بن سليمان في عساكر البربر، فانهزم محمد بن سليمان، ودخل قرطبة علي بن حمود، وقتل سليمان بن الحكم صبرًا؛ ضرب عنقه بيده يوم الأحد لتسع بقين من المحرم سنة 407، وقتل أباه الحكم بن سليمان بن الناصر أيضًا في ذلك اليوم، وهو شيخ كبير له اثنتان وسبعون سنة!.
وكانت مدة ولاية سليمان -مند دخل قرطبة إلى أن قُتل- ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وأيامًا، وكان قد ملكها قبل ذلك ستة أشهر على ما تقدم؛ وكانت مدته -منذ قام مع البربر إلى أن قتل- سبعة أعوام وثلاثة أشهر وأيامًا.
وانقطعت دولة بنى أمية في هذا الوقت وذِكْرُهم على المنابر في جميع أقطار الأندلس، إلى أن عادت بعد ذلك في الوقت الذي نذكره إن شاء الله تعالى.
وكانت أم سليمان هذا أم ولد اسمها: ظبية، ومولده سنة 354، ترك من الولد ولي عهده محمدًا، لم يعقب، والوليد، ومسلمة.
وكان سليمان أديبًا شاعرًا؛ قال الحميدي: أنشدني أبو محمد علي بن أحمد قال: أنشدني فتًى من ولد إسماعيل بن إسحاق المنادي1 الشاعر كان
1- هو شاعر قديم مشهور، ذكره أبو محمد علي بن أحمد، ومن شعره:
وما الأخ بالصِّنْوِ الشقيق وإنما
…
أخوك الذي يعطيك حبة قلبِهِ
"بغية الملتمس، الضبي: 229".
يكتب لأبي جعفر أحمد بن سعيد بن الدبِّ، قال: أنشدني أبو جعفر قال: أنشدني أمير المؤمنين سليمان الظافر لنفسه، قال أبو محمد: وأنشدنيها قاسم بن محمد المرواني قال: أنشدنيها وليد بن محمد الكاتب لسليمان الظافر أمير المؤمنين: من الكامل
عجبًا يهاب الليث حَدَّ سِناني
…
وأهاب لَحْظَ فواتر الأجفانِ1
وأقارع الأهوال لا متهيبًا
…
منها سوى الإعْراض والهِجْرانِ2
وتملكت نفسى ثلاث كالدًّمَى
…
زُهْر الوجوه نواعم الأبدانِ3
ككواكب الظلماء لُحْن لناظر
…
من فوق أغصان على كثبانِ4
هذي الهلال وتلك بنت المشترِي
…
حُسْنًا، وهذي أخت غصن البانِ5
حاكمت فيهن السُّلو إلى الضَّنَى
…
فقضى بسلطان على سلطانِي6
فأبحن من قلبي الحمى وثنينَنِي
…
في عز ملكي كالأسير العانِي7
لا تعذلوا ملكًا تذلل للهوى
…
ذل الهوى عز وملك ثانِ
ما ضر أني عبدهن صبابةً
…
وبنو الزمان وهن من عُبْدانِي8
إن لم أُطع فيهن سلطان الهوى
…
كَلَفًا بهن فلست من مروانِ9
وإذا الكريم أحب أمَّن إِلْفَهُ
…
خطْب القِلَى وحوادث السُّلوانِ10
وإذا تجارى في الهوى أهلُ الهوَى
…
عاش الهوى في غِبْطَةٍ وأمانِ11
وإنما قصد المتسعين بهذه الأبيات معارضة الأبيات التي عملها العباس بن
1- يهاب: يخاف. الليث: الأسد. اللحظ: النظر. الفاتر: الناعس، المنكسر.
2-
قارع الأهوال: جالدها، ضاربها. الإعراض: الصد.
3-
الزهر: البيض، المشرقات، المتلألئات.
4-
لاح الشيء لوحًا: ظهر. الكثبان: جمع الكثيب: الرمل المستطيل المحدودب.
5-
المشتري: هو أكبر الكواكب السماوية السيارة. البان: ضرب من الشجر سَبْط القوام، لين، ورقه كورق الصفصاف، تشبه به الحسان في الطول واللين.
6-
الضنى: المرض، أو الهزال الشديد.
7-
أباح الشيء واستباحه: عده مباحًا، أو أحله وأظهره. العاني: الذليل.
8-
العبدان: جمع العبد: الرقيق.
9-
الكَلَف: الوَلَع، أو شدة التعلق بالشيء.
10-
القلى: البغض. السلوان: النسيان مع طيب نفس.
11-
جارى فلان فلانًا مجاراة وجراء: جرى معه: وافقه.
الأحنف1 على لسان هارون الرشيد2، فنُسبت إليه، وهي: من الكامل
ملك الثلاث الآنسات عِنانى
…
وحللْنَ من قلبي بكل مكانِ
ما لي تُطَاوِعُنِي البرية كلها
…
وأطيعهن وهن في عِصْيَانِي
ما ذاك إلا أن سُلْطَانَ الهوى
…
وبه قَوِينَ أعز من سلطانِي
وأبو محمد الذي يحدث عنه الحميدي: هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صلح بن خلف بن مَعْدان بن سفيان بن يزيد الفارسي3، مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي4. قرئ علي نسبه هذا بخطه على ظهر كتاب من تصانيفه. وأصل آبائه الأدنين من قرية من إقليم لَبْلَة من غرب الأندلس. سكن هو وأبوه قرطبة، وكان أبوه من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، ووزراء ابنه المظفر بعده. وكان هو المدبر لدولتيهما، وكان ابنه أبو محمد الفقيه وزيرًا لعبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر الملقب بالمستظهر بالله، أخى المهدي المذكور آنفًا. ثم إنه نبذ الوزارة واطَّرحها اختيارًا، وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينل أحد قبله بالأندلس. وكان على مذهب الإمام أبي عبد الله الشافعي5 رحمه الله، أقام على ذلك زمانًا، ثم انتقل إلى القول بالظاهر، وأفرط في ذلك حتى أربى على أبي سليمان داود الظاهري6 وغيره من أهل الظاهر. له مصنفات كثيرة جليلة
1- هو أبو الفضل، العباس بن الأحنف بن الأسود بن قُدامة: شاعر مجيد مطبوع، من بني حنيفة. عرف برقة غزله، وحسن موافقته لطباع النساء. توفي سنة 192هـ/808م. "طبقات الشعراء، ابن المعتز العباسي: 254".
2-
هو هارون بن محمد بن المنصور العباسي: خامس الخلفاء العباسيين وأشهرهم. توفي سنة 193هـ/809م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 5/14".
3-
ترجمته في: الصلة: 333؛ شذرات الذهب: 299/3؛ الأعلام: 254/4؛ معجم المؤلفين: 16/7؛ وفيات الأعيان: 325/3؛ جذوة المقتبس: 390؛ بغية الملتمس: 415؛ معجم الأدباء: 479/4؛ البداية والنهاية: 98/12؛ كشف الظنون: 21، 118، 466؛ النجوم الزاهرة: 75/5؛ إيضاح المكنون: 319/1، 356.
4-
هو يزيد بن صخر بن حرب الأموي، أبو خالد: أمير، صحابي، من أشهر رجالات بني أمية شجاعة وحزمًا. توفي سنة 18هـ/ 639م. "الأعلام، الزركلي: 184/8".
5-
هو أبو عبد الله، محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين، وتوفي سنة 204هـ/ 820م. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 56/2".
6-
هو أبو سليمان، داود بن علي بن خلف الأصبهاني، الملقب بالظاهري: أحد الأئمة المجتهدين=
القدر، شريفة المقصد في أصول الفقه وفروعه، على مَهْيَعِه1 الذي يسلكه، ومذهبه الذي يتقلده، وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني الظاهري ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونُفاة القياس والتعليل. بلغني عن غير واحد من علماء الأندلس أن مبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين له -نحوٌ من أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري2، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا، فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة، وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير: أن قومًا من تلاميذ أبي جعفر لخصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة. وهذا لا يتهيأ لمخلوق إلا بكريم عناية الباري تعالى وحسن تأييده له.
ولأبي محمد بن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة، وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة؛ فمن شعره: من الطويل
هل الدهر إلا ما عرَفْنا وأدركنا
…
فجائعه تبقى ولذاته تفنَى3
إذا أمكنت فيه مَسَرَّة ساعةٍ
…
تولت كمر الطَّرْف واستخلفت حزنَا
إلى تَبِعات في المَعاد وموقف
…
نود لديه أننا لم نكن كُنَّا4
حصلنا على هم وإثم وحسرة
…
وفات الذي كنا نقر به عينَا5
حنينٌ لما ولى، وشغل بما أتى
…
وعم لما يُرجى، فعيشك لا يهنَا
كأن الذي كنا نُسَر بكونه
…
إذا حققته النفس، لفظ بلا معنَى
= في الإسلام، تنسب إليه الطائفة الظاهرية، وسميت بذلك لأخذها بظاهر الكتاب والسنة، وإعراضها عن التأويل والقياس. توفي أبو سليمان سنة 270هـ/884م. "وفيات الأعيان، ابن خلكان: 255/2".
1-
المهيع من الطرق: البين الواضح.
2-
هو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد الطبري: إمام، مفسر، ولد في طبرستان، واستوطن بغداد، وتوفي فيها سنة 310هـ/923م. من آثاره:"أخبار الرسل والملوك" المعروف بتاريخ الطبري. "تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 162/2".
3-
الفجائع: جمع الفجيعة: المصيبة توجع الإنسان بفقد ما يعز عليه من مال أو حميم.
4-
المعاد: يوم القيامة.
5-
نقر به عينًا: نُسَر به ونرتاح.
وله من قصيدة طويلة: من الطويل
أنا الشمس في جو العلوم منيرة
…
ولكن عيبي أن مطلعي الغربُ
ولو أنني من جانب الشرق طالع
…
لجد على ما ضاع من ذكري النَّهْبُ
ولي نحو أكناف العراق صبابةٌ
…
ولا غَرْوَ أن يستوحش الكَلِفُ الصَّبُّ1
فإن يُنزل الرحمن رحلِيَ بينهم
…
فحينئذ يبدو التأسف والكربُ
فكم قائل: أغفلته وهو حاضر
…
وأطلب ما عنه تجيء به الكُتْبُ!
هنالك يدري أن للبعد قصة
…
وأن كساد العلم آفته القربُ! 2
فيا عجبًا من غاب عنهم تشوقوا
…
له، ودنو المرء من دارهم ذنبُ
وإن مكانًا ضاق عني لضيقٌ
…
على أنه فُسْحٌ مهامهه سُهْبُ3
وإن رجالًا ضيعوني لَضُيَّعٌ
…
وإن زمانًا لم أنل خصبه جدبُ
ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه:
ولكن لي في يوسف خير أُسوةٍ
…
وليس على من بالنبي ائتسى ذنبُ4
يقول -وقال الحق والصدق-: إنني
…
حفيظ عليهم؛ ما على صادق عتبُ
ومن المختار له قوله: من البسيط
…
لا يشمتَنْ حاسدي إن نكبة عرضتْ
فالدهر ليس على حال بمُتَّرَكِ
…
ذو الفضل كالتِّبْر طَوْرًا تحت مِيقعَةٍ
وتارةً في ذُرا تاج على ملكِ! 5
…
ومن ذلك قوله: من الوافر
لئن أصبحتُ مرتحلا بشخصي
…
فرُوحي عندكم أبدًا مقيمُ
ولكن للعِيان لطيف معنًى
…
له سأل المعاينة الكليمُ6
1- الأكناف: النواحي، والجوانب. الصبابة: رقة الشوق وحرارته. الكلف: المولع. الصب: العاشق المشتاق.
2-
كسد الشيء كسادًا وكسودًا: لم يَرُجْ لقلة الرغبة فيه، وكسدت السوق: لم تنفق.
3-
الفسح: الواسع. المهامه: جمع المَهْمَه: المفازة البعيدة، أو البلد المُقْفر. السُّهْب والسَّهْب: الفلاة.
4-
يوسف: هو يوسف النبى عليه السلام. ائتسى به: اقتدى.
5-
التبر: الذهب. الميقعة: الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، أو المطرقة.
6-
عاين الشيء معاينة وعيانًا: رآه بعينه، ويقال: لقيته عيانًا: لم أشكَّ في رؤيتي إياه. الكليم: هو موسى النبى "عليه السلام".